جهاد المجالي
جهاد المجالي
-A +A
جهاد شاهر المجالي *
كان من المفترض أن يكون عنوان هذه المقالة: «في لغة النقد والنقّاد»، أو ما يؤدي مؤداه، ولكنني عدلت عن ذلك إلى عنوان آخر، هو الذي يتصدّر مقالتي هذه، حينما علمت أنّ الأستاذ الدّكتور النبوي عبدالواحد شعلان، موضوع هذه المقالة، هو محقق كتاب «من غاب عنه المُطرِب» الذي ألّفه الثعالبي. وقد يكون من الضروري بادئ ذي بدء، بيان المقصود بهذا العنوان الذي اخترته لهذه المقالة، وهو عنوان يستثير القارئ ويبعث فيه الفضول لمعرفة مؤداه، وأتفق مع الشعلان في أنّ الثعالبي، كما يبدو، يريد أن يقول: إذا فاتكم الإمتاع والإطراب، الذي تهتز له عطفات النفس، ويأخذ بتلابيب الروح، في مناحي الأدب وفنونه المتنوّعة، فإنّ في هذا الكتاب ما يغني ويطرب.«وممّا لا شكّ في أن القارئ الحصيف، وهذا يقيني الراسخ به، سوف ينفذ بيسر إلى الغاية من اختيار العنوان الجديد، الذي يدور في فلك العنوان الأوّل،الذي عدلت عنه».

أتيح لي قبل سنوات أن أطّلع على تحقيق الدّكتور شعلان لكتاب «العمدة»، ولكنّي أعترف بأنني لم أستغرق حينئذِ في قراءة مقدّمته، ومررت بها مروراّ سريعاً، ربّما لأنني كنت حينها مشغولاً بالنص المحقق أكثر ممّا كنت مشغولاً بمقدّمته، وقد ارتحت لما بذله فيه محقّقه من جهد محمود لايخفى على متتبعه، وقد كنت أعود إليه بين الحين والآخر دون أن أتوقّف عند مقدّمته، غير أني توقّفت قبل مدّة ليست بالبعيدة عند هذه المقدّمة، وقرأتها مليّاً،وأعترف أنّه تملّكني العجب والذهول من لغة الدّكتور شعلان في نقده لزملائه، ممّن اشتغلوا على هذا الكتاب قبله. وأبدأ بنقده لتحقيق الدّكتور محمّد قرقزان، الذي صدرت طبعته الأولى في سنة 1988.


يصف الدّكتور النبوي شعلان طبعة محمّد قرقزان للعمدة بأنّها لا تعدو أن تكون تعليقات،أوما كان يطلق عليه قدماؤنا «حاشية»،على طبعة محمّد محيي الدين عبدالحميد، وذلك لأنّ معظم ما وقع فيه عبد الحميد من أخطاء، تكرّر في نسخة قرقزان، على الرغم من ادّعاء قرقزان (والكلام لشعلان) أنّه حصل على عدد من المخطوطات للكتاب، ومنها مخطوطة الأزهر الّتي اعتمد عليها شعلان، ورمز إليها بالرمز [ف]، والّتي احتكم إليها شعلان في نقده لعمل قرقزان، ويستحضر شعلان بعض الشواهد والأمثلة، الّتي يدعم فيها رأيه بتهافت عمل قرقزان، ومنها ما يستدل به على نسبة قرزان للعديد من أبيات الشعر إلى ابن رشيق، وهي ليست في الأصل له، و من ثَمّ اتّهام قرقزان من اشتغلوا على شعر ابن رشيق بالتقصير، كونهم لم يضمّنوا هذه الأبيات في ديوانه، ومن هذه الأمثلة، البيت التالي الذي أورده ابن رشيق في (1/‏72):

وأزرَقُ الفَجرِ يَبدو قَبل أبيَضه وأوّلُ الغَيثِ قَطر ثُمّ يَنسَكِبُ

ثمّ يورد قول قرقزان بنصّه: «ليس البيت في النتف للميمني، ولا بديوان ابن رشيق لياغي» (المقصود المرحوم الدّكتور عبدالرحمن ياغي). ومعلوم لدى الصغار قبل الكبار (والكلام للدّكتور شعلان) أنّ البيت للبحتري وفي ديوانه (1/‏171)، ثمّ يورد أخطاءً متنوّعة له، منها ما يتصل بنقل بعض الآيات القرآنيّة، من مثل ما وقع به (1/‏1555) في الآية (26) من سورة الأنعام، ويورد أخطاءً أخرى تتصل بالعَروض، والأعلام، ونقل الأبيات الشعريّة، وخلاف ذلك. ثمّ يصل في ختام نقده لقرقزان، إلى أنّه يحتذي حذو أخطاء نسخة الشيخ محيي الدين عبد الحميد «حذو النعل بالنعل». وبعد، فقد تعقّب شعلان طبعة قرقزان راصدا ما وقع فيه من مختلف ألوان الأخطاء والعثرات، بما استغرق إحدى عشرة صفحة من مقدّمته، وهو ممّا لا يسمح المجال ولا الوقت باستعراضه هنا، وهو قد يكون محقّاً في كثير ممّا أظهره من أخطاء قرقزان، ونتفق معه فيه، ولكنّ ما لا نتّفق معه فيه، هو لغته المفارقة للحد الأدنى من اللياقة الأدبيّة، تلك اللغة المشبعة بالهُزء والسخرية والانتقاص من قدر الآخر، ليعبرّ عن موقفه من أخطاء قرقزان، وقبله محيي الدين عبدالحميد، وغيرهما، مثل قوله واصفاً قرقزان بـ «المحقق الهُمام» وقد كررها دون أن أجاوز الحقيقة ما يقرب من عشرين مرّة، وعبارة «محقق آخر الزمان»، وقد كرّرها مرّات أيضاً، وتعليقات أخرى لا تليق بمقامه هو بالمقام الأوّل، ونسمو بعالم محقق مدقق مثله فوقها، مثل قوله: «وهذا شيء مضحك» ثمّ قوله «المدعو الدّكتور محمّد قرقزان»، وهي وإن وردت على لسان زميل له، فلا يليق به أن يكرّرها في مقدّمته، واستخدامه مقولة أبي عليٍ الفارسي: «تزبّبْتَ وأنْتَ حِصْرِم»، ومقولة أبي حنيفة: «آن لأبي حنيفة أن يَمُدّ رِجْليه»، ثمّ «ومن ابتلي بشراء نسخة الدّكتور محمّد قرقزان»، وأيضاً «إنّ عمل الرجل يجب أن يجتث من عالم التحقيق»، «وعلى المحقق أن يرجع إلى المرحلة الثانويّة أو الجامعيّة ليتعلم العَروض»، «وهذه فضيحة ما بعدها فضيحة»، وأخيراً وليس آخراً يقول: «ولا أستطيع أن أقول عن هذا المحقق إلّا أنّه تلميذ مبتدئ في روضة التحقيق»، ثمّ يتمادى في قوله: «ولو فعل ذلك طالب في تمهيدي الماجستير لفصلته وطردته من الدراسات العليا لأنّه يجب أن يعمل نجّاراً أو حداداً أو غير ذلك». ولعلّ هذا غيض من فيض.

وأستميح القارئ الكريم العذر في استرسالي باستعراض «لغة شعلان» الأدبيّة في نقد زميله «قرقزان»، وهي ممّا يستفز القارئ الحصيف، وما كان ذلك إلاّ لأقول إنّ شعلان وُفّق في تعقب هفوات وعثرات زميله في مواضع ليست قليلة، وهذا ممّا يحمد له، ولكنّ ما لا يحمد له أنّه كشف اللثام عن أدبيات لغته، «وقد غاب عنه المُطِرب»، وفار ق لغة العلماء الّتي يجدر أن يتحلّى بها من هو في مقامه، وكان بمُكنته أن يوجّه زميله، وينقد أخطاءه وعثراته بلغة مأنوسة، فيها من التهذيب ما يكفل استحضار«المُطرِب» الذي غاب عنه. وأسأله، وأنا على ثقة بأنّ كلّ من قرأ مقدّمته، سيشاطرني سؤالي: هل بلغ عملك في العمدة حدّ الكمال، الذي تأمن معه من يخرج عليك وعلينا بتحقيق جديد، يظهر فيه هفوات عملك وعثراته، أم أنّك في مأمن يعصمك من ذلك، وقد يكون ذلك أقرب إليك من حبل الوريد، أو ممّا يمنيك به خيالك. لا أقول هذا منتقصاً من جهدك و إخلاصك في هذا العمل، الذي لا أشكّ لحظة أنّه يستحق الثناء والتقدير.

إنّ ما بذلته من جهد في هذا الكتاب، يعد إنجازاً بلا شك، ولكنّي لا أزعم أنّه إنجاز يعزّ نظيره، فالأيام حُبالى، كما أسلفت، ولا تدري متى تلد، ولكنّ يبدو لي أنّ فرحتك بما أنجزت أفقدتك حصافة لغة الخطاب، وأفسدت عليك لغة النقد، ولا أدري هل دار بخَلَدك لحظة أنّنا بشر، أوّلاً وأخيراً، وأنّك كأي بشر تجتهد، فتخطئ وتصيب، وأنّ عملك هذا قد يظهر فيه من الأخطاء والعثرات، مثلما وقع فيه قرقزان وغير قرقزان، ولن أقول أكثر ممّا وقع فيه. أقول هذا وأنا أُشهد الله على أنني لا أعرف الدّكتور قرقزان، ولم ألتقه يوماً، وإنني كنت أشرف به لو التقيته، أو عرفته، وأخشى ما أخشاه أن ترميني أيضاً بتلك العصا، عصا العصبيّة، كما رميت بها أستاذه أمجد الطرابلسي، بحكم أنّه ابن موطنه، وقد أغرقتَ كلمات محمّد فخري البارودي: (بلاد العرب أوطاني...) في بئر نسيانك، وهو (ابن موطن قرقزان والطرابلسي)، على حدّ مفهوم تصنيفك، ولا أقول عصبيّتك، وأقولها صادقاً إنّ ما يجمعني بالدّكتور قرقزان لا يجاوز بحال ما يجمعني بك، دون أن أعرفك أو ألتقي بك. و أقول إنّك كدت أن تكون المحقق الهمام الذي تطمح أن تكون، لولا أن قصّرت بك لغة الخطاب (النقد)، الّتي عكّرت عليّ، وعلى من يقرأ مقدّمتك، صفو تتبع ما أنجزته في هذا العمل.

ولم يسلم قبل قرقزان، (ابن موطنه وموطننا جميعاً)، الشيخ الجليل محمّد محيي الدين عبدالحميد، فقد تجرّأ عليه بَصلَف لغة نقده المتعالية، الّتي لا تقيم وزناّ لعالم، ولا لطالب علم، وهو إن قرّظه فلغاية في نفسه، سأفصح عنها الآن، فلا ينفعه تقريظه له في قوله: «إنني لا أشك لحظة واحدة في علم الشيخ محمّد محيي الدين عبدالحميد، بل إنني أقول: أنّه أحد العلماء الأفاضل في علوم النحو والصرف، يشهد بذلك القاصي والداني»، فكان جلّ همه أن يقصي الشيخ وغيرالشيخ من حلبة تحقيق هذا الكتاب، كي تخلو له الساحة، فهي لا تتسع لغيره، فنعت أسلوبه في التحقيق بالأسلوب المدرسي، مستشهداً على ذلك بقول من دعاه بأحد أعلام عصره، مغفلاً ذكر اسمه، ومكتفياً بالإشارة إليه ب: «الدّكتور [م.ر.أ ]»، وكم كنت أتمنّى أن يمتلك من الجرأة ما يجعله يصرّح باسمه، ليكون كلامه مقنعاّ ومؤثّراً، ولم يكتف بذلك بل نسب ما أنجزه الشيخ طيلة عمره في التحقيق إلى طلابه، دون دليل مقنع.

ونحن نقر للدّكتور الفاضل بأنّ لا مجال لمقارنة عمل الشيخ عبدالحميد بعمله في العمدة، فما أتيح له ولأبناء جيله، من وسائل العلم والمعرفة، وسَعَة أفق التواصل والاتّصال، وغير ذلك ممّا ييسر على الباحث والمحقق، لم يكن متاحاً في وقت الشيخ عبدالحميد.

ويبلغ تعاليه وتجرؤه مداه حين ينسب نظريّة «الجرح والتعديل» لنفسه، وكأنّها لم تكن معروفة قبله، ولم يسمع بها أحد، وأقتبس هنا من مقدّمته قوله: «وسأورد للقارئ الكريم مجموعة من الأدلّة الدامغة الّتي تؤكد نظريتي في الجرح والتعديل»، وأقول للسيّد شعلان إنّ أحكامك على الشيخ عبد الحميد، الّتي استنبطتها، من نظريتك، الّتي تجرّأت على نسبتها لك، ولست أدري كيف سوّغت ذلك لنفسك، أحكام غير مسوّغة ومردودة، لسبب بسيط جدّاً، هو أنّ «نظريّة الجرح والتعديل» الّتي جاء بها علماء السلف، ولست أنت، تستوجب منك أن تشمل في تطبيقها جميع مؤلّفات وتحقيقات الشيخ عبدالحميد دون استثناء، حتّى تخرج بحكم جامع مانع، ولكنّك لم تتحدّث إلّا عن العمدة فقط، وكأنّ جُلّ همّك أن تنسف جهد كلّ من سبقك في هذا الكتاب، لتقول أنا العمدة والعمدة أنا، ألست تقول في مقدّمتك [ص17]: «وكلّ ما سأقوله عن النسخة [م] (يقصد بها نسخة عبد الحميد)، ينطبق على نسخة الخانجي ونسخة أمين هنديّة.»

ويحضرني هنا قول مالك بن زيد مناة بن تميم:

أوردَها سَعد وسَعد مُشتَمل ما هَكَذا توردُ يا سَعدُ الإبِل

وبعد أقول لأخي الفاضل الدّكتور شعلان، وهو من يعرف ما أقول، إنّ العالم لا يصبح عالماً بما يحصّله من كراريس العلم فقط، وإنّما بذلك القدر من التواضع الذي يتوّج العالم عالماً، ذلك هو تواضع العلماء، الذي يسمو بهم، لا بخطاب التعالي، ولا بلغة القدح، والنيل من الآخر. ولا أملك في الختام، إلّا أن أدعو القارئ الكريم، ليقول قوله في هذا الوجه من مقدّمة تحقيق الدّكتور شعلان لهذا الكتاب، وهو بلا أدنى شك الحكم المنصف، وأعتقد (والاعتقاد هو النهاية في الجزم) بأنّ كل من قرأ، أو سيقرأ مقدّمته، من أهل العلم الأفاضل، سيجد صدى ما قلتُه في نفسه مدوّياً.

* أكاديمي في الجامعة الأردنيّة - عمّان