- الحياة طويلة. لا تستعجل. سأنشر هذا الجزء وحده.
هكذا أجابني الناشر حين عرضت عليه رواية من ثلاثة أجزاء لينشرها في مجلد واحد.
- أعدْ القراءة. ستعرف أن هذا الجزء هو الأجمل، ويمكن أن يكون وحده. ثم أخبرني بأنه لا ينشر الروايات الطويلة؛ فالقارئ لم يعد يجد وقتا ليقرأ رواية ضخمة.
- الأقل الأجمل هو الأكثر. هذه فلسفتي في النشر.
أجبته بشيء لا أتذكره، وإن ساعدني الموقف الذي أتذكره الآن على أن أحدس بأن الحيلة لن تنقصني في أن أعدل هنا أو هناك؛ لكي يبدو هذا الجزء غير محتاج إلى الجزأيْن الآخرين.
وفيما يبدو تهدئة للجو الذي توتّر؛ حكى لي عن الكاتب الذي ألف كتابا ضخما وأرسله إلى إحدى دور النشر، لكن الدار نُسفت في حرب اشتعلت فجأة. ضاع المخطوط الذي عمل عليه الكاتب عشر سنوات. وما استرده منه استخدمه للفّ سجائره بسبب النقص في الورق خلال الحرب.
أصغيْت إلى حكايته فاشتد حماسه
- بدأ بالجزء الأخير من المخطوط، وحين انتهت الحرب كان قد وصل إلى الجزء الأول.
صمت ثم سألني
-أتعرف ما الذي حدث بعد ذلك؟
انتظر لكي أجيب؛ ولأنني لم أكن أعرف تحدث ببطء كما لو أنه يقول لي كلاما مهما
- نشره فيما بعد فأصبح عملا خالدا.
لست متأكدا الآن من صحة ما حكاه لي. وآنذاك لم أسأله عن صحة الحكاية؛ لأنني غرقت في نبرة صوته العميقة الصادرة من أعماق روحه. وكما لو أنه هو مؤلف العمل الخالد. قال
- يرقص المرء برشاقة حين يتوقف عن التفكير في قواعد الرقص. شاركته الحديث، لكن بوتيرة أركد مما هو عليه. قلت له -أتخيّل الآن أنني لن أعرف ما أفعل كما لو كنتُ في غابة..
قال -نعم غابة. تخيل أن الليل حلّ فأردت أن أساعدك. أن أدعك ترى ما كتبت فأشعلتُ النار في كومة حطب، لكن النار أحرقت الغابة والقرى. لم أكن أقصد سوى إشعال النار لترى. لم أكن أقصد حرق الغابة والقرى، لكن ما حدثَ حدث. لا أعرف. أأنا الذي أحرقت الغابة والقرى، أم أنني فقط أشعلت النار؛ فأنا لم أنوِ الحرْق، وكل ما أردته هو الإشعال وليس الحرق. الأمور التي سأحدثك عنها ستجري في المستقبل كما لو أنها جرت في الماضي. إن سألتني لماذا؟ سأجيب بأن الأمور العادية تتكرر. لا تصدق أن الحدث العادي لا يتكرر. ولادة الناس وموتهم مثلا. لذلك ستشعر بالملل؛ لأن الأمر سيبدو لك أشبه بالواجب. لكن سرعان ما ستصبح فكرة الواجب فكرة مضيئة. حلّ الواجب؛ من غير أن تعتبر نفسك مسؤولا عما أعتقده في قدرتك على أن تحلّ الواجب بطريقة صحيحة. نعم. لا يفترض بك أن تكون جيدا لأنني أو لأنك تعتقد أنك كاتب جيّد.
إلى هنا انتهى دور الناشر. ولإنهاء دوره فإن تلخيص الحدث الأساسي هو أننا تحدثنا بدون قصد ما كنا نرغب فيه معا فيما لو عدّلت المخطوط. ولإنهاء ما حدث فإن الحبكة المفضلة هو أن يأخذني إلى مقهى قريب من مكتبة. وفي صمت أفكاره وأفكاري دوى صوت إغلاق مكتبه، لكن فكرته عن الواجب وكيفية الحل خففت توتري، وفكرت في أن اشتغل على الجزء الذي اقترح إعادة كتابته. شغل مَنْ ليس له زمن. جهد الشّغل الذي يراقب العمل، لا ليغير العمل إنما لكي يحسّنه.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ لم يحن الوقت بعد. والمهم في هذا المكان أن أؤكد أن لا أحد سيشعر بمتعة مراقبة السرد إلا بعد أن يجرب. عندئذ سيكتشف أن السرد لا يضل الطريق، وإذا ما ضل فهناك حتما من يدفعه إلى أن يسلك الطريق غير المناسب. إن قلة من القراء يمكن أن يشاركوني رأيي في كون السرد يتحرك بدون عون من أحد. لكنني أظن أن معظم القراء سيوافقون على أن هناك من يحرف السرد عن الطريق كالراوي أو المؤلف.
* كاتب وناقد سعودي
هكذا أجابني الناشر حين عرضت عليه رواية من ثلاثة أجزاء لينشرها في مجلد واحد.
- أعدْ القراءة. ستعرف أن هذا الجزء هو الأجمل، ويمكن أن يكون وحده. ثم أخبرني بأنه لا ينشر الروايات الطويلة؛ فالقارئ لم يعد يجد وقتا ليقرأ رواية ضخمة.
- الأقل الأجمل هو الأكثر. هذه فلسفتي في النشر.
أجبته بشيء لا أتذكره، وإن ساعدني الموقف الذي أتذكره الآن على أن أحدس بأن الحيلة لن تنقصني في أن أعدل هنا أو هناك؛ لكي يبدو هذا الجزء غير محتاج إلى الجزأيْن الآخرين.
وفيما يبدو تهدئة للجو الذي توتّر؛ حكى لي عن الكاتب الذي ألف كتابا ضخما وأرسله إلى إحدى دور النشر، لكن الدار نُسفت في حرب اشتعلت فجأة. ضاع المخطوط الذي عمل عليه الكاتب عشر سنوات. وما استرده منه استخدمه للفّ سجائره بسبب النقص في الورق خلال الحرب.
أصغيْت إلى حكايته فاشتد حماسه
- بدأ بالجزء الأخير من المخطوط، وحين انتهت الحرب كان قد وصل إلى الجزء الأول.
صمت ثم سألني
-أتعرف ما الذي حدث بعد ذلك؟
انتظر لكي أجيب؛ ولأنني لم أكن أعرف تحدث ببطء كما لو أنه يقول لي كلاما مهما
- نشره فيما بعد فأصبح عملا خالدا.
لست متأكدا الآن من صحة ما حكاه لي. وآنذاك لم أسأله عن صحة الحكاية؛ لأنني غرقت في نبرة صوته العميقة الصادرة من أعماق روحه. وكما لو أنه هو مؤلف العمل الخالد. قال
- يرقص المرء برشاقة حين يتوقف عن التفكير في قواعد الرقص. شاركته الحديث، لكن بوتيرة أركد مما هو عليه. قلت له -أتخيّل الآن أنني لن أعرف ما أفعل كما لو كنتُ في غابة..
قال -نعم غابة. تخيل أن الليل حلّ فأردت أن أساعدك. أن أدعك ترى ما كتبت فأشعلتُ النار في كومة حطب، لكن النار أحرقت الغابة والقرى. لم أكن أقصد سوى إشعال النار لترى. لم أكن أقصد حرق الغابة والقرى، لكن ما حدثَ حدث. لا أعرف. أأنا الذي أحرقت الغابة والقرى، أم أنني فقط أشعلت النار؛ فأنا لم أنوِ الحرْق، وكل ما أردته هو الإشعال وليس الحرق. الأمور التي سأحدثك عنها ستجري في المستقبل كما لو أنها جرت في الماضي. إن سألتني لماذا؟ سأجيب بأن الأمور العادية تتكرر. لا تصدق أن الحدث العادي لا يتكرر. ولادة الناس وموتهم مثلا. لذلك ستشعر بالملل؛ لأن الأمر سيبدو لك أشبه بالواجب. لكن سرعان ما ستصبح فكرة الواجب فكرة مضيئة. حلّ الواجب؛ من غير أن تعتبر نفسك مسؤولا عما أعتقده في قدرتك على أن تحلّ الواجب بطريقة صحيحة. نعم. لا يفترض بك أن تكون جيدا لأنني أو لأنك تعتقد أنك كاتب جيّد.
إلى هنا انتهى دور الناشر. ولإنهاء دوره فإن تلخيص الحدث الأساسي هو أننا تحدثنا بدون قصد ما كنا نرغب فيه معا فيما لو عدّلت المخطوط. ولإنهاء ما حدث فإن الحبكة المفضلة هو أن يأخذني إلى مقهى قريب من مكتبة. وفي صمت أفكاره وأفكاري دوى صوت إغلاق مكتبه، لكن فكرته عن الواجب وكيفية الحل خففت توتري، وفكرت في أن اشتغل على الجزء الذي اقترح إعادة كتابته. شغل مَنْ ليس له زمن. جهد الشّغل الذي يراقب العمل، لا ليغير العمل إنما لكي يحسّنه.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ لم يحن الوقت بعد. والمهم في هذا المكان أن أؤكد أن لا أحد سيشعر بمتعة مراقبة السرد إلا بعد أن يجرب. عندئذ سيكتشف أن السرد لا يضل الطريق، وإذا ما ضل فهناك حتما من يدفعه إلى أن يسلك الطريق غير المناسب. إن قلة من القراء يمكن أن يشاركوني رأيي في كون السرد يتحرك بدون عون من أحد. لكنني أظن أن معظم القراء سيوافقون على أن هناك من يحرف السرد عن الطريق كالراوي أو المؤلف.
* كاتب وناقد سعودي