-A +A
هناء البواب *
يبدو أن إسقاطات المثل الإنجليزي القائل بأن «العشب أكثر خضرة على الجانب الآخر» قد تعدّت المعقول لتصل إلى عتبة الغيرة من مصيبة الآخر، دون فهم ما يتجرعه صاحبها من تبعات لهذه المصيبة التي كلما حاول التخلص منها نبتت وعادت أكثر قسوة وخشونة.

فقد تحسد أرضٌ جرداء أرضاً معشوشبة على خضرتها ولونها الجميل ووفرة الزرع على وجهها، ولكنني لم أعتقد بأنني سأشهد حسد رجل لآخر على وفرة الكلمات في قلبه واكتمالها وتغطيتها لكامل حدوده.


ولكنهم يريدون أن يكونوا مثقفين.. يريد أن يكون مثقفا وهو يجرّ الكتابة إليه جرا، يجّرها إلى ذلك الجزء الذي لا يدركه في عقله، إلى بوابة لم يلجها القمر إلا في انكفاءة الخسوف، ولم تزرها الشمس إلا على نية الرحيل، وأنامله تكلّست من طيّ الأوراق البيضاء، فيما تنحبس روحه على قائمة ترقّب الشهرة ليضجّ من مآقي الوحشة.

يريدُ أن يكون مثقفا وهو يبحث في الحقول عن العشب وليس التوليب، يتحسس في الأكفّ الجلد لا الجراح، يفتش عن ذاته فيجدها في العتمة.

لا يستمع لنواح النساءِ على الشهداء، يريد أن يراهن يرقصن ويمثّلن الحب، لا ينصت في المقاهي إلاّ لوشوشات الرفاقِ تحت الطاولات، وخلف الجرائد، لا يتنشّق روائح البنِّ والهال.

لا يتحسس من الشوارع، حجارتها وياسمينَها،لا يتأمل همهمات عمالِ النظافة ولعنات الوجع على الأرصفة..

لا يعرف سوى أنه يريد أن يكون مثقفا فقط.

إنه لا يشعر من الشتاء موقدَه وشاعريته، لا تتسامى روحه مع الوحل وتشققَ الأسقف المستعارة، لا ينظر من الخريف أوراقَه المتساقطة دون عودة، بل تمرّ عليه ككلّ الأشياء لا يصغي في الربيع لبكاء الورود التي تذبل دون أن يشمّها أحد، ولا يريد من الصيف شمسَه ونسماته... يريد مساحة تكفي لنقول عنه مثقفا...

فيأتيهم المخلّص الدال على الثقافة والخير فهو كبيرهم المتثاقف عمدا وبسطوة صوته المتعالي الذي يظن فيه قدرته على الإقناع بقوله: كي تكون مثقفا عليك: أن تُحصي خياراتك إذا ما اُخذت على حين غِرّة عليك أن تقاوم، ألا تستسلم، أن تنتقم لرأيك وتدافع عنه، ضعْ في الحقيبة كل مآخذ وصراعات الهويات وجدالات البيزنطية، لا تنس نظاراتك الطبية طبعاً، فالعدسات اللاصقة خيار سيء لكائن مثقف مثلك..

ابحث بين أقراصك المدمجة عن أغنية أجنبية يبدو مؤديها كمن أصابته وعكة صحية ثم اعتلى المسرح وأدّى شيئًا وصفه بالغناء. ولا تنسَ إغلاق كتاب مهم جدًا كنت قد استعرته على اعتبار أهميته دون أن تضع علامة. وعند الرابعة فجراً، سمّر عينيك في السقف، لا تغمضهما، أشبه بمن ينتظر خبراً أو فُرجة في تدافعات القدر.

عليك أن تبدو متهوراً في قراراتك المصيرية، واطلب قهوتك أمام الملأ سادة وارفع سيجارتك في وجوههم، واضحك أمامهم من الشيطان الأبله، عدّد لهم الخسارات السطحية التي عددتها له، أشعرهم أنك في حالتك تلك كنكتة سمجة تستحق الركل، حدّثهم عن بطولاتك وأنك كنت تُدرك أن جُل ما خسرته هو شراء السيارة أو الشقة أو البحث عن حبيبة لسنين أخرى..

اهدم أصنام النجاح المرصوصة أمامهم على سُلم أولوياتهم، لتُعلن الفتح، ثم شُق في الحائط المجاور نافذة، لتطل منها على العالم، طِرْ أمامهم لتشعرهم أنهم ينقصهم الطيران، ليحيوا أحرارا. عليك الإحساس الدائم بالذنب، الإحساس بأنك مكلف بالبحث عن الأشياء الضائعة عليك الإحساس الدائم بأن هناك خطرا مبهما يترصدنا، وأن الكل يحيك لك المؤامرات، بأن هذا الوجود مصيدة متوحشة، بأن أشياء مريعة تبدأ بالحدوث ليلا حالما نغمض أعيننا ونبتعد عنهم، عليك التدرب اليومي على إظهار وساوسك من الحسّاد، لأنهم يعانون من مشاكل الميتافيزيقا، عليك التدرب بشكل جيد بمقاومة الموت بكلمات غاضبة، أظهر جنونك دوما، احضن عمود كهرباء في الشارع، قدم قطع سكر لنملات في الشارع، فاوض قطيع غيوم ليقيم فوق رأسك ولايغادرك، دافع عن حقوق حمار في النهيق، ارسم خريطة مزورة للوطن العربي القادم، جهّز مؤونتك من الخيالات الجامحة ووزعها كيفما تشاء في زوايا عقولهم، الساعة، لا تزال الرابعة والنصف فجرًا،وأنت لم تقرأ الكتاب، تداعبك بإلحاح أطياف الثقافة الواهمة التي لا تعرفها، والسماء الزرقاء الممتدة تصفق لك، والعمر سيبدو حينها كما لو ابتدأ توًا.. منِّ نفسك بالآفاق وبتلك الأحلام بالمغفلة.

* شاعرة أردنية