يعتبر الجناعات أو القناعات من أكثر الأسر الكويتية شهرة وتفرعا، بل ومن أكثرها لجهة الشخصيات البارزة في مختلف المجالات من تلك التي ساهمت في بناء الكويت ونهضتها. لكن هذه الأسرة، التي سكنت الكويت منذ 250 سنة، تتفرع إلى فروع عديدة مثل المطوع والمسلم والشملان والحمدان والجاسم والبدر والعيسى والخالد وبن ناجي وبن سري. من أبرز الجناعات وأشهرهم على الإطلاق زعيمهم وكبيرهم العلامة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مؤسس مدرسة المباركية في عام 1912.
لا تنافس الجناعات ــ المنحدرين بحسب إحدى الروايات من بلدة القصب بمدينة شقراء بإقليم الوشم من نجد ــ لجهة الانتشار، سوى عائلة البسام. فعلى حين بقي بعضهم في الداخل السعودي، هاجر البعض الآخر صوب الزبارة ومنها إلى البحرين فالكويت فالبصرة. ومنهم من عبر البحر من مشيخات الساحل المتصالح (دولة الإمارات) إلى الضفة الشرقية للخليج العربي. ومنهم من استقر في الهند التي كان لهم فيها وجود قوي منذ زمن تجارة اللؤلؤ إلى ما بعد اكتشاف النفط في الكويت والخليج بسنوات طويلة.
تقول الباحثة حصة عوض الحربي في رسالتها لنيل درجة الماجستير والتي عنونتها بـ«تاريخ العلاقات الكويتية الهندية 189 ــ 1965» ثم نشرتها في كتاب حمل العنوان ذاته: إنّ المؤسس الحقيقي لتجارة الجناعات في الهند هو حسين بن عيسى بن محمد بن حسين بن سلمان بن سري القناعي المولود في الكويت عام 1878. ثم تتطرق إلى أسباب هجرته إلى الهند فتذكر روايات مختلفة منها أن حاكم الكويت الأسبق الشيخ مبارك الصباح طلب من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي تعيين أخيه حسين للعمل في الجمارك الكويتية بسبب تميزه بحسن القراءة والكتابة، ولكن الشيخ يوسف لم يرغب في ذلك طبقا لما ورد في الصفحة 47 من كتاب «قصة التعليم في الكويت» لعبدالله النوري.
وفي رواية أخرى، أن حسين رفض العمل بالجمارك لأن له منها موقفا شرعيا يتمثل بحرمته. وهناك رواية ثالثة ذكرها أخوه الشيخ يوسف في لقاء تلفزيوني مع المؤرخ سيف مرزوق الشملان سنة 1966، مفادها بأن الشيخ مبارك الصباح طلب من حسين أن يعمل عنده فرفض لأنه لم يرد العمل عند الشيوخ، ثم دعاه لمشاركته في إحدى الحروب فرفض أيضا. وللخروج من هذا المأزق، اقترح الشيخ يوسف القناعي على أخيه أن يهاجر إلى الهند.
وهكذا حل حسين القناعي في بومباي وعمل في بداية الأمر عند عائلة الإبراهيم الكويتية الثرية التي كانت تقيم في الهند وتدير منها تجارتها الواسعة، ثم ما لبث أنْ استقل عنهم وأسس لنفسه تجارته الخاصة سنة 1922، الأمر الذي شجع إخوانه يوسف وسليمان وأحمد على اللحاق به في الهند والانضمام إليه في عملية تأسيس نشاط تجاري تحت اسم «مكتب حسين بن عيسى وإخوانه». وكان للأشقاء الأربعة أخ رابع هو سلطان بن عيسى القناعي الذي فضل أن تكون له أعماله المستقلة في الكويت.
تولى المكتب المذكور تصدير المواد الغذائية والأقمشة وغيرها من احتياجات التجار في الكويت علاوة على تزويد محلهم التجاري في سوق المناخ بالقرب من مقهى بوناشي، والذي عـُرف أيضا بمكتب يوسف بن عيسى وإخوانه.
قسّم الأشقاء الأربعة العمل فيما بينهم. تقول الباحثة الحربي في هذا السياق: «ففي الهند تولى حسين مسؤولية الإشراف والتصدير، وتولى سليمان مسؤولية تصريف اللؤلؤ الطبيعي بالإضافة إلى مسؤولية متابعة محله التجاري في البحرين المخصص لهذا الغرض، وتولى الشقيقان يوسف وأحمد الإشراف على محل الكويت».
وطبقا لما ذكره خالد عبدالمغني في الجزء الأول من كتابه «عودة إلى شارع محمد علي رود» وسط بومباي الصادر في 2013 (دون ذكر الناشر) انتقل مكتب الأشقاء الأربعة إلى عدة مواقع، فمن عنوان 27 شارع سوتار شاول Sutar Chawl القريب من شارع عبدالرحمن إلى الدور الثالث من عمارة C داخل المجمع المعروف باسم مبنى سيتارام Sitaram Building بالقرب من مكتب عميد الجالية العربية بالهند الوجيه محمد علي زينل، فإلى مقر في العنوان 102 شارع محمد علي رود والذي ظل يديره قنصل الكويت الأسبق في بومباي «فيصل عيسى القناعي» إلى ما قبل وفاته هناك في مارس 2016 مع شريك هندي مسلم يدعى جميل عبدالعزيز.
تقول الباحثة الحربي في الصفحة 387 من كتابها: «ظل حسين بن عيسى القناعي في الهند 40 عاما يدير مكتبه دون كلل أو ملل. وفي عام 1944 تعرضت مدينة بومباي لانفجار عنيف بمتفجرات كانت تحملها إحدى السفن الراسية، وسقطت كتلة حديدية ملتهبة على مكتبه، وكاد يـُقتل فيها، لكنه أكمل عمله ولم يكترث بها. كان لحسين بن عيسى عدد من الأبناء (محمد وعبدالوهاب وعلي وهشام ووليد وخالد وعادل)، وقد حرص على تدريبهم على أصول العمل التجاري في الهند، في ذلك المكتب».
وفي ذلك المكتب تدرب أيضا عدد آخر من الجناعات مثل: عبدالعزيز أحمد بن عيسى القناعي، وكل من عبدالله وحامد وعيسى وعبدالحميد أبناء الشيخ يوسف القناعي، وكل من محمد وحمد وفهد أبناء سلطان القناعي. كما كان يتردد على المكتب الأخوان مساعد وعيسى الصالح المطوع القناعي. استمر المكتب يمارس أعماله، ولاسيما أعمال تسويق اللؤلؤ حتى الأربعينات من القرن العشرين. وفي عام 1955 عاد حسين بن عيسى إلى الكويت ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، تمثلت في تسخير تجربته الثرية لإدارة المكتب التجاري للجيل الثاني من أبناء الجناعات.
أخبرتنا الإعلامية الكويتية المعروفة فاطمة حسين، أنّ عمل والدها «حسين بن عيسى القناعي» لم يقتصر على النشاط التجاري فقط، وإنما اشتمل أيضا على تصليح الساعات، وهي مهنة تعلمها من الهنود. كما أشرف أثناء وجوده في الهند على إعداد الحروف العربية وصناعتها وإرسالها إلى الكويت كي تـُستخدم في الطباعة. وتضيف في مقابلة شخصية أجرتها معها الباحثة الحربي، أنّ والدها كان ملتزما دينيا، محبا للغة العربية، عاشقا للشعر العربي الفصيح، متأثرا بملابس الهنود المريحة التي ظل يرتديها. أما زوجته «سبيكة عبدالوهاب المطوع القناعي» فقد عاشت معه في الهند لفترة أنجبت له خلالها ولدهما عادل، لكنها لم تستطع التأقلم مع أجواء الهند الرطبة فعادت إلى الكويت، وصار هو يزورها كل عامين. وفي المقابلة نفسها تطرقت فاطمة حسين إلى جوانب أخرى من شخصية والدها فقالت: «كان لصيقا بالحداثة وآخر المستجدات الحضارية، فقد جلب من الهند الأبواب الخشبية والغسالة الكهربائية والثلاجة».
توفي حسين بن عيسى القناعي في الكويت في يناير 1957، أي بعد نحو عامين من عودته من الهند، لكن أبناء الجناعات لا يزالون يتذكرونه بالتقدير والإجلال ويعتبرونه عمهم الكبير الذي رباهم.
وفي عقود الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين ذاع صيته تجاريا واجتماعيا وثقافيا، فقد عمل على تعزيز العلاقات التجارية بين الكويت والهند من خلال مكتب عمه، وجعل هذا المكتب وكيلا غير رسمي لإدارة شؤون الكويت المالية وشؤون الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح في الهند، ووكيلا أيضا لإدارة أملاك التاجر الكويتي المعروف «هلال فجحان المطيري». من جانب آخر كان الرجل دوما من مستقبلي ومرافقي الشيخ عبدالله السالم الصباح خلال رحلات سموه العديدة للهند، الأمر الذي ساعده في توثيق تلك الزيارات بالكلمة والصور التي كلف بعملية التقاطها المصورة الهندية «واديا». كما جعل من مكتب عمه محطة هامة لكل من يفد إلى الهند لإنجاز الصفقات التجارية من أبناء الخليج، فأضحى المكتب دارا لاستضافة الكويتيين والخليجيين والعرب، ومقرا لحل مشاكلهم وإسداء النصح لهم، وهو ما جعل البعض يصفه بالسفير غير الرسمي للكويت، طبقا لما ورد في الصفحة 85 من كتاب «شخصيات كويتية» لعادل محمد عبدالمغني الصادر في عام 2002 (دون ذكر الناشر). ومن جانب آخر، كان للرجل دور في تأسيس «المدرسة العربية الكويتية» في بومباي، حيث أشار هو ومجموعة من تجار الكويت في الهند على الشيخ «عبدالله السالم الصباح» ورئيس دائرة معارفه الشيخ «عبدالله الجابر الصباح» خلال زيارة لهما للهند سنة 1952 بضرورة تأسيس تلك المدرسة لخدمة أبناء المقيمين العرب في بومباي، فأوكل إليه الشيخ عبدالله السالم العملية، فقام باستئجار مقر لها في منطقة «تشيرتش غيت Churchgate»، وأشرف على تهيئتها وإدارتها.
استقر هذا العلم من أعلام الجناعات في الهند مع زوجته «فاطمة سعدون البدر القناعي» وأبنائه فيصل وخالد وغنيمة ولولوة وسعاد ورابعة وخولة منذ العام 1946، وسكنوا منزلا فخما في منطقة «مارين درايف» الراقية في بومباي، ودرس الأبناء والبنات في المدارس الهندية، علما بأن الابن فيصل المولود في الكويت سنة 1933 سار على درب والده فأقام علاقات متميزة مع الشيخ عبدالله السالم ورموز المجتمع الهندي والعربي في بومباي. وبسبب هذه العلاقات، معطوفة على مؤهلاته الدراسية وإجادته التامة للغة الإنجليزية، و5 لغات هندية اختاره الشيخ عبدالله السالم، بـُعيد استقلال الكويت سنة 1961، ليكون أول قنصل للكويت في بومباي.
وبعد تقاعده عن العمل سنة 1990 فضل فيصل القناعي البقاء في الهند لممارسة التجارة، وإدارة مكتب العائلة التجاري، إضافة إلى إدارة أملاك بعض العائلات الكويتية في بومباي. وظل الرجل على هذا الحال إلى أن وافته المنية في مارس 2016، فدفن بجوار والديه في المقبرة الملحقة بالمسجد، الذي تولى رعايته وتجديده بالتعاون مع الوجهين «محمد العلي البسام» و«محمد علي البقاش» في منطقة كاريلواري.
وكغيره من الجناعات استقر حمد سلطان في بومباي مع زوجته «بدرية سليمان عيسى القناعي» وأبنائه: بدر وغازي وفاروق وفوزي ونادر ونادرة وفوزية ونجاة منذ العام 1940، وسكن في منطقة «نام بنيسي رود» بوسط المدينة، وأدخل أولاده وبناته في أرقى المدارس والجامعات الهندية لتلقي العلوم العصرية، وعاش حياة اجتماعية حافلة بحضور المناسبات الرسمية ومرافقة زوار الهند من شيوخ الكويت والخليج، ولم يعد إلى الكويت إلا في عام 1958، حيث عمل في مجال النفط مع الشركات اليابانية إلى أن توفي سنة 1967.
ومن أبناء الجناعات الآخرين الذين ذهبوا إلى الهند ودرسوا وأقاموا وعملوا بها «سليمان إبراهيم عبدالوهاب المسلم القناعي»، المولود في الكويت بفريج الجناعات سنة 1900، والذي درس في المدرسة المباركية، ثم درس الإنجليزية في المدرسة التابعة للإرسالية الأمريكية في الكويت على يد القس كالفرلي سنة 1917، ومن بعدها التحق بالمدرسة الأهلية التي أسسها وأدارها هاشم عبدالرحمن البدر القناعي لتعليم اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر والطباعة على الآلة الكاتبة في عام 1932. وبسبب إجادته للغة الإنجليزية ونبوغه لفت الأنظار إليه وخصوصا من قبل التاجرين حسين بن عيسى القناعي وشقيقه سليمان فاستدعياه إلى بومباي للعمل في مكتبهم. وبالفعل سافر الرجل إلى الهند سنة 1923 وعمل لدى التاجرين فترة قصيرة، قبل أن يختطفه التاجر النجدي حمد العلي القاضي للعمل معه في مكتبه التجاري في بومباي كمدير لأعماله. وبعد مرور سنتين من إقامته وعمله هناك استدعى زوجته «لطيفة المسلم القناعي» وابنته عائشة للاستقرار معه في الهند. وفي مقابلة شخصية أجرتها الباحثة الحربي في أغسطس 2015 مع ابنته عائشة المولودة في الكويت سنة 1928، تحدثت عائشة عن تجربتها في الهند، فقالت ما مفاده إنها سافرت إلى هناك برفقة أمها وعمها أحمد المسلم على ظهر إحدى المراكب السريعة التابعة لشركة الهند البريطانية للملاحة البخارية في رحلة استغرقت 16 يوماً، وأنهم سكنوا في عمارة بشارع محمد علي رود، وأنها درست في مدرسة هندية وتعلمت الإنجليزية على يد معلمة خصوصية في المنزل، فيما نال إخوتها المولودون في الهند (هند وليلى وداوود) تعليمهم في مدارس إنجليزية، مضيفة أنهم قضوا أوقاتا جميلة لم يعتادوها في الكويت بمنتجعات «كندالا» و«لوناولا» ومنتزه «بالوا»، وترددوا على دور السينما الهندية وركبوا الأفيلة والقوارب وارتبطوا بعلاقات صداقة مع العائلات الكويتية والنجدية المقيمة في بومباي مثل: البسام والقاضي والشايع والفوزان. وفي عام 1941 عادت العائلة إلى الكويت حيث افتتح ربها سليمان إبراهيم القناعي مكتبا لتجارة المواد الغذائية، ومكتبا آخر لتجارة الحديد، واستثمر أمواله في العقارات، كما دخل عضوا في مجلس الإدارة الأول لغرفة تجارة وصناعة الكويت ونال عضوية مجالس الأوقاف والصحة والبلدية والمعارف. وتوفي سنة 1985.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
لا تنافس الجناعات ــ المنحدرين بحسب إحدى الروايات من بلدة القصب بمدينة شقراء بإقليم الوشم من نجد ــ لجهة الانتشار، سوى عائلة البسام. فعلى حين بقي بعضهم في الداخل السعودي، هاجر البعض الآخر صوب الزبارة ومنها إلى البحرين فالكويت فالبصرة. ومنهم من عبر البحر من مشيخات الساحل المتصالح (دولة الإمارات) إلى الضفة الشرقية للخليج العربي. ومنهم من استقر في الهند التي كان لهم فيها وجود قوي منذ زمن تجارة اللؤلؤ إلى ما بعد اكتشاف النفط في الكويت والخليج بسنوات طويلة.
تقول الباحثة حصة عوض الحربي في رسالتها لنيل درجة الماجستير والتي عنونتها بـ«تاريخ العلاقات الكويتية الهندية 189 ــ 1965» ثم نشرتها في كتاب حمل العنوان ذاته: إنّ المؤسس الحقيقي لتجارة الجناعات في الهند هو حسين بن عيسى بن محمد بن حسين بن سلمان بن سري القناعي المولود في الكويت عام 1878. ثم تتطرق إلى أسباب هجرته إلى الهند فتذكر روايات مختلفة منها أن حاكم الكويت الأسبق الشيخ مبارك الصباح طلب من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي تعيين أخيه حسين للعمل في الجمارك الكويتية بسبب تميزه بحسن القراءة والكتابة، ولكن الشيخ يوسف لم يرغب في ذلك طبقا لما ورد في الصفحة 47 من كتاب «قصة التعليم في الكويت» لعبدالله النوري.
وفي رواية أخرى، أن حسين رفض العمل بالجمارك لأن له منها موقفا شرعيا يتمثل بحرمته. وهناك رواية ثالثة ذكرها أخوه الشيخ يوسف في لقاء تلفزيوني مع المؤرخ سيف مرزوق الشملان سنة 1966، مفادها بأن الشيخ مبارك الصباح طلب من حسين أن يعمل عنده فرفض لأنه لم يرد العمل عند الشيوخ، ثم دعاه لمشاركته في إحدى الحروب فرفض أيضا. وللخروج من هذا المأزق، اقترح الشيخ يوسف القناعي على أخيه أن يهاجر إلى الهند.
وهكذا حل حسين القناعي في بومباي وعمل في بداية الأمر عند عائلة الإبراهيم الكويتية الثرية التي كانت تقيم في الهند وتدير منها تجارتها الواسعة، ثم ما لبث أنْ استقل عنهم وأسس لنفسه تجارته الخاصة سنة 1922، الأمر الذي شجع إخوانه يوسف وسليمان وأحمد على اللحاق به في الهند والانضمام إليه في عملية تأسيس نشاط تجاري تحت اسم «مكتب حسين بن عيسى وإخوانه». وكان للأشقاء الأربعة أخ رابع هو سلطان بن عيسى القناعي الذي فضل أن تكون له أعماله المستقلة في الكويت.
تولى المكتب المذكور تصدير المواد الغذائية والأقمشة وغيرها من احتياجات التجار في الكويت علاوة على تزويد محلهم التجاري في سوق المناخ بالقرب من مقهى بوناشي، والذي عـُرف أيضا بمكتب يوسف بن عيسى وإخوانه.
قسّم الأشقاء الأربعة العمل فيما بينهم. تقول الباحثة الحربي في هذا السياق: «ففي الهند تولى حسين مسؤولية الإشراف والتصدير، وتولى سليمان مسؤولية تصريف اللؤلؤ الطبيعي بالإضافة إلى مسؤولية متابعة محله التجاري في البحرين المخصص لهذا الغرض، وتولى الشقيقان يوسف وأحمد الإشراف على محل الكويت».
وطبقا لما ذكره خالد عبدالمغني في الجزء الأول من كتابه «عودة إلى شارع محمد علي رود» وسط بومباي الصادر في 2013 (دون ذكر الناشر) انتقل مكتب الأشقاء الأربعة إلى عدة مواقع، فمن عنوان 27 شارع سوتار شاول Sutar Chawl القريب من شارع عبدالرحمن إلى الدور الثالث من عمارة C داخل المجمع المعروف باسم مبنى سيتارام Sitaram Building بالقرب من مكتب عميد الجالية العربية بالهند الوجيه محمد علي زينل، فإلى مقر في العنوان 102 شارع محمد علي رود والذي ظل يديره قنصل الكويت الأسبق في بومباي «فيصل عيسى القناعي» إلى ما قبل وفاته هناك في مارس 2016 مع شريك هندي مسلم يدعى جميل عبدالعزيز.
تقول الباحثة الحربي في الصفحة 387 من كتابها: «ظل حسين بن عيسى القناعي في الهند 40 عاما يدير مكتبه دون كلل أو ملل. وفي عام 1944 تعرضت مدينة بومباي لانفجار عنيف بمتفجرات كانت تحملها إحدى السفن الراسية، وسقطت كتلة حديدية ملتهبة على مكتبه، وكاد يـُقتل فيها، لكنه أكمل عمله ولم يكترث بها. كان لحسين بن عيسى عدد من الأبناء (محمد وعبدالوهاب وعلي وهشام ووليد وخالد وعادل)، وقد حرص على تدريبهم على أصول العمل التجاري في الهند، في ذلك المكتب».
وفي ذلك المكتب تدرب أيضا عدد آخر من الجناعات مثل: عبدالعزيز أحمد بن عيسى القناعي، وكل من عبدالله وحامد وعيسى وعبدالحميد أبناء الشيخ يوسف القناعي، وكل من محمد وحمد وفهد أبناء سلطان القناعي. كما كان يتردد على المكتب الأخوان مساعد وعيسى الصالح المطوع القناعي. استمر المكتب يمارس أعماله، ولاسيما أعمال تسويق اللؤلؤ حتى الأربعينات من القرن العشرين. وفي عام 1955 عاد حسين بن عيسى إلى الكويت ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، تمثلت في تسخير تجربته الثرية لإدارة المكتب التجاري للجيل الثاني من أبناء الجناعات.
أخبرتنا الإعلامية الكويتية المعروفة فاطمة حسين، أنّ عمل والدها «حسين بن عيسى القناعي» لم يقتصر على النشاط التجاري فقط، وإنما اشتمل أيضا على تصليح الساعات، وهي مهنة تعلمها من الهنود. كما أشرف أثناء وجوده في الهند على إعداد الحروف العربية وصناعتها وإرسالها إلى الكويت كي تـُستخدم في الطباعة. وتضيف في مقابلة شخصية أجرتها معها الباحثة الحربي، أنّ والدها كان ملتزما دينيا، محبا للغة العربية، عاشقا للشعر العربي الفصيح، متأثرا بملابس الهنود المريحة التي ظل يرتديها. أما زوجته «سبيكة عبدالوهاب المطوع القناعي» فقد عاشت معه في الهند لفترة أنجبت له خلالها ولدهما عادل، لكنها لم تستطع التأقلم مع أجواء الهند الرطبة فعادت إلى الكويت، وصار هو يزورها كل عامين. وفي المقابلة نفسها تطرقت فاطمة حسين إلى جوانب أخرى من شخصية والدها فقالت: «كان لصيقا بالحداثة وآخر المستجدات الحضارية، فقد جلب من الهند الأبواب الخشبية والغسالة الكهربائية والثلاجة».
توفي حسين بن عيسى القناعي في الكويت في يناير 1957، أي بعد نحو عامين من عودته من الهند، لكن أبناء الجناعات لا يزالون يتذكرونه بالتقدير والإجلال ويعتبرونه عمهم الكبير الذي رباهم.
مكتبهم في بومباي.. صدر المعرفة والعلم مع التجارة
تطرقنا عرضا عند حديثنا السابق عمن تدربوا في مكتب حسين القناعي وإخوانه في الهند إلى «عيسى بن يوسف القناعي». وهذا له دور كبير مشهود في تاريخ القناعات في الهند. هو من مواليد الكويت في سنة 1906، وبعد أن أتم دراسة القرآن واللغة العربية في المدرسة المباركية أرسله والده العلامة المصلح الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في عام 1922 إلى بومباي للتدرب في مكتب عمه حسين القناعي. وهكذا ظل يتردد على الهند إلى أن استقر بها في عام 1946.وفي عقود الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين ذاع صيته تجاريا واجتماعيا وثقافيا، فقد عمل على تعزيز العلاقات التجارية بين الكويت والهند من خلال مكتب عمه، وجعل هذا المكتب وكيلا غير رسمي لإدارة شؤون الكويت المالية وشؤون الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح في الهند، ووكيلا أيضا لإدارة أملاك التاجر الكويتي المعروف «هلال فجحان المطيري». من جانب آخر كان الرجل دوما من مستقبلي ومرافقي الشيخ عبدالله السالم الصباح خلال رحلات سموه العديدة للهند، الأمر الذي ساعده في توثيق تلك الزيارات بالكلمة والصور التي كلف بعملية التقاطها المصورة الهندية «واديا». كما جعل من مكتب عمه محطة هامة لكل من يفد إلى الهند لإنجاز الصفقات التجارية من أبناء الخليج، فأضحى المكتب دارا لاستضافة الكويتيين والخليجيين والعرب، ومقرا لحل مشاكلهم وإسداء النصح لهم، وهو ما جعل البعض يصفه بالسفير غير الرسمي للكويت، طبقا لما ورد في الصفحة 85 من كتاب «شخصيات كويتية» لعادل محمد عبدالمغني الصادر في عام 2002 (دون ذكر الناشر). ومن جانب آخر، كان للرجل دور في تأسيس «المدرسة العربية الكويتية» في بومباي، حيث أشار هو ومجموعة من تجار الكويت في الهند على الشيخ «عبدالله السالم الصباح» ورئيس دائرة معارفه الشيخ «عبدالله الجابر الصباح» خلال زيارة لهما للهند سنة 1952 بضرورة تأسيس تلك المدرسة لخدمة أبناء المقيمين العرب في بومباي، فأوكل إليه الشيخ عبدالله السالم العملية، فقام باستئجار مقر لها في منطقة «تشيرتش غيت Churchgate»، وأشرف على تهيئتها وإدارتها.
استقر هذا العلم من أعلام الجناعات في الهند مع زوجته «فاطمة سعدون البدر القناعي» وأبنائه فيصل وخالد وغنيمة ولولوة وسعاد ورابعة وخولة منذ العام 1946، وسكنوا منزلا فخما في منطقة «مارين درايف» الراقية في بومباي، ودرس الأبناء والبنات في المدارس الهندية، علما بأن الابن فيصل المولود في الكويت سنة 1933 سار على درب والده فأقام علاقات متميزة مع الشيخ عبدالله السالم ورموز المجتمع الهندي والعربي في بومباي. وبسبب هذه العلاقات، معطوفة على مؤهلاته الدراسية وإجادته التامة للغة الإنجليزية، و5 لغات هندية اختاره الشيخ عبدالله السالم، بـُعيد استقلال الكويت سنة 1961، ليكون أول قنصل للكويت في بومباي.
وبعد تقاعده عن العمل سنة 1990 فضل فيصل القناعي البقاء في الهند لممارسة التجارة، وإدارة مكتب العائلة التجاري، إضافة إلى إدارة أملاك بعض العائلات الكويتية في بومباي. وظل الرجل على هذا الحال إلى أن وافته المنية في مارس 2016، فدفن بجوار والديه في المقبرة الملحقة بالمسجد، الذي تولى رعايته وتجديده بالتعاون مع الوجهين «محمد العلي البسام» و«محمد علي البقاش» في منطقة كاريلواري.
ازدهار تجارتهم ومكاتبهم.. سلطان وسليمان إلى الهند
ذكرنا في ما سبق أن الأخ الخامس لحسين بن عيسى القناعي، واسمه سلطان، فضل البقاء في الكويت لإدارة تجارته المستقلة ولم يلتحق بإخوانه في الهند. غير أن ابنه «حمد بن سلطان بن عيسى القناعي» ذهب لاحقا إلى بومباي وأسس فيها سنة 1930 مكتبا تجاريا مستقلا تحت اسم «شركة حمد سلطان للاستيراد والتصدير»، وكان مقر المكتب في بناية هاشم في شارع محمد علي رود، علما بأن الرجل تخصص في تزويد تجار الكويت والبصرة بمختلف البضائع الهندية المنشأ من مواد غذائية وكماليات وسجاد وأقمشة وحراير وخيام وحبال وغيرها. وهناك رسالة، تحدثت عنها الباحثة حصة الحربي في الصفحة 408 من كتابها، أرسلها حمد بتاريخ 16/4/1943 إلى التاجر حامد النقيب في البصرة يخبره فيها أنه شحن له 1100 صندوق من الشمع بواسطة البوم «مرزوق» تحت قيادة النوخذة المعروف «يعقوب بشارة».وكغيره من الجناعات استقر حمد سلطان في بومباي مع زوجته «بدرية سليمان عيسى القناعي» وأبنائه: بدر وغازي وفاروق وفوزي ونادر ونادرة وفوزية ونجاة منذ العام 1940، وسكن في منطقة «نام بنيسي رود» بوسط المدينة، وأدخل أولاده وبناته في أرقى المدارس والجامعات الهندية لتلقي العلوم العصرية، وعاش حياة اجتماعية حافلة بحضور المناسبات الرسمية ومرافقة زوار الهند من شيوخ الكويت والخليج، ولم يعد إلى الكويت إلا في عام 1958، حيث عمل في مجال النفط مع الشركات اليابانية إلى أن توفي سنة 1967.
ومن أبناء الجناعات الآخرين الذين ذهبوا إلى الهند ودرسوا وأقاموا وعملوا بها «سليمان إبراهيم عبدالوهاب المسلم القناعي»، المولود في الكويت بفريج الجناعات سنة 1900، والذي درس في المدرسة المباركية، ثم درس الإنجليزية في المدرسة التابعة للإرسالية الأمريكية في الكويت على يد القس كالفرلي سنة 1917، ومن بعدها التحق بالمدرسة الأهلية التي أسسها وأدارها هاشم عبدالرحمن البدر القناعي لتعليم اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر والطباعة على الآلة الكاتبة في عام 1932. وبسبب إجادته للغة الإنجليزية ونبوغه لفت الأنظار إليه وخصوصا من قبل التاجرين حسين بن عيسى القناعي وشقيقه سليمان فاستدعياه إلى بومباي للعمل في مكتبهم. وبالفعل سافر الرجل إلى الهند سنة 1923 وعمل لدى التاجرين فترة قصيرة، قبل أن يختطفه التاجر النجدي حمد العلي القاضي للعمل معه في مكتبه التجاري في بومباي كمدير لأعماله. وبعد مرور سنتين من إقامته وعمله هناك استدعى زوجته «لطيفة المسلم القناعي» وابنته عائشة للاستقرار معه في الهند. وفي مقابلة شخصية أجرتها الباحثة الحربي في أغسطس 2015 مع ابنته عائشة المولودة في الكويت سنة 1928، تحدثت عائشة عن تجربتها في الهند، فقالت ما مفاده إنها سافرت إلى هناك برفقة أمها وعمها أحمد المسلم على ظهر إحدى المراكب السريعة التابعة لشركة الهند البريطانية للملاحة البخارية في رحلة استغرقت 16 يوماً، وأنهم سكنوا في عمارة بشارع محمد علي رود، وأنها درست في مدرسة هندية وتعلمت الإنجليزية على يد معلمة خصوصية في المنزل، فيما نال إخوتها المولودون في الهند (هند وليلى وداوود) تعليمهم في مدارس إنجليزية، مضيفة أنهم قضوا أوقاتا جميلة لم يعتادوها في الكويت بمنتجعات «كندالا» و«لوناولا» ومنتزه «بالوا»، وترددوا على دور السينما الهندية وركبوا الأفيلة والقوارب وارتبطوا بعلاقات صداقة مع العائلات الكويتية والنجدية المقيمة في بومباي مثل: البسام والقاضي والشايع والفوزان. وفي عام 1941 عادت العائلة إلى الكويت حيث افتتح ربها سليمان إبراهيم القناعي مكتبا لتجارة المواد الغذائية، ومكتبا آخر لتجارة الحديد، واستثمر أمواله في العقارات، كما دخل عضوا في مجلس الإدارة الأول لغرفة تجارة وصناعة الكويت ونال عضوية مجالس الأوقاف والصحة والبلدية والمعارف. وتوفي سنة 1985.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين