«بعد رحلة حافلة بالعطاء والإنجازات امتدت أكثر من 120 عاماً، شكّل خلالها ظاهرة رائدة تستحق التقدير والدراسة والتوثيق، بصفته واحداً من الرواد الأوائل، ترجل اليوم «مصبح عبيد الظاهري»، أول رائد من رواد الصحافة، صاحب أول مشروع صحفي في الدولة منذ أكثر من 80 عاماً، بالتحديد في عام 1934». هذا ما كتبته صحيفة البيان الإماراتية في عددها الصادر في يوم الحادي عشر من يونيو سنة 2016. ففي ذلك اليوم انتقل إلى جوار ربه في مدينة العين بإمارة أبوظبي مصبح الظاهري صاحب جريدة «النخي» الإماراتية، وتم دفنه عقب صلاة العصر في مقبرة المعترض بمسقط رأسه بمدينة العين، فنشرت كل الصحف المحلية دون استثناء خبر رحيله وتسابقت الأقلام في رثائه والحديث عن شخصه ومآثره. فمن هي هذه الشخصية يا ترى؟ وما هي قصة صحيفة «النخي»؟ ولماذا نتحدث عنهما؟.
لنبدأ من السؤال الأخير الذي تمهد إجابته للرد على السؤالين الآخرين. نتحدث عن الجريدة وصاحبها لأن الكثيرين من أبناء الجيل الجديد في دولة الإمارات العربية المتحدة لم يسمع بهما أو لا يعلم عنهما شيئا، فما بالك بأقرانهم في خارج الإمارات، وبالتالي فتسليط الضوء عليهما هو في الواقع تسليط للضوء على حقبة البدايات في تاريخ الإمارات، وهي حقبة صعبة كانت فيها إمارات الساحل السبع تئن من الفقر والجهل والأمية وتفتقر إلى الكثير من الخدمات الضرورية. وإيصال مثل هذه الصورة إلى القراء من شباب اليوم مفيد ومطلوب، كي يدركوا أن الطريق لم يكن مفروشا بالورود في زمن آبائهم وأجدادهم، وأن ما يعيشون فيه اليوم من رغد الحياة ونعيمه سبقته عقود من التحديات والتضحيات والكفاح والعمل الشاق.
طبقا لما ورد في صحيفة الإتحاد الإماراتية (12/6/2016) ولد الشيخ مصبح بن عبيد بن مصبح الخميساني الظاهري في مدينة العين في عام 1896، وبهذا كانت وفاته عن 120 عاما، عاصر خلالها الكثير من الأحداث والتحولات التي مرت بها الإمارات ومنطقة الخليج والعالم. فمن إكتشاف النفط في بلاده وإنفاق مداخيله على التنمية وتحسين الأحوال المعيشية وإقامة البنى التحتية، إلى إلغاء معاهدات الحماية وقيام الدولة الإتحادية بين الإمارات السبع. ومن تولي الشيخ زايد يرحمه الله مقاليد الحكم في أبوظبي خلفا لأخيه الشيخ شخبوط إلى انتخاب سموه رئيسا للدولة الاتحادية الفتية. ومن قيام مجلس التعاون الخليجي إلى حرب تحرير الكويت مرورا بحرب الخليج الأولى. علاوة على ما سبق عاصر الظاهري الحربين العالمتين الأولى والثانية وحربي كوريا وفيتنام، وحروب المنطقة العربية إبتداء من حرب فلسطين الأولى وحرب السويس وحرب حزيران، ومرورا بحرب أيلول الأسود والحرب الأهلية اللبنانية، وصولا إلى الغزو الأمريكي للعراق والقتال الحالي في سورية واليمن. وما بين هذا وذاك كان شاهدا على كل الحركات الإنقلابية التي عصفت بالعالم العربي وأرجعته إلى الوراء.
أما لجهة النسب فإن الرجل ولد لأسرة من قبيلة الظاهري المعروفة التي يتصل نسبها إلى هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بحسب إحدى الروايات. وهناك بطبيعة الحال روايات أخرى تقول أن الظاهري (أو الظواهر) من أصل قحطاني عماني قديم وسموا بهذا الإسم نسبة إلى سكناهم القديم في سهل الظاهر بسلطنة عمان، وبالتالي لا صلة لهم بظواهر قبيلة قريش أو ظواهر قبيلة حرب. كما قرأت إضافات حول الموضوع نفسه تفيد بأن قبيلة الظاهري أقرب في بنيتها إلى قبيلتي بني ياس والقواسم من حيث أنها حلف قبلي لمجموعة من العشائر وبطون القبائل التي اشتركت في السكن في واحة البريمي قبل استقرارها في قرى العين وضواحيها (والله أعلم).
في مراحل عمره المبكرة نشأ مصبح الظاهري وترعرع في كنف الشيخ خليفة بن زايد الأول (عم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات طيب الله ثراه)، وتعلم القرآن الكريم أولا ثم أردفه بتعلم الكتابة والقراء والحساب على يد مربيه الشيخ خليفة بن زايد الأول. وفي هذه المرحلة من حياته، وعلى عادة أبناء جيله الذين كانت شطارتهم وإدراكهم يسبق أعمارهم، راح يتنقل ما بين العين وأبوظبي وواحة البريمي ويحضر مجالس العلماء والشيوخ والأعيان، علاوة على مجالس تجار اللؤلؤ من أمثال الشيخ «خلف بن عتيبة»، الأمر الذي أكسبه معارف إضافية كثيرة وأطلعه على تجارب من سبقوه في المغامرات التجارية.
أول مقهى في العين
لذا نراه يتجه، وهو شاب، إلى العمل والاستثمار التجاري بخطى ثابته وعزيمة صلبة، فيبني سلسلة من المحلات التجارية في سوق العين القديم مستخدما السعف والطين ويؤجرها لغيره من التجار مثل التاجر أحمد السلامي الذي استأجر منه محلا بثماني روبيات في السنة، ثم يوكل لمجموعة من البنائين المنحدرين من بر فارس مهمة تشييد أول بناية تجارية في العين باستخدام الطين أيضا، ويفتتح في تلك البناية أول عيادة طبية لطبيب إيراني مع عائلته، ثم يقوم بتشييد أول مغسلة للملابس لخدمة الجنود البريطانيين و«الهناجرة» من أصحاب النخيل، حيث كانت الملابس آنذاك تغسل بالطين والماء لأن الصابون لم يكن معروفا. وبالتزامن قام الظاهري بافتتاح أول محل للصرافة داخل منزله لتحويل ما كان يحمله الجنود الإنجليز من دنانير بحرينية وعملات أخرى إلى الروبية الهندية التي كانت حتى تلك الفترة هي العملة المتداولة في الإمارات السبع، كما قام بافتتاح أول مقهى في العين.
وما يهمنا هنا هو المقهى تحديدا الذي تحول إلى ملتقى إجتماعي ثقافي ترفيهي، واشتهر بتقديم الشاي والقهوة، علاوة على بيع «النخي» (حبيبات الحمص المسلوق التي تعرف في مصر والحجاز بـ «بليلة») الذي كان الظاهري يأتي بها بكميات كبيرة من دبي على ظهور الجمال، بسبب الإقبال الشديد عليه في العين من قبل الفقراء والموسرين على حد سواء. كما اشتهر المقهى بتردد الكثيرين عليه من أجل أن يقرأ لهم الظاهري «مكاتيب» أحبابهم وذويهم المتغربين، على اعتبار أنه كان من القلة التي تجيد القراءة والكتابة آنذاك.
في ذكرياته التي رواها لداوود محمد مراسل صحيفة البيان (26/10/2005) شرح الظاهري كم كانت الحياة في أيامه بسيطة وادعة، فقال ما مفاده إن مقهاه كان المكان الوحيد في العين الذي يتجمع فيه أبناء المدينة وغيرهم من القادمين من مناطق أخرى مثل «الجاهلي» و«المويجعي» و«المعترض» و«البريمي»، إضافة إلى بعض الجنود الإنجليز، من أجل السهر وتناول القهوة والشاي على ضوء القمر، مضيفا: «كانوا (أي رواد المقهى) أيام البرد يلتحفون أكياس الرز الخالية، ويفترشون بقايا علب الكرتون»، ويتبادلون القصص والحكايات والأشعار حتى أذان العشاء«، ثم يخلدون إلى النوم.
صدفة صحيفة «النخي»
أراد الظاهري أن يكثف من مبيعات «النخي»، فعمد في عام 1934 إلى كتابة فوائده على جريد النخل وأوراق الكرتون المقوى، وقام بتعليق عدة نسخ منها على جدران مقهاه الشعبي كي يقرأها كل من يتردد على المكان. ولذا قيل عنه أنه مؤسس أول صحيفة إقتصادية من نوعها في الإمارات، كما قيل أنه صاحب أول إعلان صحفي. ويقول داوود محمد في حواره المشار إليه مع الظاهري في صحيفة البيان (مصدر سابق) أن على رأس فوائد النخي التي دونها صاحبنا في الإعلان المذكور هو أن هذا النوع من البقولات تحديدا كفيل بتحويل من يتناوله إلى «عنتر» بمعنى أنه يمنحه «طاقة» مضاعفة.
بعد ذلك راح الظاهري يطور تجربته الصحفية (إنْ صح التعبير). دعونا نقرأ ما قاله بنفسه عن ذلك (بتصرف):«طورتُ التجربة لاحقاً، فبدأت بكتابة الأخبار والمعلومات عن المواليد والوفيات والأعراس وأحوال الطقس، وحتى حالات الطلاق في مناطق العين، فضلاً عـن أخبار وصول القوافل التجارية الآتية من أبوظبي ودبي والشارقة، وظروف الطريق من العين إلى أبوظبي ودبي، وفي مرحلة لاحقة أضفتُ الأخبار التي كنتُ أسمعها من إذاعة صوت العرب ولندن». إلى ذلك دأب الظاهري في تلك الفترة على جمع الأخبار والقصص من أبناء الإمارات العائدين من العمل في دول الجوار مثل البحرين والكويت وقطر والمنطقة الشرقية من السعودية، ونشرها في صحيفته التي كانت حتى ذلك الوقت تشبه صحف الحائط المدرسية.
ثم حدث التطوير الأهم وهو إستبدال جريد النخل والورق المقوى بالورق العادي في تحرير مواد الجريدة، ونشرها وبيعها على المهتمين بشؤون الإمارات. وهكذا ظهرتْ أولى صحف الإمارات البدائية من مدينة العين بجهود الظاهري الفردية تحت إسم»النخي«. هذا الإسم الشعبي الغريب الذي إلتصق بها دون تخطيط، كنتيجة عمل عفوي هو الدعاية للنخي.
أوائل من التقتهم الصحافة اللبنانية
ومن الغرائب في سيرة الظاهري أيضا أنه كان من أوائل أبناء الإمارات الذين إلتقتهم الصحافة اللبنانية وأجرت معهم حوارا. ومبعث الغرابة هنا هو أن الصحافة اللبنانية آنذاك لم تكن تولى اهتماما كبيرا بشؤون الإمارات التي لم يكن بها في تلك الفترة المبكرة من مسيرتها الظافرة حراك إقتصادي وثقافي يذكر. فقبل أكثر من ستين عاما زار العين الإعلامي اللبناني»علي عبود«خصيصا للإلتقاء بالظاهري والإطلاع على تجربته الإعلامية البسيطة على اعتبار أنه خاض مجال الصحافة بالفطرة ومن غير أن يمتلك أيا من مقوماتها ومن دون أدنى معرفة بتقنياتها. فاستقبله الظاهري وأسكنه في عمارته بسبب خلو العين من الفنادق وبيوت الضيافة وقتذاك ثم استضافه بمنزله لإجراء مقابلة صحفية معه. وقد قام الإعلامي عبود بنشر المقابلة في الصحافة اللبنانية لاحقا.
ونختتم بذكر شيء عن أيام الرجل الأخيرة قبل رحيله إلى جوار ربه، وهي أيام عاشها بصعوبة بسبب أمراض الشيخوخة وتقدم السن، خصوصا وأنه كان وحيدا بلا زوجة أو أبناء، فتولى رعايته بعض أقاربه الذين أكدوا أن الظاهري ظل حتى آخر يوم من حياته يمتلك ذاكرة قوية وروحا مرحة ويحن إلى أصدقائه من التجار وإلى سوق مدينة العين القديم وأيام الشيخ زايد رحمه الله يوم أن كان حاكما لإمارة أبوظبي.
الراديو ورطه مع الإنجليز
نعم. كان الظاهري شديد الإهتمام بمقهاه، وكان حريصا على عدم التفريط بزبائنه، فأحضر لهم الإسطوانات وجهاز الفونوغراف المعروف محليا باسم»البشتخته«لأول مرة في تاريخ العين، حيث اشتراه من تاجر في دبي إسمه»يوسف حبيب اليوسف«، ثم زوّد مقهاه بجهاز الراديو، واضعا إياه في مكان مرتفع مميز. ولهذه الخطوة الأخيرة قصة رواها بنفسه مفادها أن جنديا بريطانيا أتى ذات يوم إلى المقهى وبيده جهاز لم يره الظاهري من قبل، فسأله عن الجهاز الذي كان يطلق أصواتا ومعزوفات، فرد الجندي قائلا إنه الراديو وأراه طريقة تشغيله وإغلاقه وتغيير موجاته. وعلى حين راح بعض رواد المقهى يكبر ويستعيذ من الشيطان الرجيم ظانا أن الآلة الغريب مسكونة بالجن والعفاريت، راح البعض الآخر يهرول بعيدا من شدة الخوف. أما صاحبنا الظاهري فقد كان في هذه الأثناء مشغولا بالتفاوض مع الجندي البريطاني حول شراء مذياعه، فباعه إياه في نهاية المطاف بخمسة وعشرين روبية.
مع مرور الأيام تكيف رواد المقهى مع الراديو، بل استحسنوا وجوده وباتوا لا يستغنون عنه في جلساتهم. أما الظاهري فقد راح يعتمد عليه كمصدر لإلتقاط الأخبار ومن ثمّ إختصارها في جمل قصيرة فتحريرها يدويا في صحيفته. لكن يبدو أن تعلق الظاهري بإذاعة صوت العرب المصرية ومداومته على الإستماع إلى مذيعها المعروف أحمد سعيد صاحب التعليقات النارية والتحليلات التحريضية جعلته ذات مرة يـُقــْدم على تجربة، كانت الأولى والأخيرة له، وهي كتابة مقال سياسي ونشره في صحيفة النخي. هذا العمل ألـّب عليه سلطات الحماية البريطانية، فكان قرارها بإغلاق الصحيفة.
في أعقاب إغلاق الإنجليز لصحيفة النخي، راح الظاهري يركز جهده وكامل طاقته على أعماله التجارية داخل بلاده، مضيفا إليها بعض المشاريع التجارية في دول الجوار الخليجي حتى غدا واحدا من أصحاب المقاولات الإنشائية الضخمة والأثرياء الكبار الذين يطمع فيهم الآخرون، بدليل أنه تعرض ــ كما قيل وتردد ـــ في أواخر حياته لعملية نصب واحتيال من أحد الأشخاص الأكثر قربا منه وهو مدير أعماله الذي عمل معه على مدى ربع قرن تقريبا، علما بأن هذه الحكاية شغلت الناس والمحاكم طويلا.
الغريب في حكاية الظاهري إنه عاش طيلة حياته عازبا دون زوجة أو أبناء، باستثناء عدة أشهر تزوج خلالها من سيدة وانتهت زيجته تلك بالطلاق وعدم تكرار التجربة مرة أخرى. وقد تحدث الرجل في حواره مع صحيفة البيان في سنة 2005 (مصدر سابق) عن المرأة والزواج فقال إن المرأة لا تشكل هاجسا أو حاجة في حياته. وفي الحوار نفسه أرجع بقاءه طويلا على قيد الحياة إلى امتناعه عن الزواج والإنجاب، قائلا لمحاوره:»تصدّق لو أنني تزوجت لفقدت حياتي من زمان ولم أعش لهذه الأيام".
شاعر تغزل في بلاده
من الأمور الأخرى عن الرجل أنه قرض الشعر، وله قصائد في مدح حكام الإمارات، ووصف بعض إمارات بلاده، ناهيك عن قصائد أخرى في الغزل والوصف والحنين إلى الماضي. من قصائده، القصيدة التالية التي صاغها ــ قبل وفاته ــ حبا في دبي وإشادة بشيوخها الأكارم من آل مكتوم:
الخير جاها من السما وغطاها
راشد بن سعيد الذي بناها
شوف المشاريع التي سواها
تشبه عروس واقفه بمغشاها
الشيخ مكتوم الذي علاها
أسس مبانيها على تقواها
الشيخ حمدان بالذهب حلاها
الكل يحب دبي ولي فكرها
والشيخ محمد بالفكر غذاها
بالحلم والأخلاق رفع طرواها
قدوة للعالم والعرب سواها
ثالث مطار بالعالم سجل
رفع دبي للثريا والنجوم سواها
حتى المحاكم والداير كلها
تمشي على حسب النظام خلاها
الأمن.. ما قصر ضاحي وربعه
وقد أسود يد واللي وياها.
لنبدأ من السؤال الأخير الذي تمهد إجابته للرد على السؤالين الآخرين. نتحدث عن الجريدة وصاحبها لأن الكثيرين من أبناء الجيل الجديد في دولة الإمارات العربية المتحدة لم يسمع بهما أو لا يعلم عنهما شيئا، فما بالك بأقرانهم في خارج الإمارات، وبالتالي فتسليط الضوء عليهما هو في الواقع تسليط للضوء على حقبة البدايات في تاريخ الإمارات، وهي حقبة صعبة كانت فيها إمارات الساحل السبع تئن من الفقر والجهل والأمية وتفتقر إلى الكثير من الخدمات الضرورية. وإيصال مثل هذه الصورة إلى القراء من شباب اليوم مفيد ومطلوب، كي يدركوا أن الطريق لم يكن مفروشا بالورود في زمن آبائهم وأجدادهم، وأن ما يعيشون فيه اليوم من رغد الحياة ونعيمه سبقته عقود من التحديات والتضحيات والكفاح والعمل الشاق.
طبقا لما ورد في صحيفة الإتحاد الإماراتية (12/6/2016) ولد الشيخ مصبح بن عبيد بن مصبح الخميساني الظاهري في مدينة العين في عام 1896، وبهذا كانت وفاته عن 120 عاما، عاصر خلالها الكثير من الأحداث والتحولات التي مرت بها الإمارات ومنطقة الخليج والعالم. فمن إكتشاف النفط في بلاده وإنفاق مداخيله على التنمية وتحسين الأحوال المعيشية وإقامة البنى التحتية، إلى إلغاء معاهدات الحماية وقيام الدولة الإتحادية بين الإمارات السبع. ومن تولي الشيخ زايد يرحمه الله مقاليد الحكم في أبوظبي خلفا لأخيه الشيخ شخبوط إلى انتخاب سموه رئيسا للدولة الاتحادية الفتية. ومن قيام مجلس التعاون الخليجي إلى حرب تحرير الكويت مرورا بحرب الخليج الأولى. علاوة على ما سبق عاصر الظاهري الحربين العالمتين الأولى والثانية وحربي كوريا وفيتنام، وحروب المنطقة العربية إبتداء من حرب فلسطين الأولى وحرب السويس وحرب حزيران، ومرورا بحرب أيلول الأسود والحرب الأهلية اللبنانية، وصولا إلى الغزو الأمريكي للعراق والقتال الحالي في سورية واليمن. وما بين هذا وذاك كان شاهدا على كل الحركات الإنقلابية التي عصفت بالعالم العربي وأرجعته إلى الوراء.
أما لجهة النسب فإن الرجل ولد لأسرة من قبيلة الظاهري المعروفة التي يتصل نسبها إلى هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بحسب إحدى الروايات. وهناك بطبيعة الحال روايات أخرى تقول أن الظاهري (أو الظواهر) من أصل قحطاني عماني قديم وسموا بهذا الإسم نسبة إلى سكناهم القديم في سهل الظاهر بسلطنة عمان، وبالتالي لا صلة لهم بظواهر قبيلة قريش أو ظواهر قبيلة حرب. كما قرأت إضافات حول الموضوع نفسه تفيد بأن قبيلة الظاهري أقرب في بنيتها إلى قبيلتي بني ياس والقواسم من حيث أنها حلف قبلي لمجموعة من العشائر وبطون القبائل التي اشتركت في السكن في واحة البريمي قبل استقرارها في قرى العين وضواحيها (والله أعلم).
في مراحل عمره المبكرة نشأ مصبح الظاهري وترعرع في كنف الشيخ خليفة بن زايد الأول (عم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات طيب الله ثراه)، وتعلم القرآن الكريم أولا ثم أردفه بتعلم الكتابة والقراء والحساب على يد مربيه الشيخ خليفة بن زايد الأول. وفي هذه المرحلة من حياته، وعلى عادة أبناء جيله الذين كانت شطارتهم وإدراكهم يسبق أعمارهم، راح يتنقل ما بين العين وأبوظبي وواحة البريمي ويحضر مجالس العلماء والشيوخ والأعيان، علاوة على مجالس تجار اللؤلؤ من أمثال الشيخ «خلف بن عتيبة»، الأمر الذي أكسبه معارف إضافية كثيرة وأطلعه على تجارب من سبقوه في المغامرات التجارية.
أول مقهى في العين
لذا نراه يتجه، وهو شاب، إلى العمل والاستثمار التجاري بخطى ثابته وعزيمة صلبة، فيبني سلسلة من المحلات التجارية في سوق العين القديم مستخدما السعف والطين ويؤجرها لغيره من التجار مثل التاجر أحمد السلامي الذي استأجر منه محلا بثماني روبيات في السنة، ثم يوكل لمجموعة من البنائين المنحدرين من بر فارس مهمة تشييد أول بناية تجارية في العين باستخدام الطين أيضا، ويفتتح في تلك البناية أول عيادة طبية لطبيب إيراني مع عائلته، ثم يقوم بتشييد أول مغسلة للملابس لخدمة الجنود البريطانيين و«الهناجرة» من أصحاب النخيل، حيث كانت الملابس آنذاك تغسل بالطين والماء لأن الصابون لم يكن معروفا. وبالتزامن قام الظاهري بافتتاح أول محل للصرافة داخل منزله لتحويل ما كان يحمله الجنود الإنجليز من دنانير بحرينية وعملات أخرى إلى الروبية الهندية التي كانت حتى تلك الفترة هي العملة المتداولة في الإمارات السبع، كما قام بافتتاح أول مقهى في العين.
وما يهمنا هنا هو المقهى تحديدا الذي تحول إلى ملتقى إجتماعي ثقافي ترفيهي، واشتهر بتقديم الشاي والقهوة، علاوة على بيع «النخي» (حبيبات الحمص المسلوق التي تعرف في مصر والحجاز بـ «بليلة») الذي كان الظاهري يأتي بها بكميات كبيرة من دبي على ظهور الجمال، بسبب الإقبال الشديد عليه في العين من قبل الفقراء والموسرين على حد سواء. كما اشتهر المقهى بتردد الكثيرين عليه من أجل أن يقرأ لهم الظاهري «مكاتيب» أحبابهم وذويهم المتغربين، على اعتبار أنه كان من القلة التي تجيد القراءة والكتابة آنذاك.
في ذكرياته التي رواها لداوود محمد مراسل صحيفة البيان (26/10/2005) شرح الظاهري كم كانت الحياة في أيامه بسيطة وادعة، فقال ما مفاده إن مقهاه كان المكان الوحيد في العين الذي يتجمع فيه أبناء المدينة وغيرهم من القادمين من مناطق أخرى مثل «الجاهلي» و«المويجعي» و«المعترض» و«البريمي»، إضافة إلى بعض الجنود الإنجليز، من أجل السهر وتناول القهوة والشاي على ضوء القمر، مضيفا: «كانوا (أي رواد المقهى) أيام البرد يلتحفون أكياس الرز الخالية، ويفترشون بقايا علب الكرتون»، ويتبادلون القصص والحكايات والأشعار حتى أذان العشاء«، ثم يخلدون إلى النوم.
صدفة صحيفة «النخي»
أراد الظاهري أن يكثف من مبيعات «النخي»، فعمد في عام 1934 إلى كتابة فوائده على جريد النخل وأوراق الكرتون المقوى، وقام بتعليق عدة نسخ منها على جدران مقهاه الشعبي كي يقرأها كل من يتردد على المكان. ولذا قيل عنه أنه مؤسس أول صحيفة إقتصادية من نوعها في الإمارات، كما قيل أنه صاحب أول إعلان صحفي. ويقول داوود محمد في حواره المشار إليه مع الظاهري في صحيفة البيان (مصدر سابق) أن على رأس فوائد النخي التي دونها صاحبنا في الإعلان المذكور هو أن هذا النوع من البقولات تحديدا كفيل بتحويل من يتناوله إلى «عنتر» بمعنى أنه يمنحه «طاقة» مضاعفة.
بعد ذلك راح الظاهري يطور تجربته الصحفية (إنْ صح التعبير). دعونا نقرأ ما قاله بنفسه عن ذلك (بتصرف):«طورتُ التجربة لاحقاً، فبدأت بكتابة الأخبار والمعلومات عن المواليد والوفيات والأعراس وأحوال الطقس، وحتى حالات الطلاق في مناطق العين، فضلاً عـن أخبار وصول القوافل التجارية الآتية من أبوظبي ودبي والشارقة، وظروف الطريق من العين إلى أبوظبي ودبي، وفي مرحلة لاحقة أضفتُ الأخبار التي كنتُ أسمعها من إذاعة صوت العرب ولندن». إلى ذلك دأب الظاهري في تلك الفترة على جمع الأخبار والقصص من أبناء الإمارات العائدين من العمل في دول الجوار مثل البحرين والكويت وقطر والمنطقة الشرقية من السعودية، ونشرها في صحيفته التي كانت حتى ذلك الوقت تشبه صحف الحائط المدرسية.
ثم حدث التطوير الأهم وهو إستبدال جريد النخل والورق المقوى بالورق العادي في تحرير مواد الجريدة، ونشرها وبيعها على المهتمين بشؤون الإمارات. وهكذا ظهرتْ أولى صحف الإمارات البدائية من مدينة العين بجهود الظاهري الفردية تحت إسم»النخي«. هذا الإسم الشعبي الغريب الذي إلتصق بها دون تخطيط، كنتيجة عمل عفوي هو الدعاية للنخي.
أوائل من التقتهم الصحافة اللبنانية
ومن الغرائب في سيرة الظاهري أيضا أنه كان من أوائل أبناء الإمارات الذين إلتقتهم الصحافة اللبنانية وأجرت معهم حوارا. ومبعث الغرابة هنا هو أن الصحافة اللبنانية آنذاك لم تكن تولى اهتماما كبيرا بشؤون الإمارات التي لم يكن بها في تلك الفترة المبكرة من مسيرتها الظافرة حراك إقتصادي وثقافي يذكر. فقبل أكثر من ستين عاما زار العين الإعلامي اللبناني»علي عبود«خصيصا للإلتقاء بالظاهري والإطلاع على تجربته الإعلامية البسيطة على اعتبار أنه خاض مجال الصحافة بالفطرة ومن غير أن يمتلك أيا من مقوماتها ومن دون أدنى معرفة بتقنياتها. فاستقبله الظاهري وأسكنه في عمارته بسبب خلو العين من الفنادق وبيوت الضيافة وقتذاك ثم استضافه بمنزله لإجراء مقابلة صحفية معه. وقد قام الإعلامي عبود بنشر المقابلة في الصحافة اللبنانية لاحقا.
ونختتم بذكر شيء عن أيام الرجل الأخيرة قبل رحيله إلى جوار ربه، وهي أيام عاشها بصعوبة بسبب أمراض الشيخوخة وتقدم السن، خصوصا وأنه كان وحيدا بلا زوجة أو أبناء، فتولى رعايته بعض أقاربه الذين أكدوا أن الظاهري ظل حتى آخر يوم من حياته يمتلك ذاكرة قوية وروحا مرحة ويحن إلى أصدقائه من التجار وإلى سوق مدينة العين القديم وأيام الشيخ زايد رحمه الله يوم أن كان حاكما لإمارة أبوظبي.
الراديو ورطه مع الإنجليز
نعم. كان الظاهري شديد الإهتمام بمقهاه، وكان حريصا على عدم التفريط بزبائنه، فأحضر لهم الإسطوانات وجهاز الفونوغراف المعروف محليا باسم»البشتخته«لأول مرة في تاريخ العين، حيث اشتراه من تاجر في دبي إسمه»يوسف حبيب اليوسف«، ثم زوّد مقهاه بجهاز الراديو، واضعا إياه في مكان مرتفع مميز. ولهذه الخطوة الأخيرة قصة رواها بنفسه مفادها أن جنديا بريطانيا أتى ذات يوم إلى المقهى وبيده جهاز لم يره الظاهري من قبل، فسأله عن الجهاز الذي كان يطلق أصواتا ومعزوفات، فرد الجندي قائلا إنه الراديو وأراه طريقة تشغيله وإغلاقه وتغيير موجاته. وعلى حين راح بعض رواد المقهى يكبر ويستعيذ من الشيطان الرجيم ظانا أن الآلة الغريب مسكونة بالجن والعفاريت، راح البعض الآخر يهرول بعيدا من شدة الخوف. أما صاحبنا الظاهري فقد كان في هذه الأثناء مشغولا بالتفاوض مع الجندي البريطاني حول شراء مذياعه، فباعه إياه في نهاية المطاف بخمسة وعشرين روبية.
مع مرور الأيام تكيف رواد المقهى مع الراديو، بل استحسنوا وجوده وباتوا لا يستغنون عنه في جلساتهم. أما الظاهري فقد راح يعتمد عليه كمصدر لإلتقاط الأخبار ومن ثمّ إختصارها في جمل قصيرة فتحريرها يدويا في صحيفته. لكن يبدو أن تعلق الظاهري بإذاعة صوت العرب المصرية ومداومته على الإستماع إلى مذيعها المعروف أحمد سعيد صاحب التعليقات النارية والتحليلات التحريضية جعلته ذات مرة يـُقــْدم على تجربة، كانت الأولى والأخيرة له، وهي كتابة مقال سياسي ونشره في صحيفة النخي. هذا العمل ألـّب عليه سلطات الحماية البريطانية، فكان قرارها بإغلاق الصحيفة.
في أعقاب إغلاق الإنجليز لصحيفة النخي، راح الظاهري يركز جهده وكامل طاقته على أعماله التجارية داخل بلاده، مضيفا إليها بعض المشاريع التجارية في دول الجوار الخليجي حتى غدا واحدا من أصحاب المقاولات الإنشائية الضخمة والأثرياء الكبار الذين يطمع فيهم الآخرون، بدليل أنه تعرض ــ كما قيل وتردد ـــ في أواخر حياته لعملية نصب واحتيال من أحد الأشخاص الأكثر قربا منه وهو مدير أعماله الذي عمل معه على مدى ربع قرن تقريبا، علما بأن هذه الحكاية شغلت الناس والمحاكم طويلا.
الغريب في حكاية الظاهري إنه عاش طيلة حياته عازبا دون زوجة أو أبناء، باستثناء عدة أشهر تزوج خلالها من سيدة وانتهت زيجته تلك بالطلاق وعدم تكرار التجربة مرة أخرى. وقد تحدث الرجل في حواره مع صحيفة البيان في سنة 2005 (مصدر سابق) عن المرأة والزواج فقال إن المرأة لا تشكل هاجسا أو حاجة في حياته. وفي الحوار نفسه أرجع بقاءه طويلا على قيد الحياة إلى امتناعه عن الزواج والإنجاب، قائلا لمحاوره:»تصدّق لو أنني تزوجت لفقدت حياتي من زمان ولم أعش لهذه الأيام".
شاعر تغزل في بلاده
من الأمور الأخرى عن الرجل أنه قرض الشعر، وله قصائد في مدح حكام الإمارات، ووصف بعض إمارات بلاده، ناهيك عن قصائد أخرى في الغزل والوصف والحنين إلى الماضي. من قصائده، القصيدة التالية التي صاغها ــ قبل وفاته ــ حبا في دبي وإشادة بشيوخها الأكارم من آل مكتوم:
الخير جاها من السما وغطاها
راشد بن سعيد الذي بناها
شوف المشاريع التي سواها
تشبه عروس واقفه بمغشاها
الشيخ مكتوم الذي علاها
أسس مبانيها على تقواها
الشيخ حمدان بالذهب حلاها
الكل يحب دبي ولي فكرها
والشيخ محمد بالفكر غذاها
بالحلم والأخلاق رفع طرواها
قدوة للعالم والعرب سواها
ثالث مطار بالعالم سجل
رفع دبي للثريا والنجوم سواها
حتى المحاكم والداير كلها
تمشي على حسب النظام خلاها
الأمن.. ما قصر ضاحي وربعه
وقد أسود يد واللي وياها.