مما لا شك فيه أن المملكة العربية السعودية تقدمت كثيرا خلال العقود الماضية في مجالات الرعاية الصحية، وافتتاح كليات الطب، وتخريج الأطباء وابتعاثهم إلى الخارج من أجل التخصصات الدقيقة. وقد شمل التطور الأخير الذكور والإناث على حد سواء من بعد أن ظلت الإناث مغيبات لفترة طويلة عن هذا المجال الإنساني بدعوى منع اختلاطهن بالرجال في مواقع العمل. ومن ينظر إلى الوراء قليلا سوف يكتشف بنفسه كم انتقلت المملكة من حال إلى حال في المجالات الطبية والصحية آنفة الذكر، بفعل التشجيع والدعم الرسمي معطوفا على إرادة أبناء وبنات الوطن في ولوج التخصصات الطبية، التي تعتبر الأصعب لجهة المنهج، والأطول لجهة المدة الزمنية. وإذا كان الدكتور الطبيب «حمد عبدالله الحمد البسام» المتخرج من كلية الملك إدوارد الطبية التابعة لجامعة بومباي الهندية هو أول طبيب سعودي من نجد، فإن الطبيب الدكتور «حيدر عثمان الحجار» هو أول طبيب سعودي من الحجاز. وللحجار قصة مثيرة عاكسة لعصامية فذة، ومليئة بالصدف والمغامرات التي قادته في نهاية المطاف إلى التخرج طبيبا من سورية قبل أن يواصل دراسته في مصر والنمسا ويعود إلى وطنه لخدمته.
الدكتور حيدر عثمان محمد علي أبوبكر الحجار، ليس الطبيب السعودي الأول في الحجاز فقط، وإنما هو أيضا رائد طب العيون في المملكة العربية السعودية، وأول مدير لأول مستشفى في العاصمة الرياض، وأول مدير عام للتعليم الطبي، وذلك طبقا لما ورد في وثائق دارة الملك عبدالعزيز. ولادة الدكتور حيدر كانت في عام 1915 بالمدينة المنورة التي كانت وقتذاك تحت الحكم العثماني، لذا عانى في مراحل حياته المبكرة من ويلات الحرب وشظف العيش، بل وأيضا عاش معاناة التهجير القسري الجماعي من وطن آبائه وأجداده. حيث كانت أسرته ضمن الأسر اليثربية العربية الكثيرة التي تم تهجيرها قسرا إلى بلاد الشام على يد الوالي التركي فخر الدين باشا بأوامر من إسطنبول، وبقصد إخلاء المدينة المنورة من سكانها وتحويلها إلى ثكنة عسكرية، لحماية بقايا الوجود العثماني على أرض الحجاز في أعقاب قيام الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال التركي، أو كما صرخ فخر الدين بنفسه في جنوده «لنبق المدينة المنورة واحة عثمانية». جريمة الأتراك هذه بما تضمنها من سطو على كنوز الحجاز الأثرية وتشريد وإيذاء لشعبها، والتي تـُعرف تاريخيا باسم «سفربرلك»، ألقت الطفل حيدر وهو لم يتعد بعد الثانية من عمره مع والده ووالدته في دمشق التي وصلوها بالقطار بعد رحلة مضنية تحفها أهوال الحرب العالمية الأولى.
دمشق.. وجهة قسرية
وهكذا قدر لوالديه أن يستقرا ويعملا وينجبا بقية إخوته (حسين ونزيهة ورسمية وإسماعيل وازدهار ومسرة ومحمد علي وأحمد فاروق وانتصار) في دمشق التي نشأ وترعرع وعمل ودرس فيها. حيث تفيد سيرته المنشورة في المواقع الإلكترونية الخاصة بآل حجار أن الصبي حيدر التحق أولا بالعمل مع والده في التجارة، وحينما لمس فيه بعض المسؤولين السوريين الكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية منحوه فرصة العمل في المستشفى العام الحكومي.
أكمل حيدر الحجار مراحل دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدارس الحكومية السورية بتفوق مدهش وحرص شديد على منافسة زملائه في كل المواد الدراسية، لاسيما الهندسة واللغة العربية والتاريخ، وهي مواد كان يعشقها. وحينما نال شهادة الثانوية العامة بتقدير ممتاز أراد الالتحاق بكلية الهندسة في جامعة دمشق، إلا أن والده اقترح عليه دخول كلية الطب لسببين: أولاهما أن للطبيب منزلة عالية في المجتمع أكثر من المهندس، وثانيهما أن عمله السابق في المستشفى وعلاقاته مع الأطباء سوف تساعده في دراسة هذا التخصص إن استشكل عليه فهم بعض المواد.
استجاب الرجل لرغبة أبيه ودخل كلية الطب على الرغم من صعوبتها. وكان أول مظاهر الصعوبة هو عملية القبول التي كان ضمن شروطها إجادة اللغة الإنجليزية، فيما صاحبنا لم يكن يجيدها لأن اللغة الأجنبية الوحيدة التي كانت مدارس سورية تدرسها لطلابها آنذاك هي الفرنسية. لم يفقد الأمل بالقبول، ولم يركض إلى والده ليخبره أن عائقا يقف ضد التحاقه بالطب، وبالتالي فإن البديل هو الهندسة. وإنما ظل يحاول إقناع الدكتور الممتحن بمنحة فرصة الإجابة على جميع الأسئلة باللغة الفرنسية، ثم ترك قرار الرفض أو القبول له.
الدقة.. تذكرة عبوره
وهذا ما حدث، وتم قبوله في كلية الطب بعد أن ذهل الدكتور الممتحن من دقة إجابات حيدر وتميزها. وقد لازمته هذه الدقة في الفهم والإجابة خلال كل سنوات دراسته الجامعية، بدليل أنه طــُلب منه ذات مرة في أحد الامتحانات أن يكتب وصفا للفك العلوي، فكتب عن طريق الخطأ وصفا للفك السفلي، لكن إجابته الدقيقة الشاملة والمتميزة جعلت الممتحن يعذره ويمنحه الدرجة الكاملة لعلمه أن تلك الإجابة لا تخرج إلا من طالب نبيه ومتمكن وطموح وجاد. خلال سنوات دراسته الجامعية في كلية الطب عمل حيدر في المستشفى الجامعي من أجل أن يحصل على الخبرة العملية، وظل كذلك إلى أن تخرج طبيبا في عام 1941، وعاد إلى بلاده. المفارقة هنا أنه غادر وطنه الأم في ظل حرب عالمية، وعاد إليها في ظل حرب عالمية أخرى. بيد أن ظروف الحرب العالمية الثانية، التي كانت مشتعلة آنذاك، حالت دون سفره للتخصص في مجال من مجالات الطب العديدة، فعمل مؤقتا طبيبا عاما في عيادته الخاصة بالسعودية.
إلى القاهرة
لكن ما أن تحسنت الأحوال إلا والرجل يشد رحاله في عام 1947 باتجاه القاهرة هذه المرة، بهدف التخصص في طب العيون في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة بعد انقلاب يوليو 52). وكما في عملية قبوله بجامعة دمشق، واجهته مصاعب القبول بجامعة فؤاد الأول لأن الدراسة فيها كانت بالإنجليزية التي لا يجيدها. لكنه بالإرادة والتصميم نجح في تجاوز هذه العقبة وكل العقبات التالية حتى أنهى تخصصه تحت إشراف البروفيسور المصري علي مرتضى الذي صار لاحقا من أعز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه. وعلى إثر ذلك عاد الدكتور حيدر إلى وطنه مجددا، ليتنقل في عدد من الوظائف، سوف نفصلها لاحقا. غير أن هذا لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما حصل على بعثة حكومية للدراسة مجددا في مصر من أجل الحصول على دبلوم في استخدام «الليزر» في جراحة العيون. وبمجرد حصوله على هذا الدبلوم عاد إلى السعودية، مزاولا مهنته، ومتواصلا مع كل جديد في عالم طب العيون من خلال القراءة والمشاركة في المؤتمرات والندوات الداخلية والخارجية. غير أن شغفه بالإستزادة العلمية قاده مرة أخرى إلى مقاعد الدرس، فكانت المحصلة نيله دبلوما عاليا في التطبيقات الذرية على العين من جامعة فيينا بالنمسا.
زامل الكبار
لم أجد في كل المصادر التي اطلعت عليها ما يفيد كرونولوجيا الأعمال والمناصب التي تقلدها إلى جانب عمله المتقطع في عيادته الخاصة بالرياض، لكن هناك ما يفيد أنه عمل طبيبا ضمن الأطباء العاملين في قصر الملك عبدالعزيز فتعرف أو زامل أو ارتبط بعلاقة صداقة مع أطباء يتقدمونه في السن والخبرة من أمثال الدكاترة: رشاد فرعون، أحمد الطباع، مدحت شيخ الأرض، خالد الشواف وغيرهم. وأنه عمل أيضا في مدينة الخرج فمدينة حائل قبل انتقل للعمل في «مستشفى القري» بالرياض، وأنه عين مندوبا لوزارة الصحة بالمدينة المنورة ثم عاد إلى الرياض ليعمل طبيبا للعيون في مستشفى الملك سعود المعروف سابقا بمستشفى الشميسي وحاليا بمجمع الملك سعود الطبي، قبل أن يصبح أول مدير سعودي للمستشفى. بعد ذلك تقلد بالترتيب مناصب: مدير مستشفى الناصرية للعيون، المفتش الطبي بالإدارة العامة للتفتيش بوزارة الصحة، مساعد مدير عام وزارة الصحة، مدير عام التعليم الطبي، وكيل وزارة الصحة. وخلال كل هذه الوظائف التي شغلها ربطته روابط الصداقة والزمالة بمجموعة من خيرة مواطنيه فتأثر بهم وأثر فيهم. ومن بين هؤلاء على سبيل المثال نائبه في مستشفى الناصرية، الذي كان يتعالج فيه المغفور له الملك سعود، وهو الدكتور عبدالعزيز طاشكندي. ورئيسه في مستشفى الملك سعود الدكتور سعيد رباح، وزميلاه في قسم العيون بالمستشفى ذاته الدكتور عبدالهادي القاعاتي والدكتور عبداللطيف باشا.
وفي سيرته المنشورة أيضا سرد للهوايات التي كان يحبها ويمارسها متى ما سنحت له الفرصة. حيث القراءة والاطلاع في أي مجال ومن أي مصدر كان على رأس هواياته العديدة، علما بأنه لم يبتعد عنها إلا في أواخر عمره حينما ضعف نظره ضعفا شديدا وأصبح غير قادر على القراءة المريحة. وقد قادته هواية القراءة والاطلاع إلى هواية أخرى هي تعلم اللغات الأجنبية؛ إذ تمكن أن يضيف إلى اللغات التي كان يتقنها بفعل التنشئة والدراسة وهي العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية وشيء من الإيطالية والأسبانية واليونانية، إضافة إلى التركية التي تعلم الكثير من مفرداتها من والدته «بهية الملا». وربما لأن الرجل واجه في بدايات مسيرته الدراسية صعوبات مصدرها عدم إجادته للغة الإنجليزية فقد اقترح على ابنته حنان أن تتخصص في اللغة الإنجليزية، فاستجابت لاقتراح أبيها الذي لم يبخل عليها بالمساعدة. تلك المساعدة التي تمثلت في إرشادها وتوجيهها إلى كتب مختارة وحثها على قراءة عناوين معينة من تلك العناوين التي تصقل مواهب المرء وتنميها في حالة دراسة اللغة الإنجليزية.
أصيب الدكتور حيدر لفترة طويلة في أواخر عمره بمرض السكري، كما عانى من ضيق وتصلب في شرايين القلب فكان يتقلى العلاج على أيدي بعض زملائه من مستشفى الملك سعود مثل الطبيب الهندي المتخصص في أمراض القلب الدكتور صديق. وعلى الرغم من أمراضه آنفة الذكر، كان في ليلة وفاته في أوج نشاطه الجسمي والعقلي. غير أن إرادة الله شاءت أن تكون وفاته أثناء نومه من دون معاناة في أيام عيد الأضحى المبارك من سنة 1409 للهجرة (الموافق لعام 1989 ميلادي)، وتحديدا في صبيحة السابع عشر من شهر ذي الحجة.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
الدكتور حيدر عثمان محمد علي أبوبكر الحجار، ليس الطبيب السعودي الأول في الحجاز فقط، وإنما هو أيضا رائد طب العيون في المملكة العربية السعودية، وأول مدير لأول مستشفى في العاصمة الرياض، وأول مدير عام للتعليم الطبي، وذلك طبقا لما ورد في وثائق دارة الملك عبدالعزيز. ولادة الدكتور حيدر كانت في عام 1915 بالمدينة المنورة التي كانت وقتذاك تحت الحكم العثماني، لذا عانى في مراحل حياته المبكرة من ويلات الحرب وشظف العيش، بل وأيضا عاش معاناة التهجير القسري الجماعي من وطن آبائه وأجداده. حيث كانت أسرته ضمن الأسر اليثربية العربية الكثيرة التي تم تهجيرها قسرا إلى بلاد الشام على يد الوالي التركي فخر الدين باشا بأوامر من إسطنبول، وبقصد إخلاء المدينة المنورة من سكانها وتحويلها إلى ثكنة عسكرية، لحماية بقايا الوجود العثماني على أرض الحجاز في أعقاب قيام الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال التركي، أو كما صرخ فخر الدين بنفسه في جنوده «لنبق المدينة المنورة واحة عثمانية». جريمة الأتراك هذه بما تضمنها من سطو على كنوز الحجاز الأثرية وتشريد وإيذاء لشعبها، والتي تـُعرف تاريخيا باسم «سفربرلك»، ألقت الطفل حيدر وهو لم يتعد بعد الثانية من عمره مع والده ووالدته في دمشق التي وصلوها بالقطار بعد رحلة مضنية تحفها أهوال الحرب العالمية الأولى.
دمشق.. وجهة قسرية
وهكذا قدر لوالديه أن يستقرا ويعملا وينجبا بقية إخوته (حسين ونزيهة ورسمية وإسماعيل وازدهار ومسرة ومحمد علي وأحمد فاروق وانتصار) في دمشق التي نشأ وترعرع وعمل ودرس فيها. حيث تفيد سيرته المنشورة في المواقع الإلكترونية الخاصة بآل حجار أن الصبي حيدر التحق أولا بالعمل مع والده في التجارة، وحينما لمس فيه بعض المسؤولين السوريين الكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية منحوه فرصة العمل في المستشفى العام الحكومي.
أكمل حيدر الحجار مراحل دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدارس الحكومية السورية بتفوق مدهش وحرص شديد على منافسة زملائه في كل المواد الدراسية، لاسيما الهندسة واللغة العربية والتاريخ، وهي مواد كان يعشقها. وحينما نال شهادة الثانوية العامة بتقدير ممتاز أراد الالتحاق بكلية الهندسة في جامعة دمشق، إلا أن والده اقترح عليه دخول كلية الطب لسببين: أولاهما أن للطبيب منزلة عالية في المجتمع أكثر من المهندس، وثانيهما أن عمله السابق في المستشفى وعلاقاته مع الأطباء سوف تساعده في دراسة هذا التخصص إن استشكل عليه فهم بعض المواد.
استجاب الرجل لرغبة أبيه ودخل كلية الطب على الرغم من صعوبتها. وكان أول مظاهر الصعوبة هو عملية القبول التي كان ضمن شروطها إجادة اللغة الإنجليزية، فيما صاحبنا لم يكن يجيدها لأن اللغة الأجنبية الوحيدة التي كانت مدارس سورية تدرسها لطلابها آنذاك هي الفرنسية. لم يفقد الأمل بالقبول، ولم يركض إلى والده ليخبره أن عائقا يقف ضد التحاقه بالطب، وبالتالي فإن البديل هو الهندسة. وإنما ظل يحاول إقناع الدكتور الممتحن بمنحة فرصة الإجابة على جميع الأسئلة باللغة الفرنسية، ثم ترك قرار الرفض أو القبول له.
الدقة.. تذكرة عبوره
وهذا ما حدث، وتم قبوله في كلية الطب بعد أن ذهل الدكتور الممتحن من دقة إجابات حيدر وتميزها. وقد لازمته هذه الدقة في الفهم والإجابة خلال كل سنوات دراسته الجامعية، بدليل أنه طــُلب منه ذات مرة في أحد الامتحانات أن يكتب وصفا للفك العلوي، فكتب عن طريق الخطأ وصفا للفك السفلي، لكن إجابته الدقيقة الشاملة والمتميزة جعلت الممتحن يعذره ويمنحه الدرجة الكاملة لعلمه أن تلك الإجابة لا تخرج إلا من طالب نبيه ومتمكن وطموح وجاد. خلال سنوات دراسته الجامعية في كلية الطب عمل حيدر في المستشفى الجامعي من أجل أن يحصل على الخبرة العملية، وظل كذلك إلى أن تخرج طبيبا في عام 1941، وعاد إلى بلاده. المفارقة هنا أنه غادر وطنه الأم في ظل حرب عالمية، وعاد إليها في ظل حرب عالمية أخرى. بيد أن ظروف الحرب العالمية الثانية، التي كانت مشتعلة آنذاك، حالت دون سفره للتخصص في مجال من مجالات الطب العديدة، فعمل مؤقتا طبيبا عاما في عيادته الخاصة بالسعودية.
إلى القاهرة
لكن ما أن تحسنت الأحوال إلا والرجل يشد رحاله في عام 1947 باتجاه القاهرة هذه المرة، بهدف التخصص في طب العيون في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة بعد انقلاب يوليو 52). وكما في عملية قبوله بجامعة دمشق، واجهته مصاعب القبول بجامعة فؤاد الأول لأن الدراسة فيها كانت بالإنجليزية التي لا يجيدها. لكنه بالإرادة والتصميم نجح في تجاوز هذه العقبة وكل العقبات التالية حتى أنهى تخصصه تحت إشراف البروفيسور المصري علي مرتضى الذي صار لاحقا من أعز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه. وعلى إثر ذلك عاد الدكتور حيدر إلى وطنه مجددا، ليتنقل في عدد من الوظائف، سوف نفصلها لاحقا. غير أن هذا لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما حصل على بعثة حكومية للدراسة مجددا في مصر من أجل الحصول على دبلوم في استخدام «الليزر» في جراحة العيون. وبمجرد حصوله على هذا الدبلوم عاد إلى السعودية، مزاولا مهنته، ومتواصلا مع كل جديد في عالم طب العيون من خلال القراءة والمشاركة في المؤتمرات والندوات الداخلية والخارجية. غير أن شغفه بالإستزادة العلمية قاده مرة أخرى إلى مقاعد الدرس، فكانت المحصلة نيله دبلوما عاليا في التطبيقات الذرية على العين من جامعة فيينا بالنمسا.
زامل الكبار
لم أجد في كل المصادر التي اطلعت عليها ما يفيد كرونولوجيا الأعمال والمناصب التي تقلدها إلى جانب عمله المتقطع في عيادته الخاصة بالرياض، لكن هناك ما يفيد أنه عمل طبيبا ضمن الأطباء العاملين في قصر الملك عبدالعزيز فتعرف أو زامل أو ارتبط بعلاقة صداقة مع أطباء يتقدمونه في السن والخبرة من أمثال الدكاترة: رشاد فرعون، أحمد الطباع، مدحت شيخ الأرض، خالد الشواف وغيرهم. وأنه عمل أيضا في مدينة الخرج فمدينة حائل قبل انتقل للعمل في «مستشفى القري» بالرياض، وأنه عين مندوبا لوزارة الصحة بالمدينة المنورة ثم عاد إلى الرياض ليعمل طبيبا للعيون في مستشفى الملك سعود المعروف سابقا بمستشفى الشميسي وحاليا بمجمع الملك سعود الطبي، قبل أن يصبح أول مدير سعودي للمستشفى. بعد ذلك تقلد بالترتيب مناصب: مدير مستشفى الناصرية للعيون، المفتش الطبي بالإدارة العامة للتفتيش بوزارة الصحة، مساعد مدير عام وزارة الصحة، مدير عام التعليم الطبي، وكيل وزارة الصحة. وخلال كل هذه الوظائف التي شغلها ربطته روابط الصداقة والزمالة بمجموعة من خيرة مواطنيه فتأثر بهم وأثر فيهم. ومن بين هؤلاء على سبيل المثال نائبه في مستشفى الناصرية، الذي كان يتعالج فيه المغفور له الملك سعود، وهو الدكتور عبدالعزيز طاشكندي. ورئيسه في مستشفى الملك سعود الدكتور سعيد رباح، وزميلاه في قسم العيون بالمستشفى ذاته الدكتور عبدالهادي القاعاتي والدكتور عبداللطيف باشا.
يتحدث بـ7 ألسن.. ويعالج العاطلين مجاناً
يُجمع كل الذين زاملوا الدكتور حيدر الحجار أو عرفوه عن كثب أو جاوروه في السكن في الرياض (حيث أقام في ثلاث مناطق مختلفة هي: المليحة والمرقب والمربع) على أن الدكتور حيدر كان يفضل أن يعتمد على نفسه في كل أمر من أموره، رافضا المساعدة الخارجية. كما كان يكره الواسطة وتخطي النظام والقانون والتهاون والتسيب في أي شأن من شؤون العمل، بل عـُرف عنه التزامه الشديد بمواعيد العمل وأداء الواجبات الوظيفية على أكمل وجه. ومن صفاته الأخرى، كما وردت على ألسنة أصدقائه ومعاصريه، الكرم وحب مساعدة الآخرين بدليل أنه كان يرفض أجرة علاج أي مريض عاطل عن العمل أو بلا دخل أو يمر بضائقة مالية، إضافة إلى التواضع الجم وكره التعالي والتكبر والمظاهر الاجتماعية الكاذبة، وعشق المزاح والفكاهة. وقد قيل إنه رغم عصبيته وسرعة غضبه ومزاجه الحاد في بعض الأحيان، إلا أنه «لم يكن يضمر حقدا في قلبه ويعتذر سريعا إذا أخطأ على أحد».وفي سيرته المنشورة أيضا سرد للهوايات التي كان يحبها ويمارسها متى ما سنحت له الفرصة. حيث القراءة والاطلاع في أي مجال ومن أي مصدر كان على رأس هواياته العديدة، علما بأنه لم يبتعد عنها إلا في أواخر عمره حينما ضعف نظره ضعفا شديدا وأصبح غير قادر على القراءة المريحة. وقد قادته هواية القراءة والاطلاع إلى هواية أخرى هي تعلم اللغات الأجنبية؛ إذ تمكن أن يضيف إلى اللغات التي كان يتقنها بفعل التنشئة والدراسة وهي العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية وشيء من الإيطالية والأسبانية واليونانية، إضافة إلى التركية التي تعلم الكثير من مفرداتها من والدته «بهية الملا». وربما لأن الرجل واجه في بدايات مسيرته الدراسية صعوبات مصدرها عدم إجادته للغة الإنجليزية فقد اقترح على ابنته حنان أن تتخصص في اللغة الإنجليزية، فاستجابت لاقتراح أبيها الذي لم يبخل عليها بالمساعدة. تلك المساعدة التي تمثلت في إرشادها وتوجيهها إلى كتب مختارة وحثها على قراءة عناوين معينة من تلك العناوين التي تصقل مواهب المرء وتنميها في حالة دراسة اللغة الإنجليزية.
عاشق للتاريخ والتعرف على التقاليد والسفر
كان الدكتور حيدر أيضا من هواية السفر والترحال في داخل بلاده وخارجها بقصد اكتشاف المدن والبلدات الجديدة والتعرف على آثارها وتاريخها وتقاليد سكانها، حيث كان يحلو له في رحلاته هذه ممارسة هوايات المشي، وتسلق الجبال، وزيارة المتاحف الأثرية، وحضور الأنشطة والمهرجانات الثقافية والفنية. إلى ما سبق كان الرجل من هواة الطرب الأصيل بدليل حرصه على «الاستماع للموسيقى القديمة، خصوصا أغاني كوكب الشرق السيدة أم كلثوم وروائع موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبدالوهاب». بقي أن نعرف أن الدكتور حيدر تزوج مرتين، كانت الأولى من السيدة دلال السويد التي أنجبت له أربعة من الأبناء (غازي، فيصل، محمد، سلمان) وثلاثا من البنات (سحر، وفاء، حنان)، أما في المرة الثانية فقد اقترن بالسيدة جميلة المري التي أنجبت له ولدا وحيدا هو خالد.أصيب الدكتور حيدر لفترة طويلة في أواخر عمره بمرض السكري، كما عانى من ضيق وتصلب في شرايين القلب فكان يتقلى العلاج على أيدي بعض زملائه من مستشفى الملك سعود مثل الطبيب الهندي المتخصص في أمراض القلب الدكتور صديق. وعلى الرغم من أمراضه آنفة الذكر، كان في ليلة وفاته في أوج نشاطه الجسمي والعقلي. غير أن إرادة الله شاءت أن تكون وفاته أثناء نومه من دون معاناة في أيام عيد الأضحى المبارك من سنة 1409 للهجرة (الموافق لعام 1989 ميلادي)، وتحديدا في صبيحة السابع عشر من شهر ذي الحجة.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين