غفوت قليلاً على كيس تركه أحدهم على مصطبة كانت بجانب جذع شجرة ميتة، لم أكن حينها أعي نفسي في أية حالة، هل أنا في الصحو أم أنني غافٍ، لأنني فقدت إحساسي بالزمن وبنفسي، كان الكيس يلتصق بظهري، وكنت أشعر بصلادة الأرض.
فتحت عينيّ لأرى السماء المظلمة المغلفة بهذا البرد، فأبصرت ضياعاً ما بعده ضياع، كانت أقصى أمنية لي في تلك اللحظة هي أن ينتهي الليل، ليل لا يمكن وصف قسوته أبداً. لقد عرفت لأول مرة في حياتي ماذا تعني كلمة «العراء» بعد أن كنت قد قرأتها في الروايات التي تتحدّث عن الفقراء والمعدمين؛ البؤساء لفكتور هوغو، بائعة الخبز للسير دو مونتبان، مذلّون مهانون لدوستويفسكي، أهوال الاستبداد لتولستوي.. كنت أقترب من معناها بمعايشتها تلك الليلة، وشعرت برغبة رهيبة في البكاء أو الصراخ من أجلي ومن أجل ضياعي وتشردي هنا، ومن أجل هذه الطفولة البائسة التي أراها أمامي ترتجف من البرد، من أجل هذه الأم التي تحاول أن تحمي صغارها بضمّهم إلى حضنها دون جدوى، إن البرد يحاول الفتك بهم، إنّهم يلتفون حولها طلباً للدفء بطريقة جعلت ألماً فظيعاً يصيبني في العمق، ولن يزول تأثيره بفترة قريبة.
رأيتُ في نهاية الشارع شباباً يقومون بتجميع أغصان الأشجار المتيبّسة لغرض إشعالها في سبيل التدفئة، أعواد متفاوتة الحجم، وأكوام صغيرة من القش أشعلوا منها ناراً رحيمة ووجدتني ألجأ إليها لأتدفأ، جلست دون أن ألقي عليهم التحية، ولم يستغرب من ذلك أحد، لأننا نعاني من البرد والبؤس ما يشغلنا عن إلقاء تحيّة أو الرد عليها. ودون أن يعرف أحد منا الآخر، رحنا نتكاتف لتدفئة بعضنا البعض وإدامة إشعال النار، تضامن لمن هم يتشابهون في المصير، من شردتهم الحروب من بلدانهم فتجمعوا في أماكن لم يتصوّروا أنّهم سيكونون فيها ليلة البرد هذه متحلّقين طلباً للدفء، أماكن لم يحلموا بالوصول إليها يوماً ما في ظروف طبيعية.. تدفأت معهم بشكل كافٍ.
كنت أعرف أن روحي ضائعة عندما كنت أمشي منكسراً وعيناي إلى الأرض ويداي في جيبي، أريد لمشيتي أن تكون مكسورة أو دالة على إنسان منكسر، لأن الانكسار كان علامة تلك الليلة المعبّرة. في لحظتها كنت أريد أن أشعر أنني أذوب في ذلك الشعور وأعيش تفاصيله. جلست على أحد المقاعد في الطريق، طريق مخيف، أظن أنني كنت أتعبَ شخصٍ على وجه البسيطة، غفوت لا إرادياً، هكذا فجأة وبلا دراية مني، ربما كنت قد غفوت طويلاً هذه المرة.. فجأة أفاقتني يدٌ حانية، في البداية لم أصحَ كلياً، يد فتاة شابّة رقيقة في مثل سني تقريباً، شقراء وممتلئة ومبتسمة، لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل بالتحديد. نظرت إليها وأنا ملقى على المقعد مثل جرذ مطارد، قالت: «نحن هنا لمساعدتكم»، ثم أضافت: «نحن متطوعات من الدنمارك جئنا لخدمة اللاجئين».
ــ مقطع من كتاب غرق غير مؤكد.
* شاعر وكاتب عراقي
فتحت عينيّ لأرى السماء المظلمة المغلفة بهذا البرد، فأبصرت ضياعاً ما بعده ضياع، كانت أقصى أمنية لي في تلك اللحظة هي أن ينتهي الليل، ليل لا يمكن وصف قسوته أبداً. لقد عرفت لأول مرة في حياتي ماذا تعني كلمة «العراء» بعد أن كنت قد قرأتها في الروايات التي تتحدّث عن الفقراء والمعدمين؛ البؤساء لفكتور هوغو، بائعة الخبز للسير دو مونتبان، مذلّون مهانون لدوستويفسكي، أهوال الاستبداد لتولستوي.. كنت أقترب من معناها بمعايشتها تلك الليلة، وشعرت برغبة رهيبة في البكاء أو الصراخ من أجلي ومن أجل ضياعي وتشردي هنا، ومن أجل هذه الطفولة البائسة التي أراها أمامي ترتجف من البرد، من أجل هذه الأم التي تحاول أن تحمي صغارها بضمّهم إلى حضنها دون جدوى، إن البرد يحاول الفتك بهم، إنّهم يلتفون حولها طلباً للدفء بطريقة جعلت ألماً فظيعاً يصيبني في العمق، ولن يزول تأثيره بفترة قريبة.
رأيتُ في نهاية الشارع شباباً يقومون بتجميع أغصان الأشجار المتيبّسة لغرض إشعالها في سبيل التدفئة، أعواد متفاوتة الحجم، وأكوام صغيرة من القش أشعلوا منها ناراً رحيمة ووجدتني ألجأ إليها لأتدفأ، جلست دون أن ألقي عليهم التحية، ولم يستغرب من ذلك أحد، لأننا نعاني من البرد والبؤس ما يشغلنا عن إلقاء تحيّة أو الرد عليها. ودون أن يعرف أحد منا الآخر، رحنا نتكاتف لتدفئة بعضنا البعض وإدامة إشعال النار، تضامن لمن هم يتشابهون في المصير، من شردتهم الحروب من بلدانهم فتجمعوا في أماكن لم يتصوّروا أنّهم سيكونون فيها ليلة البرد هذه متحلّقين طلباً للدفء، أماكن لم يحلموا بالوصول إليها يوماً ما في ظروف طبيعية.. تدفأت معهم بشكل كافٍ.
كنت أعرف أن روحي ضائعة عندما كنت أمشي منكسراً وعيناي إلى الأرض ويداي في جيبي، أريد لمشيتي أن تكون مكسورة أو دالة على إنسان منكسر، لأن الانكسار كان علامة تلك الليلة المعبّرة. في لحظتها كنت أريد أن أشعر أنني أذوب في ذلك الشعور وأعيش تفاصيله. جلست على أحد المقاعد في الطريق، طريق مخيف، أظن أنني كنت أتعبَ شخصٍ على وجه البسيطة، غفوت لا إرادياً، هكذا فجأة وبلا دراية مني، ربما كنت قد غفوت طويلاً هذه المرة.. فجأة أفاقتني يدٌ حانية، في البداية لم أصحَ كلياً، يد فتاة شابّة رقيقة في مثل سني تقريباً، شقراء وممتلئة ومبتسمة، لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل بالتحديد. نظرت إليها وأنا ملقى على المقعد مثل جرذ مطارد، قالت: «نحن هنا لمساعدتكم»، ثم أضافت: «نحن متطوعات من الدنمارك جئنا لخدمة اللاجئين».
ــ مقطع من كتاب غرق غير مؤكد.
* شاعر وكاتب عراقي