نحن هنا أمام رجل من الصعب الإلمام بشكل دقيق بكافة جوانب سيرته العطرة. والسبب لا يكمن في تشعب هذه السيرة فحسب، ولا في صعوبة اقتفائها بسبب قلة المراجع والمصادر فقط، وإنما أيضا بسبب الأدوار الكثيرة المهمة والمتنوعة التي قام بها في فترة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ تأسيس الدولة السعودية الثالثة. لقد كتب الكثيرون عن ابن معمر ومدى قربه من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود وثقته فيه والمهمات التي أوكلت إليه. كما كتب الكثيرون عن صولاته وجولاته داخل المملكة العربية السعودية وخارجها طالبا للعلم، وأديبا وشاعرا، وتاجرا، ومستشارا، وإعلاميا، ومحاربا، ومبعوثا، ومترجما، ودبلوماسيا، لكن تظل هناك جوانب من حياته لم تسلط عليها الأضواء بما يكفي، فلزمت العودة إليها لسبر أغوارها.
من يسمع باسم الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر، سينصرف تفكيره رأسا إلى المشاهير من رجالات الجزيرة العربية.. إلى أولئك الرواد الذين حفروا أسماءهم بقبس من نور في حقول السياسة والإدارة والدبلوماسية والاقتصاد والثقافة وغيرها، في وقت كانت التحديات جسيمة وتتطلب مهارات وعلوما وخبرات غير متوافرة، وإن توافرت فليس عند أبناء الوطن المخلصين. في هذا التوقيت الدقيق من تاريخ المملكة العربية السعودية يبزغ شمس ابن معمر الذي سيرافق الملك المؤسس في كل محطاته التاريخية، من البداية حتى النهاية، كواحد من أخلص موظفيه ومستشاريه وأكثرهم همة ونشاطا ونجابة ومعرفة بأحوال الجزيرة العربية. ولهذا لم يكن غريبا أن يقول عنه الإعلامي السعودي المعروف الدكتور عبدالرحمن الشبيلي ما مفاده أن تاريخ ابن معمر من تاريخ وطنه السعودي، كناية عن الأدوار الخطيرة التي قام بها في تاريخ المملكة العربية السعودية.
والحقيقة أن ما منح ابن معمر هذه الميزة هو عدم وجود من يجاريه في العلم والاطلاع والمعرفة في تلك الفترة المبكرة من تاريخ نجد التي لم تعرف التعليم إلا في أربعينات القرن العشرين. لقد قدر لابن معمر العيش خارج وطنه في سنوات صباه وشبابه، بل والتنقل من مكان إلى مكان، الأمر الذي ساهم في اختلاطه بشعوب وثقافات مختلفة، وبالتالي توسع مداركه واكتساب المهارات واللغات دراسة أو احتكاكا، تماما مثلما حدث مع قلة من مواطنيه من أمثال أحمد الثنيان وعبدالله السليمان ومحمد المانع.
في الكويت مولده
ولد إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن سيف المعمر بالكويت في حدود سنة 1878 لأسرة معروفة في تاريخ نجد، إذ توالى أجداده لقرون من الزمن على رئاسة إمارتي العيينة وسدوس المجاورتين للدرعية وهي العاصمة القديمة للدولة السعودية ومنبع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية في منتصف القرن السابع عشر، علما بأن الرجل كان يضيف إلى اسمه لقب النجدي في مراسلاته. أما سبب ميلاده في الكويت فلأن والده كان مقيما بها ويعمل فيها تاجرا، ولهذا كان تعليمه ونشأته الأولى في الكويت، ولهذا أيضا امتهن التجارة كوالده، فسافر من أجلها إلى بلاد الهند والسند وإمارات الخليج العربية، وتنقل بين بعض البلاد الآسيوية والأوروبية والأفريقية، الأمر الذي ساهم في انفتاحه وزيادة وعيه واطلاعه على أنماط الحياة خارج منطقة شبه الجزيرة العربية، ناهيك عن تمكنه من بعض اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والأوردية والفارسية. ولعل أبرز دليل على تشربه للأفكار والصيغ العصرية، وابتعاده عن الأفكار النمطية التقليدية أنه كتب في عام 1926 مقالين في جريدة «أم القرى» يصف فيهما رحلة الملك عبدالعزيز من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، نثرا وشعرا، مستخدما في الحالتين أسلوبا حديثا يخالف ما كان دارجا آنذاك من أساليب الكتابة الكلاسيكية.
5 مراحل مع المؤسس
ترك الرجل العمل في التجارة ليلتحق بخدمة الملك عبدالعزيز، الذي كان ابن معمر سبق أن رآه مع والده الإمام عبدالرحمن وقدم لهما الشاي في ديوانية أبيه وهو في سن العاشرة، لكن انضمامه للملك حدث في تاريخ غير مدون بدقة، لكن يمكن القول تجاوزا إنه كان في عام 1913 أو 1912، وذلك اعتمادا على ما ذكره «عبدالله فيلبي» من أنه في زيارته الأولى للجزيرة العربية عام 1917 التقى بابن معمر «الذي كان قد التحق بالعمل السياسي قبل سنوات».
يمكن تقسيم مسيرة ابن معمر المهنية مع الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه إلى 5 مراحل، ترك الرجل في كل مرحلة بصمته الخاصة، وهذه المراحل طبقا لما أورده الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط (18/12/2004) هي:
الدور الاستشاري
بدأ في عام 1913 أو 1912 كما أسلفنا، وفيها بدأ ابن معمر عمله في ديوان الملك ضمن طاقم المستشارين الأوائل إلى جانب شخصيات مثل أحمد الثنيان والدكتور عبدالله الدملوجي. وفي بعض الوثائق هناك إشارات إلى أنه كان سكرتيرا بالديوان مكلفا بملف الاستخبارات السياسية الخارجية. وبهذه الصفة الأخيرة أوفده الملك إلى الخارج مبعوثا له، فتنقل في عدد من الأقطار الأوروبية شارحا لحكوماتها طبيعة وأهداف ودواعي الحملات الحربية للملك المؤسس في الجزيرة العربية. غير أنه -طبقا للشبيلي- لا توجد وثائق تدل بدقة على الدول التي زارها أو الشخصيات التي التقاها.
الدور الإعلامي
وهي مرحلة بدأت من سنة 1925، وخلالها واصل الرجل عمله في الديوان الملكي لكن أنيطت به مهمة إعلامية، إذ سافر إلى القاهرة وأقام في «الحلمية» ثم في «الزيتون» عامي 1925 و1926 ليطلق من هناك حملة إعلامية لصالح المملكة، مفندا الكثير من الآراء والشائعات التي انتشرت بُعيد دخول الملك عبدالعزيز الحجاز في عام 1925، ومتصديا -عبر كتابة العديد من المقالات في الصحافة المصرية- للأبواق التي كانت تناصر خصوم الملك. وقد انتهز الرجل فرصة وجوده في مصر لتزويد الملك عبدالعزيز ووالده الإمام عبدالرحمن بالعديد من المطبوعات التي كانت تصدر في مصر آنذاك وتتناول ما يدور في العالم من متغيرات، استنادا إلى ما ورد في رسائله إليهما.
الدور السياسي
هي مرحلة بدأت بعودته إلى بلاده من القاهرة في سنة 1926، وانتهت بنقله للعمل في ديوان ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز سنة 1932. حيث اختاره الملك عبدالعزيز ليرأس ديوانه الملكي خلفا للشيخ «محمد الطيب الهزازي» الذي كان رئيسا لديوان ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وبهذه الصفة سجلت له الكثير من المواقف الإنسانية والاجتماعية النبيلة في خدمة الناس كما أورد الشبيلي، ومنها مساعدته للعلامة الشيخ حمد الجاسر في الحصول على بعثة دراسية إلى مصر. وخلال هذه المرحلة سافر مع نائب الملك في الحجاز الأمير (الملك لاحقا) فيصل بن عبدالعزيز إلى أوروبا في رحلته الثانية سنة 1926 ضمن الوفد المرافق الذي ضم أيضا الدكتور عبدالله الدملوجي (مدير دائرة الخارجية السعودية قبل إنشاء وزارة الخارجية)، والتاجر المعروف عبدالله الفضل، وقائد شرطة جدة آنذاك عبدالله الموصلي. كما قام بترؤس الوفد السعودي الذي التقى بناجي شوكت وزير الخارجية العراقي في الكويت من أجل الإعداد للقاء القمة بين الملك عبدالعزيز والعاهل العراقي الملك فيصل الأول بمشاركة المندوب السامي البريطاني على ظهر الطراد لوبين سنة 1930، وهو اللقاء الذي أسفر عن توقيع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين المملكتين السعودية والعراقية في أبريل سنة 1931.
وعلاوة على ما سبق شارك في معركة «السبلة» الشهيرة التي دارت رحاها في سنة 1927. وفي هذا السياق كتب الشيخ محمد المانع في كتابه «توحيد المملكة العربية السعودية» (ترجمة د. عبدالله العثيمين) أن ابن معمر كان على رأس مفرزة الرشاشات والمدافع التي حسمت المعركة لصالح الملك. وهناك مشاركة حربية أخرى لابن معمر في معركة «القرعة» التي كان مسرحها بلدة «الدببة» شمال شرق السعودية.
الدور الدبلوماسي
وهي مرحلة بدأت في يونيو سنة 1933 بتعيينه وزيرا مفوضا للسعودية لدى المملكة العراقية بعد وقت قصير من افتتاح المفوضية السعودية في بغداد التي كانت آنذاك واحدة من أهم العواصم العربية بالنسبة للمملكة العربية السعودية نظرا لوجود جالية كبيرة من المهاجرين السعوديين في العراق في تلك الفترة، ناهيك عن انتشار قبائل وعشائر عربية كثيرة على طول المناطق الحدودية بين البلدين. وخلال هذه المرحلة من مسيرته المهنية، أشرف ابن معمر على تطبيق اتفاقية الحدود الموقعة بين بلاده والعراق على ظهر الطراد «لوبين»، كما أشرف على تطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه من رعايا العراق، ناهيك عن إشرافه على تنظيم وترتيب الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير (الملك لاحقا) سعود بن عبدالعزيز لبغداد في عام 1936. انتهت هذه المرحلة من حياة ابن معمر بنقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.
الدور الإداري
هي مرحلة بدأت بعودته من العراق في سنة 1937 وتكليفه في السنة ذاتها بمنصب قائمقام جدة، وهو منصب ظل معمولا به منذ الحكم العثماني والهاشمي للحجاز، قبل أن يُستبدل بمنصب محافظ جدة. ومن أبرز من شغل منصب قائمقامية جدة في نهاية العهد الهاشمي وبداية العهد السعودي، عبدالله علي رضا، ثم تلاه بعد وفاته عبدالعزيز بن معمر (أمير الطائف لاحقا)، ثم خلفه محمد عيد الرواف، الذي نقل إلى بغداد وزيرا مفوضا بدلا من ابن معمر. وقد بقي ابن معمر ممسكا بمنصب قائمقام جدة حتى تاريخ وفاته سنة 1958 في أحد مستشفيات لبنان التي ذهب للعلاج بها. وخلال هذه المرحلة لم تستغنِ عنه بلاده في الشأنين السياسي والدبلوماسي بدليل أنه تم تكليفه -إلى جانب عمله قائمقام لجدة- بالعمل بديلا مؤقتا لوكيل وزارة الخارجية فؤاد حمزة الذي اضطرته ظروفه الصحة في عام 1938 للتغيب عن أداء وظيفته.
وبهذه الصفة -طبقا للوثائق البريطانية والفرنسية- وجه عدة خطابات دبلوماسية بتوقيعه إلى أكثر من جهة، من بينها خطاب إلى السفير الفرنسي بجدة يشكره فيه بالنيابة عن وزير الخارجية (سمو الأمير فيصل بن عبدالعزيز) على طائرة مهداة من الحكومة الفرنسية إلى الملك عبدالعزيز. وبتلك الصفة أيضا قام بتنظيم وترتيب الزيارة التي قام بها عاهل الأفغان الملك محمد ظاهر شاه إلى السعودية قبل وفاة الملك عبدالعزيز بنحو 4 سنوات، أي في عام 1949.
أبناؤه
علاوة على ما سبق ذكره، تقول سيرة ابن معمر العائلية إنه تزوج من نساء عدة، وأنجب منهن من الأولاد كلا من عبدالله وعبدالعزيز، اللذين شغلا مناصب متقدمة في ديوان المغفور له الملك سعود، وعبدالرحمن وأحمد وسعود، ومن البنات نورة وفاطمة وشعيّع ومنيرة.
كل الذين كتبوا أو وضعوا المؤلفات عن ابن معمر، وهم كثر ومن بينهم علامة الجزيرة حمد الجاسر، ومترجم الملك عبدالعزيز الشيخ محمد المانع، والرحالة البريطاني عبدالله فيلبي، والإعلامي المصري أمين سعيد، والرحالة العالمي محمود بشير المدني، والإعلامي السعودي عبدالرحمن الشبيلي، والمؤرخ البريطاني وليام فيسي، أجمعوا على أنه من جيل الرواد الأوائل المعروفين، وممن تميز برجاحة العقل والخبرة والمروءة والوطنية والكبرياء والجرأة والكرم والأخلاق النبيلة والعطف على ذوي الحاجة، علما بأن كل هذه الصفات تردد أيضا في الكثير من الوثائق الأجنبية المحفوظة.
من الذين أعدوا الكتب في سيرة ابن معمر وخصاله ومواقفه، سكرتيره الخاص في قائمقامية جدة «إبراهيم الحسون» الذي أصدر كتابا من 3 أجزاء تحت عنوان «خواطر وذكريات»، خصص فيه حيزا كبيرا للحديث عن الرجل. فتطرق إلى روحه العربية الأصيلة واعتزازه بكبريائه، واجتهاده في كل ما يرفع من شأن بلاده، وعطفه على الفقراء والمحتاجين، وعفة لسانه، ونظافة كفه، وحنكته الإدارية، وعدم قبوله للمراوغة وأنصاف الحلول حينما يتعلق الأمر بتنفيذ الأوامر والقرارات. وحول الجزئية الأخيرة أورد الحسون حكاية كان شاهدا عليها وملخصها أن ابن معمر -عندما كان يشغل منصب قائمقام جدة- أصدر أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب المنازل الواقعة في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء، خلال مدة لا تتجاوز الأسبوعين. وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر، إلا منزلا واحدا ظل كما هو دون تغيير. ولم يكن هذا المنزل سوى مقر السفارة البريطانية التي تحججت بأن المنزل أرض بريطانية ليس لأحد ولاية عليها، وبالتالي فإن طلاءها باللون الأبيض من عدمه شأن يخصها. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام وبّخ رئيس بلدية جدة لتقصيره، وأسمعه كلاما حادا، وأمره بالذهاب فورا إلى السفارة البريطانية لإبلاغها بضرورة تنفيذ أمر الطلاء خلال 3 أيام «لأن المملكة العربية السعودية دولة مستقلة ولا تسمح لكائن من كان أن يخالف أوامرها ضمن حدودها». ونتيجة لهذا الموقف الحازم، شرعت السفارة البريطانية في اليوم الثالث من الإنذار في طلاء مبناها باللون الأبيض.
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
من يسمع باسم الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر، سينصرف تفكيره رأسا إلى المشاهير من رجالات الجزيرة العربية.. إلى أولئك الرواد الذين حفروا أسماءهم بقبس من نور في حقول السياسة والإدارة والدبلوماسية والاقتصاد والثقافة وغيرها، في وقت كانت التحديات جسيمة وتتطلب مهارات وعلوما وخبرات غير متوافرة، وإن توافرت فليس عند أبناء الوطن المخلصين. في هذا التوقيت الدقيق من تاريخ المملكة العربية السعودية يبزغ شمس ابن معمر الذي سيرافق الملك المؤسس في كل محطاته التاريخية، من البداية حتى النهاية، كواحد من أخلص موظفيه ومستشاريه وأكثرهم همة ونشاطا ونجابة ومعرفة بأحوال الجزيرة العربية. ولهذا لم يكن غريبا أن يقول عنه الإعلامي السعودي المعروف الدكتور عبدالرحمن الشبيلي ما مفاده أن تاريخ ابن معمر من تاريخ وطنه السعودي، كناية عن الأدوار الخطيرة التي قام بها في تاريخ المملكة العربية السعودية.
والحقيقة أن ما منح ابن معمر هذه الميزة هو عدم وجود من يجاريه في العلم والاطلاع والمعرفة في تلك الفترة المبكرة من تاريخ نجد التي لم تعرف التعليم إلا في أربعينات القرن العشرين. لقد قدر لابن معمر العيش خارج وطنه في سنوات صباه وشبابه، بل والتنقل من مكان إلى مكان، الأمر الذي ساهم في اختلاطه بشعوب وثقافات مختلفة، وبالتالي توسع مداركه واكتساب المهارات واللغات دراسة أو احتكاكا، تماما مثلما حدث مع قلة من مواطنيه من أمثال أحمد الثنيان وعبدالله السليمان ومحمد المانع.
في الكويت مولده
ولد إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن سيف المعمر بالكويت في حدود سنة 1878 لأسرة معروفة في تاريخ نجد، إذ توالى أجداده لقرون من الزمن على رئاسة إمارتي العيينة وسدوس المجاورتين للدرعية وهي العاصمة القديمة للدولة السعودية ومنبع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية في منتصف القرن السابع عشر، علما بأن الرجل كان يضيف إلى اسمه لقب النجدي في مراسلاته. أما سبب ميلاده في الكويت فلأن والده كان مقيما بها ويعمل فيها تاجرا، ولهذا كان تعليمه ونشأته الأولى في الكويت، ولهذا أيضا امتهن التجارة كوالده، فسافر من أجلها إلى بلاد الهند والسند وإمارات الخليج العربية، وتنقل بين بعض البلاد الآسيوية والأوروبية والأفريقية، الأمر الذي ساهم في انفتاحه وزيادة وعيه واطلاعه على أنماط الحياة خارج منطقة شبه الجزيرة العربية، ناهيك عن تمكنه من بعض اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والأوردية والفارسية. ولعل أبرز دليل على تشربه للأفكار والصيغ العصرية، وابتعاده عن الأفكار النمطية التقليدية أنه كتب في عام 1926 مقالين في جريدة «أم القرى» يصف فيهما رحلة الملك عبدالعزيز من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، نثرا وشعرا، مستخدما في الحالتين أسلوبا حديثا يخالف ما كان دارجا آنذاك من أساليب الكتابة الكلاسيكية.
5 مراحل مع المؤسس
ترك الرجل العمل في التجارة ليلتحق بخدمة الملك عبدالعزيز، الذي كان ابن معمر سبق أن رآه مع والده الإمام عبدالرحمن وقدم لهما الشاي في ديوانية أبيه وهو في سن العاشرة، لكن انضمامه للملك حدث في تاريخ غير مدون بدقة، لكن يمكن القول تجاوزا إنه كان في عام 1913 أو 1912، وذلك اعتمادا على ما ذكره «عبدالله فيلبي» من أنه في زيارته الأولى للجزيرة العربية عام 1917 التقى بابن معمر «الذي كان قد التحق بالعمل السياسي قبل سنوات».
يمكن تقسيم مسيرة ابن معمر المهنية مع الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه إلى 5 مراحل، ترك الرجل في كل مرحلة بصمته الخاصة، وهذه المراحل طبقا لما أورده الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط (18/12/2004) هي:
الدور الاستشاري
بدأ في عام 1913 أو 1912 كما أسلفنا، وفيها بدأ ابن معمر عمله في ديوان الملك ضمن طاقم المستشارين الأوائل إلى جانب شخصيات مثل أحمد الثنيان والدكتور عبدالله الدملوجي. وفي بعض الوثائق هناك إشارات إلى أنه كان سكرتيرا بالديوان مكلفا بملف الاستخبارات السياسية الخارجية. وبهذه الصفة الأخيرة أوفده الملك إلى الخارج مبعوثا له، فتنقل في عدد من الأقطار الأوروبية شارحا لحكوماتها طبيعة وأهداف ودواعي الحملات الحربية للملك المؤسس في الجزيرة العربية. غير أنه -طبقا للشبيلي- لا توجد وثائق تدل بدقة على الدول التي زارها أو الشخصيات التي التقاها.
الدور الإعلامي
وهي مرحلة بدأت من سنة 1925، وخلالها واصل الرجل عمله في الديوان الملكي لكن أنيطت به مهمة إعلامية، إذ سافر إلى القاهرة وأقام في «الحلمية» ثم في «الزيتون» عامي 1925 و1926 ليطلق من هناك حملة إعلامية لصالح المملكة، مفندا الكثير من الآراء والشائعات التي انتشرت بُعيد دخول الملك عبدالعزيز الحجاز في عام 1925، ومتصديا -عبر كتابة العديد من المقالات في الصحافة المصرية- للأبواق التي كانت تناصر خصوم الملك. وقد انتهز الرجل فرصة وجوده في مصر لتزويد الملك عبدالعزيز ووالده الإمام عبدالرحمن بالعديد من المطبوعات التي كانت تصدر في مصر آنذاك وتتناول ما يدور في العالم من متغيرات، استنادا إلى ما ورد في رسائله إليهما.
الدور السياسي
هي مرحلة بدأت بعودته إلى بلاده من القاهرة في سنة 1926، وانتهت بنقله للعمل في ديوان ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز سنة 1932. حيث اختاره الملك عبدالعزيز ليرأس ديوانه الملكي خلفا للشيخ «محمد الطيب الهزازي» الذي كان رئيسا لديوان ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وبهذه الصفة سجلت له الكثير من المواقف الإنسانية والاجتماعية النبيلة في خدمة الناس كما أورد الشبيلي، ومنها مساعدته للعلامة الشيخ حمد الجاسر في الحصول على بعثة دراسية إلى مصر. وخلال هذه المرحلة سافر مع نائب الملك في الحجاز الأمير (الملك لاحقا) فيصل بن عبدالعزيز إلى أوروبا في رحلته الثانية سنة 1926 ضمن الوفد المرافق الذي ضم أيضا الدكتور عبدالله الدملوجي (مدير دائرة الخارجية السعودية قبل إنشاء وزارة الخارجية)، والتاجر المعروف عبدالله الفضل، وقائد شرطة جدة آنذاك عبدالله الموصلي. كما قام بترؤس الوفد السعودي الذي التقى بناجي شوكت وزير الخارجية العراقي في الكويت من أجل الإعداد للقاء القمة بين الملك عبدالعزيز والعاهل العراقي الملك فيصل الأول بمشاركة المندوب السامي البريطاني على ظهر الطراد لوبين سنة 1930، وهو اللقاء الذي أسفر عن توقيع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين المملكتين السعودية والعراقية في أبريل سنة 1931.
وعلاوة على ما سبق شارك في معركة «السبلة» الشهيرة التي دارت رحاها في سنة 1927. وفي هذا السياق كتب الشيخ محمد المانع في كتابه «توحيد المملكة العربية السعودية» (ترجمة د. عبدالله العثيمين) أن ابن معمر كان على رأس مفرزة الرشاشات والمدافع التي حسمت المعركة لصالح الملك. وهناك مشاركة حربية أخرى لابن معمر في معركة «القرعة» التي كان مسرحها بلدة «الدببة» شمال شرق السعودية.
الدور الدبلوماسي
وهي مرحلة بدأت في يونيو سنة 1933 بتعيينه وزيرا مفوضا للسعودية لدى المملكة العراقية بعد وقت قصير من افتتاح المفوضية السعودية في بغداد التي كانت آنذاك واحدة من أهم العواصم العربية بالنسبة للمملكة العربية السعودية نظرا لوجود جالية كبيرة من المهاجرين السعوديين في العراق في تلك الفترة، ناهيك عن انتشار قبائل وعشائر عربية كثيرة على طول المناطق الحدودية بين البلدين. وخلال هذه المرحلة من مسيرته المهنية، أشرف ابن معمر على تطبيق اتفاقية الحدود الموقعة بين بلاده والعراق على ظهر الطراد «لوبين»، كما أشرف على تطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه من رعايا العراق، ناهيك عن إشرافه على تنظيم وترتيب الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير (الملك لاحقا) سعود بن عبدالعزيز لبغداد في عام 1936. انتهت هذه المرحلة من حياة ابن معمر بنقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.
الدور الإداري
هي مرحلة بدأت بعودته من العراق في سنة 1937 وتكليفه في السنة ذاتها بمنصب قائمقام جدة، وهو منصب ظل معمولا به منذ الحكم العثماني والهاشمي للحجاز، قبل أن يُستبدل بمنصب محافظ جدة. ومن أبرز من شغل منصب قائمقامية جدة في نهاية العهد الهاشمي وبداية العهد السعودي، عبدالله علي رضا، ثم تلاه بعد وفاته عبدالعزيز بن معمر (أمير الطائف لاحقا)، ثم خلفه محمد عيد الرواف، الذي نقل إلى بغداد وزيرا مفوضا بدلا من ابن معمر. وقد بقي ابن معمر ممسكا بمنصب قائمقام جدة حتى تاريخ وفاته سنة 1958 في أحد مستشفيات لبنان التي ذهب للعلاج بها. وخلال هذه المرحلة لم تستغنِ عنه بلاده في الشأنين السياسي والدبلوماسي بدليل أنه تم تكليفه -إلى جانب عمله قائمقام لجدة- بالعمل بديلا مؤقتا لوكيل وزارة الخارجية فؤاد حمزة الذي اضطرته ظروفه الصحة في عام 1938 للتغيب عن أداء وظيفته.
وبهذه الصفة -طبقا للوثائق البريطانية والفرنسية- وجه عدة خطابات دبلوماسية بتوقيعه إلى أكثر من جهة، من بينها خطاب إلى السفير الفرنسي بجدة يشكره فيه بالنيابة عن وزير الخارجية (سمو الأمير فيصل بن عبدالعزيز) على طائرة مهداة من الحكومة الفرنسية إلى الملك عبدالعزيز. وبتلك الصفة أيضا قام بتنظيم وترتيب الزيارة التي قام بها عاهل الأفغان الملك محمد ظاهر شاه إلى السعودية قبل وفاة الملك عبدالعزيز بنحو 4 سنوات، أي في عام 1949.
أبناؤه
علاوة على ما سبق ذكره، تقول سيرة ابن معمر العائلية إنه تزوج من نساء عدة، وأنجب منهن من الأولاد كلا من عبدالله وعبدالعزيز، اللذين شغلا مناصب متقدمة في ديوان المغفور له الملك سعود، وعبدالرحمن وأحمد وسعود، ومن البنات نورة وفاطمة وشعيّع ومنيرة.
بروح عربية.. لا يقبل المراوغة وأنصاف الحلول
كل الذين كتبوا أو وضعوا المؤلفات عن ابن معمر، وهم كثر ومن بينهم علامة الجزيرة حمد الجاسر، ومترجم الملك عبدالعزيز الشيخ محمد المانع، والرحالة البريطاني عبدالله فيلبي، والإعلامي المصري أمين سعيد، والرحالة العالمي محمود بشير المدني، والإعلامي السعودي عبدالرحمن الشبيلي، والمؤرخ البريطاني وليام فيسي، أجمعوا على أنه من جيل الرواد الأوائل المعروفين، وممن تميز برجاحة العقل والخبرة والمروءة والوطنية والكبرياء والجرأة والكرم والأخلاق النبيلة والعطف على ذوي الحاجة، علما بأن كل هذه الصفات تردد أيضا في الكثير من الوثائق الأجنبية المحفوظة.من الذين أعدوا الكتب في سيرة ابن معمر وخصاله ومواقفه، سكرتيره الخاص في قائمقامية جدة «إبراهيم الحسون» الذي أصدر كتابا من 3 أجزاء تحت عنوان «خواطر وذكريات»، خصص فيه حيزا كبيرا للحديث عن الرجل. فتطرق إلى روحه العربية الأصيلة واعتزازه بكبريائه، واجتهاده في كل ما يرفع من شأن بلاده، وعطفه على الفقراء والمحتاجين، وعفة لسانه، ونظافة كفه، وحنكته الإدارية، وعدم قبوله للمراوغة وأنصاف الحلول حينما يتعلق الأمر بتنفيذ الأوامر والقرارات. وحول الجزئية الأخيرة أورد الحسون حكاية كان شاهدا عليها وملخصها أن ابن معمر -عندما كان يشغل منصب قائمقام جدة- أصدر أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب المنازل الواقعة في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء، خلال مدة لا تتجاوز الأسبوعين. وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر، إلا منزلا واحدا ظل كما هو دون تغيير. ولم يكن هذا المنزل سوى مقر السفارة البريطانية التي تحججت بأن المنزل أرض بريطانية ليس لأحد ولاية عليها، وبالتالي فإن طلاءها باللون الأبيض من عدمه شأن يخصها. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام وبّخ رئيس بلدية جدة لتقصيره، وأسمعه كلاما حادا، وأمره بالذهاب فورا إلى السفارة البريطانية لإبلاغها بضرورة تنفيذ أمر الطلاء خلال 3 أيام «لأن المملكة العربية السعودية دولة مستقلة ولا تسمح لكائن من كان أن يخالف أوامرها ضمن حدودها». ونتيجة لهذا الموقف الحازم، شرعت السفارة البريطانية في اليوم الثالث من الإنذار في طلاء مبناها باللون الأبيض.
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين