-A +A
نجيب عصام يماني
لم يكن مشهد اغتيال صدّام حسين، ومعمر القذافي، وأخيراً علي عبدالله صالح -الذي لم يدفن حتى الآن، فلا زال الحوثيون يرقصون فرحاً على جثته- بالأمر المستغرب لمن قرأ التاريخ وغاص في حقبه، فمثل هذه المشاهد الدموية تحتشد بها أضابير التاريخ العربي، وتمتلئ بها كراسات أحداث المسلمين على مر الحقب والسنوات، وما على من يرى في هذا القول من نظر أو تشكيل، سوى أن يأخذ نظرة في كتاب «تاريخ الخلفاء» للإمام السيوطي مثلاً، أو «البداية والنهاية» لابن كثير، أو «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، أو «العقد الفريد» لابن عبد ربه، أو أي واحد من أمهات الكتب التي تناولت تاريخ العرب والمسلمين، وأنا ضامن له أن يطلع على مشاهد دموية أفظع صورة، وأبشع منظرا لو جسدها في مخياله، ونظر إليها بالمقايسة مع الواقع اليوم، وتكفي الإشارة فقط لثلاث حوادث مروية، فيها الكفاية والغنى عن بقية الشواهد، لما انطوت عليه من فظاعة في التفكير وترصد في سفك الدم بروح أقرب للتلذذ والسادية المطلقة، حيث يروي ابن كثير في «الكامل في التاريخ» أنه: «دخل شبل بن عبدالله مولى بني هاشم -وفي رواية أخرى سديف- على عبدالله بن علي -وفي رواية أخرى على السفاح- وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام فأقبل عليه شبل فقال:

أصبح الملك ثابت الأساس


بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم فشفوها

بعد ميل من الزمان وباس

لا تقيلن عبد شمس عثارا

واقطعن كل رقلة وغراس

ذلها أظهر التودد منها

وبها منكم كحر المواسي

أنزلوها بحيث أنزلها الله

بدار الهوان والإتعاس

إلى آخر القصيدة...

فأمر بهم عبدالله -وقيل إنه السفاح- فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً، ومن الكتاب نفسه نقرأ: «.. فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطًا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطامًا كأنه الرماد، ونبش قبر عبدالملك بن مروان فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبدالملك فإنه وجد صحيحا لم يبلَ منه إلا أرنبة أنفه فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح، وتتبع بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس». وثالث الأحداث في خاطري، يبدو أنه كان ملهما لمن شنقوا «صدام حسين» يوم عيد الأضحى، ويتصل هذا الحادث بالجعد بن درهم، والقصة أخرجها البيهقي في سننه والبخاري في «التاريخ الكبير»، والدارمي في «الرد على الجهمية» وابن عساكر في «تاريخ دمشق»، وغيرهم جماعة كلهم من طريق القاسم بن محمد عن عبدالرحمن بن محمد بن حبيب عن أبيه عن جده حبيب قال: خطبنا خالد بن عبدالله القسري بواسط يوم الأضحى فقال أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليما، وتعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوًّا كبيرًا، ثم نزل فذبحه.

إن في الشواهد الثلاثة التي صغتها رغبة في تأكيد النزعة نحو العنف الدموي الذي لم يستثنِ حتى الأموات في غضبته الهوجاء، وحقده الأعمى، ورغبة الثأر المريضة.. كل ذلك مفهوم عندي، وأستطيع معه بالمقارنة أن أجد التفسير النفسي لما قام به أهل العراق تجاه صدّام، والليبيون مع القذافي، واليمنيون مع «صالح»، وهو تفسير لا يسوغ على الإطلاق مع حدث، ولا يقره، ولكن يحاول أن يفهم الدوافع التي تمضي بالإنسان إلى غاية أن «يتحيون» بهذا الشكل.. لكن الأمر الذي لا أجد له مسوغًا أن ترتكب مثل هذه الفظاعات باسم الإسلام، وترتفع الحناجر بالتكبير، مع التمثيل بالقتلى، والحط من كرامة الإنسان حتى في موته.. صورة مع تكرارها جلعت الإسلام رديفًا للعنف في العقل الجمعي لمخالفيه، وما كان لهذا الخلط المفاهيمي أن يكون حاضرًا لو لا أننا -من غفلة- رضينا أن تكون ديباجة «الإسلام» مطية سهلة يستلفها المستغلون ليجيروا بها أفعالهم، ويرهبوا بها من يخالفهم.. بل إن الغفلة -فيما أرى- قد أحاطت بمن كتبوا التاريخ نفسه ونسبوه إلى الإسلام في عناوين مؤلفاتهم، وكان الأولى به التفريق بين عقيدة الإسلام، وسلوك المسلمين، فما جرى تدوينه في هذه الكتب هو «تاريخ للمسلمين» وليس «تاريخًا للإسلام» بأي حال، ولعل هذا الخلط المفاهيمي هو الذي حدا بأصحاب الغرض أن يربطوا بين العقيدة ومعتنقيها بهذا الرباط السيامي.

إن الوقت قد حان لتحرير الإسلام من «تاريخ المسلمين»، والنظر إلى العقيدة بغير ما استصحاب لسلوك المعتقدين في عمومه، بل النظر إليه وتقييمه مرآة العقيدة، وليس العكس، كما نرى اليوم من فهم العقيدة من سلوك المعتقدين. فالإسلام دين أكبر وأعظم من أن يرتبط بمثل هذه المعتقدات الهمجية والأفعال الشيطانية.

nyamanie@hotmail.com