4474421855_4b20643258_b-720x320
4474421855_4b20643258_b-720x320
-A +A
جبريل السبعي
قد يُعبر في القصيدة بحركة الشيء. والحركة المتخيلة إيقاعها، وسرعتها، واتجاهها، وتطابقها مع المضمون الفكري؛ كل ذلك تعبير. وإذا ما قرأنا قصيدة «تلاشي» للشاعر عصام فقيري، في ديوانه الثاني «حجاب المرايا» وجدناها تعمد إلى تشكيل الحركة، بوصفها عنصراً من عناصر الطبيعة، يُرْكنُ إليها في التعبير عما يداخل النفس من رؤى، ومن أفكار. يقول الشاعر:

تُـسَافِرُ، قُـلْ لِـي: لِـمَنْ تَـذْهَبُ ... وَقَـــدْ خَــانَـكَ الـبَـحْـرُ وَالـمَـرْكِـبُ


نلاحظ أن الحركة هنا - حركة السفر - أفقية، وتتم على السطح، لكن المركب والبحر يخونان الشاعر، وكان ينتظر أن يُخلصا له، لكنهما خاناه، وعندئذ يقول:

وَكَـيـفَ سَـتَـجْتَازُ سَـقْفَ الـمَدَى ... وَمَـــا زِلْـــتَ مِــنْ قَـعْـرِهِ تُـجْـذَبُ

أي مادام البحر والمركب قد خاناك؛ إذن كيف ستقدر على الصعود إلى أمانيك؟ وكأن خيانة المكان (البحر) والوسيلة (المركب) هي السبب في عجز الشاعر عن التحرك إلى بغيته، أضف إلى ذلك أن هنالك قوة في قعر البحر، تجذب الشاعر إليها، وعليه فإنه يقف في موضع يتوسط قوتين اثنتين، إحداهما تعلوه، وتشده نحو الأعلى، والأخرى تقع أسفل منه، وتجذبه إليها أيضاً، ولعل وقوفه بين هاتين القوتين، هو ما يشعره بالثقل، وما يدفعه -من ثم- للقول:

كَــأَنَّـكَ مُــنْـذُ اقْـتَـرَفْـتَ الـرَّحِـيلَ ... تَـعَـاظَـمَ فِـــي خَــطْـوِكَ الـمَـهْرَبُ

فَأَصْبَحْتَ مَا بَينَ يَأْسَينِ تَسْعَى ... وَرُوحُــــــكَ بَـيْـنَـهُـمَـا تُــسْــحَـبُ

هُـنَـا أَوْ هُـنَـاكَ تَـسَاوَتْ أَمَـانِيكَ ... مَـــا عُـــدْتَ تَــدْرِي لِـمَـنْ تُـوهَـبُ

إن مأساة الشاعر تكمن في علوقه بين هاتين القوتين، حيث يُحكم عليه - من جهة - بالتوقف، وينشأ في داخله - من جهة أخرى - دافع للبحث عن مخرج. ولما طال رزوحه في كنف ذلك البحث المضني، أخذ يخاطب نفسه:

أَمَــا زِلْــتَ تَـبْـحَثُ عَــنْ مَـخْرَجٍ ... بِـحَـجْـمِ انْـتِـظَـارِكَ يَـــا مُـتْـعَـبُ

ومما لاشك فيه أن شاعرنا محمل بالآمال، وهو لا ينفك يحمل «ضياءً» في راحتيه، ينير له الطريق، ولكن المكان من حوله إذ يشده في اتجاهين متعاكسين، ويتسبب في إبطال حركته، هذا المكان لا يبدو في ناظريه إلا ضِيقاً، وظلاماً من فوقه ظلام:

وَتَـحْـمِـلُ فِـــي رَاحَـتَـيكَ ضِـيَـاءً ... يُــحِــيــطُ بِــأَطْــيَـافِـهِ غَــيْــهَــبُ

وَتَــعْـلَـمُ أَنَّــــكَ تَــــزْدَادُ ضِـيـقًـا ... فَــضَـاقَ بِــكَ الـشَّـرْقُ وَالـمَـغْرِبُ

ومادام الوقوف - كما علمنا - على سطح البحر، إذن فمعاناة الشاعر إنما يقاسيها بـ «الشرب» من ماء هذا البحر، يضاف إلى هذا أن ظلال المكان تتمدد على مساحة اللغة الشعرية؛ فتبرز بعض المعاني، ذات العلاقة بالبحر، كالاتساع، والعمق:

وَقَـدْ شَـرِبَتْ رُوحُكَ اليَأْسَ حَتَّى ... تَــنَـامَـى بِــهَــا شَــبَــحٌ مُــرْعِـبُ

سَـتَبْقَى بِـرَغْمِ اتِّـسَاعِ الأَمَـانِي ... يُــعَــانِــدُكَ الـــحَــظُّ وَالــمَـطْـلَـبُ

وَيَـسْـكُنُ عُـمْقَ انْـحِصَارِكَ فَـأْلٌ ... يَـــطُـــوفُ بِــأَفْــلَاكِــهِ كَـــوْكَـــبُ

وهكذا رأينا كيف يعمد النص إلى تشكيل الحركة الأفقية، فيهيئ لها سطحا تتم عليه، ثم يبتكر لها قوتين تبطلها، إحداهما علوية طاقتها الأحلام والأماني، والأخرى سفلية، تستمد قوتها من خيانة الظرف والوسيلة، ورأينا كيف أن الشاعر أرهقه اتساع المكان، وعمقه، وتساوي القوى، وألم الحصار، ورأيناه كيف يبدو مثقلاً باليأس، والحيرة، وإن كان في خضم هذه المعاناة أبدع نصاً محكم البناء.