محمد بكاي
محمد بكاي
-A +A
أروى المهنا (الرياض) arwa_almohanna@
يتناول المفكر الجزائري الدكتور محمد بكاي في نتاجه «أرخبيلات ما بعد الحداثة» (دار الرافدين للطباعة والنشر 2017)، مفاهيم ما بعد الحداثة، مناقشا من خلال عدد من المفكرين والفلاسفة جوانب عدة تدور بين تفكيك الثوابت، مشيرا في حواره مع «عكاظ» إلى أن من الصعوبة بمكان الوصول إلى سطوح ثابتة أو تأسيسات قارة لتوجه ما بعد الحداثة.

• لماذا اخترت هذا الاتجاه في العمل «ما بعد الحداثة» تحديدا؟


•• من الصعوبة بمكان الوصول إلى سطوح ثابتة أو تأسيسات قارة لتوجه ما بعد الحداثة، وهو ما أشرت إليه في كتابي «أرخبيلات ما بعد الحداثة»، ما بعد الحداثة تشكل تغيرا فكريا صارخا ثائرا ضد أسطوريات السرديات العليا أو «البراديغمات» العلمية التي خلقت لنا قوالب لا تعترف بالانصهار وأنساقاً لا تقبل الانفتاح، وهو ما شكّل طرحا إشكاليا للإنساني الذي يمتاز بالمرونة والتغير والنماء والسيرورة.

لهذا تطلع رغبات ما بعد الحداثة إلى تحريك الساكن وخلخلة الجامد وإزاحة الـمتصلّب، وهو ما يمسّ الـمؤسسة الكبرى أو الشعور الجمعي أو التخطيط العمراني أو فنون الأداء الاجتماعي والمراس الثقافي.

فما بعد الحداثة أحدثت خللاً في نظام الاشتغال المألوف، قوامها الشكّ والتعدّد واللانهائي، فعندما تصل إلى نقطة حاسمة بعد شبكة من الأسئلة، حينذاك يتعذّر عليها حسم تلك النقطة بشكل نهائي لأن التوقف عند حدّ ما سيجمدها ويؤبدها ويجعلها صنماً فكريا أو عقالاً يتشبّث به الأفراد.

لهذا جاء اختياري لموضوع ما بعد الحداثة، لإلقاء نظرة أو خطفة على موج الأسئلة المتلاطم في واقعنا المعيش؛ واقع يسير بقوى متسارعة تتخلّله تغييرات طارئة على عدة حلقات: السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والميديائية، وهو ما أثر على الفرد الـمعاصر، وضاعف من قلقه الهوياتي.

• لمن تتجه في هذا الكتاب؟

•• إلى جيل جديد من القراء، تختلف حوله التسميات، بين جيل «الأنترنت» وجيل السّرعة وجيل الفوضى، وغيرها من التسميات التي تُطلق على جيل ما بعد الحداثة. هذا الجيل الجديد يحمل أسلوبا مختلفاً للتعاطي مع الحياة والسياسة والدين والثقافة. فلو تتم تهيئته وتوعيته بشكل معصرن يتماشى مع أسلوب حياته وسلوكياته وممارساته سيساعده في فتح الأقفال وزحزحة التكلسات، فهو لم يعد ذلك الجيل الذي تؤثر عليه السرديات التاريخية والعواطف المبللة أو الشعارات المقنعة، بدل ذلك، أضحى الفرد يفهم أزمته وارتباطها بفكرة الترسبات اللاواعية التي تتخبط فيها المجتمعات العربية. جيل ما بعد الحداثة ثائر وتثويري حمال لفكرة التمرد، لكنها تظلّ بعيدة عن فكرة الثورة.

• أبرز الأسماء التي تناولتها في الكتاب منها «دريدا» و«أركون».. لماذا هذه الأسماء تحديداً؟

•• فعلا عديدة هي الأسماء التي تطرقت إليها في صفحات هذا العمل، لكنها تشترك في ولائها لرؤية فكرية جديدة قوامها الاختلاف، وعبر هذه الإتيقا تمتدّ فصول هذا الكتاب بين دريدا وليفناس مرورا بهابرماس وأركون وإريغاراي.

بعبارة أخرى هناك خيطٌ معرفي يجمع هذه التوجهات الفلسفية هو «التمرّد» على رتابة القراءات أو غطرستها. إذ يعد جاك دريدا خير مثال لهذا الشغب الفلسفي، إذ نادى بتقويض التراث الميتافيزيقي منذ أفلاطون وصولاً إلى هوسرل لفضح ما تخفيه النّصوص والقراءات من مكنونات، وهذا المخبوء يفيض بالمعاني والدّلالات التي يكتمها النسق أو تحظرها الـمؤسّسة. أسماء أخرى مثل ألتوسير وليوتار أو فوكو نادت بالحفر في طيّات النصوص لتعرية مبهماتها وكشف صراعاتها، فالشبكات النصية تحمل وجهاً صراعياً آخر، أو نقيضاً يلتبس معها، فمن المستحيل أن نؤمن بفكرة أن للنص وجهاً واحداً، من هذا المنطلق تتولد الاحتمالات وتتحامل التأويلات للإحاطة بالحقائق وترجيح التخريجات القرائية التي تكدّ وراء جينالوجيات النّص وحيثياته. وهو ما دفع محمد أركون مثلا -في عالمنا الإسلامي- إلى تجديد قراءة الخطاب الديني والتراث الإسلامي وفق المقاربات الإنسانية ما بعد الحداثية، لما تحمله هذه الأخيرة من آفاق تحليلية منفلتة من سلطان «العلميّ» أو عماء «المعرفيّ» وهو ما يدخل في إطار التمركز العقلي. وبالتالي تقدم هذه القراءات فرصة لبزوغ الآخر والمختلف وتمنحه الفضاء للتجلي، ليس لإثارة الفتنة أو لتكدير صفاء الجو، وإنما إحياء للمقولات الماضوية بعيدا عن حسها القاصر أو قولها الدوغمائي، فسحة للتعرف على الغريب أو المهمش الذي يعشش داخل تلك النصوص، وهذه الأخيرة تكتفي بإلغائه ونفيه، وهو ما يستحيل أمره، فهو يسكنها كظلها. وكل قراءة متكلسة ومصابة بفكرة الذات الواحدة والخالصة أو الأصلية والنقية تؤكد بقصد أو بآخر أنها تنهر الآخر وتسلب المختلف وتقضي عليه، لكنها تعجز في الأخير، لأن وجوده داخل نصوصها يتخذ شكلا آخر يتعذر حسمه أو البت فيه وهو ما فصل فيه فيلسوف التفكيك جاك دريدا.