يجيء محمود صباغ بصفته حالة خاصة بين السعوديين الشغوفين بالسينما، الطامحين إلى الخروج بها من قمقم التجارب العابرة والمحاولات السطحية الرتيبة، اعتمر شغفه السينمائي وحمل على عاتقه مسؤولية تفكيك بنى السلبية السائدة عن السينما السعودية، سافر بها شرقاً وغرباً، محلقاً في فضاء عالمي رحب، مترامي الأفكار والأهداف والطموحات، وضع بصمته في أعرق المهرجانات الكبرى، وتملك ناصية الإنجاز والإعجاب، وحصد الجائزة تلو الجائزة بإنتاجه الخاص، قبل أن تطفأ الأنوار ويبدأ العرض السينمائي داخل المملكة. وفيما يتأهب لوثبة أخرى عبر فيلمه الجديد «عمرة والعِرس الثاني»، الذي رشح للمشاركة في مهرجان لندن السينمائي 2018، تلتقيه «عكاظ» في حوار مكتظ بالرؤى والأمنيات لصياغة واقع سينمائي سعودي حقيقي، وخطة للسينما الوطنية تقوم على أسس معرفية صائبة وقواعد صلبة وآمنة.
• تعود إلى الإنتاج السينمائي مترفلاً في وهج نجاحات «بركة يقابل بركة»، هل يمهد ذلك لجذب الانتباه لجديدكم، أم يضعكم تحت طائلة المقارنة والضغوط؟
•• كلاهما نظرياً. أنا محظوظ بالنجاح الفائق الذي حاز عليه فيلم «بركة» وهو نجاح، كما تفضلت، يخيّم بظلاله على التجربة التالية.
لكن دعني أقول لك إني تجاوزت كل ذلك وأنا أصنع الفيلم الجديد. لقد اخترت عمداً فيلما مختلفا في نوعيته ومحتواه وشريحة أبطاله العمرية وبيئته الجغرافية. هذا استخفاف مقصود مني إزاء أي «معادلة» نجاح مسبقة وتحرر من أي «إطار راحة» مرسوم سلفا.
هذه المرة أستعير جنس الكوميديا السوداء، وهو جنس فني نادر بالسينما العربية. كما أني أتناول قضية مختلفة عن قضايا شريحة جيل الألفية كما كان فيلم «بركة»، الذي جاء واقعيا معاصرا سلسا يتخذ من مدينتي جدة -التي أحفظها عن ظهر قلب- بيئة وإطارا. في فيلم «عمرة» أتناول قضية الذكورية المجتمعية من خلال امرأة في منتصف الأربعين تعيش في مجتمع صناعي يتوسط صحراء شاسعة، وقد غلفته بلمسات فوق واقعية - أو واقعية سحرية- لأغراض فنية بحتة.
إني أريد أن أخوض تجربة مختلفة وجديدة في كل فيلم جديد. أن أرفع درجة التحدي على نفسي وعلى فريقي دائما، على أمل أن تكون النتائج الفنية أعلى أو مختلفة عما سبق. إعادة إنتاج التجارب الناجحة حالة من حالات الإفلاس الفني. إننا ننتمي إلى حركة سينمائية ناشئة، إذ كل شيء متاح وغير مطروق، فلم التقوقع أو التكرار؟
• أبطال أعمالك السينمائية ومنها «عمرة والعِرس الثاني» لا يحملون صيتاً ذائعاً أو جماهيرية عريضة، هل تعزو ذلك إلى التحلل من ربقة النجومية المصنوعة، أم للأمر علاقة بكلفة الإنتاج ؟
•• نحن لا نصنع أفلاماً برسم الرواج الجماهيري فقط. لهذا نتحرر من معايير «السوق» و«التوزيع» ومن أعباء «النجومية» الفارغة.
يقال إن الكاستنغ، أو عملية تجارب الأداء تمثل ٤٠٪ من الإخراج. البعض يغالي ويرفعها إلى ٩٠٪. في كل الأحوال، أنا أجد متعة ضافية في اكتشاف المواهب أو إعادة توظيفها. في فيلم «عمرة» أخذتني عملية الكاستنغ أكثر من خمسة أشهر، لأن نوعية الفيلم تتطلب حضورا قويا للشخصيات. كانت رحلة شاقة، وغنية في آن.
وقد توّجت بمجموعة محلية موهوبة شغوفة.. بعضهم اكتشفوا أنفسهم من خلالنا لأول مرة، وآخرون متواجدون على مستوى السكيتش أو المسرح الكوميدي أو الفيلم القصير ويخوضون تجربة الفيلم الطويل لأول مرة.. وهم.. الشيماء طيّب، محمد الحمدان (أبو حمدان)، سارة الشامخ، زيزي حريري، تركي الجلاّل، محمد آل رافعة، عويض العتيبي، سارة طيبة، أم كلثوم بارد، رغد فيصل، بدر مارديني، عائشة فرحان، شيماء الفضل، بسيمة حجار، وعد خيمي، محمد آل سلطان، أمل الحربي، ماهر السلمي، نادية ملائكة، ماجد خلاقي.. وخيرية نظمي التي تعود من جديد بعد فيلم «بركة»، وآخرون ليعذروني إن سهوت عن ذكر أسمائهم.
إني أعتقد أننا وصلنا كحركة لمقاربة قريبة من النضج. كل ما نحتاجه مزيدا من التجارب، ومزيدا من العناية بإنجاز بنية تحتية سليمة، وبعدها سوف تكون السينما السعودية هي الكنز الفني القادم الذي سيتفجر ويفاجئ العالم. على جنس الموجات الجديدة للسينما الرومانية والكورية والمكسيكية وأخيرا التشيلية.
• تتخذ خطاً غير مألوف في تقديم المحتوى السينمائي الجريء، كما في «بركة يقابل بركة» و «عمرة والعِرس الثاني»، هل تتعمد إحداث صدمة لافتة بتناول قضايا غير مطروقة أو أخرى شائكة سبق تناولها على استحياء؟
•• العبرة بالقدرة على التعبير والسرد أو الحكي. نحن لدينا عشرات القضايا والمسائل الإنسانية والنفسية والاجتماعية التي تفتقر إلى معالجات فنية أو رؤى سينمائية خاصة بها.
في فيلم «بركة» عالجت مسألة «الحريات» و«صوت جيل الشباب» المختنق في الفضاء العام.. والآن في فيلم «عمرة» أعالج مسألة «الذكورية الاجتماعية» في إطار فني خالص. الصدمات مرهونة بنتائجها، ومن الممكن أن تكون إيجابية كما هو حاصل في قاموسنا السياسي المعاصر! والشائك يلين مع تتابع المعالجات والمقاربات. هكذا تتقدم المجتمعات.
• برأيك إلى أي مدى تفرض معايير السوق سلطتها على صانعي المحتوى، وكيف يمكن الموازنة بين السينما بوصفها مشروعاً فكرياً ثقافياً هادفاً وبين متطلبات السوق السينمائي؟
•• لا أعرف إلى أين نحن متجهون كخطة سينما وطنية. ولا كسياسات إنتاج وتوزيع تجارية. كل ما نراه من حولنا هو اجتياح للسينما التجارية المستوردة، ومنح رخص لشركات ملتيپلكس ضخمة ذات تجارب استهلاكية بحتة في الجوار. كل هذا نذير شؤم، لطبيعته الأحادية، ولمضمونه الاستهلاكي الفجّ.
نحن نفتقر لجهاز سينما وطني يتخذ من هدف حماية الفيلم المحلي وتنوع منتجاته قاعدة أساسية.. على جنس ما هو موجود عالميا.
لما عُيّن جاك لانج وزيرا لثقافة فرنسا في ١٩٩٣ وجد أن نصف مبيعات التذاكر تعود لأفلام هوليوود. لقد أدرك من لحظتها خطورة الفراغ التي تخلفه غياب السينما الوطنية الحية مقابل فيضان التنميط التجاري المسلّع القادم من دولة واحدة. من وقتها استنفر لانج وزارته وعقليات بلاده حتى خرج بخطته النموذجية.
اليوم السينما الفرنسية هي مهرجان كان (قلعة السينما غير التجارية)، والسي إن سي، والفرنش سينماتِك، وكل ذلك الطرح السنوي المتنوع لمخرجين مُكرّسين أو مُخرِجات مستقلات يتناولون قضايا تتراوح من الإمبريالية الثقافية إلى حقوق المهاجرين، أو يعبرون عن رؤى حيّة في قضايا الموت أو الحب أو الصداقة في السيرورة الشعبية، وأفلام أخرى تعيد النظر في الروايات الرسمية لمسائل تاريخية شائكة، إلخ. نحن لسنا بحاجة إلى إعادة إنتاج العجلة. فقط التقاط النماذج المضيئة.
• يجيء فيلمك الجديد في خضم تحولات سينمائية سعودية كبرى، وفي ظل وجود المجلس السعودي للأفلام، ماذا يعني لكم ذلك وهل وجدتم أي دعم في مشروعكم هذا ؟
•• هذه المجالس ولدت ميتة لأنها فوقية. لا خطة جوهرية، ولا حيوية، ولا خيال، ولا فهم حقيقيا لمتطلبات الصناعة أو تماس مع القواعد الفاعلة. مجرد برامج فرعية منزوعة السياق تصلح للتغريد في «تويتر» كإنجازات مبهرجة. دعني أقول لك أن «المركز العراقي للفيلم المستقل» في بلد منكوب، منهوب الموارد، مثل العراق، يقدم إنجازات سينمائية حقيقية، ويؤسس لمستويات حقيقية مؤثرة لصانعي الفيلم أكثر مما هو عندنا. ودعني أسأل بكل تجرد، هل هذه نتيجة مرضية لبلد واعد ومهم على الخريطة الدولية مثل السعودية؟
إني على يقين أن الإخفاق الحالي إنما يصدر عن اجتهادات فردية تفتقر لاستيعاب جوهر ومدى التوجهات الوطنية الكبرى. إن الأمل معقود في وزارة الثقافة الجديدة، وقيادتها الحيوية القادمة المتمثلة في سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، لإعادة النظر في خطة السينما الوطنية على أسس معرفية صائبة تنسجم مع الخيال السياسي الحالي.
• لماذا كانت البداية من «لندن» وليس «الرياض»، هل توجست من الإهمال في الداخل واستيعاب المحتوى في هذه السوق الواعدة، أم ماذا؟
•• الأمر يمكن اختصاره في التالي: لأن الحركة النقدية والمردوديّن الفني والتجاري مازالا لا يتوفران بالداخل. أنت حينما تصدر عن مهرجان كبير مثل برلين أو تورنتو أو لندن فأنت تحصد مراجعات نقدية ذات دراية وأصداء عالية المستوى والمقروئية. هذا هو المردود الحقيقي الذي يبحث عنه أي صانع فيلم أو فنان. أضف إلى ذلك المردود الجماهيري. الصدور عن مهرجان دولي يعطي الفيلم فرصا إعلامية وتسويقية متجاوزة.. وهذا يوسع من دوائر المشاهدين.
لعلك تعلم أنه لا يمضي يوم أو يومان دون أن يصلني تفاعل من مشاهدين شاهدوا فيلم «بركة يقابل بركة» على منصة نتفلكس الدولية. أتحدث هنا عن مشاهدين من الهند، البرازيل، إسبانيا، فرنسا، الدانمارك، ألمانيا، إندونيسيا، إلخ. هذا هو أكبر تتويج يمكن أن يحصده أي صانع فنون. وهذا ينسحب بالضرورة على عروض الداخل لو توفرت. بل إن المردود يتضاعف لو كان الجمهور المستهدف هو المتفاعِل. يجب أن تعرف أني كافحت، في ظل غياب عروض الداخل، كي أوجد منصات محلية متعددة تعرض فيلم «بركة» تصل إلى المشاهد المحلي.. وقد تحقق ذلك بشكل نسبي. الآن مع فيلم «عمرة» أجهز نفسي لجولة جديدة. لكنه الكفاح اللذيذ.
• من الطبيعي أن يرتفع سقف طموحاتكم في مهرجان «لندن» ويتعدى مرحلة المشاركة بعد نجاحاتكم السابقة، ألا تخشى تأثير ذلك في ما لو لم يتحقق الهدف؟
•• الهدف دائما هو القدرة على التعبير وإيصال الصوت. والقدرة على السرد أو الحكي البصري، أو «الستوريتيلنغ».
ثم إن كل فيلم سيجد مشاهديه، وتظاهراته التي تحتفي به، والقنوات التي يصبّ فيها. المهرجانات تحصيل حاصل. نحن سينما ناشئة، وعلينا تسريع عجلة الإنتاج. هناك عشرات القصص التي أريد أن أرويها، ومئات أخرى أريد مشاهدتها ناجزة على أيدي وبرؤية أقراني من المخرجين والمخرجات. طموحي هو المزيد والمزيد من إنتاج الأفلام الطويلة، وليس الجوائز والمهرجانات.
• تأتي كثيراً على ذكر «السينما الصادقة والحقيقية» وأنها معول نجاح أي منظومة سينمائية، كيف للسينما أنت تكون كاذبة ومخادعة؟
•• علينا أن نكافح جميعا غول «السينما الاستهلاكية» القادم. أن نسعى إلى أن تنويع الذائقة وتوازن الطرح. حتى لا تكتسحنا المقاولات التجارية الخالصة وقيمها الشاحبة.
السينما فن صادق للتعبير ولتجسيد العمق والمعاناة الإنسانية والشعبية، وهي أداة للحوار وزحزحة السلطات الثقافية البالية والرجعيات الاجتماعية،وهي أيضا نافذة عظيمة للتعريف بالشعوب. واجب علينا أن نُحسن توجيهها واستخدامها.
• سلطتا الرقابة والسوق عقبتان تهددان المشاريع الناضجة بالخيبة، كيف لصانع المحتوى أن يصبح سلطة ذات تأثير؟
•• أسوأ من عقبات الرقابة هو غياب الخطة الوطنية وعدم ناجزية البنية التحتية الأساسية. السينما الإيرانية وصلت إلى درجات عالية من الإتقان والبراعة والإبهار والرواج العالمي رغم شبح الرقابة القاسي ورغم إلزام الممثلات بأردية لحجاب الرأس مثلا.
أكبر عقبة حالية هي غياب الصناديق الوطنية للمنح.. غياب البرمجة السليمة التي تدير هذه الصناديق.. غياب خطة إنعاش مكملات الصناعة من كتابة نصوص ووظائف تقنية خالصة. الحديث يطول..
• هل أنت راض عن ما يسمى بـ «مهرجانات الأفلام» في بعض مدن المملكة، وكيف لها دعم السينمائيين السعوديين الواعدين وصقل موهبتهم؟
•• باستثناء مهرجان الفيلم السعودي الذي نُظم في الدمام، تدخل بقية المهرجانات ضمن دائرة التهريج أو المقاولة التجارية أو الاستعراض. علينا أن نسترشد بالتجارب العالمية الصريحة في دعم السينما الوطنية الناشئة. مهرجان موريليا في المكسيك مثلا انطلق في مطلع الألفية، بغرض حفز السينما الجادة في بلاده، وقد اقتصر في بدايته على جنسيّ الأفلام القصيرة والتسجيلية، لكنه اليوم وبعد 15 عاما، يفخر بكونه أفضل وأهم مهرجان في أمريكا اللاتينية للأفلام الطويلة، وأحد أهم محركات الصناعة السينمائية المكسيكية التي غمرت أصداؤها العالم، التي لا يكاد يمر مهرجان كبير دون اقتناصها لإحدى جوائزه المرموقة.
• متى سيعرض محمود صباغ أول أفلامه في السعودية، وهل مازالت غصة «إهمال السينما محلياً» ماثلة في داخله؟
•• أنا فعلا حزين لعدم عرض فيلم «بركة يقابل بركة» رسميا في جدة أو الرياض رغم كل محاولاتي المضنية. لكني متفائل بالقادم.
• تعود إلى الإنتاج السينمائي مترفلاً في وهج نجاحات «بركة يقابل بركة»، هل يمهد ذلك لجذب الانتباه لجديدكم، أم يضعكم تحت طائلة المقارنة والضغوط؟
•• كلاهما نظرياً. أنا محظوظ بالنجاح الفائق الذي حاز عليه فيلم «بركة» وهو نجاح، كما تفضلت، يخيّم بظلاله على التجربة التالية.
لكن دعني أقول لك إني تجاوزت كل ذلك وأنا أصنع الفيلم الجديد. لقد اخترت عمداً فيلما مختلفا في نوعيته ومحتواه وشريحة أبطاله العمرية وبيئته الجغرافية. هذا استخفاف مقصود مني إزاء أي «معادلة» نجاح مسبقة وتحرر من أي «إطار راحة» مرسوم سلفا.
هذه المرة أستعير جنس الكوميديا السوداء، وهو جنس فني نادر بالسينما العربية. كما أني أتناول قضية مختلفة عن قضايا شريحة جيل الألفية كما كان فيلم «بركة»، الذي جاء واقعيا معاصرا سلسا يتخذ من مدينتي جدة -التي أحفظها عن ظهر قلب- بيئة وإطارا. في فيلم «عمرة» أتناول قضية الذكورية المجتمعية من خلال امرأة في منتصف الأربعين تعيش في مجتمع صناعي يتوسط صحراء شاسعة، وقد غلفته بلمسات فوق واقعية - أو واقعية سحرية- لأغراض فنية بحتة.
إني أريد أن أخوض تجربة مختلفة وجديدة في كل فيلم جديد. أن أرفع درجة التحدي على نفسي وعلى فريقي دائما، على أمل أن تكون النتائج الفنية أعلى أو مختلفة عما سبق. إعادة إنتاج التجارب الناجحة حالة من حالات الإفلاس الفني. إننا ننتمي إلى حركة سينمائية ناشئة، إذ كل شيء متاح وغير مطروق، فلم التقوقع أو التكرار؟
• أبطال أعمالك السينمائية ومنها «عمرة والعِرس الثاني» لا يحملون صيتاً ذائعاً أو جماهيرية عريضة، هل تعزو ذلك إلى التحلل من ربقة النجومية المصنوعة، أم للأمر علاقة بكلفة الإنتاج ؟
•• نحن لا نصنع أفلاماً برسم الرواج الجماهيري فقط. لهذا نتحرر من معايير «السوق» و«التوزيع» ومن أعباء «النجومية» الفارغة.
يقال إن الكاستنغ، أو عملية تجارب الأداء تمثل ٤٠٪ من الإخراج. البعض يغالي ويرفعها إلى ٩٠٪. في كل الأحوال، أنا أجد متعة ضافية في اكتشاف المواهب أو إعادة توظيفها. في فيلم «عمرة» أخذتني عملية الكاستنغ أكثر من خمسة أشهر، لأن نوعية الفيلم تتطلب حضورا قويا للشخصيات. كانت رحلة شاقة، وغنية في آن.
وقد توّجت بمجموعة محلية موهوبة شغوفة.. بعضهم اكتشفوا أنفسهم من خلالنا لأول مرة، وآخرون متواجدون على مستوى السكيتش أو المسرح الكوميدي أو الفيلم القصير ويخوضون تجربة الفيلم الطويل لأول مرة.. وهم.. الشيماء طيّب، محمد الحمدان (أبو حمدان)، سارة الشامخ، زيزي حريري، تركي الجلاّل، محمد آل رافعة، عويض العتيبي، سارة طيبة، أم كلثوم بارد، رغد فيصل، بدر مارديني، عائشة فرحان، شيماء الفضل، بسيمة حجار، وعد خيمي، محمد آل سلطان، أمل الحربي، ماهر السلمي، نادية ملائكة، ماجد خلاقي.. وخيرية نظمي التي تعود من جديد بعد فيلم «بركة»، وآخرون ليعذروني إن سهوت عن ذكر أسمائهم.
إني أعتقد أننا وصلنا كحركة لمقاربة قريبة من النضج. كل ما نحتاجه مزيدا من التجارب، ومزيدا من العناية بإنجاز بنية تحتية سليمة، وبعدها سوف تكون السينما السعودية هي الكنز الفني القادم الذي سيتفجر ويفاجئ العالم. على جنس الموجات الجديدة للسينما الرومانية والكورية والمكسيكية وأخيرا التشيلية.
• تتخذ خطاً غير مألوف في تقديم المحتوى السينمائي الجريء، كما في «بركة يقابل بركة» و «عمرة والعِرس الثاني»، هل تتعمد إحداث صدمة لافتة بتناول قضايا غير مطروقة أو أخرى شائكة سبق تناولها على استحياء؟
•• العبرة بالقدرة على التعبير والسرد أو الحكي. نحن لدينا عشرات القضايا والمسائل الإنسانية والنفسية والاجتماعية التي تفتقر إلى معالجات فنية أو رؤى سينمائية خاصة بها.
في فيلم «بركة» عالجت مسألة «الحريات» و«صوت جيل الشباب» المختنق في الفضاء العام.. والآن في فيلم «عمرة» أعالج مسألة «الذكورية الاجتماعية» في إطار فني خالص. الصدمات مرهونة بنتائجها، ومن الممكن أن تكون إيجابية كما هو حاصل في قاموسنا السياسي المعاصر! والشائك يلين مع تتابع المعالجات والمقاربات. هكذا تتقدم المجتمعات.
• برأيك إلى أي مدى تفرض معايير السوق سلطتها على صانعي المحتوى، وكيف يمكن الموازنة بين السينما بوصفها مشروعاً فكرياً ثقافياً هادفاً وبين متطلبات السوق السينمائي؟
•• لا أعرف إلى أين نحن متجهون كخطة سينما وطنية. ولا كسياسات إنتاج وتوزيع تجارية. كل ما نراه من حولنا هو اجتياح للسينما التجارية المستوردة، ومنح رخص لشركات ملتيپلكس ضخمة ذات تجارب استهلاكية بحتة في الجوار. كل هذا نذير شؤم، لطبيعته الأحادية، ولمضمونه الاستهلاكي الفجّ.
نحن نفتقر لجهاز سينما وطني يتخذ من هدف حماية الفيلم المحلي وتنوع منتجاته قاعدة أساسية.. على جنس ما هو موجود عالميا.
لما عُيّن جاك لانج وزيرا لثقافة فرنسا في ١٩٩٣ وجد أن نصف مبيعات التذاكر تعود لأفلام هوليوود. لقد أدرك من لحظتها خطورة الفراغ التي تخلفه غياب السينما الوطنية الحية مقابل فيضان التنميط التجاري المسلّع القادم من دولة واحدة. من وقتها استنفر لانج وزارته وعقليات بلاده حتى خرج بخطته النموذجية.
اليوم السينما الفرنسية هي مهرجان كان (قلعة السينما غير التجارية)، والسي إن سي، والفرنش سينماتِك، وكل ذلك الطرح السنوي المتنوع لمخرجين مُكرّسين أو مُخرِجات مستقلات يتناولون قضايا تتراوح من الإمبريالية الثقافية إلى حقوق المهاجرين، أو يعبرون عن رؤى حيّة في قضايا الموت أو الحب أو الصداقة في السيرورة الشعبية، وأفلام أخرى تعيد النظر في الروايات الرسمية لمسائل تاريخية شائكة، إلخ. نحن لسنا بحاجة إلى إعادة إنتاج العجلة. فقط التقاط النماذج المضيئة.
• يجيء فيلمك الجديد في خضم تحولات سينمائية سعودية كبرى، وفي ظل وجود المجلس السعودي للأفلام، ماذا يعني لكم ذلك وهل وجدتم أي دعم في مشروعكم هذا ؟
•• هذه المجالس ولدت ميتة لأنها فوقية. لا خطة جوهرية، ولا حيوية، ولا خيال، ولا فهم حقيقيا لمتطلبات الصناعة أو تماس مع القواعد الفاعلة. مجرد برامج فرعية منزوعة السياق تصلح للتغريد في «تويتر» كإنجازات مبهرجة. دعني أقول لك أن «المركز العراقي للفيلم المستقل» في بلد منكوب، منهوب الموارد، مثل العراق، يقدم إنجازات سينمائية حقيقية، ويؤسس لمستويات حقيقية مؤثرة لصانعي الفيلم أكثر مما هو عندنا. ودعني أسأل بكل تجرد، هل هذه نتيجة مرضية لبلد واعد ومهم على الخريطة الدولية مثل السعودية؟
إني على يقين أن الإخفاق الحالي إنما يصدر عن اجتهادات فردية تفتقر لاستيعاب جوهر ومدى التوجهات الوطنية الكبرى. إن الأمل معقود في وزارة الثقافة الجديدة، وقيادتها الحيوية القادمة المتمثلة في سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، لإعادة النظر في خطة السينما الوطنية على أسس معرفية صائبة تنسجم مع الخيال السياسي الحالي.
• لماذا كانت البداية من «لندن» وليس «الرياض»، هل توجست من الإهمال في الداخل واستيعاب المحتوى في هذه السوق الواعدة، أم ماذا؟
•• الأمر يمكن اختصاره في التالي: لأن الحركة النقدية والمردوديّن الفني والتجاري مازالا لا يتوفران بالداخل. أنت حينما تصدر عن مهرجان كبير مثل برلين أو تورنتو أو لندن فأنت تحصد مراجعات نقدية ذات دراية وأصداء عالية المستوى والمقروئية. هذا هو المردود الحقيقي الذي يبحث عنه أي صانع فيلم أو فنان. أضف إلى ذلك المردود الجماهيري. الصدور عن مهرجان دولي يعطي الفيلم فرصا إعلامية وتسويقية متجاوزة.. وهذا يوسع من دوائر المشاهدين.
لعلك تعلم أنه لا يمضي يوم أو يومان دون أن يصلني تفاعل من مشاهدين شاهدوا فيلم «بركة يقابل بركة» على منصة نتفلكس الدولية. أتحدث هنا عن مشاهدين من الهند، البرازيل، إسبانيا، فرنسا، الدانمارك، ألمانيا، إندونيسيا، إلخ. هذا هو أكبر تتويج يمكن أن يحصده أي صانع فنون. وهذا ينسحب بالضرورة على عروض الداخل لو توفرت. بل إن المردود يتضاعف لو كان الجمهور المستهدف هو المتفاعِل. يجب أن تعرف أني كافحت، في ظل غياب عروض الداخل، كي أوجد منصات محلية متعددة تعرض فيلم «بركة» تصل إلى المشاهد المحلي.. وقد تحقق ذلك بشكل نسبي. الآن مع فيلم «عمرة» أجهز نفسي لجولة جديدة. لكنه الكفاح اللذيذ.
• من الطبيعي أن يرتفع سقف طموحاتكم في مهرجان «لندن» ويتعدى مرحلة المشاركة بعد نجاحاتكم السابقة، ألا تخشى تأثير ذلك في ما لو لم يتحقق الهدف؟
•• الهدف دائما هو القدرة على التعبير وإيصال الصوت. والقدرة على السرد أو الحكي البصري، أو «الستوريتيلنغ».
ثم إن كل فيلم سيجد مشاهديه، وتظاهراته التي تحتفي به، والقنوات التي يصبّ فيها. المهرجانات تحصيل حاصل. نحن سينما ناشئة، وعلينا تسريع عجلة الإنتاج. هناك عشرات القصص التي أريد أن أرويها، ومئات أخرى أريد مشاهدتها ناجزة على أيدي وبرؤية أقراني من المخرجين والمخرجات. طموحي هو المزيد والمزيد من إنتاج الأفلام الطويلة، وليس الجوائز والمهرجانات.
• تأتي كثيراً على ذكر «السينما الصادقة والحقيقية» وأنها معول نجاح أي منظومة سينمائية، كيف للسينما أنت تكون كاذبة ومخادعة؟
•• علينا أن نكافح جميعا غول «السينما الاستهلاكية» القادم. أن نسعى إلى أن تنويع الذائقة وتوازن الطرح. حتى لا تكتسحنا المقاولات التجارية الخالصة وقيمها الشاحبة.
السينما فن صادق للتعبير ولتجسيد العمق والمعاناة الإنسانية والشعبية، وهي أداة للحوار وزحزحة السلطات الثقافية البالية والرجعيات الاجتماعية،وهي أيضا نافذة عظيمة للتعريف بالشعوب. واجب علينا أن نُحسن توجيهها واستخدامها.
• سلطتا الرقابة والسوق عقبتان تهددان المشاريع الناضجة بالخيبة، كيف لصانع المحتوى أن يصبح سلطة ذات تأثير؟
•• أسوأ من عقبات الرقابة هو غياب الخطة الوطنية وعدم ناجزية البنية التحتية الأساسية. السينما الإيرانية وصلت إلى درجات عالية من الإتقان والبراعة والإبهار والرواج العالمي رغم شبح الرقابة القاسي ورغم إلزام الممثلات بأردية لحجاب الرأس مثلا.
أكبر عقبة حالية هي غياب الصناديق الوطنية للمنح.. غياب البرمجة السليمة التي تدير هذه الصناديق.. غياب خطة إنعاش مكملات الصناعة من كتابة نصوص ووظائف تقنية خالصة. الحديث يطول..
• هل أنت راض عن ما يسمى بـ «مهرجانات الأفلام» في بعض مدن المملكة، وكيف لها دعم السينمائيين السعوديين الواعدين وصقل موهبتهم؟
•• باستثناء مهرجان الفيلم السعودي الذي نُظم في الدمام، تدخل بقية المهرجانات ضمن دائرة التهريج أو المقاولة التجارية أو الاستعراض. علينا أن نسترشد بالتجارب العالمية الصريحة في دعم السينما الوطنية الناشئة. مهرجان موريليا في المكسيك مثلا انطلق في مطلع الألفية، بغرض حفز السينما الجادة في بلاده، وقد اقتصر في بدايته على جنسيّ الأفلام القصيرة والتسجيلية، لكنه اليوم وبعد 15 عاما، يفخر بكونه أفضل وأهم مهرجان في أمريكا اللاتينية للأفلام الطويلة، وأحد أهم محركات الصناعة السينمائية المكسيكية التي غمرت أصداؤها العالم، التي لا يكاد يمر مهرجان كبير دون اقتناصها لإحدى جوائزه المرموقة.
• متى سيعرض محمود صباغ أول أفلامه في السعودية، وهل مازالت غصة «إهمال السينما محلياً» ماثلة في داخله؟
•• أنا فعلا حزين لعدم عرض فيلم «بركة يقابل بركة» رسميا في جدة أو الرياض رغم كل محاولاتي المضنية. لكني متفائل بالقادم.