تعيش المملكة العربية السعودية وشقيقاتها الخليجيات اليوم حقبة ترتيب أحوالها الاقتصادية بما يتلاءم مع انخفاض دخولها المتأتية أساسا من النفط. وبعبارة أخرى فإنها تسعى في ظل انخفاض أسعار البترول إلى تنويع اقتصادها وعدم الاعتماد كليا على مورد وحيد متمثل في النفط.
كان هذا ضمن ما طالب به مبكرا المرحوم يوسف أحمد الشيراوي وزير التنمية البحريني، وذلك حينما حذر في الكويت في يناير عام 2000 أمام الملتقى الثقافي الرابع الذي نظمه مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية بجامعة الكويت بالتعاون مع غرفة تجارة وصناعة الكويت، من شيء من هذا القبيل، فكان كمن يتنبأ بما ستحمله الأيام لوطنه الخليجي الكبير من تحديات. وقتها قال الشيراوي: «إن دول الخليج مطالبة باتباع مجموعة من السياسات الجديدة لمواجهة الألفية الثالثة وذلك بالمحافظة على ثرواتها الطبيعية وضمان مستقبل الأجيال المقبلة والتفكير في توفير احتياجات المنطقة من الغذاء والماء». وأضاف قائلا: «إن على دول الخليج أن تضع إستراتيجية للتكامل فيما بينها واضعة في الاعتبار ما سوف تكون عليه الأوضاع في عام 2010 أو 2015»، موضحا «أن الأرقام تشير إلى أن دول الخليج في هذه الفترة سوف تصدر نحو 20 مليون برميل من النفط يوميا مع ارتفاع كبير في عجوزات موازناتها العامة في الوقت الذي يتوقع أنْ يدخل فيه نحو مليون شخص سوق العمل بحثا عن فرص وظيفية جديدة».
مثل هذا القول كرره أيضا، قبل الشيراوي، رجل آخر من رجالات الخليج الموهوبين في عالم الاقتصاد هو المرحوم الدكتور «محسون بهجت جلال» الذي لــُقب بـ «زارع النفط» أو صاحب وصفة «زراعة النفط» لأنه أدرك مبكرا أن الاعتماد المفرط على النفط سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة، فقال ما مفاده أن النفط ثروة مستهلكة لكننا نستطيع زراعته مرة أخرى من خلال التنمية، ولاسيما التنمية الصناعية، التي كان هو أحد روادها البارزين في المملكة العربية السعودية، بل كان خياره الوطني وهمه اليومي. وبكلام آخر دعا الرجل ــ من خلال كتابه «زراعة النفط» الذي تزامن ظهوره مع الطفرة النفطية الأولى، والذي قدم له صديقه ورفيقه الدكتور غازي القصيبي ــ إلى الاستفادة بطريقة مثلى من مداخيل البترول الضخمة عبر تحويلها إلى مؤسسات تابعة للدولة بهدف استثمارها في خلق صناعات متنوعة وجديدة مدرة للدخل وخالقة لفرص العمل أمام الشباب. وخلال معظم سنوات حياته ظل مقتنعا بخيار التصنيع، متمسكا به كمبدأ للنهوض بالاقتصاد السعودي وتنويعه وتقليل اعتماده على البترول.
اعتبرته مجلة الاقتصاد الصادرة عن غرفة تجارة وصناعة المنطقة الشرقية (8/1/2018) حالة استثنائية؛ لأنه من النادر أن تجد شخصا مثله «يجمع بين القول والعمل، ويقرن أفكاره بحركته وممارسته وواقعه اليومي وسلوكه»، فقد «اهتم دائما بالوطن، شؤونه ومشكلاته وهمومه، تطلعاته وآماله وطموحه، وحاول ــ ما كلفه الله وما وسعته طاقته ــ أنْ يضع ما يؤمن به من أفكار وقيم ومبادئ في خدمة وطنه ومجتمعه وناسه وفي تطوير حياتهم وواقعهم».
تصليح الراديو
نعم، هكذا كان محسون جلال، الرجل الذي أبصر النور بمكة المكرمة في عام 1936 لأب كان يملك محلا لتصليح أجهزة الراديو والتسجيل (رغم قلة عددها في تلك الأيام) ويتفاخر بمهنته النادرة أمام مواطنيه المكيين. وبعد وفاة والده رباه زوج أمه المهندس عبدالسلام حداد الذي ظل محسون يخاطبه طيلة حياته بـ «والدي» من باب الاحترام والاعتراف بالجميل.
تلقى محسون جلال تعليمه الابتدائي بمدرسة الرحمانية (واحدة من مدارس مكة القديمة التي تأسست في عهد الأشراف وأطلق عليها الملك عبدالعزيز عندما زارها اسم الرحمانية تيمنا باسم والده الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود). وبالمثل تلقى تعليمه المتوسط والثانوي في مسقط رأسه؛ إذ كان واحدا من الطلبة المتفوقين في سائر سنواته الدراسية. وهذا التفوق كان وراء حصوله في سنة 1956على بعثة إلى مصر لدراسة الطب بجامعة القاهرة، لكنه بعد عام واحد غيـّر تخصصه، والتحق بكلية التجارة لدراسة الاقتصاد. وفي عام 1961 تخرج من جامعة القاهرة، حاصلا على درجة البكالوريوس في الاقتصاد بمرتبة الشرف، ومتفوقا بالمركز الأول على أكثر من 1000 طالب كانوا يدرسون معه.
خطوته التالية كانت العودة إلى بلاده لخدمتها، فعاد من مصر وتم تعيينه معيدا في كلية التجارة بجامعة الملك سعود. وبعد فترة من الزمن ابتعثته الجامعة إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا، فالتحق بجامعة روتجرز بولاية نيوجيرسي الأمريكية التي تخرج منها في عام 1967 حاملا درجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد، وهو ما أهله ليكون أستاذا لمادة الاقتصاد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود ما بين عامي 1967 ــ 1975، إذ تخرجت على يده أجيال من الطلاب الذين برزوا على الساحة الأكاديمية وفي قطاعي العمل الحكومي والخاص. هذا علما بأن الرجل، أثناء عمله الأكاديمي أسس أول مكتب للاستشارات الاقتصادية والتسويقية، وعمل مستشاراً غير متفرغ لدى مركز الأبحاث والتنمية الصناعية.
بين الأكاديمي والمسؤول
ولأنه كان متمسكا بشعار «إن أعلى الشهادات لا تصنع وحدها المعرفة ما لم تسندها الممارسة العملية» فقد غادر العمل الأكاديمي ليشغل مواقع وظيفية متنوعة، فمثلا شغل في عام 1975 منصب نائب رئيس ومدير عام الصندوق السعودي للتنمية، وفيما بين عامي 1978 ــ 1981 مثـّل بلاده في صندوق النقد الدولي. وأختير أيضا عضواً باللجنة الفنية بالهيئة العليا للنفط، وترأس مجلس إدارة مؤسسة الاستشارات السعودية لمدة 5 أعوام، وتمتع بعضوية مجلس إدارة البنك السعودي الدولي والشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك).
لم يكتف الرجل بالتنظير وإطلاق الدعوات والتصريحات لجهة ضرورة تنويع مصادر الدخل القومي في السعودية، وهو ما كان يردده منذ السبعينات، وإنما قام بالتطبيق العملي لما آمن به، وذلك في عام 1984 حينما قام بتأسيس شركة التصنيع الوطنية، وتولى رئاسة مجلس إدارتها وشغل موقع العضو المنتدب حتى 1993، وحينما تولى رئاسة شركات صناعية وعقارية وخدمية عديدة أخرى، كان فيها مثالا ونموذجا للرئيس المؤمن بالعمل الجماعي والمرتبط مع مرؤوسيه بعلاقات ود واحترام.
لقد كانت فكرة تأسيس شركة التصنيع الوطنية فكرة تحيط بها الصعوبات وتشكل تحديا كبيرا في ظل السوق المفتوحة للاستيراد من كل العالم دون قيود، لكن محسون جلال قبل التحدي، وفي الوقت نفسه لم يصدر عنه ما يشير إلى فقدان إيمانه باقتصاد السوق الحر. فقد ظل، في كل كتاباته وأحاديثه ومؤلفاته، يدافع عن القطاع الخاص. وكان محسون جلال مؤمنا بالتخطيط الاقتصادي المؤدي إلى تنويع مصادر الدخل ورفع مستوى معيشة المواطن كخيار للنهوض بالاقتصاد السعودي، وكان رافعا لشعار «خيار التصنيع» على اعتبار أنه الخيار الأفضل للسعودية من أجل بناء قاعدة اقتصادية وإنتاجية متنوعة، لكنه لم يكن يعني بالتخطيط الاقتصادي ذلك التخطيط الاشتراكي الذي تتحكم من خلاله الدولة بمفاصل الاقتصاد، وتلغي دور المبادرة الفردية، وإنما التخطيط الذي «يحفز الوحدات والقطاعات الاقتصادية المختلفة، للوصول إلى أقصى ما يمكنُ تحقيقُه في ظل نظام اقتصادي حر يستجيبُ لقوى السوق ومؤشراته».
ناقد للسوق
على أن الرجل، رغم ما سبق ذكره، لم يتردد في مناسبات كثيرة من توجيه النقد للقطاع الخاص واقتصاد السوق والإشارة إلى جوانب القصور فيهما. فمن الأمثلة التي أوردتها مجلة الاقتصاد (مصدر سابق) في هذا السياق قيامه، حينما كان رئيساً لمجلس إدارة البنك السعودي التجاري المتحد بتوجيه النقد لبعض البنوك بسبب تباطؤها في توظيف السعوديين آنذاك قائلاً: «لست راضياً.. وقد ذكرتُ في أكثر من مناسبة عن السعودة في بعض البنوك، أنهم إما يُبْعِدوا السعوديين عن النشاطات المهمة، أو أنهم يضعونهم في مراكز شكلية ولا يوفرون لهم التدريب اللازم». ومن هذا المثال نستنبط أن محسون جلال اهتم مبكرا بالقضايا التي تؤرق مجتمعه وبقية المجتمعات الخليجية اليوم، وعلى رأسها البطالة وتوطين الوظائف. ففي دراسة أجراها عام 1970 حول العامل السعودي في المصنع وما يقال عن انخفاض إنتاجيته «ربط إنتاجيةَ العامل الصناعي بالأجر الذي يحصل عليه وببيئة العمل» موضحا: «أن المشكلة في رأيي هي المصنعُ نفسُه، فالأجور منخفضة، وظروف العمل ليست ملائمة في عدد كبير من المصانع، ولا يشعر العامل بعلاقة قوية مرتبطة بالمصنع».
أحد الذين عاصروه وتلقوا العلم على يده منذ عام 1962 حينما كان معيدا بالجامعة، وهو الدكتور أسامة عبدالرحمن، قال في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط (26/7/2002): إنه لمس في الرجل «الصدق، والصراحة، والموضوعية، والعفوية، وحسن السجية، وحسن السريرة، وطهارة النفس» وتمنى على كل الذين درسهم ألا ينسوا فضله وألا ينكروا جميله «فقد كان مخلصا في عمله، مخلصا في أداء رسالته على أكمل وجه». وأشار الدكتور عبدالرحمن إلى أن الدكتور محسون كان محبا للتنقل من عمل إلى آخر من باب الرغبة في خوض تحديات متنوعة، مضيفا أنه «اعتمد اللامركزية من خلال تفويض زملاء العمل بأداء مسؤوليات وإعطائهم فرصة المشاركة في صنع القرار، وهو ما أسيء فهمه من قبل البعض، الذين اعتبروا هذا الأسلوب تفريطا بينما يعد في الحقيقة تعزيزا لمشاركتهم في صنع القرار في المؤسسة أو الشركة»
محرض على التفكير
أما الدكتور عثمان الرواف، وهو أيضا أحد الذين درسهم محسون جلال في جامعة الملك سعود فقد تحدث في مقال له بجريدة الشرق الأوسط (9/12/2002) عن أسلوب الرجل في التدريس فقال ما مفاده أنه حينما دخل عليهم الصف لأول مرة بادرهم بالسؤال عن «الاقتصاد» بدلا من أن يشرح لهم كما جرت العادة لأنه «كان دائما يسعى لكي يدفعنا نحو التفكير. كان يتهمنا بصراحة بالاعتماد على أسلوب التلقين والحفظ وعدم الاهتمام بالفهم والتفكير. بعض الطلاب كانوا يجدون صعوبة في التكيف مع أسلوب الدكتور محسون في التدريس، ويعتقدون بأنه أسلوب غير جيد، ولكنهم تعلموا منه في نهاية الأمر أفضل ما يمكن أن يتعلموه في حياتهم الدراسية».
آخرون تحدثوا عن جوانب جميلة أخرى في شخصيته الفريدة مثل الصراحة والابتعاد عن الدبلوماسية والمجاملة، والحضور الآسر، وسرعة البديهة، والجرأة في طرح الأفكار، والنقد الساخر، إذ لمسوا كل أو بعض هذه الصفات والمواقف من خلال الاحتكاك به، أو قراءة كتبه ومقالاته الصحفية، أو الاستماع إليه في محاضراته وبرامجه الإذاعية. فقد دأب خلال مشوار حياته على تسهيل المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية للناس غير المختصين من خلال مقالات كان يكتبها في الصحافة المحلية تحت عنوان «من غير مجاملة» أو برامج في الإذاعة السعودية، أو من خلال إصداراته المتنوعة وعلى رأسها كتابه «مبادئ الاقتصاد» المكون من ثلاثة أجزاء.
الاقتصادي الأول
وهكذا لم يكن غريبا على شخصية كهذه أن تحظى بمحبة الناس وتقديرهم، وأن تـُطلق عليها ألقابا كثيرة مثل: «الاقتصادي الأول» و«أستاذ جيل الاقتصاديين السعوديين»، و«رائد الفكر التصنيعي»، و«عراب الصناعة السعودية»، و«شيخ الاقتصاديين السعوديين»، وغيرها. وفي هذا السياق، كتب عنه رفيق دربه الراحل الكبير الدكتور غازي القصيبي رحمه الله قائلا: «كان محسون جلال أول اقتصادي سعودي تبنى خيار التصنيع، وأول اقتصادي شرح أولويات التنمية». غير أن محسون جلال لم تكن تشغله الألقاب بقدر ما كان يشغله العمل من أجل خير وطنه وشعبه، فاختار لنفسه لقب «بزنوقراطي» الذي يحمل في طياته صفة الموظف وصفة العامل في قطاع البزنس، خصوصا بعدما كان قد خلع الروب الجامعي ولبس عباءة رجل الأعمال.
رثاء القصيبي
ظل محسون جلال نجما في وسائل الإعلام من خلال حواراته ومساجلاته وآرائه في التنمية والتصنيع طيلة عقدي السبعينات والثمانينات، لكنه اختار أن يتوارى عن الأنظار والأضواء الإعلامية بعد إجرائه لعملية في القلب في عام 1999، علما بأن متاعبه الصحية بدأت في العام 1983. وفي يوم 24 يوليو 2002 غيبه الموت عن عمر ناهز 66 عاما على إثر نوبة قلبية مفاجئة في العاصمة التونسية، التي كان قد اختارها مكانا للعيش وللإشراف على أعمال الشركة السعودية التونسية للاستثمارات التي أسسها وترأس مجلس إدارتها. وقد رثاه الدكتور غازي القصيبي بمرثية طويلة عنوانها «محسون» أدرجها لاحقا ضمن ديوانه «حديقة الغروب» الصادر عن مكتبة العبيكان في الرياض سنة 2007 والذي احتوى على 11 قصيدة عن راحلين أعزاء على قلب الشاعر.
رحيل مر
وأخيرا، فإن وفاة محسون فتحت في السعودية باب المطالبة بتكريم النماذج الوطنية قبل رحيلها، خصوصا أن الرجل حصل في حياته على أوسمة تكريم من بلدان مثل تونس وإندونيسيا ومالي وتايوان وغيرها، ولم يحصل على مثلها من بلده؛ فمثلا كتب عادل المكينزي في صحيفة الاقتصادية (21/11/2008) قائلا: «إن الجميع مدعو لأداء بلمسة وفاء لهذا الرجل وإذا كنا قد فاتتنا فرصة تكريم رجل بهذه القيمة وهو على قيد الحياة فلا ينبغي أن نستمرئ التقصير ونهمله بعد وفاته. لقد كُرم محسون جلال ونال الأوسمة في عديد من الدول، ومع كل التقدير لهذه البلدان فنحن أولى بتكريم محسون منهم. نتذكر محسون جلال فنتذكر الصبر والمثابرة، فكم كان محسون مليئا بروح التحدي والإصرار، وكم كان شديد العريكة لا تلين عزيمته ولا يستسلم لدعوات التيئيس والإحباط».
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
كان هذا ضمن ما طالب به مبكرا المرحوم يوسف أحمد الشيراوي وزير التنمية البحريني، وذلك حينما حذر في الكويت في يناير عام 2000 أمام الملتقى الثقافي الرابع الذي نظمه مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية بجامعة الكويت بالتعاون مع غرفة تجارة وصناعة الكويت، من شيء من هذا القبيل، فكان كمن يتنبأ بما ستحمله الأيام لوطنه الخليجي الكبير من تحديات. وقتها قال الشيراوي: «إن دول الخليج مطالبة باتباع مجموعة من السياسات الجديدة لمواجهة الألفية الثالثة وذلك بالمحافظة على ثرواتها الطبيعية وضمان مستقبل الأجيال المقبلة والتفكير في توفير احتياجات المنطقة من الغذاء والماء». وأضاف قائلا: «إن على دول الخليج أن تضع إستراتيجية للتكامل فيما بينها واضعة في الاعتبار ما سوف تكون عليه الأوضاع في عام 2010 أو 2015»، موضحا «أن الأرقام تشير إلى أن دول الخليج في هذه الفترة سوف تصدر نحو 20 مليون برميل من النفط يوميا مع ارتفاع كبير في عجوزات موازناتها العامة في الوقت الذي يتوقع أنْ يدخل فيه نحو مليون شخص سوق العمل بحثا عن فرص وظيفية جديدة».
مثل هذا القول كرره أيضا، قبل الشيراوي، رجل آخر من رجالات الخليج الموهوبين في عالم الاقتصاد هو المرحوم الدكتور «محسون بهجت جلال» الذي لــُقب بـ «زارع النفط» أو صاحب وصفة «زراعة النفط» لأنه أدرك مبكرا أن الاعتماد المفرط على النفط سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة، فقال ما مفاده أن النفط ثروة مستهلكة لكننا نستطيع زراعته مرة أخرى من خلال التنمية، ولاسيما التنمية الصناعية، التي كان هو أحد روادها البارزين في المملكة العربية السعودية، بل كان خياره الوطني وهمه اليومي. وبكلام آخر دعا الرجل ــ من خلال كتابه «زراعة النفط» الذي تزامن ظهوره مع الطفرة النفطية الأولى، والذي قدم له صديقه ورفيقه الدكتور غازي القصيبي ــ إلى الاستفادة بطريقة مثلى من مداخيل البترول الضخمة عبر تحويلها إلى مؤسسات تابعة للدولة بهدف استثمارها في خلق صناعات متنوعة وجديدة مدرة للدخل وخالقة لفرص العمل أمام الشباب. وخلال معظم سنوات حياته ظل مقتنعا بخيار التصنيع، متمسكا به كمبدأ للنهوض بالاقتصاد السعودي وتنويعه وتقليل اعتماده على البترول.
اعتبرته مجلة الاقتصاد الصادرة عن غرفة تجارة وصناعة المنطقة الشرقية (8/1/2018) حالة استثنائية؛ لأنه من النادر أن تجد شخصا مثله «يجمع بين القول والعمل، ويقرن أفكاره بحركته وممارسته وواقعه اليومي وسلوكه»، فقد «اهتم دائما بالوطن، شؤونه ومشكلاته وهمومه، تطلعاته وآماله وطموحه، وحاول ــ ما كلفه الله وما وسعته طاقته ــ أنْ يضع ما يؤمن به من أفكار وقيم ومبادئ في خدمة وطنه ومجتمعه وناسه وفي تطوير حياتهم وواقعهم».
تصليح الراديو
نعم، هكذا كان محسون جلال، الرجل الذي أبصر النور بمكة المكرمة في عام 1936 لأب كان يملك محلا لتصليح أجهزة الراديو والتسجيل (رغم قلة عددها في تلك الأيام) ويتفاخر بمهنته النادرة أمام مواطنيه المكيين. وبعد وفاة والده رباه زوج أمه المهندس عبدالسلام حداد الذي ظل محسون يخاطبه طيلة حياته بـ «والدي» من باب الاحترام والاعتراف بالجميل.
تلقى محسون جلال تعليمه الابتدائي بمدرسة الرحمانية (واحدة من مدارس مكة القديمة التي تأسست في عهد الأشراف وأطلق عليها الملك عبدالعزيز عندما زارها اسم الرحمانية تيمنا باسم والده الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود). وبالمثل تلقى تعليمه المتوسط والثانوي في مسقط رأسه؛ إذ كان واحدا من الطلبة المتفوقين في سائر سنواته الدراسية. وهذا التفوق كان وراء حصوله في سنة 1956على بعثة إلى مصر لدراسة الطب بجامعة القاهرة، لكنه بعد عام واحد غيـّر تخصصه، والتحق بكلية التجارة لدراسة الاقتصاد. وفي عام 1961 تخرج من جامعة القاهرة، حاصلا على درجة البكالوريوس في الاقتصاد بمرتبة الشرف، ومتفوقا بالمركز الأول على أكثر من 1000 طالب كانوا يدرسون معه.
خطوته التالية كانت العودة إلى بلاده لخدمتها، فعاد من مصر وتم تعيينه معيدا في كلية التجارة بجامعة الملك سعود. وبعد فترة من الزمن ابتعثته الجامعة إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا، فالتحق بجامعة روتجرز بولاية نيوجيرسي الأمريكية التي تخرج منها في عام 1967 حاملا درجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد، وهو ما أهله ليكون أستاذا لمادة الاقتصاد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود ما بين عامي 1967 ــ 1975، إذ تخرجت على يده أجيال من الطلاب الذين برزوا على الساحة الأكاديمية وفي قطاعي العمل الحكومي والخاص. هذا علما بأن الرجل، أثناء عمله الأكاديمي أسس أول مكتب للاستشارات الاقتصادية والتسويقية، وعمل مستشاراً غير متفرغ لدى مركز الأبحاث والتنمية الصناعية.
بين الأكاديمي والمسؤول
ولأنه كان متمسكا بشعار «إن أعلى الشهادات لا تصنع وحدها المعرفة ما لم تسندها الممارسة العملية» فقد غادر العمل الأكاديمي ليشغل مواقع وظيفية متنوعة، فمثلا شغل في عام 1975 منصب نائب رئيس ومدير عام الصندوق السعودي للتنمية، وفيما بين عامي 1978 ــ 1981 مثـّل بلاده في صندوق النقد الدولي. وأختير أيضا عضواً باللجنة الفنية بالهيئة العليا للنفط، وترأس مجلس إدارة مؤسسة الاستشارات السعودية لمدة 5 أعوام، وتمتع بعضوية مجلس إدارة البنك السعودي الدولي والشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك).
لم يكتف الرجل بالتنظير وإطلاق الدعوات والتصريحات لجهة ضرورة تنويع مصادر الدخل القومي في السعودية، وهو ما كان يردده منذ السبعينات، وإنما قام بالتطبيق العملي لما آمن به، وذلك في عام 1984 حينما قام بتأسيس شركة التصنيع الوطنية، وتولى رئاسة مجلس إدارتها وشغل موقع العضو المنتدب حتى 1993، وحينما تولى رئاسة شركات صناعية وعقارية وخدمية عديدة أخرى، كان فيها مثالا ونموذجا للرئيس المؤمن بالعمل الجماعي والمرتبط مع مرؤوسيه بعلاقات ود واحترام.
لقد كانت فكرة تأسيس شركة التصنيع الوطنية فكرة تحيط بها الصعوبات وتشكل تحديا كبيرا في ظل السوق المفتوحة للاستيراد من كل العالم دون قيود، لكن محسون جلال قبل التحدي، وفي الوقت نفسه لم يصدر عنه ما يشير إلى فقدان إيمانه باقتصاد السوق الحر. فقد ظل، في كل كتاباته وأحاديثه ومؤلفاته، يدافع عن القطاع الخاص. وكان محسون جلال مؤمنا بالتخطيط الاقتصادي المؤدي إلى تنويع مصادر الدخل ورفع مستوى معيشة المواطن كخيار للنهوض بالاقتصاد السعودي، وكان رافعا لشعار «خيار التصنيع» على اعتبار أنه الخيار الأفضل للسعودية من أجل بناء قاعدة اقتصادية وإنتاجية متنوعة، لكنه لم يكن يعني بالتخطيط الاقتصادي ذلك التخطيط الاشتراكي الذي تتحكم من خلاله الدولة بمفاصل الاقتصاد، وتلغي دور المبادرة الفردية، وإنما التخطيط الذي «يحفز الوحدات والقطاعات الاقتصادية المختلفة، للوصول إلى أقصى ما يمكنُ تحقيقُه في ظل نظام اقتصادي حر يستجيبُ لقوى السوق ومؤشراته».
ناقد للسوق
على أن الرجل، رغم ما سبق ذكره، لم يتردد في مناسبات كثيرة من توجيه النقد للقطاع الخاص واقتصاد السوق والإشارة إلى جوانب القصور فيهما. فمن الأمثلة التي أوردتها مجلة الاقتصاد (مصدر سابق) في هذا السياق قيامه، حينما كان رئيساً لمجلس إدارة البنك السعودي التجاري المتحد بتوجيه النقد لبعض البنوك بسبب تباطؤها في توظيف السعوديين آنذاك قائلاً: «لست راضياً.. وقد ذكرتُ في أكثر من مناسبة عن السعودة في بعض البنوك، أنهم إما يُبْعِدوا السعوديين عن النشاطات المهمة، أو أنهم يضعونهم في مراكز شكلية ولا يوفرون لهم التدريب اللازم». ومن هذا المثال نستنبط أن محسون جلال اهتم مبكرا بالقضايا التي تؤرق مجتمعه وبقية المجتمعات الخليجية اليوم، وعلى رأسها البطالة وتوطين الوظائف. ففي دراسة أجراها عام 1970 حول العامل السعودي في المصنع وما يقال عن انخفاض إنتاجيته «ربط إنتاجيةَ العامل الصناعي بالأجر الذي يحصل عليه وببيئة العمل» موضحا: «أن المشكلة في رأيي هي المصنعُ نفسُه، فالأجور منخفضة، وظروف العمل ليست ملائمة في عدد كبير من المصانع، ولا يشعر العامل بعلاقة قوية مرتبطة بالمصنع».
أحد الذين عاصروه وتلقوا العلم على يده منذ عام 1962 حينما كان معيدا بالجامعة، وهو الدكتور أسامة عبدالرحمن، قال في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط (26/7/2002): إنه لمس في الرجل «الصدق، والصراحة، والموضوعية، والعفوية، وحسن السجية، وحسن السريرة، وطهارة النفس» وتمنى على كل الذين درسهم ألا ينسوا فضله وألا ينكروا جميله «فقد كان مخلصا في عمله، مخلصا في أداء رسالته على أكمل وجه». وأشار الدكتور عبدالرحمن إلى أن الدكتور محسون كان محبا للتنقل من عمل إلى آخر من باب الرغبة في خوض تحديات متنوعة، مضيفا أنه «اعتمد اللامركزية من خلال تفويض زملاء العمل بأداء مسؤوليات وإعطائهم فرصة المشاركة في صنع القرار، وهو ما أسيء فهمه من قبل البعض، الذين اعتبروا هذا الأسلوب تفريطا بينما يعد في الحقيقة تعزيزا لمشاركتهم في صنع القرار في المؤسسة أو الشركة»
محرض على التفكير
أما الدكتور عثمان الرواف، وهو أيضا أحد الذين درسهم محسون جلال في جامعة الملك سعود فقد تحدث في مقال له بجريدة الشرق الأوسط (9/12/2002) عن أسلوب الرجل في التدريس فقال ما مفاده أنه حينما دخل عليهم الصف لأول مرة بادرهم بالسؤال عن «الاقتصاد» بدلا من أن يشرح لهم كما جرت العادة لأنه «كان دائما يسعى لكي يدفعنا نحو التفكير. كان يتهمنا بصراحة بالاعتماد على أسلوب التلقين والحفظ وعدم الاهتمام بالفهم والتفكير. بعض الطلاب كانوا يجدون صعوبة في التكيف مع أسلوب الدكتور محسون في التدريس، ويعتقدون بأنه أسلوب غير جيد، ولكنهم تعلموا منه في نهاية الأمر أفضل ما يمكن أن يتعلموه في حياتهم الدراسية».
آخرون تحدثوا عن جوانب جميلة أخرى في شخصيته الفريدة مثل الصراحة والابتعاد عن الدبلوماسية والمجاملة، والحضور الآسر، وسرعة البديهة، والجرأة في طرح الأفكار، والنقد الساخر، إذ لمسوا كل أو بعض هذه الصفات والمواقف من خلال الاحتكاك به، أو قراءة كتبه ومقالاته الصحفية، أو الاستماع إليه في محاضراته وبرامجه الإذاعية. فقد دأب خلال مشوار حياته على تسهيل المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية للناس غير المختصين من خلال مقالات كان يكتبها في الصحافة المحلية تحت عنوان «من غير مجاملة» أو برامج في الإذاعة السعودية، أو من خلال إصداراته المتنوعة وعلى رأسها كتابه «مبادئ الاقتصاد» المكون من ثلاثة أجزاء.
الاقتصادي الأول
وهكذا لم يكن غريبا على شخصية كهذه أن تحظى بمحبة الناس وتقديرهم، وأن تـُطلق عليها ألقابا كثيرة مثل: «الاقتصادي الأول» و«أستاذ جيل الاقتصاديين السعوديين»، و«رائد الفكر التصنيعي»، و«عراب الصناعة السعودية»، و«شيخ الاقتصاديين السعوديين»، وغيرها. وفي هذا السياق، كتب عنه رفيق دربه الراحل الكبير الدكتور غازي القصيبي رحمه الله قائلا: «كان محسون جلال أول اقتصادي سعودي تبنى خيار التصنيع، وأول اقتصادي شرح أولويات التنمية». غير أن محسون جلال لم تكن تشغله الألقاب بقدر ما كان يشغله العمل من أجل خير وطنه وشعبه، فاختار لنفسه لقب «بزنوقراطي» الذي يحمل في طياته صفة الموظف وصفة العامل في قطاع البزنس، خصوصا بعدما كان قد خلع الروب الجامعي ولبس عباءة رجل الأعمال.
رثاء القصيبي
ظل محسون جلال نجما في وسائل الإعلام من خلال حواراته ومساجلاته وآرائه في التنمية والتصنيع طيلة عقدي السبعينات والثمانينات، لكنه اختار أن يتوارى عن الأنظار والأضواء الإعلامية بعد إجرائه لعملية في القلب في عام 1999، علما بأن متاعبه الصحية بدأت في العام 1983. وفي يوم 24 يوليو 2002 غيبه الموت عن عمر ناهز 66 عاما على إثر نوبة قلبية مفاجئة في العاصمة التونسية، التي كان قد اختارها مكانا للعيش وللإشراف على أعمال الشركة السعودية التونسية للاستثمارات التي أسسها وترأس مجلس إدارتها. وقد رثاه الدكتور غازي القصيبي بمرثية طويلة عنوانها «محسون» أدرجها لاحقا ضمن ديوانه «حديقة الغروب» الصادر عن مكتبة العبيكان في الرياض سنة 2007 والذي احتوى على 11 قصيدة عن راحلين أعزاء على قلب الشاعر.
رحيل مر
وأخيرا، فإن وفاة محسون فتحت في السعودية باب المطالبة بتكريم النماذج الوطنية قبل رحيلها، خصوصا أن الرجل حصل في حياته على أوسمة تكريم من بلدان مثل تونس وإندونيسيا ومالي وتايوان وغيرها، ولم يحصل على مثلها من بلده؛ فمثلا كتب عادل المكينزي في صحيفة الاقتصادية (21/11/2008) قائلا: «إن الجميع مدعو لأداء بلمسة وفاء لهذا الرجل وإذا كنا قد فاتتنا فرصة تكريم رجل بهذه القيمة وهو على قيد الحياة فلا ينبغي أن نستمرئ التقصير ونهمله بعد وفاته. لقد كُرم محسون جلال ونال الأوسمة في عديد من الدول، ومع كل التقدير لهذه البلدان فنحن أولى بتكريم محسون منهم. نتذكر محسون جلال فنتذكر الصبر والمثابرة، فكم كان محسون مليئا بروح التحدي والإصرار، وكم كان شديد العريكة لا تلين عزيمته ولا يستسلم لدعوات التيئيس والإحباط».
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين