-A +A
عبدالله الرشيد * ALRrsheed@
باختصار.. حين نتأمل الفكر السياسي الإسلامي التقليدي فإننا نجده مأسوراً للممارسة السياسية التاريخية في عصور الإسلام المتقدمة، فأصبح يحاكم منتجات الواقع، وتشكلاته السياسية من منظور تلك الحقب التاريخية. وتسبب هذا الجمود في إعاقة مشاريع التنمية والانفتاح، والوقوف حجر عثرة أمام تطور مفهوم الدولة الحديثة في العالم العربي والإسلامي، وسبب ذلك يعود إلى التعلق الفكري العاطفي بذلك القرار التاريخي، لحظة سقوط الخلافة، وسقوط الراية الإسلامية الجامعة القائمة على أركان المنطق السياسي القديم في الحقب الإسلامية الأولى، فقامت رؤى واتجاهات كثيرة حملت على عاتقها لواء إعادة هذه الراية وبعثها من جديد، وأخرى مازالت تحاول وتبحث وتتساءل عن تصور سياسي جديد، لكن تساؤلاتها وصدى نقاشاتها مازال يستحضر تلك اللحظة كثيراً، لم يستطع تجاوزها.

إن نموذج «الخلافة الإسلامية» الذي تسعى إليه كثير من الحركات الإسلامية لا يعني بالضرورة تلك الصورة التقليدية الرمزية للخليفة، التي يكون فيها شخص واحد يتسمى بذلك المسمى، ويحمل ذلك اللقب، بهيلمانه وزيه وحاشيته كما تعبر عن ذلك تلك الصور النمطية المتناقلة عبر التاريخ لفكرة الخليفة، وإنما في الفكرة الأساسية التي تقوم عليها نظرية الخلافة التي تستند إلى أمرين أساسين، الأول: اجتماع السلطة الدينية والدنيوية في شخص واحد أو جهة واحدة، ووجوب طاعتها باعتبارها الممثل الشرعي المحقق لشروط الاستخلاف وإقامة شعائر وأحكام الإسلام، الأمر الثاني: أن الوطن هو دار الإسلام كافة، فلا وجود لحدود جغرافية محددة، أو حدود قطرية معتبرة، فمساحة الدولة تتوسع وتتقلص بحسب قوة السلطة وضعفها، وقدرتها على التمدد والانتشار كما كان ذلك يحدث في دول الخلافة الإسلامية المتعاقبة في التاريخ.


فمفهوم دار الإسلام الذي يعبر عن منطق الدولة الإسلامية القديمة يستمد هويته من مجموع الأفراد القاطنين فيه، فهي أمة تقوم هويتها على الدين والعقيدة، ولا تستمدها من الأرض، فالأرض متغيرة، ودار الإسلام تتغير وتتبدل بناء على حركة الفتح والجهاد، ولذا كان تحديد الفقهاء لمهمة الخليفة هي «إقامة شرع الله، والذود على البيضة»، والبيضة لغة واصطلاحاً ذات مفهوم اجتماعي أكثر منه جغرافي، وتعني أساساً (جماعة المسلمين)، وفي أصلها اللغوي كما يقول ابن منظور: «بيضة المسلمين وجماعتهم، والبيضة أصل القوم ومجتمعهم، يقال أتاهم العدو في بيضتهم»، وكما ورد عند النووي: «الإمام جنّة، أي كالسِّتر لأنَّه يَمنع العدوَّ من أذى المسلمين، ويَمنع الناسَ بعضَهم من بعض، ويَحمي بيضةَ الإسلام، ويتَّقيه الناسُ، ويَخافون سطوتَه».

فمنطق جماعة المسلمين أو بيضة المسلمين هو الحاكم لمفهوم دار الإسلام ومنطلق واجبات الخليفة في ذلك الوقت، فحركة الفتوح وموجات استيطان المسلمين هي التي تحدد سيادة الدولة، والوثيقة الرسمية التي تجعل من الفرد منتميا لدار الإسلام هو التزامه الحد الأدنى من واجبات الإسلام، ويصبح هذا السلوك بمثابة وثيقة تحفظ له كافة حقوقه على كل أراضي هذه الدار، كما يضمن له حق التملك والتنقل، والتجارة، والإقامة، والعمل في مشارق الأرض ومغاربها التي تدخل ضمن سيطرة دار الإسلام.

الدكتور إسماعيل الشطي (وهو وزير كويتي سابق، وابن للحركة الإسلامية، كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، وانفصل عنهم، لكنه مازال يعتبر نفسه إسلاميا خارج إطار الحركة)، نشر في عام 2013 كتاباً بعنوان (الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة)، عقد فيه مقارنات مهمة بين موقف الإسلاميين السياسي المستمد من العصور القديمة، ومنطق الدولة الحديثة، مؤكداً أن أكبر التحديات التي تواجه تجربة حكم الإسلاميين هي الاختلافات الهيكلية في بنيان نموذج الإسلام التاريخي المعروف بدار الإسلام، عن الدولة النمطية المعاصرة، حتى مع محاولات مزج مبادئ الإسلام السياسية مع النموذج النمطي للدولة الحديثة (الأسلمة) تبقى التحديات الجاثمة أمامهم أكبر منهم بكبير. فغالبية الإسلاميين العاملين في المجال السياسي لا يتحدثون عن إعادة إنتاج دار الإسلام في ظل الظروف الدولية المعاصرة، لكنهم في الوقت نفسه لا يقدمون نموذجهم البديل لممارسة الحكم في الدولة الحديثة، مع اختلاف مستمر داخلي فيما بينهم حول قبول النظم السياسية الحديثة، أو مشروعية الخروج على المفاهيم الكلاسيكية التي قام عليها منطق دار الإسلام، في مقابل ذلك هناك سعي حثيث من قبلهم للوصول إلى السلطة، وكأنهم يؤجلون تقديم نموذجهم لحين وصولهم للحكم حتى يبتكروه على أرض الواقع، ووفق ضغط الحاجة، أو ربما من زاوية أخرى ينتظرون وصولهم إلى السلطة حتى يمسكوا بزمام الأمور ويستطيعوا إقامة أفكارهم بحرية دون ضغوط داخلية، أو كما قال أحد الإسلاميين في ذروة نقاش حول المفاهيم السياسية الحديثة: «يا سيدي لو استطعنا أن نقيم دار الإسلام بالقوة وتحققت لنا الغلبة، حينها هذا النقاش ما له لزمه، و بلا ديمقراطية بلا هم». -أنظر هنا لا وجود لتعبير جغرافي أو قطري في الغاية المقصودة (دار الإسلام)، وإنما غاية الدولة ومشروعية وجودها هي الهوية، وفي أي مكان أقيمت فإنها هي الوطن المنشود، ومن هذا المنطق تشكلت بعض أفكار الجماعات الجهادية التي تقوم على التكفير والهجرة، أي الهجرة إلى الأرض التي تحققت فيها أركان دار الإسلام-.

يشير الشطي إلى أن الإسلاميين لا يملكون تجربة حية لمحاولة المزج بين فكرة دار الإسلام والدولة الحديثة، سوى نموذج الجمهورية الإيرانية الإسلامية، ورغم أن بعض الإسلاميين ينظرون إليها باعتبارها تجربة مذهبية تعبر عن طائفة من المسلمين، ولا تعبر عن الإسلام، إلا أنه رغم هذه التحفظات فإن أصول الحكم في الإسلام لا تشكل موطنا واسعا للخلاف بين المذاهب، كما أن تجاوز السنة لموضوع الخلافة القرشية، وقبولهم لبيعة خلافة العثمانيين، وتجاوز الشيعة لمفهوم الإمامة بولاية الفقيه، جعل الفوارق التاريخية بين النظريتين السياسيتين ضيقة.

يمكن القول هنا إن جمهورية إيران استطاعت أن تقدم نموذجا واضحا لمزج دولة دار الإسلام القديمة، والدولة الحديثة، لكن طريقة هذا المزج قادت لتناقضات واختلالات كبيرة، تكونت منها دولة مشوهة وفقا للمفهوم الحديث، دولة تجد استقرارها في الاضطراب وصناعة الخصوم، وغدت ملجأً فكريا وماديا لكافة الحركات الإسلامية المتطرفة في العالم. ووقوداً لإشعال النار في حركات التشدد والتعصب المذهبي والميليشاوي في المنطقة، وإيقاظ المفاهيم الطائفية وتغذيتها من أجل إلهاب مشاعر أبناء الطائفة.

استلهم النموذج الإيراني فكرة الخلافة (الإمامة)، وقدمها من خلال الولي الفقيه المرشد الذي يعتبر مرجعاً دينيا روحياً، ودنيوياً، تتمدد سلطاته الروحية فتتجاوز الحدود الجغرافية إلى كافة المناطق التي يقع فيها أبناء الطائفة الإثني عشرية، عبر استمالة ولائهم وخرق مبادئ الوطنية والسيادة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، ومن ثم تصدير الثورة إلى أبناء الطائفة المنتشرين في الدول الأخرى من أجل توسيع دولته التي لا تؤمن بحدود جغرافية قطرية، فأصبحت إيران راعية لكثير من التدخلات المؤذية لدول الجوار. فالمرشد أو الخليفة الإيراني يرى أن هويته ومهمته تنطلق من فكرة حماية البيضة (جماعة المسلمين)، وإن كان مقصده هنا بيضة الطائفة تحديدا، وليس بيضة الإسلام ككل.

حالة المزج التعسفي القسري بين مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة في النموذج الإيراني هي أقرب صورة يمكن أن يؤدي إليها وصول الإسلاميين إلى السلطة، ولذلك لم يكن من المستغرب حين ترد معلومة تنتمي للعالم الشفوي أن وفد الإخوان المسلمين حين زار الخميني عام 1979 قد طرح عليه مبايعته كـ«خليفة للمسلمين»، مقابل إعلان الخميني أن خلافات الصحابة حول الخلافة والإمامة هي خلافات سياسية وليست عقائدية! ولم ينجح ذلك العرض بالطبع، حين أعلن الخميني في وجوههم أن المذهب الجعفري هو المذهب الرسمي للدولة.

تحددت حينها بيضة الخميني، وانحسرت في الطائفة، وذهب الإخوان جهدا يبحثون عن بيضتهم سنين وسنين بعد ذلك، لكن حين وصلوا إلى السلطة، اتضح أنها هشة سهلة الانكسار، وذهبت بيضتهم أدراج الرياح.

* كاتب وباحث سعودي