لقد قتلوني منذ يومين، لكن ما زال بوسعي أن أتحدث. قبل شهر بالتمام جاء مالك البناية التي أسكن فيها، طرق الباب مرتين، وحين نظرت من العين الصغيرة علمت أنه هو، لم أشأ أن أفتح له؛ لعلمي المسبق بالنهيق الذي سيتفضَّل به، لكن شاء الجدار أن أفعل، فحين أقفلتُ راجعًا إلى الأريكة التي كنت مستلقيًا عليها، تعمَّدَتْ حاشية الجدار أن تصطدم بقدمي، سَقَطْتُ جراء ذلك وبات واضحًا جدًا وجود شخص ما في الداخل، ومن غيري سيكون! فالكل يعرف مورينو لا أصحاب له، ولا أهل، ولا حتى كلب.
افتح الباب يا مورينو، لا يجب أن تضطرني لفعلٍ تندم عليه.
كنت مجبرًا كعادتي طبعًا، فمنذ ولدت وأنا مجبر، مجبر على وجودي، على عائلتي الفقيرة القبيحة، مجبر على بيت الصفيح في حي الخدم -سابقًا- مجبر على العمل مع تاجر المخدرات برونتو، مجبر على خيانة الإنسانية، وكسر القوانين، والأسوأ من هذا كلِّه أني مجبر على فتح الباب لهذا الطويل الأصلع، ذي الكرش المترهل، حتى أذناي لم تسلما، فهما أول المجبرين.
فتحت الباب.
وبدأ هو: مورينو لقد طال الانتظار، أنت تسرقني كل يوم، وكل ساعة، منذ ثلاثة أسابيع وأنا أنتظر تسديد المبلغ المُستحق عليك، وهذه أطول مدة صبرتها على أحدهم من قبل، لديك مهلة أربع وعشرين ساعة، بعدها لا تسأل عن رأسك أين هو. أربع وعشرون ساعة فقط، ولا حتى ثانية إضافية.
أشاح بوجهه ثم كنت أرى ظهره، اختفى إلى اليسار، ثم سمعت صوت المصعد. فورًا اتجهت نحو الحمام وغسلت أذنيَّ، رنَّ هاتفي، كان برونتو يتحدث: صفقة كبيرة تعال إلى الزقاق خلف المدرسة الابتدائية.
بسرعة شهاب ساقط -وأنا ساقط بطبعي- ارتديت سترتي البنية، أخرجت مسدسي من تحت الغسالة في المطبخ، دسسته في طرف بنطالي، صببت لي كوبًا من عصير البرتقال، الوصية الوحيدة من وصايا أمي التي التزمت بها، فقد كانت تقول إنه مفيد جدًا ويُكسب الطاقة. فور وصولي للزقاق كانت الأصفاد تجمع يديَّ لتعانقا بعضهما، المسدس الذي دسسته في طرف بنطالي هو الآخر صار في منتصف رأسي، على الأقل ما زال هناك شيء ممتع في الأمر، تحقق حلم طفولتي، أن تطاردني الشرطة وتمسك بي.
29 يومًا وأنا بين أربعة جدران، ثلاثة من طين، أما الرابع فمجموعة من القضبان، المكان مضاء بإنارة بيضاء تجعل الوقت كله واحدًا، لا نهار ولا ليل، بين فينة وأخرى أسمع ضحكات السقف، تذمر فتحة التهوية، صراخ حواشي البلاط، بكاء السرير، وشخير رخام المغسلة.
لم يتطلب الأمر كثيرًا، أيامٌ إضافيَّة أخرى وكنت مورينو مختلفًا وجديدًا، أقسمت على نفسي أن أسدد الدَّين لصاحب الشقة الذي أستأجر منه، أقسمت ألَّا أبيع المخدرات مجددًا أو أشتريها، أقسمت ألَّا أدخن، وألَّا أهزأ بالمتشردين الذين يقطنون الأزقة والأرصفة، عاهدت نفسي أن أصبح إنسانًا، أن أزرع شتلةً كل يوم، أن أزور قبر أمي شهريًا، وأن أبحث عن عمل شرعي.
لكن فات كل شيء، إنها اللحظة التي تسلك فيها الطريق الصحيح، بعد أن أصلحت فكرك، ورتبت هندامك، لكنَّ قطارًا من غمٍّ ينحرف عن مساره، فيدخل في طريقك الصحيح، متجهًا عكس سيرك ليصطدم بأمنياتك التي تركض قبلك، بأحلامك التي تتبعها، ثم بك أنت، تاركًا إياها وأنت في حالة من سكْرٍ فاتن، لا أنت ميت فتنعدم آلامك، ولا حتى حيٌّ فتعي واقعك.
بعد عشرين يومًا جاءني رجل ضخم الجثة، وجهه أحمر كمن صُفع لتوه، قال إن أمامي عشرة أيام، أكتب فيها وصيتي لأن حكم الشنق كُتب بحقي.
لم أعرف ما أصنع وإذ تخشبت لم يكن بوسع الأيام أن تفعل، لم أشعر بالزمان ومضيه لكنه كان يمضي.. تسعة أيامٍ من التجمد، يحضرون لي شيئًا يسمونه طعامًا فإذا عادوا وجدوه كما هو، يكلمونني فألتفت أنظر إلى رقابهم، لا أنظر في وجوههم، بعينين ذاهلتين أنظر! وصورة رأسي زائغًا، وعيناي معصوبتان، وجسدي المتدلي من أعلى تحكم كل تفكيري، أهز رأسي يسارًا، يمينًا، يسارًا يمينًا، ثم أصرخ، استمررت على هذه الحال حتى اليوم الثامن. قبل موتي دخل أحدهم الزنزانة التي كنت فيها، تحدَّث تحدَّث، وتحدَّث، كنت ما زلت أهز رأسي، أهزه، أهزه، يسارًا، يمينًا، يسارًا، يمينًا، ثم وجدت يدي ملتصقة بصدغه، ويدي الأخرى تضغط على رقبته. ضجة مرعبة! فُتحت الزنزانة، وضعوا أصفادًا في يديَّ، وقدميَّ، واقتادوني نحو الظلام.
ساحة كبيرة في صمت الليل، وهمس النجوم كنا نسمع أصوات صهيل الخيول تأتي متهدِّجةً من البعيد.. رأيت رافعة تهبط يدُها، فيها حبل يشبه حبل الغسيل في بيتنا القديم، رُبط مثل سلسلة.. فُكَّت أصفادي، ثم بلا وعي كان الحبل ملتصقًا برقبتي، وقد صار إدراكي متقطِّعًا.. ابتسمت حينها، وإذ نظرت للأعلى رأيت الحياة.
* قاصة موريتانية
افتح الباب يا مورينو، لا يجب أن تضطرني لفعلٍ تندم عليه.
كنت مجبرًا كعادتي طبعًا، فمنذ ولدت وأنا مجبر، مجبر على وجودي، على عائلتي الفقيرة القبيحة، مجبر على بيت الصفيح في حي الخدم -سابقًا- مجبر على العمل مع تاجر المخدرات برونتو، مجبر على خيانة الإنسانية، وكسر القوانين، والأسوأ من هذا كلِّه أني مجبر على فتح الباب لهذا الطويل الأصلع، ذي الكرش المترهل، حتى أذناي لم تسلما، فهما أول المجبرين.
فتحت الباب.
وبدأ هو: مورينو لقد طال الانتظار، أنت تسرقني كل يوم، وكل ساعة، منذ ثلاثة أسابيع وأنا أنتظر تسديد المبلغ المُستحق عليك، وهذه أطول مدة صبرتها على أحدهم من قبل، لديك مهلة أربع وعشرين ساعة، بعدها لا تسأل عن رأسك أين هو. أربع وعشرون ساعة فقط، ولا حتى ثانية إضافية.
أشاح بوجهه ثم كنت أرى ظهره، اختفى إلى اليسار، ثم سمعت صوت المصعد. فورًا اتجهت نحو الحمام وغسلت أذنيَّ، رنَّ هاتفي، كان برونتو يتحدث: صفقة كبيرة تعال إلى الزقاق خلف المدرسة الابتدائية.
بسرعة شهاب ساقط -وأنا ساقط بطبعي- ارتديت سترتي البنية، أخرجت مسدسي من تحت الغسالة في المطبخ، دسسته في طرف بنطالي، صببت لي كوبًا من عصير البرتقال، الوصية الوحيدة من وصايا أمي التي التزمت بها، فقد كانت تقول إنه مفيد جدًا ويُكسب الطاقة. فور وصولي للزقاق كانت الأصفاد تجمع يديَّ لتعانقا بعضهما، المسدس الذي دسسته في طرف بنطالي هو الآخر صار في منتصف رأسي، على الأقل ما زال هناك شيء ممتع في الأمر، تحقق حلم طفولتي، أن تطاردني الشرطة وتمسك بي.
29 يومًا وأنا بين أربعة جدران، ثلاثة من طين، أما الرابع فمجموعة من القضبان، المكان مضاء بإنارة بيضاء تجعل الوقت كله واحدًا، لا نهار ولا ليل، بين فينة وأخرى أسمع ضحكات السقف، تذمر فتحة التهوية، صراخ حواشي البلاط، بكاء السرير، وشخير رخام المغسلة.
لم يتطلب الأمر كثيرًا، أيامٌ إضافيَّة أخرى وكنت مورينو مختلفًا وجديدًا، أقسمت على نفسي أن أسدد الدَّين لصاحب الشقة الذي أستأجر منه، أقسمت ألَّا أبيع المخدرات مجددًا أو أشتريها، أقسمت ألَّا أدخن، وألَّا أهزأ بالمتشردين الذين يقطنون الأزقة والأرصفة، عاهدت نفسي أن أصبح إنسانًا، أن أزرع شتلةً كل يوم، أن أزور قبر أمي شهريًا، وأن أبحث عن عمل شرعي.
لكن فات كل شيء، إنها اللحظة التي تسلك فيها الطريق الصحيح، بعد أن أصلحت فكرك، ورتبت هندامك، لكنَّ قطارًا من غمٍّ ينحرف عن مساره، فيدخل في طريقك الصحيح، متجهًا عكس سيرك ليصطدم بأمنياتك التي تركض قبلك، بأحلامك التي تتبعها، ثم بك أنت، تاركًا إياها وأنت في حالة من سكْرٍ فاتن، لا أنت ميت فتنعدم آلامك، ولا حتى حيٌّ فتعي واقعك.
بعد عشرين يومًا جاءني رجل ضخم الجثة، وجهه أحمر كمن صُفع لتوه، قال إن أمامي عشرة أيام، أكتب فيها وصيتي لأن حكم الشنق كُتب بحقي.
لم أعرف ما أصنع وإذ تخشبت لم يكن بوسع الأيام أن تفعل، لم أشعر بالزمان ومضيه لكنه كان يمضي.. تسعة أيامٍ من التجمد، يحضرون لي شيئًا يسمونه طعامًا فإذا عادوا وجدوه كما هو، يكلمونني فألتفت أنظر إلى رقابهم، لا أنظر في وجوههم، بعينين ذاهلتين أنظر! وصورة رأسي زائغًا، وعيناي معصوبتان، وجسدي المتدلي من أعلى تحكم كل تفكيري، أهز رأسي يسارًا، يمينًا، يسارًا يمينًا، ثم أصرخ، استمررت على هذه الحال حتى اليوم الثامن. قبل موتي دخل أحدهم الزنزانة التي كنت فيها، تحدَّث تحدَّث، وتحدَّث، كنت ما زلت أهز رأسي، أهزه، أهزه، يسارًا، يمينًا، يسارًا، يمينًا، ثم وجدت يدي ملتصقة بصدغه، ويدي الأخرى تضغط على رقبته. ضجة مرعبة! فُتحت الزنزانة، وضعوا أصفادًا في يديَّ، وقدميَّ، واقتادوني نحو الظلام.
ساحة كبيرة في صمت الليل، وهمس النجوم كنا نسمع أصوات صهيل الخيول تأتي متهدِّجةً من البعيد.. رأيت رافعة تهبط يدُها، فيها حبل يشبه حبل الغسيل في بيتنا القديم، رُبط مثل سلسلة.. فُكَّت أصفادي، ثم بلا وعي كان الحبل ملتصقًا برقبتي، وقد صار إدراكي متقطِّعًا.. ابتسمت حينها، وإذ نظرت للأعلى رأيت الحياة.
* قاصة موريتانية