كثيرة هي الروابط ما بين الباحث الفرنسي تيري موجيه ( Thierry Mauger ) وما بين جزيرة العرب ومنطقة عسير على وجه التحديد، فهناك علاقة وصلة ما، كما يقول الأديب بندر خليل الذي وصف العلاقة بـ«الآسرة» والصلة بالملهمة التي غيرت مجرى حياته، ووثقت مرحلة وجانبا بارزا من التراث العمراني والفني في عسير. فهل كان موجيه متفرداً وعسير مجهولة ليجد فيها هذا الباحث الفرنسي ضالته وتجد فيه مكتشفها الجديد؟
موجيه الذي لعبت الصدفة دوراً كبيراً في حضوره الذي بدأ منذ تلك اللحظة التي شاهد فيها إعلاناً يقول «نبحث عن متخصص في الرادار للعمل في الشرق الأوسط» حيث تقدم للعمل ضمن منظومة الدفاع الجوي السعودية المسماة «الشاهين» كمدرب، وانتقل إلى الطائف لممارسة عمله عام 1979، حيث بدأ موجيه وزوجته الترحال في الصحاري السعودية مصوراً ودارساً لحياة البدو لمدة 10 أعوام، وقد أتاح له القدر زيارة عسير، التي أحبها، وكلفه هذا الحبّ التخلي عن حياته العملية في التكنولوجيا التي يعرفها طوال عمره، وحمله حلمه الجديد على العودة لمقاعد الدراسة، تمهيداً لتحضير الدكتوراه في فن العمارة والنقش في عسير.
تعمق موجيه في دراسة هذا الموضوع بشكل لم يسبقه إليه أحد، فقام بثلاث رحلات إلى عسير في الأعوام 1994، 1996، 1998، بعد العديد من التسهيلات التي قدمها له الأمير خالد الفيصل، الذي كان أميراً لمنطقة عسير حينها، وأشار إليها موجيه في مقدمة كتابه «جزيرة العرب حديقة الرسامين» بأن وضع سيارة تحت تصرفه كما سهل عليه بعض العقبات التي كانت تعترض طريقه في التصوير، وخلصت هذه الجولات والزيارات إلى صدور رسالته في كتاب حمل عنوان «الجزيرة العربية حديقة الرسامين.. الهندسة المعمارية والفن الجداري في عسير» الذي احتوى على دراسة جميلة عن العمارة والنقوش في عسير، وزيّن بصور احترافية للباحث نفسه، ولعلّ من أجمل ما ذكر في كتابه هذا، قوله «إذا كانت المتاحف تمثل منازل تحوي صوراً، إذاً فكل منازل عسير تعد متاحف»، وقوله «النساء في عسير يرسمن بالفطرة كما يغنّي العصفور بالفطرة».
يستعيد الباحث محمد غريب لـ «عكاظ» شيئاً من ذاكرته في حديث جميل وشيّق عن رحلات موجيه الاستكشافية للمنطقة ولرجال ألمع بالتحديد، فيذكر أنّ موجيه نزل ضيفاً عليه وسكن في الدور الأرضي مع زوجته الهندية الأصل وابنه، ومما يذكره غريب استياء موجيه من الاحتفاء به في المائدة وفق العادات والتقاليد العربية، بعد أن بسط له المائدة المتنوعة، التي قابلها باستياء كبير، إذ طلب منه عدم التكلّف وحثه على البساطة في المأكل والمشرب !
ويؤكد غريب على أنه رافق ضيفه في رحلات كثيرة، إذ كان هدفه يختلف عن هدف ضيفه، فقد كان موجيه يبحث عن النمط العمراني في المنطقة وطريقة البناء والفنّ، فيما كان غريب يبحث عن النباتات الغريبة والنادرة مستغلاً الإمكانات التي كانت لدى موجيه والمتمثلة في كاميرات التصوير ذات الجودة العالية في التصوير والتوثيق.
في الرحلة الثانية التي كانت إلى قرية «حسوة» في محافظة رجال ألمع يؤكد غريب عناية موجيه بأحجار «المرو» الأبيض الذي كانت تزين به البيوت القديمة كما حرص على زيارة مسجد قديم يعرف بمسجد «آل امرويعي» وقد كان مهجوراً.
أما الرحلة الثالثة فيؤكد غريب على أنه لم يكن لديه استعداد لها ولكن دخول موجيه إلى وادي «رحب» وصعوده إلى مكان يعرف بــ «فيّ امشبلة» الذي يمتاز بقصوره القديمة ذات البنيان الطويلة، ويضيف أنّ موجيه شاهد قصراً طويلاً ومهجوراً أصر على الطلوع، فاضطررت لصحبته مكرهاً، فالوقت صيف والحرارة شديدة وكان يحمل معه العديد من الكاميرات، كان يسبقني إلى القصور الطويلة والعجيبة التي تمتاز بكبر أحجارها، لم يكن يخشى البيوت المهجورة كما كنا نخشاها، فقد كانت لديه جرأة في البحث وقدرة على تحمل الصعوبات والعقبات.
أما جولاته في قرية «رجال» فقد مشيت معه في بعض البيوت التي يبحث عن النقوش فيها، حيث صور العديد منها، وبرغم السنين التي يحملها معه إلاّ أن صبره وجلده على البحث كان طاغياً، فقد كان ينطلق إلى بيوت لم أكن على معرفة بها أو دراية بما في داخلها من موجودات.
ويتعصّب الباحث غريب للنقش في قرية رجال أو «القطّ» كما تمّ الاصطلاح عليه في «اليونسكو» فيرى أنّه الأفضل بشهادة محمد عمر رفيع، الذي قال إن النقش في «رجال» أفضل مما في أبها وفي غير أبها، كما أشار إلى أنّ من أخذه من أبها أخذه عن أهالي رجال! ويؤكد غريب أنه أطلع موجيه على النسخة العربية من كتابه «جزيرة العرب حديقة الرسامين» الذي يتكون من مقدمة وسبعة أجزاء وملحق، ويبدأ بعرض تاريخي ولمحة عن الطبيعة الجغرافية للمملكة، ويدرس المكونات الأساسية للفن المعماري، ثم يتطرق إلى الرسوم الجدارية والتلوين والزخرفة، منتهياً إلى المقارنة بين الفن الكلاسيكي والفن الحديث، وتفاصيل دقيقة لعمارة دون معماريين، وجماليات ذات صلة وثيقة بالعادات والتقاليد والوظائف الاجتماعية، وأنه تفاجأ بهذه الترجمة، ونفى أن يكون له علم بها أو أخذ إذنه فيها !
لم يكن موجيه الذي رحل عن الحياة في 2017 الوحيد الذي وصل إلى هذه المنطقة من الرحالين والمستشرقين، لكنه كان عاشقاً مختلفاً امتازت تجربته بالثراء وأعماله الكتابيّة بالحسّ المرهف الذي جمع بين براعة الفنان وحصافة الباحث.
موجيه الذي لعبت الصدفة دوراً كبيراً في حضوره الذي بدأ منذ تلك اللحظة التي شاهد فيها إعلاناً يقول «نبحث عن متخصص في الرادار للعمل في الشرق الأوسط» حيث تقدم للعمل ضمن منظومة الدفاع الجوي السعودية المسماة «الشاهين» كمدرب، وانتقل إلى الطائف لممارسة عمله عام 1979، حيث بدأ موجيه وزوجته الترحال في الصحاري السعودية مصوراً ودارساً لحياة البدو لمدة 10 أعوام، وقد أتاح له القدر زيارة عسير، التي أحبها، وكلفه هذا الحبّ التخلي عن حياته العملية في التكنولوجيا التي يعرفها طوال عمره، وحمله حلمه الجديد على العودة لمقاعد الدراسة، تمهيداً لتحضير الدكتوراه في فن العمارة والنقش في عسير.
تعمق موجيه في دراسة هذا الموضوع بشكل لم يسبقه إليه أحد، فقام بثلاث رحلات إلى عسير في الأعوام 1994، 1996، 1998، بعد العديد من التسهيلات التي قدمها له الأمير خالد الفيصل، الذي كان أميراً لمنطقة عسير حينها، وأشار إليها موجيه في مقدمة كتابه «جزيرة العرب حديقة الرسامين» بأن وضع سيارة تحت تصرفه كما سهل عليه بعض العقبات التي كانت تعترض طريقه في التصوير، وخلصت هذه الجولات والزيارات إلى صدور رسالته في كتاب حمل عنوان «الجزيرة العربية حديقة الرسامين.. الهندسة المعمارية والفن الجداري في عسير» الذي احتوى على دراسة جميلة عن العمارة والنقوش في عسير، وزيّن بصور احترافية للباحث نفسه، ولعلّ من أجمل ما ذكر في كتابه هذا، قوله «إذا كانت المتاحف تمثل منازل تحوي صوراً، إذاً فكل منازل عسير تعد متاحف»، وقوله «النساء في عسير يرسمن بالفطرة كما يغنّي العصفور بالفطرة».
شهادة مرافق
الأديب والباحث في تاريخ منطقة عسير محمد غريب يعدّ واحداً من أبرز الأسماء في المنطقة الذين التقوا موجيه وارتحل معه في أكثر من مكان بحكم أنّ الباحث الفرنسي نزل ضيفاً عليه وأقام لديه عدة أشهر، كان همه الأول والأخير أن يكتشف «الفنّ» و«العمارة» وأن يتوّج رحلته تلك بكتاب أصبح فيما بعد حديث الأمكنة وتاريخها المكتوب.يستعيد الباحث محمد غريب لـ «عكاظ» شيئاً من ذاكرته في حديث جميل وشيّق عن رحلات موجيه الاستكشافية للمنطقة ولرجال ألمع بالتحديد، فيذكر أنّ موجيه نزل ضيفاً عليه وسكن في الدور الأرضي مع زوجته الهندية الأصل وابنه، ومما يذكره غريب استياء موجيه من الاحتفاء به في المائدة وفق العادات والتقاليد العربية، بعد أن بسط له المائدة المتنوعة، التي قابلها باستياء كبير، إذ طلب منه عدم التكلّف وحثه على البساطة في المأكل والمشرب !
ويؤكد غريب على أنه رافق ضيفه في رحلات كثيرة، إذ كان هدفه يختلف عن هدف ضيفه، فقد كان موجيه يبحث عن النمط العمراني في المنطقة وطريقة البناء والفنّ، فيما كان غريب يبحث عن النباتات الغريبة والنادرة مستغلاً الإمكانات التي كانت لدى موجيه والمتمثلة في كاميرات التصوير ذات الجودة العالية في التصوير والتوثيق.
رحلات بصحبة موجيه
يعصر غريب ذاكرته ليجمع ما بقي من سنوات مضت كان فيها رفيق رحلة الباحث الفرنسي تيري موجيه في محافظة رجال ألمع، فيذكر أنّ زيارته الأولى بدأت برحلة إلى قرية «رادة» التي شاهد فيها الباحث الفرنسي القصور القديمة المبنية بالأحجار، وكانت سبباً في تعلّقه بها، إذ كان الجوّ في ذلك اليوم غائماً وكان ينتظر شروق الشمس، لكن الغريب في تلك الرحلة كما يقول غريب أنّ غداءهم كان برتقالة شطرت على أربعة وقطعة كعك تقاسمها موجيه وابنه وزوجته ورفيق الرحلة الباحث محمد غريب. كان موجيه كما يذكر غريب لا يرمي شيئاً مما تقع عليه عيناه، بل كان يجمعه في كيس ويحتفظ به.في الرحلة الثانية التي كانت إلى قرية «حسوة» في محافظة رجال ألمع يؤكد غريب عناية موجيه بأحجار «المرو» الأبيض الذي كانت تزين به البيوت القديمة كما حرص على زيارة مسجد قديم يعرف بمسجد «آل امرويعي» وقد كان مهجوراً.
أما الرحلة الثالثة فيؤكد غريب على أنه لم يكن لديه استعداد لها ولكن دخول موجيه إلى وادي «رحب» وصعوده إلى مكان يعرف بــ «فيّ امشبلة» الذي يمتاز بقصوره القديمة ذات البنيان الطويلة، ويضيف أنّ موجيه شاهد قصراً طويلاً ومهجوراً أصر على الطلوع، فاضطررت لصحبته مكرهاً، فالوقت صيف والحرارة شديدة وكان يحمل معه العديد من الكاميرات، كان يسبقني إلى القصور الطويلة والعجيبة التي تمتاز بكبر أحجارها، لم يكن يخشى البيوت المهجورة كما كنا نخشاها، فقد كانت لديه جرأة في البحث وقدرة على تحمل الصعوبات والعقبات.
أما جولاته في قرية «رجال» فقد مشيت معه في بعض البيوت التي يبحث عن النقوش فيها، حيث صور العديد منها، وبرغم السنين التي يحملها معه إلاّ أن صبره وجلده على البحث كان طاغياً، فقد كان ينطلق إلى بيوت لم أكن على معرفة بها أو دراية بما في داخلها من موجودات.
هدايا موجيه
يحتفظ غريب في مكتبته التي يرتادها باحثون كثيرون ومهتمون من أبناء المنطقة ومن خارجها بصورتين لبيوت القرية التقطها موجيه في زيارته الأولى له حيث قدمها هدية لمضيفه ورفيق رحلاته الاستكشافية، ومن وفائه -كما يقول غريب- أنه كان يسأل عنه، وقد عاد إليه زائراً له في رحلته الثانية إلى المنطقة التي اصطحب فيها زوجة غير تلك التي كانت هي وابنها رفيقة رحلته الأولى.قصة اللبس التقليدي وصورة الكتاب
يستعيد غريب قصّة اللبس التقليدي الذي ظهر به في صورة له وضعها موجيه في إحدى صفحات كتابه «الجزيرة العربية حديقة الرسامين» إذ يقول: كان موجيه يصرّ على أن يبحث عن أشخاص يلبسون اللباس التقليدي للمنطقة، لم يكن لديه الوقت الكافي للانتظار والبحث عن أناس مازالوا يلبسون تلك الملابس التقليدية، لكنه أصرّ عليّ أن ألبسها، ليلتقط لي تلك الصورة التي قدمها لي هدية أخرى أثناء قدومه إلى المنطقة في رحلته الثانية.«موجيه» درس الفنّ وتفاجأ بترجمة كتابه
ويعيد الباحث محمد غريب الفضل لله ثم للباحث الفرنسي تيري موجيه في دراسة فنّ «القطّ» وأنه أول من اهتم بما يسميه أهل رجال ألمع «النقش» ويعده أول من كشف الغطاء عن هذا الفن، إذ لولا جهود موجيه لكانت النقوش والزخارف قد غابت فلم يكن أحد يعبأ بهذا الفنّ قبل موجيه !ويتعصّب الباحث غريب للنقش في قرية رجال أو «القطّ» كما تمّ الاصطلاح عليه في «اليونسكو» فيرى أنّه الأفضل بشهادة محمد عمر رفيع، الذي قال إن النقش في «رجال» أفضل مما في أبها وفي غير أبها، كما أشار إلى أنّ من أخذه من أبها أخذه عن أهالي رجال! ويؤكد غريب أنه أطلع موجيه على النسخة العربية من كتابه «جزيرة العرب حديقة الرسامين» الذي يتكون من مقدمة وسبعة أجزاء وملحق، ويبدأ بعرض تاريخي ولمحة عن الطبيعة الجغرافية للمملكة، ويدرس المكونات الأساسية للفن المعماري، ثم يتطرق إلى الرسوم الجدارية والتلوين والزخرفة، منتهياً إلى المقارنة بين الفن الكلاسيكي والفن الحديث، وتفاصيل دقيقة لعمارة دون معماريين، وجماليات ذات صلة وثيقة بالعادات والتقاليد والوظائف الاجتماعية، وأنه تفاجأ بهذه الترجمة، ونفى أن يكون له علم بها أو أخذ إذنه فيها !
لم يكن موجيه الذي رحل عن الحياة في 2017 الوحيد الذي وصل إلى هذه المنطقة من الرحالين والمستشرقين، لكنه كان عاشقاً مختلفاً امتازت تجربته بالثراء وأعماله الكتابيّة بالحسّ المرهف الذي جمع بين براعة الفنان وحصافة الباحث.