صورة متأخرة لشباط.
صورة متأخرة لشباط.




 .. وفي ضيافة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية قبل وفاته.
.. وفي ضيافة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية قبل وفاته.




 شباط في إحدى محاضراته المبكرة.
شباط في إحدى محاضراته المبكرة.




 شباط في شبابه.
شباط في شبابه.
عبدالله المدني
عبدالله المدني
-A +A
قراءة: الدكتور عبدالله المدني *
«حين تراه وقد أربى على العقد الثامن تهابك قسماته ويأخذك من قريب وبعيد بعيون قد أضناها السهد وطول المطالعة فاستعان بنظارات تزداد سماكتها كلما تقدَّم العمر! وتجد فصول الثمانين خريفاً ونيّف قد تركت آثارها على تجاعيد تنبِئُك بتاريخ دُوّن على صفحاتها! تقلبتْ به الحياة حتى عركته تلك السنون وعركها! وشابت الذوائب منذ زمن فلم يبقَ للسواد بقيّة حين حمل هموم القلم فزاحم الأبيض مفرقه دون خجل! وأصبحتْ عصاه لا تفارقه يتوكأ عليها دون أن تكون له فيها مآرب أخرى»، بهذه الكلمات اختزل الكاتب السعودي زياد السبيت في جريدة «الجزيرة» (5/‏11/‏2016) صورة الأديب والصحفي السعودي الكبير عبدالله بن أحمد شباط قبل نصف عام تقريباً من انتقاله إلى جوار ربه بمدينة الخبر بتاريخ 25 مايو 2017.

نعم، كان شباط بتلك الصورة.. كهلاً، يلبس نظارات سميكة.. ويستند في سيره وقيامه وقعوده إلى عصا لا تفارقه. لكنه، بطبيعة الحال، لم يكن كذلك في سنوات صباه وشبابه التي أمضاها متنقلاً ما بين مسقط رأسه في قرية «المبرز» الحساوية التي أبصر النور فيها في سنة 1933 والقرى المجاورة، التي شهدت لهوه الطفولي قبل أن يترك الأحساء بكاملها ليبدأ مشوار التعليم والعمل الذي فرض عليه هو الآخر التنقل لسنوات طويلة من عمره في ربوع الساحل الشرقي من وطنه طالباً، وموظفاً حكومياً، وصحفياً، وأديباً ومؤلفاً، ورائداً من رواد الكلمة والثقافة المتميزين بالانفتاح وحمل هموم الوطن والمواطن.


لقد كان شباط بحق واحداً من أعلام الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية.. ونقول الساحل الشرقي هنا عن قصد وتعمد لأن الرجل، الذي ظل قلبه على الدوام ينبض بحب الأحساء حيث مكان الميلاد والنشأة ومرابع الصبا واللهو وصفوف الدراسة الأولى، كان في الوقت نفسه يسري في شرايينه حُب الدمام وصفوى والقطيف حيث درس وتعرف على أصدقاء عمره، وحـُب الخُبر حيث عمل وأقام وتزوج وتثقف وأضاف إلى معارفه رجالات وشخصيات لا حصر لها، ناهيك عن أن الخُبر هي التي شهدت أوائل معاركه الصحفية، وهي التي أنجبت له أحد آثاره الخالدة وهي صحيفة «الخليج العربي».

ولد شباط، الذي تنتسب عائلته إلى آل ربيعة من بني خالد كما قلنا، في «المبرز» التي كانت وقت ميلاده مجرد بلدة خضراء صغيرة وفي ظل هذه الأجواء المعيشية الصعبة أنهى الرجل مرحلة دراسته الابتدائية وسط فرح عارم. وكان من أسباب الفرح آنذاك هو أن حامل الشهادة الابتدائية بإمكانه، إنْ أراد، أن يدخل سلك التعليم معلماً براتب جيد بمقاييس ذلك الزمن. قال شباط في حوار مع مجلة الواحة السعودية (11/‏3/‏2011): أراد والدي أن «يدخلني المدرسة الابتدائية. إلا أن سني لم تكن تؤهلني لدخول المدرسة فدخلتُ الكتّاب، وهربتُ أكثر من مرة، ولكن عندما سُجلت في المدرسة الابتدائية درستُ بجد رغم طفولتي، حتى أنني قفزت من الصف الأول إلى الثالث، ومن الثالث إلى الخامس، وكان عدد طلاب الصف الخامس لا يزيدون عن خمسة طلاب فلم يكن ذلك ما يستدعي فتح الصف السادس، فأعدتُ السنة في نفس الصف، وفي عام 1369هـ (1949م) تكررت المأساة ولم يفتح الصف السادس في المبرز فاضطررت إلى الالتحاق بمدرسة الهفوف الأميرية لإتمام المرحلة الابتدائية، فكنت أذهبُ إلى الهفوف صباحاً في إحدى سيارات الأجرة، وأعود في المساء بنفس الطريقة حتى تجاوزتُ هذه المرحلة. وما أنْ نجحتٌ في هذه المرحلة حتى التقطني الشيخ عبدالعزيز التركي معتمد المعارف آنذاك مع ثلة من زملائي للعمل في سلك التعليم».

وهكذا، تم تعيينه مدرساً بمدرسة الدمام الأولى التي كانت تسمى آنذاك «المدرسة الأميرية» أي الحكومية، ولم يكن بها سوى مدرس واحد (عبدالرزاق ابن الشيخ حمد بوبشيت)، قبل أن تزودها وزارة المعارف بمدرس ثانٍ (عبدالرحمن السنيدي) ثم مدرس ثالث (عبدالله بن صالح الخليفي)، ثم بمدير منتدب للمدرسة هو الشيخ إبراهيم حكيم، وذلك طبقاً لما ورد في مجلة «الاقتصاد» الصادرة في الدمام (6/‏7/‏2017)

شكل انتقال شباط من المبرز إلى الدمام الانعطاف الحقيقي الأول في مسيرته؛ ففي الدمام عاش حياة المدينة من بعد حياة القرية، وتعرف على مباهج المدن ووسائلها العصرية -رغم محدوديتها آنذاك- وكوّن صداقات مع أناس من خارج دائرة الساحل الشرقي، الأمر الذي توسعت معه مداركه وثقافته ومعارفه.

بعد سنة واحدة من عمله معلماً بمدرسة الدمام الأولى، تمّ نقله للتدريس بمدرسة صفوى القريبة من الدمام، حيث كانت وزارة المعارف قد افتتحتْ بها مدرستها الأولى التي كانت عبارة عن فصل واحد مفروش بالحصير داخل «حوش» منزل مكون من غرفتين. على أن شباط لم يمضِ بمدرسة صفوى سوى سنة واحدة، نُقل على إثرها إلى القطيف للتدريس بمدرسة القطيف الأولى التي كانت أفضل تجهيزاً سواء لجهة الفصول واحتياجاتها أو لجهة الكادر التعليمي. في هذه الفترة يقرر شباط الاستقالة من سلك التعليم ليلتحق بوظيفة كاتب في مصلحة العمل والعمال بالدمام. غير أن هذه الوظيفة المتواضعة لم تلبِّ طموحاته الكبيرة، فقرر في عام 1952 أن يسافر إلى مكة المكرمة، مقر مدرسة تحضير البعثات، عله يحظى ببعثة دراسية إلى الخارج تزيده علماً، وبالتالي تمنحه منصباً يليق به، إلا أنه وصل إلى مكة - طبقاً لحواره مع مجلة الواحة (مصدر سابق)- بعد إغلاق باب القبول.

هنا لم يجد شباط أمامه سوى العودة إلى الأحساء للالتحاق بمعهدها العلمي «الثانوي» الذي كان وقتئذ تحت إدارة الأديب والشاعر والمؤرخ السعودي المعروف الشيخ عبدالله بن خميس. بقي شباط في هذا المعهد لمدة عامين تتلمذ خلالهما على يدي ابن خميس وارتبط معه بعلاقة أدبية وثقافية وثيقة من خلال عملهما معاً في النادي الأدبي التابع للمعهد الذي كان وقتها شعلة من النشاط، بدليل ما كان يصدره من صحف حائطية ثرية بالمعارف مثل صحيفة حملت اسم «الضياء الجديد»، ناهيك عن قيام النادي بإصدار مجلة «هجر» التي صدر العدد الأول منها في سنة 1956، وكانت مكونة من 43 صفحة طبعت في مطابع المصري ببيروت، علماً أن الشيخ بن خميس ترأس تحريرها فيما كانت سكرتارية التحرير من نصيب شباط.

بعد أن أنهى صاحبنا امتحانات السنة الثانية الثانوية بمعهد الأحساء العلمي هجر الدراسة؛ لأنها على حد قوله لم تعجبه طريقتها، علاوة على أن أستاذه وصديقه الشيخ ابن خميس كان وقتئذ قد نُقل للعمل بالرياض. خطوته التالية كانت العودة إلى الدمام حيث عمل سكرتيراً لمجلسها البلدي لمدة لم تزد عن نصف عام. وأثناء تأديته لمسؤوليات هذا المنصب اشتعل الحنين في جوفه للعودة إلى مقاعد الدراسة، فسافر إلى القاهرة في عام 1950 لنيل دبلوم في الصحافة، فكانت تلك من المحطات المهمة في مسيرته.

وبينما كان شباط غارقاً في عالمه الصحفي المرهق، يكتب وينشر بيد، كانت يده الأخرى تساهم في بناء الوطن من خلال العمل الحكومي الخدماتي. ففي عام 1962 وقع اختيار الأمير عبدالعزيز بن سعود بن جلوي (الابن الأكبر لأمير المنطقة الشرقية الأسبق سعود بن عبدالله بن جلوي) على شباط ليكون مساعداً للشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الشعوان رئيس بلدية مدينة الخبر التي كانت وقتذاك تشق طريقها بخطى ثابتة نحو العلا بعد اختيارها من قبل شركة أرامكو لتكون المدينة المركزية لإمدادها بمختلف الخدمات. لقد وجد شباط في هذه الوظيفة فرصة عمره ليقدم شيئاً لمدينة أحبها وعشقها منذ اللحظة الأولى التي وطئت قدماه أرضها، فقبل التكليف دون تردد، وعمل بتفانٍ وإخلاص حتى سنة 1964، وهي السنة التي تم فيها نقله إلى المنطقة المحايدة كرئيس لبلديتها قبل ضم بلدية الوفرة لدولة الكويت وضم بلدية الخفجي للسعودية.

في عام 1968 يقرر شباط التقاعد من العمل الحكومي، لكن دون التقاعد من العملين الإعلامي والأدبي. ففي ذلك العام تفرغ الرجل لأعماله الخاصة التي شملت إنتاج الإعلانات التلفزيونية من خلال مؤسسة أطلق عليها اسم «هجر»، واستمر كذلك حتى تاريخ وفاته، مخصصاً بعض الوقت بين الفينة والأخرى للكتابة في الصحف والمجلات المحلية، وإلقاء المحاضرات في المنتديات الأهلية. ومن الأمور الأخرى التي انشغل بها شباط في فترة تقاعده الأدب والتاريخ.

للراحل عبدالله شباط مؤلفات متنوعة تجاوز عددها العشرين كتابا، جرى تكريمه في الأول من أكتوبر 1998 من قبل «مركز الأمير سلمان الاجتماعي» بالرياض مع كل من الأديب الشاعر حسين عرب، والعلامة الشيخ حمد الجاسر والأديب الشاعر عبدالله بن خميس، والأديب عبدالكريم بن جهيمان، والشيخ الأديب عبدالعزيز التويجري، كما تم منحه وسام الملك عبدالعزيز.

وما بين هذا وذاك، مارس الكتابة الصحفية التي تسربتْ إلى روحه وكيانه منذ عمله في صحف الحائط المدرسية ومجلة «هجر». فراسل جريدة «أخبار الظهران» الصادرة في الدمام، ومجلة «الإشعاع» الصادرة في الخُبر، وجريدة «البحرين» البحرينية ومجلة «الهدف» العراقية ومجلة «القلم الجديد» الأردنية ومجلة «السمير» التي كان يصدرها الشاعر المهجري إيليا أبوماضي من نيويورك. علاوة على كل هذا تقدم شباط في عام 1955 إلى الجهات المسؤولة بطلب لإصدار مجلة ثقافية بالأحساء تحت اسم «الخليج العربي»، فتم منحه الترخيص المطلوب وصدرت المجلة بالفعل تحت إدارة «إبراهيم بن عبدالمحسن العبدالقادر» وسكرتارية «عبدالعزيز بن سليمان العفالق»، إلا أنها توقفت عن الصدور بعد عددها السادس لأسباب مالية معطوفة على سوء التخطيط وتعدد مصادر القرار وقلة الخبرة بالعمل الصحفي، علماً أن شباط اعتمد في طباعة مجلته هذه على المطبعة السعودية التي كان قد أسسها الشاعر المعروف خالد الفرج بالدمام. وفي نهاية عام التوقف عن الصدور أي سنة 1955 التقى شباط بـ«محمد أحمد فقي» الذي كان آنذاك يترأس جهاز مرور الظهران ودارت بينهما نقاشات حول «مجلة الخليج العربي» وأسباب توقفها وكيفية إحيائها والتغلب على عثراتها، فتم الاتفاق بين الرجلين على جملة من الأمور منها: إعادة إصدار «الخليج العربي» من مدينة الخُبر كصحيفة أسبوعية على نفقة محمد أحمد فقي على أن يكون الأخير هو رئيس تحريرها وأن يكون شباط مديراً للإدارة. وفي هذا السياق، كتبت مجلة «الاقتصاد» (مصدر سابق): «وبالفعل تم استئجار مكتب بعمارة الكعكي بالخبر (في الجزء الجنوبي من شارع الملك سعود)، وصدرت المجلة بشكل جديد، وكتب لها النجاح بعد أن تطور أسلوب التوزيع الذي ارتفع من ألف نسخة إلى عشرة آلاف نسخة. وفي تلك الآونة ظهرت مطابع الرياض التي كان يشرف عليها الشيخ حمد الجاسر الذي قدَّم المساعدة والجهد وكان لديه بُعد نظر، فقام بطبع المجلة لمدة عام كامل، ووضع كل إمكانات مطابع الرياض تحت تصرف إدارتها».

ولعل من دلائل نجاح هذه المطبوعة الفريدة في المنطقة الشرقية، والتي استمرت في الصدور حتى عام 1961، أن التاجر الجداوي «عبدالعزيز فرطوشي» قدم دعماً لها في صورة إعلانات لعدد من المعلنين شريطة أن تكون الإعلانات ملونة. ونظراً لعدم وجود مطابع ملونة في المنطقة الشرقية آنذاك، تم الاتفاق على نقل الإدارة والتحرير والطباعة إلى جدة. غير أن شباط أعادها في مرحلة لاحقة إلى الخُبر بعد أن عثر على المطابع الملونة المناسبة في البحرين.

معاركه الصحفية

لقد كانت تجربة شباط مع «الخليج العربي» تجربة مثيرة بكل المقاييس وجسدت كل ما يحيط بعالم الصحافة من متاعب. وحول هذا سجل عنه قوله: «لقد استطاعت (الخليج العربي) في ذلك الوقت أن تلقي حجراً في مياه الثقافية التقليدية الراكدة آنذاك، وقد أدّت دوراً بارزاً في خدمة المجتمع، وهو دور لا تستطيع أن تلعبه لو أُتيح لها الظهور من جديد لأنها ستكون من يسابق السّيارة وهو يتوكأ على عكّاز». المعروف لدى سكان الخبر والمنطقة الشرقية أن شباط دخل في معارك مع الشعوان قبل أن يصبح مساعداً له. إذ كان يخصص مقالاته في «الخليج العربي» لتوجيه نقد مهذب بعيد عن الإسفاف للشعوان بحجة البطء في تنفيذ بعض المشاريع البلدية، فكان الشعوان يرد قائلاً: «إن العمل الحكومي ليس كالعمل الخاص؛ لأنه مرتبط بميزانيات مخصصة واعتمادات وتشريعات معينة وتواقيت مبرمجة لا يمكن تجاوزها». وقد اعترف شباط لاحقاً في مقال له بجريدة اليوم (11/‏6/‏1988) أنه كان يمثل وقتذاك «فورة الشباب وحماسه واندفاعه»، فيما كان الشعوان يمثل حكمة الشيخ الموازن بين الماضي والمستقبل بميزان التجربة، مضيفاً: «كنت أظن أن رئيس البلدية يستطيع أن يطلب فيعطى ويأمر فيطاع، أما هو فكان يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع أن يأتي بأي عمل إلا بموجب أنظمة وتشريعات وأوامر صرف وقبض في البلدية كما في أي مؤسسة حكومية».

ومن معاركه الأخرى، معركته مع شركة كهرباء الخُبر التي كتب عنها المؤرخ والباحث محمد عبدالرزاق القشعمي في جريدة الجزيرة (30/‏5/‏2005) قائلا: «نجد الشباط يكتب وينشر في جريدته (الخليج العربي) باسم مستعار هو (الهجري) ليكتشف بعد أن زودت شركة كهرباء الخُبر الجريدة بمشروع ميزانيتها، أن الميزانية المرسلة وهمية غير الميزانية الحقيقية. فينشر الميزانيتين لتثور ثائرة المسؤولين وليناصبوه العداء وليضعوا العراقيل أمامه حتى لا يطبع جريدة الخليج في المنطقة لينتقل بها بعد ذلك من المطابع السعودية بالدمام التي أسسها المرحوم خالد الفرج قبيل وفاته 1374هـ، الى مطابع الرياض حيث الشيخ حمد الجاسر ويتابع طباعتها بحماس الطالب وقتها معالي الدكتور حمود البدر أمين عام مجلس الشورى سابقاً ثم تنتقل إلى مطابع الأصفهاني بجدة حيث الألوان والطموح لصدورها مرتين في الأسبوع».

* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين