شكلت المرأة جزءا لا يتجزأ من المادة المكتوبة منذ سالف العصور فكتب عنها بشكل مباشر، كما وجدت الصور والرموز التي رصدت تأثيرها في المجتمع في أقدم النصوص، التي كتبها الرجل -إذا سلمنا أن أقدم النصوص المكتوبة كان كاتبها رجلا- ومع ذلك بقي الاختلاف ماثلا بين ما تكتبه المرأة مختارة عن ذاتها وما يكتبه الرجل متخيرا فيما تكتبه.
فحين يكتب الرجل عن المرأة فهو يركز على جانب من جوانبها يمثل له بؤرة الاحتياج، فمن يكتب عن الأم يصور الحنان، ومن يشبب بالحبيبة فهو بين أن يضخم الانفعال الشعوري الحقيقي أو يرسم تطلعات الجسد، وحين يشيد بالزوجة وصبرها وحكمتها فهو ينشد الاستقرار، وليس ثمة امرأة كاملة تتلبس بكل هذه الصفات، كما أنه قلما وجد عمل يجمع كل هؤلاء النساء في كتابة واحدة.
لكن حين تكتب المرأة عن ذاتها فحري بها أن تنطلق إلى عوالم أخرى تتعلق بصورتها الخاصة وعلاقتها بالمجتمع.
إن محاولة تبين هذه الكتابة يعيد إلى النموذج الأشهر في الكتابة النسوية الشعرية التي تمثلت في الخنساء وهي تخلد في صورة مثالية علاقة الأخت بأخيها في مجتمع يقدس قيمة الفخر بالذات، الذي لم تستطع الخنساء أن تصل إليه بذاتها وبصفاتها؛ لذلك توسلت بأخيها في ذكر مآثره، فقد وفر لها الحظ الحظوة عند الأخ غير الشقيق الذي امتلك صفات البطولة والكرم والفروسية ما جعلها تتعلق به وترثي نفسها وتفخر بها من خلاله، وتأتي الصورة الثانية من هذا الفخر بالذات والتعلق بالآخر في شكل مغاير ويثير العديد من الأسئلة؛ حيث تبرز ليلى الأخيلية في زمن متأخر عن الخنساء ويلمع نجمها في غرضي الرثاء والمديح، الأمر الذي يجعلها تبدو مقلدة للشعراء الذكور من حولها، لكنها في حقيقة الأمر تتعلق بذات أخرى، إنها شخصية توبة العاشق، فهي إذ تمتدح شجاعته وبطولاته إنما تمتدح في شخصيتها ذات الصفات التي كشفت المواقف التاريخية عنها وعن صلابتها، هذا ما يسعف به الموروث الأنثوي الخالد عن كتابة المرأة عن ذاتها، مع التسليم كما ذكرنا بأن هذه الكتابة الأنثوية لم تكن هي جل ما كتبته المرأة، لكنها هي التي اختارها الرجل في كتابته عنها، إما لأنها تبدو فيها وكأنها تابعة مقلدة للرجل في تكوينها الأدبي، أو لأنها تعلي من قيمة اجتماعية ترتبط بالرجل أكثر من ارتباطها بالمرأة، أو من باب ما شاع عن صنع النموذج الاجتماعي المثالي، وهذا ما يفسر ظهور أسماء شواعر كثر في كتب السير لم يكتب لهن الاشتهار، هذه الكثرة التي لا تعد مؤشرا على انتعاش كتابة المرأة أو ذيوع كتابتها؛ إذ يكتفي صاحب السير والتراجم بإرفاق قصيدة أو قصيدتين مع نبذة مختصرة لصاحبتها تدون تأييدا للاعتبارات السابقة.
وتستمر الكتابة عن كتابة المرأة عصورا طويلة، ومع استمرار الرجل في تخيره لما تكتبه المرأة والتقاطه بعضا منه دون بعض تخليدا وتهميشا، وذلك وفق اعتبارات اجتماعية غالبا؛ إلا أنها لم تتوقف عن الكتابة عن ذاتها ومحاولة الاستقلال بها دون التوسل بالآخر.
ومع بدايات العصر الحديث بدأت كتابة المرأة عن الذات تأخذ شكلا آخر يختلف عن النمط الشعري، الذي شكل الممارسة الكتابية الثابتة للمرأة عن ذاتها، فانطلقت المرأة في ميادين الكتابة السردية المباشرة عن الذات، وهي إذ تجنح إلى هذه المغامرة تنتقل من الزهو والافتخار إلى عالم آخر يصور معاناتها، إذ إن الكثير مما كتبته المرأة يحرضه الألم بعكس الكتابة الذكورية التي تقيم عقدا منصفا مع الحياة مصورا الزهو والانتصار والفخر فيها، هكذا تعانق كتابة المرأة الألم منذ انشطرت عن الآخر.
لقد جاهدت المرأة -منذ امتلاكها حرية الكتابة عن ذاتها المتجردة- أن تكتب عن الألم الذي أصابها جراء القيود التي فرضها عليها المجتمع، أو التجارب التي خاضتها مع المرض أو السجن، وهي إذ تكشف عن هذه الأستار التي ظلت مسدلة أزمنة مديدة لتدل دلالة قاطعة على أن ذلك الموؤود مما كتبته قديما كان مناهضا للمجتمع الذي هضم حقها وبالغ في ظلمها، وقد ساهمت سلطة الرجل على ذلك الوأد بحسب ما يراه مناسبا أو غير مناسب له.
وقد يفسر هذا القيد على كتابة المرأة أسباب ظهور الكتابة تحت أسماء مستعارة، أو التوقف عن الكتابة عن الذات تحت مسمى السيرة بعد استئنافها، أو اختيار جانب من جوانب الحياة الشخصية للكتابة عن نفسها دون الانهمار في كتابة ذاتية خالصة عن ذات إنسانية تتألم وتعيش وتتعايش وتحب وتنجح وتفشل، مما يجعلها أمام هذا الحرج من الكتابة الذاتية تتوسل بأنواع أخرى للبوح عن الذات وما تكتنزه النفس في سرد روائي أو قصصي بعيدا عن مقاربة الذات وإن بدا للمتأمل غير ذلك.
هكذا فقد وقعت كتابة المرأة -كما هو واقعها الاجتماعي- تحت سلطة الرجل انتقاء لما تكتبه فما كتبته قديما هو مزيج من الكتابة عن الذات والمجتمع الذي كانت تتأمله حد الاستيعاب، لكن الرجل تدخل في كتابتها وساهم في الانتقاء للمدونة المكتوبة نيابة عنها ساعيا إلى تقوية المعايير الاجتماعية الذكورية للرجل، بالرغم من أنها في الآن ذاته كانت تدعم معايير العفة عند المرأة، وستقع كثير من النصوص النسائية رهينة المحاكمة الاجتماعية والقضائية فيما لو حاولت أن تتخلص من قيود المجتمع والكتابة عن ذاتها متجردة.
*أكاديمية وشاعرة سعودية ـ عضو هيئة التدريس بجامعة شقراء
فحين يكتب الرجل عن المرأة فهو يركز على جانب من جوانبها يمثل له بؤرة الاحتياج، فمن يكتب عن الأم يصور الحنان، ومن يشبب بالحبيبة فهو بين أن يضخم الانفعال الشعوري الحقيقي أو يرسم تطلعات الجسد، وحين يشيد بالزوجة وصبرها وحكمتها فهو ينشد الاستقرار، وليس ثمة امرأة كاملة تتلبس بكل هذه الصفات، كما أنه قلما وجد عمل يجمع كل هؤلاء النساء في كتابة واحدة.
لكن حين تكتب المرأة عن ذاتها فحري بها أن تنطلق إلى عوالم أخرى تتعلق بصورتها الخاصة وعلاقتها بالمجتمع.
إن محاولة تبين هذه الكتابة يعيد إلى النموذج الأشهر في الكتابة النسوية الشعرية التي تمثلت في الخنساء وهي تخلد في صورة مثالية علاقة الأخت بأخيها في مجتمع يقدس قيمة الفخر بالذات، الذي لم تستطع الخنساء أن تصل إليه بذاتها وبصفاتها؛ لذلك توسلت بأخيها في ذكر مآثره، فقد وفر لها الحظ الحظوة عند الأخ غير الشقيق الذي امتلك صفات البطولة والكرم والفروسية ما جعلها تتعلق به وترثي نفسها وتفخر بها من خلاله، وتأتي الصورة الثانية من هذا الفخر بالذات والتعلق بالآخر في شكل مغاير ويثير العديد من الأسئلة؛ حيث تبرز ليلى الأخيلية في زمن متأخر عن الخنساء ويلمع نجمها في غرضي الرثاء والمديح، الأمر الذي يجعلها تبدو مقلدة للشعراء الذكور من حولها، لكنها في حقيقة الأمر تتعلق بذات أخرى، إنها شخصية توبة العاشق، فهي إذ تمتدح شجاعته وبطولاته إنما تمتدح في شخصيتها ذات الصفات التي كشفت المواقف التاريخية عنها وعن صلابتها، هذا ما يسعف به الموروث الأنثوي الخالد عن كتابة المرأة عن ذاتها، مع التسليم كما ذكرنا بأن هذه الكتابة الأنثوية لم تكن هي جل ما كتبته المرأة، لكنها هي التي اختارها الرجل في كتابته عنها، إما لأنها تبدو فيها وكأنها تابعة مقلدة للرجل في تكوينها الأدبي، أو لأنها تعلي من قيمة اجتماعية ترتبط بالرجل أكثر من ارتباطها بالمرأة، أو من باب ما شاع عن صنع النموذج الاجتماعي المثالي، وهذا ما يفسر ظهور أسماء شواعر كثر في كتب السير لم يكتب لهن الاشتهار، هذه الكثرة التي لا تعد مؤشرا على انتعاش كتابة المرأة أو ذيوع كتابتها؛ إذ يكتفي صاحب السير والتراجم بإرفاق قصيدة أو قصيدتين مع نبذة مختصرة لصاحبتها تدون تأييدا للاعتبارات السابقة.
وتستمر الكتابة عن كتابة المرأة عصورا طويلة، ومع استمرار الرجل في تخيره لما تكتبه المرأة والتقاطه بعضا منه دون بعض تخليدا وتهميشا، وذلك وفق اعتبارات اجتماعية غالبا؛ إلا أنها لم تتوقف عن الكتابة عن ذاتها ومحاولة الاستقلال بها دون التوسل بالآخر.
ومع بدايات العصر الحديث بدأت كتابة المرأة عن الذات تأخذ شكلا آخر يختلف عن النمط الشعري، الذي شكل الممارسة الكتابية الثابتة للمرأة عن ذاتها، فانطلقت المرأة في ميادين الكتابة السردية المباشرة عن الذات، وهي إذ تجنح إلى هذه المغامرة تنتقل من الزهو والافتخار إلى عالم آخر يصور معاناتها، إذ إن الكثير مما كتبته المرأة يحرضه الألم بعكس الكتابة الذكورية التي تقيم عقدا منصفا مع الحياة مصورا الزهو والانتصار والفخر فيها، هكذا تعانق كتابة المرأة الألم منذ انشطرت عن الآخر.
لقد جاهدت المرأة -منذ امتلاكها حرية الكتابة عن ذاتها المتجردة- أن تكتب عن الألم الذي أصابها جراء القيود التي فرضها عليها المجتمع، أو التجارب التي خاضتها مع المرض أو السجن، وهي إذ تكشف عن هذه الأستار التي ظلت مسدلة أزمنة مديدة لتدل دلالة قاطعة على أن ذلك الموؤود مما كتبته قديما كان مناهضا للمجتمع الذي هضم حقها وبالغ في ظلمها، وقد ساهمت سلطة الرجل على ذلك الوأد بحسب ما يراه مناسبا أو غير مناسب له.
وقد يفسر هذا القيد على كتابة المرأة أسباب ظهور الكتابة تحت أسماء مستعارة، أو التوقف عن الكتابة عن الذات تحت مسمى السيرة بعد استئنافها، أو اختيار جانب من جوانب الحياة الشخصية للكتابة عن نفسها دون الانهمار في كتابة ذاتية خالصة عن ذات إنسانية تتألم وتعيش وتتعايش وتحب وتنجح وتفشل، مما يجعلها أمام هذا الحرج من الكتابة الذاتية تتوسل بأنواع أخرى للبوح عن الذات وما تكتنزه النفس في سرد روائي أو قصصي بعيدا عن مقاربة الذات وإن بدا للمتأمل غير ذلك.
هكذا فقد وقعت كتابة المرأة -كما هو واقعها الاجتماعي- تحت سلطة الرجل انتقاء لما تكتبه فما كتبته قديما هو مزيج من الكتابة عن الذات والمجتمع الذي كانت تتأمله حد الاستيعاب، لكن الرجل تدخل في كتابتها وساهم في الانتقاء للمدونة المكتوبة نيابة عنها ساعيا إلى تقوية المعايير الاجتماعية الذكورية للرجل، بالرغم من أنها في الآن ذاته كانت تدعم معايير العفة عند المرأة، وستقع كثير من النصوص النسائية رهينة المحاكمة الاجتماعية والقضائية فيما لو حاولت أن تتخلص من قيود المجتمع والكتابة عن ذاتها متجردة.
*أكاديمية وشاعرة سعودية ـ عضو هيئة التدريس بجامعة شقراء