أذكر أن أحد الكتّاب المخضرمين قال لي «إذا أردتَ أن تُميتَ شيئاً أو شخصاً في داخلك فاكتبه»، ربما كان محقاً، إلا أن الكتابة أيضاً إحياء، إما لذكرى ما أو لتاريخ أو لواقعة. وبعض الكُتّاب يقع في ورطة مع المحاكمات الاجتماعية بسبب ما يكتب من موروث خصوصاً القصائد والأهازيج والأمثال الملغومة التي يتعاطى معها الكاتب على ظاهرها وبحسن نية دون وعي بحمولاتها وخلفياتها التاريخية.
عندما انتهيتُ من قراءة رواية (حرب تحت الجلد) للروائي اليمني أحمد زين تذكرتُ على الفور نظرية (جان بود ريار) عن موت الواقع، والنظرية معرفية وقابلة للتحقق بحكم أن لكل واقع أركانا ومبادئ ونظريات تتمثل في الجغرافيا والتاريخ والنفس والمجتمع والحياة، فكما كان قيام جدار برلين شاهداً على حقبة المعسكرين شبه المتكافئين، فإن انهياره دل على انتصار القطب الواحد، وكذلك الحال مع الأفكار والأيديولوجيات التي تموت أو تتحلل أو تنحل فيذوي وينهار كل ما انبنى عليها ليحل محلها غيرها.
ربما كانت المجتمعات الغربية والمعاصرة تحديداً أكثر استجابة للتحولات بحكم انعدام التفاوت بين النظرية والتطبيق، وبين الأفكار والممارسة الحياتية اليومية، إلا أن المواطن العربي لم يقف منذ عقود على أرض صلبة، وكل حقبة تسلمه لما بعدها إثر فاجعة أو نكبة أو نكسة يدفع ثمنها من يرون أن الحياة لونان فقط (يا أبيض، يا أسود).
بالعودة إلى روايات زين (تصحيح وضع) و(قهوة أمريكية) وقبلها مجاميعه القصصية (أسلاك تصطخب) و(كمن يهش ظلا) نجده مسكوناً بالانتصار لقيم الخير والحب والحرية والجمال، وإن لم تبح أعماله الروائية بكل ما يجول في صدور الأبطال من نقد للواقع ونقمة عليه حد التطاول على صورة زعيم معلقة على جدار الغرفة. عبّر زين عن ثيمة الخوف المسكون بها أي كائن معرفي عربي منتمٍ للقيم والمبادئ والمثل، في ظل ما يرصده من تناقضات وملابسات الواقع الذي لا وجه له، فيغدو التحدي الكبير في كيفية احتفاظ النخبوي بكامل قواه وهو يداري ما لا يمكن مداراته على مستوى المتخيل، ما يدفعه إن استطاع للانتقام منه كتابياً عبر الرمزية التي تدفع أبطال العمل السردي إلى التخفف من الأثقال ليمكن عبور الجسر بأقل الخسائر الممكنة. بقدر ما تجتهد في تلمس فضاء المكان والزمان في أعمال أحمد زين، بقدر ما تفشل وتكتفي بالتخمين فالكتابة هنا ليست مكاشفة صريحة ولا أدب اعتراف بل إجلاء الغموض واللبس عن وجه إنسان شغوف بحياة جميلة ومنصفة كتلك التي وردت في الكتب، ما يجعل من المكان فضاء مائعاً أو مطاطياً قابلاً للتطبيق على أي جغرافيا تمتد من الماء إلى الماء، فيما يمكن أن يتقلص الزمن السردي إلى سهرة حوارية قضاها الشخوص في مقهى عربي، وتتقاسم الأشياء والأشخاص دور البطولة. تتسم أعمال زين الروائية بحالة فنيّة شفيفة هي حالة الذات الكاتبة، والمتجلية في شخصه قبل نصه، وعبر إجادة تقنياته السردية التراجيدية يدفعك للتخلص السريع من مشهد ما أو حالة بحكم أن إنسان المشهد عجز عن التمييز بين النقي والملوث، حسياً ومعنوياً، حدّ تساوي الأشياء في نظره.
يتجه البطل في حرب تحت الجلد إلى محاولة فهم الواقع، بل ويجتهد في التصالح معه، حتى يستنفد الطاقة المتوفرة في الروح، وحين يقنط، وينكشف زيف الشعارات ودجل المعايير ووهن الوعود يبدأ الانتقام من الواقع بإماتته وجدانياً ثم كتابياً على أمل ولادة جديدة.
الكاتب المغترب عملياً يعيش ثنائيات، وكلما انتقل إلى ضفة، نجح في رؤية الواقع بوضوح، وإذا كان البسطاء أوفر حظاً في الحياة بحكم أن طموحهم لا يتجاوز تحصيل قوت اليوم فإن النخب تتعرض لهزات عنيفة تدفع للجنون أو الادمان أو الانتحار بحكم أن أحلامها أكبر من إمكانات الواقع.
الرواية سيرة ذاتية ملتبسة إلا أنك لا تستطيع الإمساك بشخص الكاتب في العمل، وإن نجح في توزيع طموحاته على شخصياته، وتمكن من تنفيس غله من خلال تعبيرات رجل الشارع، وبائع البرشومي الذي يقشر للعابرين حبات التين الشوكي ويتمتم بكلمات غير واضحة إلا أنها لا تخلو من احتجاج ما. يسافر بنا زين عبر أماكن ومساكن وطرقات ومسالك ومقاه فكأنما نحن جزء من المكان الذي كتبه إلا أنه في لحظة ما يتخلى عنا ويتركنا كائنات من ورق تذروها رياح النهايات غير المتوقعة.
عندما انتهيتُ من قراءة رواية (حرب تحت الجلد) للروائي اليمني أحمد زين تذكرتُ على الفور نظرية (جان بود ريار) عن موت الواقع، والنظرية معرفية وقابلة للتحقق بحكم أن لكل واقع أركانا ومبادئ ونظريات تتمثل في الجغرافيا والتاريخ والنفس والمجتمع والحياة، فكما كان قيام جدار برلين شاهداً على حقبة المعسكرين شبه المتكافئين، فإن انهياره دل على انتصار القطب الواحد، وكذلك الحال مع الأفكار والأيديولوجيات التي تموت أو تتحلل أو تنحل فيذوي وينهار كل ما انبنى عليها ليحل محلها غيرها.
ربما كانت المجتمعات الغربية والمعاصرة تحديداً أكثر استجابة للتحولات بحكم انعدام التفاوت بين النظرية والتطبيق، وبين الأفكار والممارسة الحياتية اليومية، إلا أن المواطن العربي لم يقف منذ عقود على أرض صلبة، وكل حقبة تسلمه لما بعدها إثر فاجعة أو نكبة أو نكسة يدفع ثمنها من يرون أن الحياة لونان فقط (يا أبيض، يا أسود).
بالعودة إلى روايات زين (تصحيح وضع) و(قهوة أمريكية) وقبلها مجاميعه القصصية (أسلاك تصطخب) و(كمن يهش ظلا) نجده مسكوناً بالانتصار لقيم الخير والحب والحرية والجمال، وإن لم تبح أعماله الروائية بكل ما يجول في صدور الأبطال من نقد للواقع ونقمة عليه حد التطاول على صورة زعيم معلقة على جدار الغرفة. عبّر زين عن ثيمة الخوف المسكون بها أي كائن معرفي عربي منتمٍ للقيم والمبادئ والمثل، في ظل ما يرصده من تناقضات وملابسات الواقع الذي لا وجه له، فيغدو التحدي الكبير في كيفية احتفاظ النخبوي بكامل قواه وهو يداري ما لا يمكن مداراته على مستوى المتخيل، ما يدفعه إن استطاع للانتقام منه كتابياً عبر الرمزية التي تدفع أبطال العمل السردي إلى التخفف من الأثقال ليمكن عبور الجسر بأقل الخسائر الممكنة. بقدر ما تجتهد في تلمس فضاء المكان والزمان في أعمال أحمد زين، بقدر ما تفشل وتكتفي بالتخمين فالكتابة هنا ليست مكاشفة صريحة ولا أدب اعتراف بل إجلاء الغموض واللبس عن وجه إنسان شغوف بحياة جميلة ومنصفة كتلك التي وردت في الكتب، ما يجعل من المكان فضاء مائعاً أو مطاطياً قابلاً للتطبيق على أي جغرافيا تمتد من الماء إلى الماء، فيما يمكن أن يتقلص الزمن السردي إلى سهرة حوارية قضاها الشخوص في مقهى عربي، وتتقاسم الأشياء والأشخاص دور البطولة. تتسم أعمال زين الروائية بحالة فنيّة شفيفة هي حالة الذات الكاتبة، والمتجلية في شخصه قبل نصه، وعبر إجادة تقنياته السردية التراجيدية يدفعك للتخلص السريع من مشهد ما أو حالة بحكم أن إنسان المشهد عجز عن التمييز بين النقي والملوث، حسياً ومعنوياً، حدّ تساوي الأشياء في نظره.
يتجه البطل في حرب تحت الجلد إلى محاولة فهم الواقع، بل ويجتهد في التصالح معه، حتى يستنفد الطاقة المتوفرة في الروح، وحين يقنط، وينكشف زيف الشعارات ودجل المعايير ووهن الوعود يبدأ الانتقام من الواقع بإماتته وجدانياً ثم كتابياً على أمل ولادة جديدة.
الكاتب المغترب عملياً يعيش ثنائيات، وكلما انتقل إلى ضفة، نجح في رؤية الواقع بوضوح، وإذا كان البسطاء أوفر حظاً في الحياة بحكم أن طموحهم لا يتجاوز تحصيل قوت اليوم فإن النخب تتعرض لهزات عنيفة تدفع للجنون أو الادمان أو الانتحار بحكم أن أحلامها أكبر من إمكانات الواقع.
الرواية سيرة ذاتية ملتبسة إلا أنك لا تستطيع الإمساك بشخص الكاتب في العمل، وإن نجح في توزيع طموحاته على شخصياته، وتمكن من تنفيس غله من خلال تعبيرات رجل الشارع، وبائع البرشومي الذي يقشر للعابرين حبات التين الشوكي ويتمتم بكلمات غير واضحة إلا أنها لا تخلو من احتجاج ما. يسافر بنا زين عبر أماكن ومساكن وطرقات ومسالك ومقاه فكأنما نحن جزء من المكان الذي كتبه إلا أنه في لحظة ما يتخلى عنا ويتركنا كائنات من ورق تذروها رياح النهايات غير المتوقعة.