عند الحديث عن الفترة التي أعقبت اكتشاف النفط وتصديره في الكويت، نجد أن الكثير يُعزى إلى طبقة التجار المحليين لجهة إقامة أسس الدولة العصرية الحديثة وتأسيس اقتصاد قوي يواكب المرحلة ومتطلباتها. حيث كانت للبيوتات والعائلات التجارية الكويتية الكبيرة بصمات واضحة ومساهمات مشهودة في تأسيس المصارف وشركات النقل والشحن والمؤسسات الخدمية الأخرى المكملة لجهود الحكومة، كما كان لهم دور فعال في إنشاء المبرات الخيرية لمساعدة المحتاجين في الداخل والخارج.
من هذه العائلات التجارية ذات التاريخ الناصع في مسيرة الكويت، عائلة البحر التي ينتمي إليها المرحوم محمد عبدالرحمن البحر والمنتشرة في كل أقطار دول مجلس التعاون والعائدة جذورها إلى النواصر من بني عمرو من بني تميم، علماً أن في الكويت أكثر من عائلة تحمل الاسم نفسه، لكنها تختلف من حيث الجذور والأصول.
ولد محمد عبدالرحمن البحر ــ الذي يوصف بأحد رجالات الكويت البارزين وأحد رعاة نهضتها الاقتصادية والتجارية والمصرفية المتميزين بالنبل والشهامة وسداد الرأي وسعة الأفق ــ في مدينة الكويت في عام 1919 ابناً أكبر لوالده التاجر وعضو المجلس البلدي عبدالرحمن البحر، وحفيداً لرجل يحمل الاسم نفسه (محمد عبدالرحمن البحر). والأخير، أي الجد، عاش ما بين سنة 1843 - 1906 وكان أجداده قد نزحوا إلى الكويت من بلدة الداخلة في سدير بإقليم نجد التي تبعد عن الرياض بنحو 175 كيلومتراً شمالاً. كما أنه يعتبر في الكويت من كبار المحسنين المعروفين بسبب أعماله الخيرية الكثيرة، مثل قيامه ببناء واحد من أعرق وأقدم مساجد العاصمة (مسجد محمد عبدالرحمن البحر بجانب سوق الخضار القديم في منطقة الوسط) في زمن لم تكن فيه الحياة في الكويت سهلة ومرفهة.
أما والد شخصيتنا، أي عبدالرحمن محمد عبدالرحمن البحر، فقد كتبت عنه صحيفة «الكويتية» (26/8/2015) نقلاً عن سلسلة «محسنون من بلادي» التوثيقية، فقالت إنه «كان أحد أعضاء لجنة التحكيم التجاري، التي كان لها دور كبير في الفصل بين المنازعات التي كانت تنشأ بين التجار، بالإضافة إلى أنه كان من التجار القلائل الذين لم يتعرضوا لخسائر أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية». ثم أضافت أنه ولد في عام 1885 وتوفي في عام 1972 في العاصمة البريطانية عن 87 عاماً، وأنه عـُرف بحُسن المعاملة، وطيب الخلق والمعشر، والالتزام بالكلمة، والجود والكرم. وكدليل على التزامه بكلمته أوردت الصحيفة قصته مع تاجر طلب منه أن يستورد له شحنة من الكبريت فوافق دون أن يستلم منه مبلغا على سبيل العربون أو الضمان، وصادف أن اندلعت آنذاك الحرب العالمية الثانية التي ارتفعت معها أسعار السلع أضعافاً مضاعفة، لكن عبدالرحمن البحر استدعى التاجر وباعه البضاعة بالسعر المتفق عليه قبل الحرب وفاء لكلمته وعهده.
وطبقا للصحيفة، فإن عبدالرحمن البحر مارس التجارة، من خلال استيراد المواد الغذائية والاستهلاكية والإنشائية للسوق المحلي وأسواق المنطقة المحيطة منذ عام 1910، وكان وكيلاً لشركات ملاحية مختلفة منذ العشرينيات من القرن المنصرم. واهتم أيضا بالنشاط العقاري داخل الكويت وخارجها، وقد ساهم مع آخرين من رجالات الكويت بتأسيس وإنشاء العديد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، التي كان لها تأثير واضح في المسيرة الاقتصادية للبلاد، ومنها: شركة النقل والتنزيل، التي كان أحد مؤسسيها ومالكيها، وتأسست في الثلاثينات، وكانت تدير الميناء وتتولى أعمال المناولة والتنزيل وتموين البواخر؛ شركة السيارات الكويتية العراقية في الثلاثينات من القرن الماضي؛ شركة الكهرباء والماء؛ شركة ناقلات النفط الكويتية، وغيرها من الشركات التي كان لها الأثر في مواكبة مراحل التطوير الاقتصادي.
وبالعودة إلى الحفيد محمد عبدالرحمن البحر نجده كغيره من أقرانه التحق في سنوات طفولته بالكتاتيب التقليدية، فتعلم فيها القرآن والخط ومبادئ الحساب وقواعد القراءة، ثم انتقل إلى المدرسة الأحمدية ليبدأ رحلة التعليم النظامي. ومن الأحمدية انتقل إلى المدرسة المباركية طلباً للمزيد من العلم والمعرفة. على أن مدرسته الحقيقية كانت الحياة العملية، ولاسيما ممارسة التجارة في سن الحادية والعشرين عبر الالتحاق بتجارة والده في سنة 1940 والعمل معه مساعداً إدارياً لـ«شركة عبدالرحمن البحر». في هذه الشركة عمل البحر مع أبيه لمدة ستة أعوام حتى سنة 1946، تعلم خلالها ما لا يمكن للمرء أن يتعلمه في أرقى الجامعات. وبعبارة أخرى تخرج الرجل من جامعة أبيه وهو يحمل خبرات مهنية لا تقدر بثمن، معطوفة على دراية عميقة بأحوال ومشارب واحتياجات وطموحات السوق والناس والمجتمع. عزز البحر مؤهلاته هذه بالدخول في الحياة العامة في سن مبكرة. إذ نراه، تأسيا بوالده، ينخرط في الخدمة العامة عبر نيل عضوية المجلس البلدي يوم أن كان المجلس تحت رئاسة حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح، وعبر نيل عضوية مجلس الصحة الذي كان يترأسه الشيخ عبدالله السالم الصباح (ولي العهد آنذاك)، ثم عبر الدخول عضواً في «مجلس الإنشاء» الذي تأسس في منتصف القرن العشرين ليكون بمثابة كيان يقوم بما تقوم به وزارة المالية من حيث إعداد ميزانية للبلاد وتوزيع المال على مختلف الدوائر والجهات الحكومية. وبينما كان مجلس الإنشاء هذا يلعب دوراً محورياً في بناء كويت حديثة ذات نهضة اقتصادية وعمرانية متميزة، أقدم البحر بالتعاون مع زملائه من تجار البلاد على تأسيس «غرفة التجارة والصناعة الكويتية» في عام 1956، وذلك من منطلق ترسيخ ودعم اقتصاد وطنهم. وهكذا صار البحر من ضمن مؤسسي الغرفة ودخل مجلس إدارتها في عام 1961 إلى أن وصل إلى منصب نائب الرئيس في سنة 1996.
بيد أن العمل الذي ارتبط باسم البحر أكثر من غيره ليس المساهمة في تأسيس الغرفة التجارية، وإنما المساهمة مع غيره من رجالات الكويت المخلصين في إطلاق «بنك الكويت الوطني» الذي رأى النور في نوفمبر 1952 كأول وأقدم كيان مصرفي وطني خالص في الكويت والخليج على الإطلاق، ناهيك عن أنه البنك الذي تولى استبدال العملة المحلية المتداولة مرتين، كانت أولاهما في مايو 1959 حينما استبدلت أوراق النقد من الروبية الهندية بأوراق روبية جديدة سميت بروبيات الخليج، وثانيتهما في إبريل ومايو 1961 حينما أصدر مجلس النقد الكويتي دنانير كويتية للاستخدام بدلاً من روبيات الخليج كضرورة من ضرورات تأكيد السيادة والاستقلالين السياسي والاقتصادي. وتقول الأدبيات المصرفية الكويتية إنه في الفترة السابقة لظهور هذا المصرف الوطني كان «البنك البريطاني» يحتكر ويدير كافة المعاملات المالية في الكويت، ويتشدد في منح القروض للمواطنين، الأمر الذي شجع البحر وتسعة من أقرانه التجار (خالد الزيد الخالد وأحمد سعود الخالد وخالد عبداللطيف الحمد وخليفة الخالد الغنيم وسيد علي سيد سليمان الرفاعي وعبدالعزيز الحمد الصقر ومحمد عبدالمحسن الخرافي ويوسف أحمد الغانم ويوسف عبدالعزيز الفليج) على التقدم بطلب إلى حاكم الكويت آنذاك الشيخ عبدالله السالم الصباح للسماح بتأسيس مصرف وطني، وهي الفكرة التي استحسنها الحاكم ودعمها بقوة من منطلقات وطنية.
والمعروف أن البحر انضم الى عضوية مجلس إدارة البنك المذكور في سنة 1959، فشهد كل مراحل نموه وتطوره منذ البدايات وإلى أن صار مؤسسة اقتصادية ضخمة معترف بها من معظم البنوك العالمية، بل ومصنف ضمن الخمسين بنكاً الأكثر أمناً حول العالم، وضمن أكبر 300 بنك في العالم. وفي عام 1983 تولى البحر منصب نائب رئيس مجلس إدارة البنك قبل أن يصبح من عام 1993 إلى حين وفاته في سنة 2014 رئيساً لمجلس الإدارة خلفاً للمرحوم محمد عبدالمحسن الخرافي. وخلال عهده تمتع البنك بأعلى التصنيفات الائتمانية في الشرق الأوسط من قبل مؤسسات التصنيف العالمية مثل «موديز» و«فيتش» و«ستاندرد أند بورز»، وصارت له أوسع شبكة من الفروع ومكاتب التمثيل الخارجية في الدول العربية والأوروبية والآسيوية، علاوة على نيويورك.
في الثامن من أغسطس 2014 طوى محمد عبدالرحمن البحر خمسة وتسعين عاماً من حياة حفلت بالنجاحات التجارية والاقتصادية التي دلت على علو كعبه وبرهنت على عقليته الإدارية الفذة. في مشواره الذي اقترب من القرن كان شاهداً حيّاً على أهم المحطات السياسية والاقتصادية في تاريخ وطنه منذ الدخول في عصر النفط واستغلال موارده في التنمية إلى الاستقلال عن بريطانيا والتصديق على الدستور وإقامة الحياة البرلمانية وتأسيس غرفة التجارة والصناعة وصولاً إلى نكسة سوق المناخ في عام 1982 فالغزو العراقي عام 1990 فالأزمة المالية العالمية في عام 2008.
الذين تعاملوا معه أو عرفوه عن كثب أجمعوا على أن الرجل، رغم تضخم ثروته وعلو مكانته الاجتماعية، وتزايد المناصب التي تقلدها، ظل كما هو إنساناً متواضعاً، رفيع الأخلاق، حلو المعشر، قريباً من العوام، كارهاً للأضواء الإعلامية. ولهذا لم يكن غريباً أن يتدافع حشد كبير من المواطنين والمقيمين يتقدمهم نائب الأمير وولي العهد الشيخ نواف الأحمد الصباح، ورئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، وبعض شيوخ الأسرة الحاكمة والوزراء والمحافظين والنواب، نحو مقبرة الصليبخات لتشييع جثمان البحر إلى مثواه الأخير.
بقي أن نذكر أن البحر فجع قبل وفاته بفقد ابنه رجل الأعمال جاسم البحر الذي توفي فجأة في يوليو 2008 عن 66 عاماً، وفقد زوجته شيخة جاسم المرزوق في ديسمبر 2013 عن 83 عاماً.
كيف تغلب «الوطني» على أزمتي «المناخ والغزو»؟
قال البحر في حوار له مع صحيفة القبس الكويتية في سنة 2007 إن «البنك الوطني واجه خلال مسيرته أزمتين حقيقيتين اجتازهما بكل نجاح وثبات، ففي حقبة الثمانينات واجه اختباراً قاسياً مع أزمة انهيار سوق الأسهم المسماة أزمة سوق المناخ عام 1982، حيث كان أسلوب العمل المصرفي المتزن والمتحفظ لبنك الكويت الوطني خلالها وراء جعله البنك الوحيد الذي لم يتأثر سلباً، ونتيجة لذلك أطلق عليه اسم (البنك الفائض الوحيد). وكان «الوطني» حذر مرات عديدة في تقاريره ونشراته الاقتصادية من خطر هذه الأزمة قبل وقوعها وقبل أن يتضرر منها كثيرون».
ثم أضاف أن الأزمة الأخرى كانت «كارثة الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990، حيث كانت اختباراً كبيراً لصلابة موقف بنك الكويت الوطني، إذ استمر في أداء أعماله من خارج الكويت والوفاء بجميع التزاماته نحو عملائه والبنوك في الخارج»، موجهاً رسالة واضحة بأن الكويت دولة مؤسسات تستطيع أن تعمل تحت أي ظروف وأن ترفع اسم الكويت في الخارج، حتى في ظل الاحتلال الغاشم، ذلك الأداء المميز للبنك خلال هاتين الأزمتين أدى إلى دعم واستمرارية الثقة من قبل عملائه وتعزيز ثقة البنوك العالمية به.
خرج من عباءة أبيه وأسس كيانه المستقل
بعدما ترك البحر العمل مع والده في عام 1946، استند الرجل إلى سمعة تجارية حميدة ورثها أباً عن جد فأقدم على تأسيس كيانه التجاري المستقل تحت اسم «مجموعة البحر» وهي مجموعة من الشركات الناجحة ذات الفروع المنتشرة في الكويت وفي مدن خليجية مثل أبوظبي ودبي والعين والشارقة والمنامة والدوحة ومسقط وصلالة، علاوة على العديد من المدن في أرجاء الوطن العربي. وتنخرط هذه الشركات في قطاعات متنوعة مثل المعدات الثقيلة والشحن البحري والسفريات والمقاولات وأنظمة الأمان والتجهيزات المكتبية والأدوات المنزلية والمواد الإستهلاكية والتجارة العامة. وبسبب ثباتها واستقرارها ونجاحها استطاعت الحصول منذ عدة عقود على وكالة وحق تمثيل عدد من كبريات الشركات العالمية مثل: وكالة شركة كاتربلر العالمية المعروفة بمعداتها الضرورية في أعمال البناء والإنشاء وشق الطرق وتعبيدها، ووكالة شركة جنرال الكتريك العالمية للأجهزة الكهربائية والإلكترونية، ووكالة شركة أليتاليا الناقل الجوي الوطني لإيطاليا، ووكالة شركة ماكنتوش للكومبيوتر، ووكالة يونيليفر المصنعة لقائمة طويلة من المواد الغذائية والمثلجات وأدوات التنظيف والاستحمام وغيرها من السلع الاستهلاكية.
سمعة رنانة في الأعمال الخيرية
وبصفته رجل أعمال ناجح، وتاجراً من أسرة كريمة، وصاحب سمعة رنانة في الصدق والأمانة وأعمال البر والإحسان، نال البحر عضوية العديد من المؤسسات والشركات الوطنية والأهلية مثل شركة السينما الكويتية الوطنية، الشركة الأهلية للتأمين والشركة الكويتية لصناعة الأنابيب المعدنية. وكان أيضا عضواً مؤسساً لجمعية القلب الكويتية علاوة على ذلك كرمته بريطانيا في عام 2003 بمنحه وسام الامبراطورية البريطانية (O B E) من الملكة اليزابيث الثانية، تقديراً للخدمات المتميزة التي قدمها للجالية البريطانية في الكويت، ولاسهاماته في تنمية وتعزيز العلاقات التاريخية بين الكويت والمملكة المتحدة.
من جانب آخر، لم يرث البحر من والده وجده حب العمل التجاري والمساهمة الاقتصادية في تنمية وطنه فحسب، وإنما ورث منهما أيضا حب الخير والإنفاق على الأسر المحتاجة وكفالة الأيتام في البلاد العربية وإنشاء المشاريع الخيرية. وآية ذلك أنه خصص أوقافاً على المشاريع الخيرية التي كان قد بدأها جده، وانتهى في عام 2004 من بناء مسجد ضخم وفقاً للطراز الفاطمي على مساحة 2500 متر مربع بمنطقة السرة كي يتسع لنحو 2500 مصل. كما أولى الرعاية الصحية اهتماماً خاصاً بدليل أنه تبرع بمبلغ 3.5 مليون دينار لإقامة «مركز البحر لجراحة العيون» بمنطقة الصباح الطبية التخصصية. وبالفعل تم بناء وتجهيز وافتتاح المركز في مايو 1999 بطاقة استيعابية تصل إلى 900 سرير مع خمس غرف للعمليات وقاعة فسيحة للمحاضرات مزودة بشاشات متصلة بغرف العمليات. وهناك «مركز النزهة الصحي» الواقع بمنطقة النزهة على مساحة خمسة آلاف متر مربع، والذي تم بناؤه بمبلغ مليون دينار من تبرعات البحر الخيرية.
من هذه العائلات التجارية ذات التاريخ الناصع في مسيرة الكويت، عائلة البحر التي ينتمي إليها المرحوم محمد عبدالرحمن البحر والمنتشرة في كل أقطار دول مجلس التعاون والعائدة جذورها إلى النواصر من بني عمرو من بني تميم، علماً أن في الكويت أكثر من عائلة تحمل الاسم نفسه، لكنها تختلف من حيث الجذور والأصول.
ولد محمد عبدالرحمن البحر ــ الذي يوصف بأحد رجالات الكويت البارزين وأحد رعاة نهضتها الاقتصادية والتجارية والمصرفية المتميزين بالنبل والشهامة وسداد الرأي وسعة الأفق ــ في مدينة الكويت في عام 1919 ابناً أكبر لوالده التاجر وعضو المجلس البلدي عبدالرحمن البحر، وحفيداً لرجل يحمل الاسم نفسه (محمد عبدالرحمن البحر). والأخير، أي الجد، عاش ما بين سنة 1843 - 1906 وكان أجداده قد نزحوا إلى الكويت من بلدة الداخلة في سدير بإقليم نجد التي تبعد عن الرياض بنحو 175 كيلومتراً شمالاً. كما أنه يعتبر في الكويت من كبار المحسنين المعروفين بسبب أعماله الخيرية الكثيرة، مثل قيامه ببناء واحد من أعرق وأقدم مساجد العاصمة (مسجد محمد عبدالرحمن البحر بجانب سوق الخضار القديم في منطقة الوسط) في زمن لم تكن فيه الحياة في الكويت سهلة ومرفهة.
أما والد شخصيتنا، أي عبدالرحمن محمد عبدالرحمن البحر، فقد كتبت عنه صحيفة «الكويتية» (26/8/2015) نقلاً عن سلسلة «محسنون من بلادي» التوثيقية، فقالت إنه «كان أحد أعضاء لجنة التحكيم التجاري، التي كان لها دور كبير في الفصل بين المنازعات التي كانت تنشأ بين التجار، بالإضافة إلى أنه كان من التجار القلائل الذين لم يتعرضوا لخسائر أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية». ثم أضافت أنه ولد في عام 1885 وتوفي في عام 1972 في العاصمة البريطانية عن 87 عاماً، وأنه عـُرف بحُسن المعاملة، وطيب الخلق والمعشر، والالتزام بالكلمة، والجود والكرم. وكدليل على التزامه بكلمته أوردت الصحيفة قصته مع تاجر طلب منه أن يستورد له شحنة من الكبريت فوافق دون أن يستلم منه مبلغا على سبيل العربون أو الضمان، وصادف أن اندلعت آنذاك الحرب العالمية الثانية التي ارتفعت معها أسعار السلع أضعافاً مضاعفة، لكن عبدالرحمن البحر استدعى التاجر وباعه البضاعة بالسعر المتفق عليه قبل الحرب وفاء لكلمته وعهده.
وطبقا للصحيفة، فإن عبدالرحمن البحر مارس التجارة، من خلال استيراد المواد الغذائية والاستهلاكية والإنشائية للسوق المحلي وأسواق المنطقة المحيطة منذ عام 1910، وكان وكيلاً لشركات ملاحية مختلفة منذ العشرينيات من القرن المنصرم. واهتم أيضا بالنشاط العقاري داخل الكويت وخارجها، وقد ساهم مع آخرين من رجالات الكويت بتأسيس وإنشاء العديد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، التي كان لها تأثير واضح في المسيرة الاقتصادية للبلاد، ومنها: شركة النقل والتنزيل، التي كان أحد مؤسسيها ومالكيها، وتأسست في الثلاثينات، وكانت تدير الميناء وتتولى أعمال المناولة والتنزيل وتموين البواخر؛ شركة السيارات الكويتية العراقية في الثلاثينات من القرن الماضي؛ شركة الكهرباء والماء؛ شركة ناقلات النفط الكويتية، وغيرها من الشركات التي كان لها الأثر في مواكبة مراحل التطوير الاقتصادي.
وبالعودة إلى الحفيد محمد عبدالرحمن البحر نجده كغيره من أقرانه التحق في سنوات طفولته بالكتاتيب التقليدية، فتعلم فيها القرآن والخط ومبادئ الحساب وقواعد القراءة، ثم انتقل إلى المدرسة الأحمدية ليبدأ رحلة التعليم النظامي. ومن الأحمدية انتقل إلى المدرسة المباركية طلباً للمزيد من العلم والمعرفة. على أن مدرسته الحقيقية كانت الحياة العملية، ولاسيما ممارسة التجارة في سن الحادية والعشرين عبر الالتحاق بتجارة والده في سنة 1940 والعمل معه مساعداً إدارياً لـ«شركة عبدالرحمن البحر». في هذه الشركة عمل البحر مع أبيه لمدة ستة أعوام حتى سنة 1946، تعلم خلالها ما لا يمكن للمرء أن يتعلمه في أرقى الجامعات. وبعبارة أخرى تخرج الرجل من جامعة أبيه وهو يحمل خبرات مهنية لا تقدر بثمن، معطوفة على دراية عميقة بأحوال ومشارب واحتياجات وطموحات السوق والناس والمجتمع. عزز البحر مؤهلاته هذه بالدخول في الحياة العامة في سن مبكرة. إذ نراه، تأسيا بوالده، ينخرط في الخدمة العامة عبر نيل عضوية المجلس البلدي يوم أن كان المجلس تحت رئاسة حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح، وعبر نيل عضوية مجلس الصحة الذي كان يترأسه الشيخ عبدالله السالم الصباح (ولي العهد آنذاك)، ثم عبر الدخول عضواً في «مجلس الإنشاء» الذي تأسس في منتصف القرن العشرين ليكون بمثابة كيان يقوم بما تقوم به وزارة المالية من حيث إعداد ميزانية للبلاد وتوزيع المال على مختلف الدوائر والجهات الحكومية. وبينما كان مجلس الإنشاء هذا يلعب دوراً محورياً في بناء كويت حديثة ذات نهضة اقتصادية وعمرانية متميزة، أقدم البحر بالتعاون مع زملائه من تجار البلاد على تأسيس «غرفة التجارة والصناعة الكويتية» في عام 1956، وذلك من منطلق ترسيخ ودعم اقتصاد وطنهم. وهكذا صار البحر من ضمن مؤسسي الغرفة ودخل مجلس إدارتها في عام 1961 إلى أن وصل إلى منصب نائب الرئيس في سنة 1996.
بيد أن العمل الذي ارتبط باسم البحر أكثر من غيره ليس المساهمة في تأسيس الغرفة التجارية، وإنما المساهمة مع غيره من رجالات الكويت المخلصين في إطلاق «بنك الكويت الوطني» الذي رأى النور في نوفمبر 1952 كأول وأقدم كيان مصرفي وطني خالص في الكويت والخليج على الإطلاق، ناهيك عن أنه البنك الذي تولى استبدال العملة المحلية المتداولة مرتين، كانت أولاهما في مايو 1959 حينما استبدلت أوراق النقد من الروبية الهندية بأوراق روبية جديدة سميت بروبيات الخليج، وثانيتهما في إبريل ومايو 1961 حينما أصدر مجلس النقد الكويتي دنانير كويتية للاستخدام بدلاً من روبيات الخليج كضرورة من ضرورات تأكيد السيادة والاستقلالين السياسي والاقتصادي. وتقول الأدبيات المصرفية الكويتية إنه في الفترة السابقة لظهور هذا المصرف الوطني كان «البنك البريطاني» يحتكر ويدير كافة المعاملات المالية في الكويت، ويتشدد في منح القروض للمواطنين، الأمر الذي شجع البحر وتسعة من أقرانه التجار (خالد الزيد الخالد وأحمد سعود الخالد وخالد عبداللطيف الحمد وخليفة الخالد الغنيم وسيد علي سيد سليمان الرفاعي وعبدالعزيز الحمد الصقر ومحمد عبدالمحسن الخرافي ويوسف أحمد الغانم ويوسف عبدالعزيز الفليج) على التقدم بطلب إلى حاكم الكويت آنذاك الشيخ عبدالله السالم الصباح للسماح بتأسيس مصرف وطني، وهي الفكرة التي استحسنها الحاكم ودعمها بقوة من منطلقات وطنية.
والمعروف أن البحر انضم الى عضوية مجلس إدارة البنك المذكور في سنة 1959، فشهد كل مراحل نموه وتطوره منذ البدايات وإلى أن صار مؤسسة اقتصادية ضخمة معترف بها من معظم البنوك العالمية، بل ومصنف ضمن الخمسين بنكاً الأكثر أمناً حول العالم، وضمن أكبر 300 بنك في العالم. وفي عام 1983 تولى البحر منصب نائب رئيس مجلس إدارة البنك قبل أن يصبح من عام 1993 إلى حين وفاته في سنة 2014 رئيساً لمجلس الإدارة خلفاً للمرحوم محمد عبدالمحسن الخرافي. وخلال عهده تمتع البنك بأعلى التصنيفات الائتمانية في الشرق الأوسط من قبل مؤسسات التصنيف العالمية مثل «موديز» و«فيتش» و«ستاندرد أند بورز»، وصارت له أوسع شبكة من الفروع ومكاتب التمثيل الخارجية في الدول العربية والأوروبية والآسيوية، علاوة على نيويورك.
في الثامن من أغسطس 2014 طوى محمد عبدالرحمن البحر خمسة وتسعين عاماً من حياة حفلت بالنجاحات التجارية والاقتصادية التي دلت على علو كعبه وبرهنت على عقليته الإدارية الفذة. في مشواره الذي اقترب من القرن كان شاهداً حيّاً على أهم المحطات السياسية والاقتصادية في تاريخ وطنه منذ الدخول في عصر النفط واستغلال موارده في التنمية إلى الاستقلال عن بريطانيا والتصديق على الدستور وإقامة الحياة البرلمانية وتأسيس غرفة التجارة والصناعة وصولاً إلى نكسة سوق المناخ في عام 1982 فالغزو العراقي عام 1990 فالأزمة المالية العالمية في عام 2008.
الذين تعاملوا معه أو عرفوه عن كثب أجمعوا على أن الرجل، رغم تضخم ثروته وعلو مكانته الاجتماعية، وتزايد المناصب التي تقلدها، ظل كما هو إنساناً متواضعاً، رفيع الأخلاق، حلو المعشر، قريباً من العوام، كارهاً للأضواء الإعلامية. ولهذا لم يكن غريباً أن يتدافع حشد كبير من المواطنين والمقيمين يتقدمهم نائب الأمير وولي العهد الشيخ نواف الأحمد الصباح، ورئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، وبعض شيوخ الأسرة الحاكمة والوزراء والمحافظين والنواب، نحو مقبرة الصليبخات لتشييع جثمان البحر إلى مثواه الأخير.
بقي أن نذكر أن البحر فجع قبل وفاته بفقد ابنه رجل الأعمال جاسم البحر الذي توفي فجأة في يوليو 2008 عن 66 عاماً، وفقد زوجته شيخة جاسم المرزوق في ديسمبر 2013 عن 83 عاماً.
كيف تغلب «الوطني» على أزمتي «المناخ والغزو»؟
قال البحر في حوار له مع صحيفة القبس الكويتية في سنة 2007 إن «البنك الوطني واجه خلال مسيرته أزمتين حقيقيتين اجتازهما بكل نجاح وثبات، ففي حقبة الثمانينات واجه اختباراً قاسياً مع أزمة انهيار سوق الأسهم المسماة أزمة سوق المناخ عام 1982، حيث كان أسلوب العمل المصرفي المتزن والمتحفظ لبنك الكويت الوطني خلالها وراء جعله البنك الوحيد الذي لم يتأثر سلباً، ونتيجة لذلك أطلق عليه اسم (البنك الفائض الوحيد). وكان «الوطني» حذر مرات عديدة في تقاريره ونشراته الاقتصادية من خطر هذه الأزمة قبل وقوعها وقبل أن يتضرر منها كثيرون».
ثم أضاف أن الأزمة الأخرى كانت «كارثة الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990، حيث كانت اختباراً كبيراً لصلابة موقف بنك الكويت الوطني، إذ استمر في أداء أعماله من خارج الكويت والوفاء بجميع التزاماته نحو عملائه والبنوك في الخارج»، موجهاً رسالة واضحة بأن الكويت دولة مؤسسات تستطيع أن تعمل تحت أي ظروف وأن ترفع اسم الكويت في الخارج، حتى في ظل الاحتلال الغاشم، ذلك الأداء المميز للبنك خلال هاتين الأزمتين أدى إلى دعم واستمرارية الثقة من قبل عملائه وتعزيز ثقة البنوك العالمية به.
خرج من عباءة أبيه وأسس كيانه المستقل
بعدما ترك البحر العمل مع والده في عام 1946، استند الرجل إلى سمعة تجارية حميدة ورثها أباً عن جد فأقدم على تأسيس كيانه التجاري المستقل تحت اسم «مجموعة البحر» وهي مجموعة من الشركات الناجحة ذات الفروع المنتشرة في الكويت وفي مدن خليجية مثل أبوظبي ودبي والعين والشارقة والمنامة والدوحة ومسقط وصلالة، علاوة على العديد من المدن في أرجاء الوطن العربي. وتنخرط هذه الشركات في قطاعات متنوعة مثل المعدات الثقيلة والشحن البحري والسفريات والمقاولات وأنظمة الأمان والتجهيزات المكتبية والأدوات المنزلية والمواد الإستهلاكية والتجارة العامة. وبسبب ثباتها واستقرارها ونجاحها استطاعت الحصول منذ عدة عقود على وكالة وحق تمثيل عدد من كبريات الشركات العالمية مثل: وكالة شركة كاتربلر العالمية المعروفة بمعداتها الضرورية في أعمال البناء والإنشاء وشق الطرق وتعبيدها، ووكالة شركة جنرال الكتريك العالمية للأجهزة الكهربائية والإلكترونية، ووكالة شركة أليتاليا الناقل الجوي الوطني لإيطاليا، ووكالة شركة ماكنتوش للكومبيوتر، ووكالة يونيليفر المصنعة لقائمة طويلة من المواد الغذائية والمثلجات وأدوات التنظيف والاستحمام وغيرها من السلع الاستهلاكية.
سمعة رنانة في الأعمال الخيرية
وبصفته رجل أعمال ناجح، وتاجراً من أسرة كريمة، وصاحب سمعة رنانة في الصدق والأمانة وأعمال البر والإحسان، نال البحر عضوية العديد من المؤسسات والشركات الوطنية والأهلية مثل شركة السينما الكويتية الوطنية، الشركة الأهلية للتأمين والشركة الكويتية لصناعة الأنابيب المعدنية. وكان أيضا عضواً مؤسساً لجمعية القلب الكويتية علاوة على ذلك كرمته بريطانيا في عام 2003 بمنحه وسام الامبراطورية البريطانية (O B E) من الملكة اليزابيث الثانية، تقديراً للخدمات المتميزة التي قدمها للجالية البريطانية في الكويت، ولاسهاماته في تنمية وتعزيز العلاقات التاريخية بين الكويت والمملكة المتحدة.
من جانب آخر، لم يرث البحر من والده وجده حب العمل التجاري والمساهمة الاقتصادية في تنمية وطنه فحسب، وإنما ورث منهما أيضا حب الخير والإنفاق على الأسر المحتاجة وكفالة الأيتام في البلاد العربية وإنشاء المشاريع الخيرية. وآية ذلك أنه خصص أوقافاً على المشاريع الخيرية التي كان قد بدأها جده، وانتهى في عام 2004 من بناء مسجد ضخم وفقاً للطراز الفاطمي على مساحة 2500 متر مربع بمنطقة السرة كي يتسع لنحو 2500 مصل. كما أولى الرعاية الصحية اهتماماً خاصاً بدليل أنه تبرع بمبلغ 3.5 مليون دينار لإقامة «مركز البحر لجراحة العيون» بمنطقة الصباح الطبية التخصصية. وبالفعل تم بناء وتجهيز وافتتاح المركز في مايو 1999 بطاقة استيعابية تصل إلى 900 سرير مع خمس غرف للعمليات وقاعة فسيحة للمحاضرات مزودة بشاشات متصلة بغرف العمليات. وهناك «مركز النزهة الصحي» الواقع بمنطقة النزهة على مساحة خمسة آلاف متر مربع، والذي تم بناؤه بمبلغ مليون دينار من تبرعات البحر الخيرية.