عبدالرحمن الحمدان
عبدالرحمن الحمدان
-A +A
حوار: سعيد آل منصور (جدة) SaeedAlmansor@
قليلة هي الأسماء التي تركت بصمة واضحة في عالم الصحافة الشعبية، ويعد عبدالرحمن الحمدان من أبرز تلك الأسماء؛ إذ استطاع بثقافته الموسوعية أن يمنحها فضاءات أرحب. الحمدان الذي أسهم في تأسيس عدد من المطبوعات الشعرية، ومنها «فواصل» و«بروز» وغيرهما، وصف في حواره مع «عكاظ» تلك التجربة بمرحلة المجهودات المتقلبة، وقال إنها ذات أهواء شخصية، خرجت بطريقة أشبه بالاحتياج لصحافة أخرى مختلفة بها خطاب جديد وغير مألوف. إلا أن الساحة الشعرية سجلت غياب الحمدان في ظروف غامضة، ليفقد الإعلام الشعبي بغيابه أحد أبرز أيقوناته اللامعة. وعن أسباب غيابه، قال: «بقيت أكثر من 12 عاما في منافي العزلة عن الصحافة، اغتنمتها ففتحت خلالها كوة على تاريخ الجزيرة العربية باحثا عن إرثها في الكتب». وأشار الحمدان إلى أن المطبوعات الشعرية خدمت الشعر والشعراء، غير أنه يرى أنها في أواخر عهدها غلبت الشعراء الارستقراط ذوي الرفاهية الاجتماعية والمالية، ما أسقطها في وحل التسليع الشعري والصحفي. وإلى نص الحوار:

• أين حط بك رحلك بعد هذا الغياب عن الصحافة، وما هي أعمالك اليوم؟


•• كان لزاما عليّ الغياب بطريقة ما، بعد نشاط شبه حيوي في عقدي الثمانينات والتسعينات وبداية الألفية، بقيت أكثر من 12 عاما في منافي العزلة عن الصحافة، اغتنمتها ففتحت خلالها كوة على تاريخ الجزيرة العربية باحثا عن إرثها في الكتب وأغربها، منقبا عن كنه إنسانها وسيرته التاريخية الحافلة، لم أهتم في إرثها الشعري أو اللغوي بحرفيتها بقدر اهتمامي بطبيعة شخصية إنسانها ذاك المخلوق الفذ والأكثر أسطورية، الذي لم يحظ بأية التفاتة مهمة ومعمقة من قبل المؤرخين في علم الاجتماع. أردت أن أتعرف على معالم وخطوط جذوره السامية، وأنا هنا أقصد العرق السامي Semitic Ethnic، الذي خرج أصلا من جزيرة العرب، ثم تتبعت شيئا من جيناته الموروثة، التي نراها الآن في صفاته الظاهرية وفي لون وأطراف وعيون وأنوف وكمال أبدان أحفاده بيننا. ذاك الإنسان (الجد) الذي يتميز بسطوة حضوره الأزلي والحضاري ومواهب بيولوجية قصوى (عليا) نادرة، فله الفضل في تأسيس أولى الحضارات كالبابلية والأشورية والكنعانية والفينيقية والسبأية والثمودية ثم اللخمية والغسانية ثم الأموية والعباسية، فكلها وغيرها كثير هي بمثابة نتاج هذا الجد العظيم الذي بدوره خرج بها - كأنقى حضارة وأصفى سلالة عرفها التاريخ - من الصحراء الصعبة البيئة، وكما قال المؤرخ Toynbee البيئة الصعبة تولد الأفعال الخالدة، خرج هذا الجد معتليا خيله وبيده السيف والرمح وثلاثة كتب (التوراة، والإنجيل، والقرآن) إلى كل العالم كثمرة لبيئته تلك، ولم يبتعد الأعرابي في وصف هذا الجد بقوله:

لولا صوارم يعرب ورماحها

لـم تسـمـع الآذان صـوت مـكـبر

إني من القوم الذين جيادهم

طلعت على كسرى بريح صرصر

• وأين سنرى كل هذه الأبحاث؟

•• هي ليست أبحاثا تعتمد فيها صيغ أكاديمية، إنما هي فضاء مفتوح للخيال الكتابي والملاحظة والتأمل العميق والفكر القادح والأحداث العظيمة، إضافة إلى الاعتماد على المصادر التاريخية بأنواعها، ثم ما يكتنزه العقل من وعي بتاريخ الجزيرة العربية من الناحية الإنسانية والنفسية والثقافية وتجارب زاخرة عبر الزمن، هو غوص لا تعوزه الأدوات الجاهزة والأفق التقليدي في الإنشاء، نائيا عن سلطة رقابة الذات والآخرين.

• ماذا عن الصحافة التي شاركت في تأسيس بعض مطبوعاتها كـ«فواصل» و«بروز».. ثم ماذا بقي لك من تلك الحقبة؟

•• هي تبقى في سجل التاريخ الشخصي، كما وستبقى مجهودات متقلبة وذات أهواء شخصية، خرجت بطريقة أشبه بالاحتياج لصحافة أخرى مختلفة بها خطاب جديد وغير مألوف، بعيدا عن الصحافة الحكومية السائدة آنئذ، فأتت «صحافة المجلات الخاصة» بمثابة حل وتنفيس لشباب ذلك الزمن وفي ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني، ومع اختفاء ذلك الاحتياج بحضور الإنترنت اختفت تلك المطبوعات.

• ما حصيلة ما تبقى من الشعر والشعراء في عصر تلك المطبوعات، وما انطباعك عن شعراء الإنترنت؟

•• بكل تأكيد فقد خدمت تلك المطبوعات الشعر والشعراء على حد سواء، وأنصفت الشعر النبطي النجدي في أن أصبح لسان حال معظم الشعراء من عمان إلى الكويت ومن اليمن وحتى الأردن، غير أنها في أواخر عهدها غلبت الشعراء الارستقراط ذوي الرفاهية الاجتماعية والمالية، ما أسقطها في وحل التسليع الشعري والصحفي، ولهذا اختفى معظم هؤلاء الشعراء مع اختفاء تلك المطبوعات، وهذا هو حال شعراء الـ«Social Media» اليوم.

ولو ذهب الزمن 50 عاما قادمة لظهر جيل لا يذكر شعراء ومثقفي وكتاب اليوم ولسوف تطمرهم رمال النسيان مع أول هبوبها، ولكنه سيذكر على الأرجح محمد الأحمد السديري، وبدر بن عبدالمحسن، وبندر بن سرور، ومحمد الثبيتي كآخر الشعراء المخضرمين الأفذاذ الذين عاشوا عبق وشظف وفصاحة الصحراء قبل النفط وبعده، وجسدت هذا نتاجاتهم الشعرية.

• هل أخطأت عندما اقتحمت الصحافة الشعبية، على رغم امتلاكك أرضية ثقافية صلبة تؤهلك لتصدر المشهد الإعلامي؟

•• كانت الثقافة رغبة ذاتية محضة، ورثتها عن أبي رحمه الله، فأنا درست تقنية الحاسب ولم أدرس الإعلام أكاديميا، بل زاولتها هواية أولية، فعملت صحفيا وكاتبا في مطبوعات لبنانية متوسلا الانفتاح أكثر، وما لبث أن طلب مني الشاعر طلال الرشيد - يرحمه الله - العمل معه في مجلة فواصل، ومن هنا بدأ مشواري في المطبوعات الشعبية، ولم أخطئ ولم أندم، بل سعيد بها، والآن وبعد جهاد مع الكسل شارفت على الانتهاء من تدوين سردي لتلك الحقبة مضمنة في كتاب بما بها من مفارقات مهمة وعجيبة.

• ولكنك لم تجب! فلماذا لم نرك في المشهد الإعلامي؟

•• سأكون صريحا معك، فالإعلام والصحافة لدينا في (أغلبها) لمن ملك الولاءات وليس الكفاءات، وليس لمن ملك الوعي والتجربة والثقافة الإعلامية، وليس لمن تعلمها وامتلك ناصية خبراتها، إنها لفئة تحسن فقط أدوات العلاقات النفعية الخاصة، وتحسن تكوين مجموعات تفاعلية تتقن المساندة لهذا دون ذاك، وهذا الأمر لا أجيده ولا أتقنه، ولكني أرى اليوم بوادر تغييرية جذرية لإعادة دور المملكة إعلاميا المبني على قواعد الكوادر الكفؤة.. وقد أكون مخطئا.

• تكتب المقال السياسي، ومتابعتك للأحداث السياسية دقيقة وفعالة، فمن أين أتى هذا الحب؟ ولماذا لا نرى لك نافذة في إحدى الصحف السعودية؟

•• لم تسألني هذا السؤال أخي سعيد إلا أنك زاملتني مهنيا بشكل لصيق ردحا من الزمن. أعود فأقول ما زالت ترن في أذني دقات ساعة بيق بن، السادسة صباحا وعبارة: نحيكم من وسط العاصمة لندن ونقدم لكم نشرة الاخبار، بصوت هدى الرشيد من إذاعة لندن، حينئذ كنا صغارا نجلس محلقين صامتين أمام إفطارنا وأبي متماهٍ مع صوت نشرة الأخبار التي يعقبها برنامج "بين السائل والمجيب" لتنفض الحلقة بعد ذلك.

والحقيقة أن معظم الشعب السعودي يحب السياسة، وربما سبب ذلك أن السياسة والحديث عنها كانا من المحرمات منذ منتصف الستينات، فهو لا يزاولها في الصالونات أو في المجالس العامة، ومع الانفتاح التكنولوجي انفجر هذا المكبوت السياسي كسيل هائل وجارف في صفحات تويتر والفيسبوك وغيرهما من المنصات.

وقد تجدني أجادل في السياسة بكل حرية هنا أو هناك وقريبا.

• كيف تصف حياتك الأولى ومرتع الصبا في منطقة عسير مدينة أبها تحديدا وماذا شكلت لك؟

•• كان الوالد يحب التطواف في أرجاء الجزيرة العربية فتعرف على جغرافيتها ولهجاتها وأنسابها وكان عالما بحوادثها فهذا العتيبي، ولد بالغاط وخرج منها نحو العارض والجوف وسكاكا وحائل وتيماء والعلا فالمدينة وجدة فالباحة والنماص وسراة عبيدة وظهران الجنوب وتثليث ومعظم أمكنة عسير تهائمها وسراتها إلى أن حط رحله في أبها فاستقر بها، وكان رحمه الله يردد هذا البيت لعيسى فهيم:

ألا سقيا لأبها من بلاد

عليل نسيمها يشفي العليلا

بلاد ما ألم بها غريب

وود مخيرا عنها الرحيلا

وأصبحت أبها بعد توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز ملتقى لأطياف أتت من نجد والشمال والحجاز وتجانست مع أهلها من بني مغيد العسيرية.

والعسيري نجدي الطباع والخصال والسجية عدناني الجين، فلا غرو في ذلك فجدهم الأول عنز بن وائل قدم من صحراء نجد مع قبيلته فجاور قحطان وحمير وكهلان والأزد، ولهذا لم يشعر أهل نجد بغربة عندما قدموا وحلوا بأبها الساحرة.

عرفت أبها بجبالها وقلاعها وبساتينها وأهلها وأحيائها الربوع ومناظر ومشيع والبديع والخشع والقابل والقرى كان يخترقها نهير جار على ضفافه تنتشر البساتين ذات شجر اللوز والرمان والتين والعنب والخوخ، كنا نراقب رحيل السحب الداكنة لتكشف عن شمس قريبة وسماء زرقاء رائعة، لا تلبث حتى تختلط أصوات الطفولة بصوت العصافير وحفيف الشجر وخرير الماء، ومساء وعلى صوت نقيق الضفادع نعود للبيوت التي كانت خلفنا وبأيدينا أعواد الحبق والنعناع، الناس حينها حالمون مسالمون بعوالم متنوعة وغرائبية يعشقون الألفة ويحبون «الهدرة» وهو فن من فنون الحكايات المحلية ذات القصص السردية الموغلة في أسطوريتها التي نسمعها من النساء أكثر، والناس هم من يصنعون أبطالها في أغلب الأحيان مثل البطل «يحيى» الملقب بدنّحي، وهي شخصية حية تروى عنها الكثير من الروايات الشفهية المجنحة الخيال، وهناك شخصية "بركوت" البوهيمية الطابع، وبن مفتاح بالعين ذباح، والساحر مالك الخنجر.. إلخ، رأيت معظم هذه الوجوه وعايشت تفاصيلها كانت حكاياتهم وغيرها من قصص النزاعات وحكايات الجن والأرواح والعفاريت، وتبلغ السرديات ذروتها بروايات العشق العفيف الظريف توزع في سوق «ثلاثاء بن مدحان»، ثم تطير بها الركبان مع ما ابتاعوه من بر، وذرة، وعسل، وكل ذلك صنع تركيبة من الخيال الفاتن وغير الناضب، فهي مسطرة في العقل الباطن والذهن الظاهر من قرية تمنية إلى رأس تية.