عُرف عن أهل منطقة القصيم، وتحديدا أبناء «عنيزة» الهجرة والترحال شمالا وشرقا وغربا بحثا عن الحياة الأفضل في مغامرات شاقة مليئة بالتحديات والمفارقات، لذا نجد لعائلاتها ذكرا وبصمة في كل مكان حلوا به، ابتداء من الأحساء والزبارة والبحرين والكويت وانتهاء بالعراق وبلاد الشام. بل هناك منهم من وصل إلى بلاد الهند وأقام وعمل بها، كما هو ثابت في السجلات والوثائق البريطانية القديمة. علاوة على ذلك هناك بعض الشخصيات من العائلات العربية القصيمية النجدية قررت عبور مياه الخليج وانتقلت من ضفته الغربية إلى الشرقية للإقامة والعمل في مناطق مثل جزيرة قيس أو بندر لنجة وغيرهما. من هؤلاء، تاجر اللؤلؤ محمد بن عبدالوهاب المشاري المولود في عام 1864 والمتوفى في حدود عام 1922.
عن آل مشاري كتب علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في الصفحة 764 من كتابه الشهير «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد» قائلا: «آل مشاري في عنيزة ثم في البحرين وبومباي». كما أتى على ذكرهم حسين بن علي الوحيدي في الصفحة 72 من كتابه «تاريخ لنجة» (الطبعة الأولى ــ دار الأمة للنشر والتوزيع ــ دبي) حينما عدد أسماء النبلاء وأشهر البيوتات التجارية في لنجة فقال: «آل مشاري وهم عرب هاجروا من البحرين إلى لنجة، توجد لهم برك من ناحية الغرب مشهورة ومعروفة تحمل اسمهم ويقال لها برك المشاري أو البشاري». إلى ما سبق تحدث المهندس محمد حاتم غريب في الصفحة 28 من كتابه «تاريخ عرب الهولة»(الطبعة الأولى ــ مطابع سجل العرب ــ القاهرة) عن هذه العائلة النجدية الكريمة، في معرض تعداده للقبائل العربية التي هاجرت إلى ساحل فارس وبره، فقال: «أسرة المشاري الذين عرفوا في لنجة بالكرم والتقوى والشجاعة وصار لهم فيها مساجد وصدقات جارية على شكل برك ماء ومنهم الطواش والنوخذة عبدالمحسن المشاري وقد سكنوا بومباي في الهند لفترة ولم يبق من هذه القبيلة أحد في بر وساحل فارس اليوم».
المؤرخ البحريني بشار يوسف الحادي أفرد فصلين في الجزء الثالث من كتابه «موسوعة ضياء البدرين في تاريخ البحرين، أعيان البحرين في القرن الرابع عشر الهجري» للحديث عن اثنين من رجالات آل مشاري هما: عبداللطيف بن حسن المشاري (الصفحات 269 ــ 276)، ومحمد بن عبدالوهاب المشاري (427 ــ 452).
الخروج من عنيزة
وطبقا لما أورده الحادي مستندا إلى وثائق ومخطوطات، فإن آل مشاري ينتمون إلى بني جبر (الجبور) والذين بدورهم ينتمون إلى قبيلة بني خالد من بني مخزوم. وشخصيتنا المحورية هو «محمد بن عبدالوهاب بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مشاري»، الجبري نسبا والمالكي مذهبا والأشعري عقيدة والنقشبندي طريقة، بتعبير محمد بن إبراهيم آل جغيمان الأحسائي مصحح كتاب «مختصر مفيد في الفقه على مذهب إمام الأئمة مالك بن أنس»الذي طبع على نفقة أحد أبناء عمومة المشاري وهو إبراهيم بن سلطان بن عبداللطيف المشاري الذي امتلك وثيقة نادرة حول تنقلات وهجرات آل مشاري المفصلة منذ خروجهم من عنيزة في حوالي عام 1745 للميلاد.
طبقا لهذه الوثيقة التاريخية، التي اطلع عليها المؤرخ الحادي واستخدمها للكتابة عن آل مشاري، نجد أن الجد الأكبر للأسرة هو عثمان بن هاشل الذي ولد في عنيزة في حدود عام 1695 للميلاد وترعرع وعمل وتزوج وأنجب بها من الأولاد مشاري (الذي تـُنسب العائلة إليه) ثم ناصر.
الأحساء والزبارة وبوشهر
وبحسب الوثيقة أيضا فإن مشاري وشقيقه الصغير ناصر ووالدتهما ونحو 32 من جماعتهما انتقلوا من عنيزة إلى الأحساء في عام 1745 م، ثم ما لبث أن هاجر مشاري من الأحساء إلى الزبارة حيث أقام بها فترة وجيزة. ومن الزبارة انتقل للعيش على الساحل الفارسي من الخليج العربي، وتحديدا في مدينة «بوشهر». ومن الأخيرة انتقل إلى منطقة فارسية أخرى تدعى «جاه كوتاه» (أي البئر غير العميقة)، حيث سكن مع الدموخ الدواسر الذين كانوا يقطنون في المنطقة ذاتها، بل وتزوج بإحدى نسائهم التي انجبت له ولده البكر «عبدالرحمن بن مشاري بن عثمان» والذي أنجب بدوره محمد، ومحمد رزق بعبد الحافظ، والأخير أنجب عيسى، وعيسى رزق بمحمد.
عاد مشاري من بلاد فارس إلى بلدة الزبارة مرة أخرى في حوالى سنة 1748 وسرعان ما اقترن فيها بابنة كليب الزياني التي أنجبت له ولده أحمد. وفي هذه الحقبة من حياته بدأ العمل في تجارة اللؤلؤ فكان يتردد على بومباي لبيع محصول اللؤلؤ مثلما كان يفعل خليجيون كثر في تلك الأيام. غير أن إقامة مشاري في الزبارة لم تطل كثيرا، فبعد مدة تركها واتجه إلى الأحساء حيث تزوج من فتاة من عائلة العفالج (العفالق) المعروفة، وأنجب منها في حدود عام 1755 ولدا أطلق عليه اسم عبداللطيف.
توفي مشاري في الزبارة ودفن بها في عام 1773، تاركا خلفه من الأبناء عبدالرحمن (فضل البقاء في بلدة جاه كوتاه ببلاد فارس) وأحمد (عاش في الزبارة قبل أن ينتقل إلى البحرين)، وعبداللطيف (عاش وترعرع في الأحساء ثم هاجر إلى مدينة سورات الهندية بولاية كوجرات حيث عاش هناك أربع سنوات يعمل في تجارة اللؤلؤ ويراكم الأموال قبل أن يقرر الرحيل إلى الزبارة التي تزوج بها في حدود عام 1777 فرزق من الأبناء بمحمد وعبدالله وعبدالرحمن ويوسف وسعيد وعلي وحسن وعبدالعزيز وإبراهيم وناصر وهاشل ومشاري وسلطان)
البحرين مقر قبل الخلاف
وفي أعقاب فتح البحرين على يد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة (الملقب بالفاتح) في عام 1783، قرر عبداللطيف بن مشاري وعائلته وحاشيته الانتقال للعيش في البحرين، فاستقر في المحرق إلى حين وفاته. غير أنه في حدود عام 1843 حدث خلاف بين أحد أبنائه وهو تاجر اللؤلؤ مشاري بن عبداللطيف بن مشاري وبين الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين آنذاك، الأمر الذي قرر معه مشاري والعديد من أقاربه وأفراد أسرته ترك البحرين والانتقال منها إلى جزيرة قيس حيث أقاموا لفترة طويلة قبل أن ينتقلوا إلى لنجة التي كانت وقتذاك إمارة عربية مزدهرة يحكمها القواسم، هذا علما بأن مشاري بن عبداللطيف المشاري توفي في لنجة بعد نحو أربعين عاما من وصوله إليها (أي في عام 1882)، طبقا لما أشارت إليه الباحثة الإماراتية كاملة بنت عبدالله بن علي القاسمي في كتابها «تاريخ لنجة» (منشورات مكتبة دبي - 1993).
وهكذا استقر عدد كبير من آل مشاري في لنجة وقيس يتاجرون باللؤلؤ ويتعاملون مع الهند وأوروبا، ويقومون بأعمال البر والإحسان، بناء للمساجد وحفرا للآبار، وتوزيعا للصدقات وغير ذلك. من بين هؤلاء برز تاجر اللؤلؤ عبدالوهاب بن أحمد المشاري والد الشخصية محور حديثنا، والذي كان يتردد كغيره على الهند لبيع محصوله من اللآلئ، ويتردد على البحرين لزيارة أقاربه وأصدقائه، علما بأنه توفي في لنجة بعد سنة 1915، مخلفا وراءه ولدا وحيدا هو «محمد بن عبدالوهاب المشاري» الذي رأى النور في لنجة في عام 1864م وعاش بها في كنف والده الذي حرص على تلقيه دروسا في القرآن الكريم والقراءة والكتابة والخط والحساب إلى أن شب وكبر، فأخذه إلى السوق ليتعلم تجارة اللؤلؤ (مهنة أبيه وجده وأعمامه).
انتهاء حكم القواسم بلنجة
لم يخذل محمد آمال والده، إذ سرعان ما بزغ كتاجر معروف وثري وذي علم بأحوال السوق وصاحب علاقات مع كبار تجار اللؤلؤ الخليجيين في بومباي. غير أن انتهاء حكم القواسم لبندر لنجة وما جاوره بمكيدة إيرانية، ومن ثم انتشار الفوضى وخراب الأسواق والتجارة كنتيجة لذلك، جعل محمد بن عبدالوهاب المشاري وغيره من تجار وأعيان آل مشاري يقررون الهجرة. فمنهم من هاجر إلى دبي، ومنهم من هاجر إلى بومباي مثل محمد بن عبدالوهاب المشاري الذي لم يجد صعوبة في التكيف مع الحياة في الهند لأنه كان يحتفظ بعلاقات صداقة وعمل سابقة مع طائفة من الأسماء الخليجية المقيمة هناك أو المترددة على بلاد الهند باستمرار من أمثال عائلة الإبراهيم الكويتية التي عرفت بـ «ملوك اللؤلؤ»، وتاجر اللؤلؤ البحريني الكبير الحاج سلمان بن حسين بن مطر، وتاجر اللؤلؤ البحريني/النجدي مقبل بن عبدالرحمن الذكير، وتاجر اللؤلؤ البحريني الآخر الحاج محمد بن أحمد بن هجرس. وقد أتاحت له هذه العلاقات أن يوظف أبناءه عند التاجرين الكويتيين الشيخين جاسم بن محمد الإبراهيم وعبدالرحمن بن عبدالعزيز الإبراهيم لبعض الوقت قبل أن ينفصلوا بتجارتهم، كما أتاحت له تعزيز مكانته التجارية وأحواله المادية في مكان الإقامة الجديد حتى بلغ من الثراء مبلغا عظيما.
وفي هذا السياق يخبرنا المؤرخ الكويتي سيف بن مرزوق الشملان في الصفحة 253 من الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي» بأن محمد المشاري كان يملك ثروة طائلة تقدر بحوالى خمسة ملايين روبية، مضيفا أنه أفلس سنة 1920 وتوفي عام 1922. وفي السياق نفسه كتب الحادي في الصفحة 436 من كتابه المشار إليه آنفا ما يلي: «ويـُذكر أن محمد المشاري ترك (لذريته) بناية ضخمة سوداء في بومباي -لاتزال قائمة- وقد دفعوا له فيها في أواخر الحرب العالمية (الأولى) 17 لك، يعني 17 مليون روبية، ولكنه رفض بيعها بأقل من عشرين». وفي الصفحة ذاتها والتي تليها نشر الحادي وثيقة مؤرخة في شهر أبريل عام 1908 وموقعة من قبل وكيل نائب البصرة تثبت أن محمد بن عبدالوهاب المشاري امتدت أملاكه من الأراضي وبساتين النخيل إلى البصرة وشط العرب.
وقد أتى على ذكره الأديب البحريني مبارك عمرو العماري في الصفحة 78 من كتابه «محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج» (منشورات مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث ــ 2005) حينما أخبرنا أن منزله في الهند كان «مأوى للعديد من العرب المقيمين هناك، وعند وفاته بلغ ما تركه من النقود مليوني روبية، عدا الأملاك والعقارات والجواهر واللآلئ».
لعل من أهم الأشياء في سيرة محمد المشاري دوره في تأسيس «شركة المراكب العربية المحدودة» في عام 1911 في بومباي برأسمال 250 ألف روبية مقسمة إلى 500 سهم، قيمة كل سهم 500 روبية. فهذه الشركة التي كانت أول مؤسسة عربية ملاحية مساهمة، التي جاءت فكرتها من عائلة الإبراهيم الكويتية المقيمة في الهند، بهدف تقديم خدمات نقل المسافرين والحجاج والبضائع بين الهند وموانئ الخليج وشبه الجزيرة العربية بأسعار تنافس أسعار الشركات الأجنبية، ناهيك عن هدف آخر هو تدريب وتأهيل أبناء الخليج على أعمال جديدة مثل أعمال التوكيلات والشحن البحري وتشغيل البواخر والمناولة وغيرها، ساهم فيها بحصة الأسد الشيخان جاسم الإبراهيم، وعبدالرحمن الإبراهيم، ثم محمد بن عبدالوهاب المشاري، وبعض التجار العرب في الهند، ثم العديد من تجار الكويت وشيوخ آل صباح، إضافة إلى تاجر اللؤلؤ البحريني الحاج مقبل بن عبدالرحمن الذكير، والحاج عبدالله بن حسن الدوسري، والوجيه البحريني عبدالله بن جمعة بن إبراهيم. ولعله بسبب الحصص من الأسهم تولى الشيخ جاسم بن محمد الإبراهيم رئاسة مجلس إدارة شركة البواخر، فيما تولى محمد المشاري منصب مدير عام الشركة.
يذكر أن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار كتب في مجلته أكثر من مرة حول شركة المراكب ومديرها محمد المشاري. فقد أشاد في عدد المنار رقم 19/125 بفكرة الشركة وأهدافها النبيلة حينما كتب: «كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند والخليج وشط العرب تحتقر المسافرين من العرب والفرس، ولا تسمح لهم بالأكل على مائدة الدرجة الأولى، فلما أنشأ تجار العرب في بومباي شركة البواخر العربية زال ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة». ثم عاد وأشاد بمديرها محمد المشاري في عدد المنار رقم 16/396 عندما تحدث عن رحلته إلى الهند ولقائه «مدير الشركة الهمام محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم (يقصد جاسم الإبراهيم)».
لكن ما الذي حل بهذا المشروع العربي الرائد لاحقا؟ يجيبنا الدكتور يتيم (مصدر سابق) فيقول ما مفاده بأنه على الرغم من الأرباح التي حققتها شركة المراكب العربية المحدودة في سنوات قليلة مقارنة بما كانت تحققه «الشركة الهندية البريطانية للملاحة»، فإنها «تعرضت لنكسة وخسائر بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى والموقف المعادي الذي اتخذته السلطات البريطانية في الهند تجاه الشركة، مما أدى إلى تصفيتها عام 1915م». ونضيف إلى ما ذكره الدكتور يتيم أن المشاري خسر الكثير بسبب تصفية هذه الشركة التي كان مديرا لها وأحد كبار مساهميها، الأمر الذي تسبب في إحباطه وإعلان إفلاسه في عام 1920، ومن ثم وفاته بعد ذلك بعامين. حيث توفي في عام 1922 بمدينة بومباي ودفن بها بعد الصلاة عليه في جامعها بحضور أهله وأصدقائه ومعارفه الكثر من الخليجيين والعرب المقيمين في الهند.
ولا يفوتنا في الختام الإشارة إلى ما وثقه المؤرخ الحادي في كتابه النفيس (مصدر سابق) من مراسلات بين المشاري وعلية القوم في الخليج أثناء إقامته في بومباي، ومن بينها رسالة موجهة منه بتاريخ 25 يناير 1920 إلى الملك عبدالعزيزآل سعود طيب الله ثراه يخبره فيها بأن نجله الأمير فيصل قد وصل إلى بومباي قادما من لندن وأن الأخير «بحال الصحة والسلامة وقد اكتسب ولله الحمد والمنة بسفره هذا الصحة التامة وحصل الاجتماع به والأنس والسرور ووجدناه على جانب عظيم من وفور العقل ولطف السجايا وكرم الأخلاق ولا يستكثر ذلك ممن هو فرع من دوحة المجد، ولله در من قال فأجاد في المقال: ومن تلاق منهم تقول سيدهم / مثل النجوم التي يسري بها الساري».
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
عن آل مشاري كتب علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في الصفحة 764 من كتابه الشهير «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد» قائلا: «آل مشاري في عنيزة ثم في البحرين وبومباي». كما أتى على ذكرهم حسين بن علي الوحيدي في الصفحة 72 من كتابه «تاريخ لنجة» (الطبعة الأولى ــ دار الأمة للنشر والتوزيع ــ دبي) حينما عدد أسماء النبلاء وأشهر البيوتات التجارية في لنجة فقال: «آل مشاري وهم عرب هاجروا من البحرين إلى لنجة، توجد لهم برك من ناحية الغرب مشهورة ومعروفة تحمل اسمهم ويقال لها برك المشاري أو البشاري». إلى ما سبق تحدث المهندس محمد حاتم غريب في الصفحة 28 من كتابه «تاريخ عرب الهولة»(الطبعة الأولى ــ مطابع سجل العرب ــ القاهرة) عن هذه العائلة النجدية الكريمة، في معرض تعداده للقبائل العربية التي هاجرت إلى ساحل فارس وبره، فقال: «أسرة المشاري الذين عرفوا في لنجة بالكرم والتقوى والشجاعة وصار لهم فيها مساجد وصدقات جارية على شكل برك ماء ومنهم الطواش والنوخذة عبدالمحسن المشاري وقد سكنوا بومباي في الهند لفترة ولم يبق من هذه القبيلة أحد في بر وساحل فارس اليوم».
المؤرخ البحريني بشار يوسف الحادي أفرد فصلين في الجزء الثالث من كتابه «موسوعة ضياء البدرين في تاريخ البحرين، أعيان البحرين في القرن الرابع عشر الهجري» للحديث عن اثنين من رجالات آل مشاري هما: عبداللطيف بن حسن المشاري (الصفحات 269 ــ 276)، ومحمد بن عبدالوهاب المشاري (427 ــ 452).
الخروج من عنيزة
وطبقا لما أورده الحادي مستندا إلى وثائق ومخطوطات، فإن آل مشاري ينتمون إلى بني جبر (الجبور) والذين بدورهم ينتمون إلى قبيلة بني خالد من بني مخزوم. وشخصيتنا المحورية هو «محمد بن عبدالوهاب بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مشاري»، الجبري نسبا والمالكي مذهبا والأشعري عقيدة والنقشبندي طريقة، بتعبير محمد بن إبراهيم آل جغيمان الأحسائي مصحح كتاب «مختصر مفيد في الفقه على مذهب إمام الأئمة مالك بن أنس»الذي طبع على نفقة أحد أبناء عمومة المشاري وهو إبراهيم بن سلطان بن عبداللطيف المشاري الذي امتلك وثيقة نادرة حول تنقلات وهجرات آل مشاري المفصلة منذ خروجهم من عنيزة في حوالي عام 1745 للميلاد.
طبقا لهذه الوثيقة التاريخية، التي اطلع عليها المؤرخ الحادي واستخدمها للكتابة عن آل مشاري، نجد أن الجد الأكبر للأسرة هو عثمان بن هاشل الذي ولد في عنيزة في حدود عام 1695 للميلاد وترعرع وعمل وتزوج وأنجب بها من الأولاد مشاري (الذي تـُنسب العائلة إليه) ثم ناصر.
الأحساء والزبارة وبوشهر
وبحسب الوثيقة أيضا فإن مشاري وشقيقه الصغير ناصر ووالدتهما ونحو 32 من جماعتهما انتقلوا من عنيزة إلى الأحساء في عام 1745 م، ثم ما لبث أن هاجر مشاري من الأحساء إلى الزبارة حيث أقام بها فترة وجيزة. ومن الزبارة انتقل للعيش على الساحل الفارسي من الخليج العربي، وتحديدا في مدينة «بوشهر». ومن الأخيرة انتقل إلى منطقة فارسية أخرى تدعى «جاه كوتاه» (أي البئر غير العميقة)، حيث سكن مع الدموخ الدواسر الذين كانوا يقطنون في المنطقة ذاتها، بل وتزوج بإحدى نسائهم التي انجبت له ولده البكر «عبدالرحمن بن مشاري بن عثمان» والذي أنجب بدوره محمد، ومحمد رزق بعبد الحافظ، والأخير أنجب عيسى، وعيسى رزق بمحمد.
عاد مشاري من بلاد فارس إلى بلدة الزبارة مرة أخرى في حوالى سنة 1748 وسرعان ما اقترن فيها بابنة كليب الزياني التي أنجبت له ولده أحمد. وفي هذه الحقبة من حياته بدأ العمل في تجارة اللؤلؤ فكان يتردد على بومباي لبيع محصول اللؤلؤ مثلما كان يفعل خليجيون كثر في تلك الأيام. غير أن إقامة مشاري في الزبارة لم تطل كثيرا، فبعد مدة تركها واتجه إلى الأحساء حيث تزوج من فتاة من عائلة العفالج (العفالق) المعروفة، وأنجب منها في حدود عام 1755 ولدا أطلق عليه اسم عبداللطيف.
توفي مشاري في الزبارة ودفن بها في عام 1773، تاركا خلفه من الأبناء عبدالرحمن (فضل البقاء في بلدة جاه كوتاه ببلاد فارس) وأحمد (عاش في الزبارة قبل أن ينتقل إلى البحرين)، وعبداللطيف (عاش وترعرع في الأحساء ثم هاجر إلى مدينة سورات الهندية بولاية كوجرات حيث عاش هناك أربع سنوات يعمل في تجارة اللؤلؤ ويراكم الأموال قبل أن يقرر الرحيل إلى الزبارة التي تزوج بها في حدود عام 1777 فرزق من الأبناء بمحمد وعبدالله وعبدالرحمن ويوسف وسعيد وعلي وحسن وعبدالعزيز وإبراهيم وناصر وهاشل ومشاري وسلطان)
البحرين مقر قبل الخلاف
وفي أعقاب فتح البحرين على يد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة (الملقب بالفاتح) في عام 1783، قرر عبداللطيف بن مشاري وعائلته وحاشيته الانتقال للعيش في البحرين، فاستقر في المحرق إلى حين وفاته. غير أنه في حدود عام 1843 حدث خلاف بين أحد أبنائه وهو تاجر اللؤلؤ مشاري بن عبداللطيف بن مشاري وبين الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين آنذاك، الأمر الذي قرر معه مشاري والعديد من أقاربه وأفراد أسرته ترك البحرين والانتقال منها إلى جزيرة قيس حيث أقاموا لفترة طويلة قبل أن ينتقلوا إلى لنجة التي كانت وقتذاك إمارة عربية مزدهرة يحكمها القواسم، هذا علما بأن مشاري بن عبداللطيف المشاري توفي في لنجة بعد نحو أربعين عاما من وصوله إليها (أي في عام 1882)، طبقا لما أشارت إليه الباحثة الإماراتية كاملة بنت عبدالله بن علي القاسمي في كتابها «تاريخ لنجة» (منشورات مكتبة دبي - 1993).
وهكذا استقر عدد كبير من آل مشاري في لنجة وقيس يتاجرون باللؤلؤ ويتعاملون مع الهند وأوروبا، ويقومون بأعمال البر والإحسان، بناء للمساجد وحفرا للآبار، وتوزيعا للصدقات وغير ذلك. من بين هؤلاء برز تاجر اللؤلؤ عبدالوهاب بن أحمد المشاري والد الشخصية محور حديثنا، والذي كان يتردد كغيره على الهند لبيع محصوله من اللآلئ، ويتردد على البحرين لزيارة أقاربه وأصدقائه، علما بأنه توفي في لنجة بعد سنة 1915، مخلفا وراءه ولدا وحيدا هو «محمد بن عبدالوهاب المشاري» الذي رأى النور في لنجة في عام 1864م وعاش بها في كنف والده الذي حرص على تلقيه دروسا في القرآن الكريم والقراءة والكتابة والخط والحساب إلى أن شب وكبر، فأخذه إلى السوق ليتعلم تجارة اللؤلؤ (مهنة أبيه وجده وأعمامه).
انتهاء حكم القواسم بلنجة
لم يخذل محمد آمال والده، إذ سرعان ما بزغ كتاجر معروف وثري وذي علم بأحوال السوق وصاحب علاقات مع كبار تجار اللؤلؤ الخليجيين في بومباي. غير أن انتهاء حكم القواسم لبندر لنجة وما جاوره بمكيدة إيرانية، ومن ثم انتشار الفوضى وخراب الأسواق والتجارة كنتيجة لذلك، جعل محمد بن عبدالوهاب المشاري وغيره من تجار وأعيان آل مشاري يقررون الهجرة. فمنهم من هاجر إلى دبي، ومنهم من هاجر إلى بومباي مثل محمد بن عبدالوهاب المشاري الذي لم يجد صعوبة في التكيف مع الحياة في الهند لأنه كان يحتفظ بعلاقات صداقة وعمل سابقة مع طائفة من الأسماء الخليجية المقيمة هناك أو المترددة على بلاد الهند باستمرار من أمثال عائلة الإبراهيم الكويتية التي عرفت بـ «ملوك اللؤلؤ»، وتاجر اللؤلؤ البحريني الكبير الحاج سلمان بن حسين بن مطر، وتاجر اللؤلؤ البحريني/النجدي مقبل بن عبدالرحمن الذكير، وتاجر اللؤلؤ البحريني الآخر الحاج محمد بن أحمد بن هجرس. وقد أتاحت له هذه العلاقات أن يوظف أبناءه عند التاجرين الكويتيين الشيخين جاسم بن محمد الإبراهيم وعبدالرحمن بن عبدالعزيز الإبراهيم لبعض الوقت قبل أن ينفصلوا بتجارتهم، كما أتاحت له تعزيز مكانته التجارية وأحواله المادية في مكان الإقامة الجديد حتى بلغ من الثراء مبلغا عظيما.
وفي هذا السياق يخبرنا المؤرخ الكويتي سيف بن مرزوق الشملان في الصفحة 253 من الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي» بأن محمد المشاري كان يملك ثروة طائلة تقدر بحوالى خمسة ملايين روبية، مضيفا أنه أفلس سنة 1920 وتوفي عام 1922. وفي السياق نفسه كتب الحادي في الصفحة 436 من كتابه المشار إليه آنفا ما يلي: «ويـُذكر أن محمد المشاري ترك (لذريته) بناية ضخمة سوداء في بومباي -لاتزال قائمة- وقد دفعوا له فيها في أواخر الحرب العالمية (الأولى) 17 لك، يعني 17 مليون روبية، ولكنه رفض بيعها بأقل من عشرين». وفي الصفحة ذاتها والتي تليها نشر الحادي وثيقة مؤرخة في شهر أبريل عام 1908 وموقعة من قبل وكيل نائب البصرة تثبت أن محمد بن عبدالوهاب المشاري امتدت أملاكه من الأراضي وبساتين النخيل إلى البصرة وشط العرب.
محمد.. مأوى العرب بالهند ومؤسس أول شركة ملاحية
رزق محمد بن عبدالوهاب المشاري بولدين هما خالد وعبدالوهاب، وبنت اسمها عائشة، علما بأن ابنه خالد سار على درب أبيه لجهة العمل في تجارة اللؤلؤ، والإقامة الدائمة في الهند، مع التردد من حين إلى آخر على البحرين لزيارة أقاربه وأصدقائه.وقد أتى على ذكره الأديب البحريني مبارك عمرو العماري في الصفحة 78 من كتابه «محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج» (منشورات مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث ــ 2005) حينما أخبرنا أن منزله في الهند كان «مأوى للعديد من العرب المقيمين هناك، وعند وفاته بلغ ما تركه من النقود مليوني روبية، عدا الأملاك والعقارات والجواهر واللآلئ».
لعل من أهم الأشياء في سيرة محمد المشاري دوره في تأسيس «شركة المراكب العربية المحدودة» في عام 1911 في بومباي برأسمال 250 ألف روبية مقسمة إلى 500 سهم، قيمة كل سهم 500 روبية. فهذه الشركة التي كانت أول مؤسسة عربية ملاحية مساهمة، التي جاءت فكرتها من عائلة الإبراهيم الكويتية المقيمة في الهند، بهدف تقديم خدمات نقل المسافرين والحجاج والبضائع بين الهند وموانئ الخليج وشبه الجزيرة العربية بأسعار تنافس أسعار الشركات الأجنبية، ناهيك عن هدف آخر هو تدريب وتأهيل أبناء الخليج على أعمال جديدة مثل أعمال التوكيلات والشحن البحري وتشغيل البواخر والمناولة وغيرها، ساهم فيها بحصة الأسد الشيخان جاسم الإبراهيم، وعبدالرحمن الإبراهيم، ثم محمد بن عبدالوهاب المشاري، وبعض التجار العرب في الهند، ثم العديد من تجار الكويت وشيوخ آل صباح، إضافة إلى تاجر اللؤلؤ البحريني الحاج مقبل بن عبدالرحمن الذكير، والحاج عبدالله بن حسن الدوسري، والوجيه البحريني عبدالله بن جمعة بن إبراهيم. ولعله بسبب الحصص من الأسهم تولى الشيخ جاسم بن محمد الإبراهيم رئاسة مجلس إدارة شركة البواخر، فيما تولى محمد المشاري منصب مدير عام الشركة.
يذكر أن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار كتب في مجلته أكثر من مرة حول شركة المراكب ومديرها محمد المشاري. فقد أشاد في عدد المنار رقم 19/125 بفكرة الشركة وأهدافها النبيلة حينما كتب: «كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند والخليج وشط العرب تحتقر المسافرين من العرب والفرس، ولا تسمح لهم بالأكل على مائدة الدرجة الأولى، فلما أنشأ تجار العرب في بومباي شركة البواخر العربية زال ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة». ثم عاد وأشاد بمديرها محمد المشاري في عدد المنار رقم 16/396 عندما تحدث عن رحلته إلى الهند ولقائه «مدير الشركة الهمام محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم (يقصد جاسم الإبراهيم)».
بين البحرين والهند «الفيكتورية».. كسر احتكار «الكولونيالية»
تطرق عالم الانثروبولوجيا البحريني الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم في الصفحتين 122 و123 من كتابه «البحرين، المجتمع والثقافة» (منشورات المؤسسة العربية للدراسات - بيروت - الطبعة الأولى - 2016) إلى محمد بن عبدالوهاب المشاري فصنفه ضمن النخب الخليجية التي تقاطعت سيرتها وثقافتها مع البحرين والهند الفيكتورية، كما تطرق إلى موضوع تأسيس شركة المراكب العربية المحدودة، فقال إنها ولدت لكسر احتكار الملاحة البحرية الذي كانت تمارسه سفن بريطانيا الكولونيالية في مياه آسيا والهند والخليج العربي، مضيفا ما مفاده بأن الشركة المذكورة، تحت إدارة المشاري، استطاعت خلال فترة قياسية أن تضاعف عدد أسطولها من المراكب إلى ست بواخر، بريطانية الصنع لنقل الركاب والبضائع. وقد حملت هذه البواخر لأول مرة أسماء عربية مثل «بدري» (تيمنا بمعركة بدر) و«الكويت» و«البحرين» و«الحجاز» و«بهلوان».لكن ما الذي حل بهذا المشروع العربي الرائد لاحقا؟ يجيبنا الدكتور يتيم (مصدر سابق) فيقول ما مفاده بأنه على الرغم من الأرباح التي حققتها شركة المراكب العربية المحدودة في سنوات قليلة مقارنة بما كانت تحققه «الشركة الهندية البريطانية للملاحة»، فإنها «تعرضت لنكسة وخسائر بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى والموقف المعادي الذي اتخذته السلطات البريطانية في الهند تجاه الشركة، مما أدى إلى تصفيتها عام 1915م». ونضيف إلى ما ذكره الدكتور يتيم أن المشاري خسر الكثير بسبب تصفية هذه الشركة التي كان مديرا لها وأحد كبار مساهميها، الأمر الذي تسبب في إحباطه وإعلان إفلاسه في عام 1920، ومن ثم وفاته بعد ذلك بعامين. حيث توفي في عام 1922 بمدينة بومباي ودفن بها بعد الصلاة عليه في جامعها بحضور أهله وأصدقائه ومعارفه الكثر من الخليجيين والعرب المقيمين في الهند.
ولا يفوتنا في الختام الإشارة إلى ما وثقه المؤرخ الحادي في كتابه النفيس (مصدر سابق) من مراسلات بين المشاري وعلية القوم في الخليج أثناء إقامته في بومباي، ومن بينها رسالة موجهة منه بتاريخ 25 يناير 1920 إلى الملك عبدالعزيزآل سعود طيب الله ثراه يخبره فيها بأن نجله الأمير فيصل قد وصل إلى بومباي قادما من لندن وأن الأخير «بحال الصحة والسلامة وقد اكتسب ولله الحمد والمنة بسفره هذا الصحة التامة وحصل الاجتماع به والأنس والسرور ووجدناه على جانب عظيم من وفور العقل ولطف السجايا وكرم الأخلاق ولا يستكثر ذلك ممن هو فرع من دوحة المجد، ولله در من قال فأجاد في المقال: ومن تلاق منهم تقول سيدهم / مثل النجوم التي يسري بها الساري».
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين