بحلول الليل يبدأ بتفقد كل شيء، يرفع الأغطية -ربما يجد الحنين أسفلها- يتفقد الخزائن، ربما تسلل أحدهم عبر ذاكرته فاختبأ هناك، يصعد إلى العلية يبحث بين الفراغات عن أجزاء جديدة ربما تكون للتو ظهرت لتنبئ بشيء عن أيامه المقبلة -ولو أنه يعرف قلة جدوى الأنباء كلها- ينظر نحو المدى فلا يرى غير الغول الذي خبره منذ طفولته، ما زال يخطو مقبلاً لا يصل. يهبط نازلاً نحو القبو، يتفقد الماضي، صورة صورة، يمسح الغبار عن الرسائل، يحرق بعضها -تلك التي لم تعد تعنيه- أو يلغي بعض الكلمات -المزعجة منها، أو التي صارت حميمية بشكل لا يطاق- يعود إلى غرفة نومه، وقبل أن ينام، يُخرج قلبه ليتفقده؛ يتأمله، ثم يبدأ العمل: ينتشل كل الأجزاء الميتة، يضبط عواطفه مثلما يضبط ساعة المنبه، يرمي ببعض الشظايا -حدث انفجار هنا- يفتش عن أشخاص لا يعنيهم أمره يلتقطهم بإصبعيه ملقيًا بهم نحو الخارج، ينظر إليهم بنصف عين وكأنهم خطيئته الأكثر خصوصية، وحالما يرى ظهورهم تتضاءل تسكنه الطمأنينة. يقلِّبه... يتأمله مجددًا ثم يقرر أن عليه تحديد وقتٍ يوقف بعده عمل ذلك الجزء الذي طالما كان مفرطًا في حساسيته، منحازًا إلى القلق، يتأكد من وجود ما يكفيه من ساعات، وقد يحدث أن يتبرع ببعضها.. هكذا ببساطة «الدنيا صعبة» يقول، «وهذه فائضة عن حاجتي» يفتح النافذة... يخطو خطوتين إلى الأمام يتوقَّف، ثم يمدُّ يديه ليكبَّها نحو بيت جاره، حتى إنه لفرط بهجته يلقي بالبرميل الذي وضعها فيه، وينشقُّ فمه عن ابتسامة توحي بارتباك واهٍ، إذا سمعه وقد اصطدم بالبراميل الأخرى في الأسفل، تلك التي يضعها جاره لالتقاط هذه الساعات التي لا يعرف كم كارثةً تحمل، «غبي!» يقول، ثم يصوِّب عينيه مثل أي مسدس آخر ليراها؛ ساعات عمره تتلوّى! الآن فقط يعرف من أين كان يأتيه كل ذلك الخوف. يقفل عائدًا إلى الفراش، وقبل أن يتمدَّد، تدقُّ الساعة، اللعنة التي يفترض أنها لم تعد تعنيه، يلتفت نحوها ثم يلتفت إلى نفسه، وهكذا... حتى ينقضي الليل.