-A +A
قراءة: علي بن محمد الرباعي Al_ARobai@
قد ينظر بعض النقاد الانطباعيين إلى أعمال سردية نظرة دونية، بحكم أنها أعلت شأن الجسد على حساب الروح، أو أنها ركزت على الصور والمشاهد المثيرة على حساب الفكرة، وليس مبالغةً عندما نقول إن الطفرة الروائية المحلية لدينا؛ إذ صدر في عام واحد 70 رواية، وقع معظمها في فخ إهمال الحياء ظناً منها أنها تكسر التابو، وأتصور أن (الذائقة) تابو عصيٌ على الكسر.

عرفت المجتمعات الغربية الروايات الموغلة في وصف الجسد ولحظاته الحميمة إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، فدخول الجنود المحاربين من دولة إلى دولة وانهيار الحدود عملياً كشف عن توفر أعمال معنية بالترويح في المكتبات وأكشاك بيع الصحف وبأسعار رمزية، فاشتهرت الروايات، وأسهمت السينما لاحقاً في الترويج لها.


بالطبع مخاطبة الغرائز أو اللعب على فورة المراهقة يمكن أن يحقق مبيعات طائلة وأرباحاً وفيرة، والكاتبة الأمريكية (آنا تود) كتبت قصة حميمة ونشرتها عبر موقع إلكتروني، وأتبعتها بجزأين، فحققت مليار قراءة في زمن قياسي.

بالطبع ليس هناك كتابة ناجزة في فكرتها، أو وقتها، وليس هناك إبداع منفصل عن ماضٍ سبقه، ولا أتصور كتابة دون مرجعية، فالكاتب في كل الأحوال هو مجموع مخرجات ما قرأ، ومنذ أن بدأت قراءة رواية (لم أعد أبكي) للكاتبة القديرة زينب حفني منذ عقد من الزمان تقريباً سكنني هاجس ما أن الرواية امتداد بصورة ما لرواية موسى صبري (دموع صاحبة الجلالة) التي اقتنيتها من القاهرة عام 1993.

ليس فقط العنوان البكّاء ما يربط بين العملين، رغم أن بينهما زمنياً قرابة 30 عاماً، فرواية صبري صدرت عام 1972، بينما صدرت رواية حفني 2004، بل إن موضوع العملين واحد؛ إذ إن مجمل الأحداث تدور حول طموح بطلي الروايتين (محفوظ عجب) و(غادة أحمد عبدالحي) في تحقيق موقع مرموق ونيل منصب صحفي بطرق ملتوية لتحقيق شهرة ومكانة اجتماعية.

مثلما بدأ (محفوظ عجب) خطواته الأولى في بلاط صاحبة الجلالة، عبر حفظ مقالات رئيس التحرير (عبدالعظيم) عن ظهر قلب، كذلك (غادة عبدالحي) افتتنت بنائب رئيس تحرير الصحيفة الشاعر (طلال السعدي) وغدت تسامره على إيقاع نصوصه، وببركة المهارات في البطلين يصلان سريعاً برغم العوائق والتحديات.

قيل الكثير عن رواية (دموع صاحبة الجلالة) وأسقطها نقاد العمل على شخصيات مصرية تستحق كل التبجيل إلا أن (لم أعد أبكي) عصيّة على الإسقاطات على حد وعيي القرائي، ولستُ أرجح أنها سيرة روائية، مع الأخذ في الاعتبار أن فضاء موسى صبري خصب بحكم فضاء الأحداث، والتحولات الكبرى التي تزامنت مع كتابة العمل مع الأخذ في الاعتبار أن صبري دخل الصحافة منذ 1940، وكان عمره 16 عاماً، واستمر فيها حتى وفاته عام 1992.

لحسن الحظ أن رواية صبري تحولت إلى فيلم سينمائي أولاً، فاكتسبت من الفن السابع حيوية حركية المكان، وطبعت جماليات الشاشة الذهبية بصمتها على العمل؛ إذ إن لغة السينما بحيويتها وحداثتها وتفاصيلها التقنية تضيف للعمل وتسرّع وصول الفكرة، ثم مثلت مسلسلاً فتابعها شرائح اجتماعية متنوعة ومتعددة، وبالطبع عمل صبري سياسي بامتياز بحكم أن التأويل وقراءة ما بين السطور يوحي بأنها رواية ما قبل ظهور الضباط الأحرار.

فيما تنطلق حفني في عملها من منظور اجتماعي، يقوم على تمرد أنثوي، وتحكي قصة فتاة جميلة (غادة) من عائلة ميسورة، تتعرض لانتهاكات في طفولتها، فتتعزز أسئلة الخصوصية، ومنذ مدخل الرواية يحضر الجسد في المشهد الأول «بنفض غطاء السرير عن جسدها، لينحسر قميص النوم عن مفاتن لا تقل فتنة عن حبيبات امرئ القيس»، ما يشي بعاطفية النص المفرطة واستعراض اللغة الشاعرية في التعبير عن مكنونات النفس، وتسجيل يوميات بشهية منفتحة على مظان اللذة.

يلتقي العملان في كونهما خاليين من الأيديولوجيا بمفهومها الدوغمائي، وإن لم تخلُ القصتان من النقد الاجتماعي، ويتحرك الإيقاع الدرامي بتوازن في العملين، وكأنما اعتمدت الروائية زينب حفني على هندسة عادية وشديدة البساطة لتنتصر في ختام العمل لبطلتها، وتتجاوز بها الأحزان والمواجع وإن فقدت الأب والصديقة، والحبيب، إلا أنها تعلن بكل شجاعة أنها لم تعد تبكي، كون تحقيق الذات في العمل قضى على كل متاعب الماضي، لتنصرف غادة لكفكفة دموع محفوظ عجب في بلاط صاحبة الجلالة.