في مثل هذا اليوم من عام 1882، توفي الجنرال الإيطالي جوزيبّي ماريّا غاريبالدي، عن عمر يناهز 75 عاما، قضاها سعيا لبلوغ المجد الشخصي والوطني.
وإن كانت إيطاليا لا تخلو من مدينة أو بلدة إلا وكرّمت أرقى ساحاتها وأبهى شوارعها باسمه وتمثال له، فذلك لأنه صاحب الفضل الأكبر في توحيد شبه الجزيرة الإيطاليّة تحت راية واحدة، وتكوين هويّتها القومية، وإلحاقها ركب الأمم العظمى التي تبنّت مفهوم الحداثة المدنية.
غاريبالدي أحد نجوم عصر اليقظة، الذي حان بعد قرونٍ من تسلُّط الكنيسة على خيرات البلاد. لا تخفي ملامحُ وجهه الكاريزميّة شدة بأسه، ورباطة جأشه، وقوة عزيمته وإصراره. قاد جيشا مكونا من ألف متطوع فقط، فاستطاع أن يحرر به كامل التراب الإيطالي تقريبا، ويُخضِعه لحكم الملك فيتوريو إمانويلي عام 1861.
قبطان لا يشق له غبار، تشهد البحار على مغامراته المهولة، من إسطنبول شرقا وحتى ريو دي جانيرو ما وراء المحيط غربا. لكن ذلك لم يمنعه من دخول عالم الثقافة أيضا: كتب مقالات سياسية، وارتاد الصالونات الفنية، ودوّن المذكرات، وصادق الشعراء، ورافقه الأدباء – ألكسندر دوما – ولم يُشف غليله إلا بتأليف الروايات دفعة واحدة. فهل كان أهلا لهذه التجربة؟
لن نضيّع وقتنا بالوقوف عند جميع أعماله الأدبية، لأن أهم رواية كتبها مُنيت بالفشل، فما بالكم بالأخريات! لكننا سنتناول هذه الرواية تحديدا لنضيء حولها.
«حكومة القساوسة»، رواية موجهة ضد الإكليروس، تفضح ممارسات المؤسسة الدينية، وفسادها واستبدادها وانحلالها، إذ تعتمد البورنوقراطية وسيلة لتجنيد الغاويات في المكائد السياسية، ما يسمح لهنّ بتسلق السلطة واستخدام النفوذ لغايات لا تصب في مصلحة الشعب المقهور.
كليليا إذن، بطلة الرواية، فتاة من روما، ورمز للشعب مهضوم الحقوق، تقع ضحيّة لابتزاز الكاردينال المفسد بروكوبيو. ينقذها شاب من براثن ذلك الشرير، ويلتقيا بجوليا الفتاة البريطانيّة، التي جاءت إلى روما لدراسة الفنون، وخطيبها الشاب الوطني. ثمّ يلوذ الأربعة بالفرار إلى جزيرة نائية، يعيش فيها الشيخ الزاهد، عاشق الوطن، فيقنعهم الأخير بالعودة للنضال من أجل كرامة الوطن وعزته. وبالفعل يسقط البطلان فداء لتلك القضية السامية، فيما تهرب الفتاتان إلى بريطانيا، وهما فخورتان بشهادة حبيبيهما، وتُقسِمان على عدم العودة إلى روما الأبية ما لم تتحرر من بطش حكومة القساوسة.
كما ترون، يكشف ملخص الرواية سذاجة الفكرة، ورخاوة بنيانها، وبساطة طرحها. لم يُتعب غاريبالدي نفسه في اختيار اسم رامز للبطلة، فمنحها اسم ابنته الأولى، لإدراج سيرته الذاتية في تاريخ هذا الشعب المظلوم. كما لم ير أي داع لتلغيز السياسة أدبيا، فجوليا البريطانية هي إشارة واضحة للنموذج الملكي الدستوري البريطاني، الذي سعى الوطنيون الطليان إلى تقليده، متجاوزين النموذج الفرنسي الذي تعرض لانكسارات كبرى، ناهيك بأن باريس كانت حليفا لروما البابوية. أما ذلك الشيخ الوطني المنعزل، فهو غاريبالدي نفسه الذي عاش آخر حياته في جزيرة كابريرا الصغيرة، هناك حيث التفت إلى كتابة الروايات والمذكرات، والمناداة بالرفق بالحيوان، ومساندة المستضعفين التوّاقين إلى الحرية أينما كانوا، وتذوق التبغ.
اللافت في الأمر هو سبب الكتابة وتوقيتها، كان غاريبالدي يمرّ بظروف اقتصادية حرجة، كان في حاجة إلى المال، فارتأى أن يؤلف كتابا لعله يدر أرباحا طائلة. تصوروا أن صاحب البطولات الأسطورية يميل إلى استخدام شهرته العالمية في ترويج عمل أدبي من بنات أفكاره. لا لأنه أراد استباق الآخرين في تأريخ اللحظة العظمى، بقدر ما أراد إعمال شغفه الأدبيّ في كسب النقود للضرورة. أما التوقيت فكان خلال العامين 1866 و1867، أي بعد الوحدة الإيطاليّة (اللحظة العظمى) بسنوات قليلة. أرسل المخطوط لصديقته المثقّفة الألمانيّة البريطانيّة، ماري إسبرانس فون شفارتس، طالبا نصيحتها، إذ تؤكّد كتب التاريخ أنّه أحبّها وعرض عليها الزواج فرفضت. لم تبعث الصديقةُ رسالة تنصح فيها غاريبالدي بعدم التهوّر في نشر رواية هزيلة كهذه، بل قطعت آلاف الأميال كي تبلّغه رأيها السلبيّ شخصيًّا، وتقنعه بتجنّب هذه السكّة، وتُطلِعه على جديد ما وصلت إليه في الدفاع عن حقوق الحيوان. يعترف الجنرال بأنّه لا يرى في نفسه أديبا عظيما، ويقرّر تأجيل المسألة الأدبيّة رغم إلحاح الحاجة الماديّة، ويعتنق الغذاء النباتيّ. ثمّ يرسل الرواية إلى دار النشر بعد سنتين، لتصدر عام 1870!
تكفّل اسم الرجل بانتشار الرواية، ما يكفي لسدّ احتياجاته الماليّة، لكنّه لم يحفظه من النقد اللاذع الذي انتهجته الصحف الأدبيّة والثقافيّة بحقّ العمل. جاءته الانتقادات حتّى من بريطانيا، إذ استاءت بعض الأوساط من الاحتفاء الشعبيّ والإعلاميّ بزيارة الجنرال إلى لندن، ورأت في الرواية مزيجا من بلاهة مفرطة وحماسة استعراضيّة، يجعل من غاريبالدي بطل روايةٍ بجدارة، لا كاتبا لها.
وبالفعل، ما مرّ عامٌ ولم يصدر كتابٌ واحدٌ على الأقلّ، يسرد بطولات الجنرال، وإيمانه العميق بقضيّته، وانغماسه الخارج عن المألوف في دهاليز السياسة وميادين القتال على حدٍّ سواء. حتّى إنّ اندفاعه لم يعبأ بتلك الانتقادات، فألّف بعد تلك الرواية ثلاثا، مبرِّئا ذمّته بما أورده في مقدّمة طبعتها الأولى: «من الجانب التاريخيّ، أعتقد أنّي كنتُ أمينا في كشف تجاوزات القساوسة. أمّا من الجانب الرومنسيّ، آمل ألّا أسبّب إزعاجا لهذا الجمهور الذي عاصر روائيّين عظماء، مثل غويراتسي، مانتسوني، وفيكتور هوغو!».
وإن كانت إيطاليا لا تخلو من مدينة أو بلدة إلا وكرّمت أرقى ساحاتها وأبهى شوارعها باسمه وتمثال له، فذلك لأنه صاحب الفضل الأكبر في توحيد شبه الجزيرة الإيطاليّة تحت راية واحدة، وتكوين هويّتها القومية، وإلحاقها ركب الأمم العظمى التي تبنّت مفهوم الحداثة المدنية.
غاريبالدي أحد نجوم عصر اليقظة، الذي حان بعد قرونٍ من تسلُّط الكنيسة على خيرات البلاد. لا تخفي ملامحُ وجهه الكاريزميّة شدة بأسه، ورباطة جأشه، وقوة عزيمته وإصراره. قاد جيشا مكونا من ألف متطوع فقط، فاستطاع أن يحرر به كامل التراب الإيطالي تقريبا، ويُخضِعه لحكم الملك فيتوريو إمانويلي عام 1861.
قبطان لا يشق له غبار، تشهد البحار على مغامراته المهولة، من إسطنبول شرقا وحتى ريو دي جانيرو ما وراء المحيط غربا. لكن ذلك لم يمنعه من دخول عالم الثقافة أيضا: كتب مقالات سياسية، وارتاد الصالونات الفنية، ودوّن المذكرات، وصادق الشعراء، ورافقه الأدباء – ألكسندر دوما – ولم يُشف غليله إلا بتأليف الروايات دفعة واحدة. فهل كان أهلا لهذه التجربة؟
لن نضيّع وقتنا بالوقوف عند جميع أعماله الأدبية، لأن أهم رواية كتبها مُنيت بالفشل، فما بالكم بالأخريات! لكننا سنتناول هذه الرواية تحديدا لنضيء حولها.
«حكومة القساوسة»، رواية موجهة ضد الإكليروس، تفضح ممارسات المؤسسة الدينية، وفسادها واستبدادها وانحلالها، إذ تعتمد البورنوقراطية وسيلة لتجنيد الغاويات في المكائد السياسية، ما يسمح لهنّ بتسلق السلطة واستخدام النفوذ لغايات لا تصب في مصلحة الشعب المقهور.
كليليا إذن، بطلة الرواية، فتاة من روما، ورمز للشعب مهضوم الحقوق، تقع ضحيّة لابتزاز الكاردينال المفسد بروكوبيو. ينقذها شاب من براثن ذلك الشرير، ويلتقيا بجوليا الفتاة البريطانيّة، التي جاءت إلى روما لدراسة الفنون، وخطيبها الشاب الوطني. ثمّ يلوذ الأربعة بالفرار إلى جزيرة نائية، يعيش فيها الشيخ الزاهد، عاشق الوطن، فيقنعهم الأخير بالعودة للنضال من أجل كرامة الوطن وعزته. وبالفعل يسقط البطلان فداء لتلك القضية السامية، فيما تهرب الفتاتان إلى بريطانيا، وهما فخورتان بشهادة حبيبيهما، وتُقسِمان على عدم العودة إلى روما الأبية ما لم تتحرر من بطش حكومة القساوسة.
كما ترون، يكشف ملخص الرواية سذاجة الفكرة، ورخاوة بنيانها، وبساطة طرحها. لم يُتعب غاريبالدي نفسه في اختيار اسم رامز للبطلة، فمنحها اسم ابنته الأولى، لإدراج سيرته الذاتية في تاريخ هذا الشعب المظلوم. كما لم ير أي داع لتلغيز السياسة أدبيا، فجوليا البريطانية هي إشارة واضحة للنموذج الملكي الدستوري البريطاني، الذي سعى الوطنيون الطليان إلى تقليده، متجاوزين النموذج الفرنسي الذي تعرض لانكسارات كبرى، ناهيك بأن باريس كانت حليفا لروما البابوية. أما ذلك الشيخ الوطني المنعزل، فهو غاريبالدي نفسه الذي عاش آخر حياته في جزيرة كابريرا الصغيرة، هناك حيث التفت إلى كتابة الروايات والمذكرات، والمناداة بالرفق بالحيوان، ومساندة المستضعفين التوّاقين إلى الحرية أينما كانوا، وتذوق التبغ.
اللافت في الأمر هو سبب الكتابة وتوقيتها، كان غاريبالدي يمرّ بظروف اقتصادية حرجة، كان في حاجة إلى المال، فارتأى أن يؤلف كتابا لعله يدر أرباحا طائلة. تصوروا أن صاحب البطولات الأسطورية يميل إلى استخدام شهرته العالمية في ترويج عمل أدبي من بنات أفكاره. لا لأنه أراد استباق الآخرين في تأريخ اللحظة العظمى، بقدر ما أراد إعمال شغفه الأدبيّ في كسب النقود للضرورة. أما التوقيت فكان خلال العامين 1866 و1867، أي بعد الوحدة الإيطاليّة (اللحظة العظمى) بسنوات قليلة. أرسل المخطوط لصديقته المثقّفة الألمانيّة البريطانيّة، ماري إسبرانس فون شفارتس، طالبا نصيحتها، إذ تؤكّد كتب التاريخ أنّه أحبّها وعرض عليها الزواج فرفضت. لم تبعث الصديقةُ رسالة تنصح فيها غاريبالدي بعدم التهوّر في نشر رواية هزيلة كهذه، بل قطعت آلاف الأميال كي تبلّغه رأيها السلبيّ شخصيًّا، وتقنعه بتجنّب هذه السكّة، وتُطلِعه على جديد ما وصلت إليه في الدفاع عن حقوق الحيوان. يعترف الجنرال بأنّه لا يرى في نفسه أديبا عظيما، ويقرّر تأجيل المسألة الأدبيّة رغم إلحاح الحاجة الماديّة، ويعتنق الغذاء النباتيّ. ثمّ يرسل الرواية إلى دار النشر بعد سنتين، لتصدر عام 1870!
تكفّل اسم الرجل بانتشار الرواية، ما يكفي لسدّ احتياجاته الماليّة، لكنّه لم يحفظه من النقد اللاذع الذي انتهجته الصحف الأدبيّة والثقافيّة بحقّ العمل. جاءته الانتقادات حتّى من بريطانيا، إذ استاءت بعض الأوساط من الاحتفاء الشعبيّ والإعلاميّ بزيارة الجنرال إلى لندن، ورأت في الرواية مزيجا من بلاهة مفرطة وحماسة استعراضيّة، يجعل من غاريبالدي بطل روايةٍ بجدارة، لا كاتبا لها.
وبالفعل، ما مرّ عامٌ ولم يصدر كتابٌ واحدٌ على الأقلّ، يسرد بطولات الجنرال، وإيمانه العميق بقضيّته، وانغماسه الخارج عن المألوف في دهاليز السياسة وميادين القتال على حدٍّ سواء. حتّى إنّ اندفاعه لم يعبأ بتلك الانتقادات، فألّف بعد تلك الرواية ثلاثا، مبرِّئا ذمّته بما أورده في مقدّمة طبعتها الأولى: «من الجانب التاريخيّ، أعتقد أنّي كنتُ أمينا في كشف تجاوزات القساوسة. أمّا من الجانب الرومنسيّ، آمل ألّا أسبّب إزعاجا لهذا الجمهور الذي عاصر روائيّين عظماء، مثل غويراتسي، مانتسوني، وفيكتور هوغو!».