4- انطلاقا من الجدل الفقهي حول مشروعية أخذ المؤلف عوضا ماليا عن مؤلفاته الشرعية كتب الشيخ صالح الحصين دراسة بعنوان (هل للتأليف الشرعي عوض مالي؟)، وربما الأسئلة المبطنة المثارة من داخل هذا السجال هي: هل يسوغ للمنشغل بالعلوم الشرعية أو الدعوة أن يحقق ثروة مادية من خلال انشغاله بهذا المجال الديني، مع أن المفترض أن عمله يقوم على الإخلاص والتورع عن المادة حتى لا يصبح سلعة قابلة للاتجار والاستثمار!
أشار الحصين في دراسته إلى أن غالب المعاملات التي استوردها العالم الإسلامي من الغرب قد «نبتت في تربة النظام الرأسمالي، وهذه التربة مخصبة بالقمار والربا والفردية وحضور الشح والتغالب، ولا محل فيها لمعاني الإخلاص والتقوى والاحتساب، لذلك لا بد - قبل حكم الفقيه على المعاملة - أن يقوم بتحليلها ويتعرف على خصائصها ويقدر مدى تأثرها بمخصبات التربة التي نشأت فيها».
برأي الحصين عندما يؤلف شخص مؤلفاً تنشأ ثلاثة أنواع من العلاقات بينه وبين مؤلفه تجاه الكافة:
أ- علاقة ملكيته لمؤلفه، بما هو جسم مادي قابل للحيازة وإن كانت قيمته المعنوية والمالية ليست فقط في المادة التي سجلت عليها أفكار المؤلف (الورق مثلاً) وإنما في الأفكار المعبر عنها بالكلمات المسجلة على المادة، بل إن كانت هذه الأفكار والتعبير عنها هي العنصر الأهم في القيمة المعنوية والمالية للمؤلف.
ب- علاقة شخصية بحتة تتمثل في حق المؤلف في نسبة مؤلفه إليه والاعتراض على كل تشويه أو تحريف أو تعديل فيه أو مساس بذات المؤلف يكون ضاراً بشرفه وسمعته، وحقه في إدخال ما يراه من تعديل في مؤلفه وسحبه من التداول ويسمى هذا «الحق المعنوي أو الأدبي»، وهذا الحق ليس قابلاً للتصرف ولا للتنازل عنه كالحق الأول حق الملكية.
ج- علاقة مالية تتمثل في مكنة المؤلف من أخذ العوض ممن ينتفع تجارياً بمؤلفه والتصرف في هذه المكنة، تسمى هذه العلاقة «الحق المالي للتأليف».
5- بما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلتصوّرِ الحق المالي للتأليف، لا بدّ بادئ ذي بدأ من معرفة أن هذا الحق مصدره القانون لا الشرع، هذا لا يعني بالضرورة أن هذا الحق لا تقرّه قواعد الشرع وإنما المراد أن الذي أوجد هذا الحق ويوجده القانون، توضح ذلك الفقرة التالية.
6- لم يكن الحق المالي للتأليف معروفاً قبل أن يصبح استغلال المؤلفات تجارة واسعة رابحة بها دور ظاهر في الاستثمار، وذلك بوجود المسارح ودور التمثيل ووجود المطابع ودور النشر التي نتجت عنها الثورة الصناعية والتجارية في نشر المؤلفات.
ويقال عادة: (إن أول قانون صدر بحماية هذا النوع من الحقوق، القانون الفرنسي الصادر في عام 1791م وقد اقتصر على حماية الحق المالي للمؤلفات المسرحية ثم صدر القانون الفرنسي في عام 1792م يمدّ تلك الحماية إلى جميع المصنفات الأدبية والفنية، ثم تتابعت القوانين الأخرى في البلدان المختلفة).
وبناء على ذلك، وشواهد عدة يقرر الحصين أن: «القوانين المنظمة لهذا الحق في العالم الإسلامي انتسخت من القوانين الغربية، وهذه الأخيرة وجدت في بيئة النظام الرأسمالي، وفي هذه البيئة تلعب المنفعة المادية والقيمة المحسوبة مالياً الدور الهام، وفي ضوء هذا المعنى تفسر مقاصد وأهداف وسلوك البشر المحكومين بمقتضيات ومؤثرات تلك البيئة، وفي هذه البيئة لا يدخل في الحساب والاعتبار أن مؤلفاً يبذل جهده في التأليف لا يبتغي إلاّ وجه الله، ويطلب الجزاء الإلهي لقاء نفع الخلق، وأن العلم النافع صدقة جارية إلى يوم القيامة وأن ما عند الله خير وأبقى وأجل من أن يستعيض عنه ثمناً بخساً دراهم معدودة، ويعتقد أن ما عند الله إنما ينال بإخلاص النية، ونفي أن يشاب بحظوظ النفس الفانية وإن تعاظم حجم العمل وتأثيره في نفوس المتلقين إنما يكون بقدر ما يضع الله فيه من البركة وله من القبول وذلك إنما يكون بالإخلاص الذي لاحظ للنفس فيه ولذلك كان أشق شيء على النفس». انتقل هذا التأصيل من جانب المؤلفات الشرعية إلى المنتجات الدينية الأخرى التي تصدر في قوالب مختلفة، من أشرطة، ومحاضرات، وبرامج فضائية، حول مشروعية أخذ العوض المالي عنها، خصوصا في فترة صعود الفضائيات التي أصبح فيها برنامج «الداعية» واحدا من البرامج الفضائية التي يتقاضى عليها عقودا مالية طائلة مثله مثل غيره من نجوم الفضائيات التقليديين، وما يترتب على هذه العقود من الاحتكار وشراء الحقوق ونحوهما، لذلك حين سئل عضو هيئة كبار العلماء عبدالله بن منيع حول هذا الأمر قال: «الأصل أن العلم مشاع للجميع وأن تعلمه وتعليمه من أمور الاحتساب والارتفاق وقد درج العلماء على هذا المسلك، فتعاقد بعض الدعاة والعلماء مع الفضائيات في حصر بثهم في محطة واحدة دون المحطات أو المنابر الأخرى لا يجوز سواء أكان ذلك من قبل ملاك المحطات أم كان ذلك من قبل المتعاقدين معهم من العلماء والدعاة، ولا يقال إن اقتصار العالم أو الداعية على قناة واحدة دون القنوات الأخرى لا يعتبر احتكاراً فهو يبث علمه أو دعوته على الملأ من خلال هذه القناة، بل يرد على ذلك بأن اقتصارهما على قناة واحدة يعتبر احتكاراً جزئياً والاحتكار مذموم مطلقاً سواء أكان كلياً أم كان جزئياً، إذ إن بث العلم ونشره من مجموعة منابر ليس كانتشاره من منبر واحد يسمعه القليل ويغيب عند الكثير، ومثل هذا الذي تمارسه بعض القنوات الإعلامية في احتكار العلماء والدعاة ما تفعله بعض البنوك الإسلامية التي تستصدر من جمعيتها العمومية قراراً بمنع أعضاء هيئتها الشرعية من العمل في الهيئات الشرعية في البنوك والشركات الأخرى التي تريد الاقتصار في معاملاتها على المنتجات الإسلامية، فهذا نوع من الاحتكار للعلم».
ويبقى هذا التأصيل نظريا بعض الشيء بعيدا عن الواقع، يجسد عمق الفجوة بين المبادئ والتطبيق، فالقنوات التلفزيونية - في فترة ما- قدمت نجوماً من فئة «الدعاة» الذين حققوا مداخيل عالية من خلال العقود الاحتكارية لبرامجهم الدينية على هذه الفضائيات، وهو خط جديد محدث ينافي النهج الكلاسيكي للعلماء السلفيين، فحين سئل الشيخ ابن باز حول مسألة (حقوق نسخ الأشرطة الدينية) قال: «لا يتحجر، لا يقول لا أحد يسجل هذا الشيء، ولا يكتب عليه ممنوع أن يسجله أحد، أو لا يأخذه أحد، فهذا من باب تحجير العلم».
* كاتب وباحث سعودي
أشار الحصين في دراسته إلى أن غالب المعاملات التي استوردها العالم الإسلامي من الغرب قد «نبتت في تربة النظام الرأسمالي، وهذه التربة مخصبة بالقمار والربا والفردية وحضور الشح والتغالب، ولا محل فيها لمعاني الإخلاص والتقوى والاحتساب، لذلك لا بد - قبل حكم الفقيه على المعاملة - أن يقوم بتحليلها ويتعرف على خصائصها ويقدر مدى تأثرها بمخصبات التربة التي نشأت فيها».
برأي الحصين عندما يؤلف شخص مؤلفاً تنشأ ثلاثة أنواع من العلاقات بينه وبين مؤلفه تجاه الكافة:
أ- علاقة ملكيته لمؤلفه، بما هو جسم مادي قابل للحيازة وإن كانت قيمته المعنوية والمالية ليست فقط في المادة التي سجلت عليها أفكار المؤلف (الورق مثلاً) وإنما في الأفكار المعبر عنها بالكلمات المسجلة على المادة، بل إن كانت هذه الأفكار والتعبير عنها هي العنصر الأهم في القيمة المعنوية والمالية للمؤلف.
ب- علاقة شخصية بحتة تتمثل في حق المؤلف في نسبة مؤلفه إليه والاعتراض على كل تشويه أو تحريف أو تعديل فيه أو مساس بذات المؤلف يكون ضاراً بشرفه وسمعته، وحقه في إدخال ما يراه من تعديل في مؤلفه وسحبه من التداول ويسمى هذا «الحق المعنوي أو الأدبي»، وهذا الحق ليس قابلاً للتصرف ولا للتنازل عنه كالحق الأول حق الملكية.
ج- علاقة مالية تتمثل في مكنة المؤلف من أخذ العوض ممن ينتفع تجارياً بمؤلفه والتصرف في هذه المكنة، تسمى هذه العلاقة «الحق المالي للتأليف».
5- بما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلتصوّرِ الحق المالي للتأليف، لا بدّ بادئ ذي بدأ من معرفة أن هذا الحق مصدره القانون لا الشرع، هذا لا يعني بالضرورة أن هذا الحق لا تقرّه قواعد الشرع وإنما المراد أن الذي أوجد هذا الحق ويوجده القانون، توضح ذلك الفقرة التالية.
6- لم يكن الحق المالي للتأليف معروفاً قبل أن يصبح استغلال المؤلفات تجارة واسعة رابحة بها دور ظاهر في الاستثمار، وذلك بوجود المسارح ودور التمثيل ووجود المطابع ودور النشر التي نتجت عنها الثورة الصناعية والتجارية في نشر المؤلفات.
ويقال عادة: (إن أول قانون صدر بحماية هذا النوع من الحقوق، القانون الفرنسي الصادر في عام 1791م وقد اقتصر على حماية الحق المالي للمؤلفات المسرحية ثم صدر القانون الفرنسي في عام 1792م يمدّ تلك الحماية إلى جميع المصنفات الأدبية والفنية، ثم تتابعت القوانين الأخرى في البلدان المختلفة).
وبناء على ذلك، وشواهد عدة يقرر الحصين أن: «القوانين المنظمة لهذا الحق في العالم الإسلامي انتسخت من القوانين الغربية، وهذه الأخيرة وجدت في بيئة النظام الرأسمالي، وفي هذه البيئة تلعب المنفعة المادية والقيمة المحسوبة مالياً الدور الهام، وفي ضوء هذا المعنى تفسر مقاصد وأهداف وسلوك البشر المحكومين بمقتضيات ومؤثرات تلك البيئة، وفي هذه البيئة لا يدخل في الحساب والاعتبار أن مؤلفاً يبذل جهده في التأليف لا يبتغي إلاّ وجه الله، ويطلب الجزاء الإلهي لقاء نفع الخلق، وأن العلم النافع صدقة جارية إلى يوم القيامة وأن ما عند الله خير وأبقى وأجل من أن يستعيض عنه ثمناً بخساً دراهم معدودة، ويعتقد أن ما عند الله إنما ينال بإخلاص النية، ونفي أن يشاب بحظوظ النفس الفانية وإن تعاظم حجم العمل وتأثيره في نفوس المتلقين إنما يكون بقدر ما يضع الله فيه من البركة وله من القبول وذلك إنما يكون بالإخلاص الذي لاحظ للنفس فيه ولذلك كان أشق شيء على النفس». انتقل هذا التأصيل من جانب المؤلفات الشرعية إلى المنتجات الدينية الأخرى التي تصدر في قوالب مختلفة، من أشرطة، ومحاضرات، وبرامج فضائية، حول مشروعية أخذ العوض المالي عنها، خصوصا في فترة صعود الفضائيات التي أصبح فيها برنامج «الداعية» واحدا من البرامج الفضائية التي يتقاضى عليها عقودا مالية طائلة مثله مثل غيره من نجوم الفضائيات التقليديين، وما يترتب على هذه العقود من الاحتكار وشراء الحقوق ونحوهما، لذلك حين سئل عضو هيئة كبار العلماء عبدالله بن منيع حول هذا الأمر قال: «الأصل أن العلم مشاع للجميع وأن تعلمه وتعليمه من أمور الاحتساب والارتفاق وقد درج العلماء على هذا المسلك، فتعاقد بعض الدعاة والعلماء مع الفضائيات في حصر بثهم في محطة واحدة دون المحطات أو المنابر الأخرى لا يجوز سواء أكان ذلك من قبل ملاك المحطات أم كان ذلك من قبل المتعاقدين معهم من العلماء والدعاة، ولا يقال إن اقتصار العالم أو الداعية على قناة واحدة دون القنوات الأخرى لا يعتبر احتكاراً فهو يبث علمه أو دعوته على الملأ من خلال هذه القناة، بل يرد على ذلك بأن اقتصارهما على قناة واحدة يعتبر احتكاراً جزئياً والاحتكار مذموم مطلقاً سواء أكان كلياً أم كان جزئياً، إذ إن بث العلم ونشره من مجموعة منابر ليس كانتشاره من منبر واحد يسمعه القليل ويغيب عند الكثير، ومثل هذا الذي تمارسه بعض القنوات الإعلامية في احتكار العلماء والدعاة ما تفعله بعض البنوك الإسلامية التي تستصدر من جمعيتها العمومية قراراً بمنع أعضاء هيئتها الشرعية من العمل في الهيئات الشرعية في البنوك والشركات الأخرى التي تريد الاقتصار في معاملاتها على المنتجات الإسلامية، فهذا نوع من الاحتكار للعلم».
ويبقى هذا التأصيل نظريا بعض الشيء بعيدا عن الواقع، يجسد عمق الفجوة بين المبادئ والتطبيق، فالقنوات التلفزيونية - في فترة ما- قدمت نجوماً من فئة «الدعاة» الذين حققوا مداخيل عالية من خلال العقود الاحتكارية لبرامجهم الدينية على هذه الفضائيات، وهو خط جديد محدث ينافي النهج الكلاسيكي للعلماء السلفيين، فحين سئل الشيخ ابن باز حول مسألة (حقوق نسخ الأشرطة الدينية) قال: «لا يتحجر، لا يقول لا أحد يسجل هذا الشيء، ولا يكتب عليه ممنوع أن يسجله أحد، أو لا يأخذه أحد، فهذا من باب تحجير العلم».
* كاتب وباحث سعودي