وما بك طير فـي الربيـع يغـرد
أما نحن في فصل الربيع؟ فتمتمت
فرائصها والحزن في الصدر يرعد
وقالت أما تدري بعيسى وقد مضى
وعيسي هو السيف الـذي أتقلـد
وها أنـذا مفجوعـة بعـد فقـده
فلا الصبر يجدي لا ولا الحزن ينفد
بهذه الأبيات ودّع شاعر «أوال» الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة أميره حاكم البحرين العاشر الراحل الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد بن عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن أحمد (الفاتح) بن محمد بن خليفة آل خليفة الذي انتقل إلى جوار ربه في مثل هذا الشهر من عام 1999.
يتفق الذين عرفوا الراحل الكبير عن قرب، وأولئك الذين راقبوه عن بعد على أنه كان طرازا نادرا من الحكام، بل ظاهرة غير قابلة للتكرار. ومن هنا فإن عنصر المفاجأة في رحيله الصامت على إثر نوبة قلبية حادة لم يكن وحده سبب تلك الصدمة العميقة في الشارعين البحريني والخليجي، وإنما كان للموضوع جوانب أخرى جديرة بأن تُروى، خصوصا للأجيال الجديدة التي لم تعاصره.
بدأت قصة الشيخ عيسى -رحمه الله- بميلاده في قرية الجسرة في الثالث من يونيو سنة 1933 الذي صادف اليوم التاسع من شهر صفر من عام 1352 للهجرة ابنا من أبناء آل خليفة الكرام الذين حكموا البحرين منذ عام 1782، واكتملتْ فصولها بوفاته في السادس من مارس سنة 1999 وهو يؤدي مهماته الرسمية بقصره في الرفاع. وما بين التاريخين جرت مياه كثيرة، وشهدت البحرين خضات وأحداثاً كبيرة، كان منها السياسي البحت، ومنها ما امتزج فيه السياسي بالاقتصادي والاجتماعي والطائفي، وصراعات القوى المحافظة مع قوى التجديد والتنوير والحداثة. غير أن العناوين الرئيسية لأسلوب عيسى بن سلمان في تعامله مع المتغيرات الكثيرة على مدى رحلة الحياة التي تجاوزت العقود الستة، ومشوار الحكم الذي امتد لأربعة عقود إلا نيفا كانت على الدوام واحدة: سخاء في اليد، وهدوء واتزان في الرأي، وتواضع آسر للقلوب، وانفتاح مدهش على الآخر، وتوازن دقيق في علاقاته مع الشرائح المختلفة المكونة لمجتمعه، وعمل دؤوب على تنمية بلده وعصرنته بما أوتي من موارد قليلة وإمكانات محدودة، وعلاقات حميمة مع دول الجوار الخليجي وحكامها، وحرص على استتباب الأمن والنظام لما له من تأثير على النشاط الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
بهذا الأسلوب تمكن الشيخ عيسى من كسب محبة الجميع وتجنيب بلاده الأسوأ، وحقق لها استقرارا طويلا ونهضة ماثلة للعيان ومتجسدة في الكثير من المرافق الخدمية والإدارية والمظاهر العمرانية والتنموية ومنابر الخير والبر والإحسان، وصروح الثقافة والعلم والإصلاح.
وهو لئن واجه في سنوات توليه ولاية العهد في ظل والده المغفور له الشيخ سلمان ما بين يوليو 1957 ونوفمبر 1961، ومن ثمّ خلال سنوات حكمه التي بدأت كحاكم للبحرين وتوابعها في عام 1961، ثم أميراً لدولة البحرين المستقلة ابتداء من منتصف أغسطس 1971، معارضة من هذه الفئة أو تلك لقرار أو سياسة ما، فإنه -بغض النظر عن شخوص المعارضين والمنتقدين أو نوعية مطالبهم وأدوات اعتراضهم- حرص على ألا يعادي أي رمز من رموز المعارضة شخصيا، أو يسيء إليه بكلمة نابية أو هجوم لاذع، كما لم يثبت أنه أصر، بما أوتي من أدوات السلطة، على مطاردة الخصوم أو إيذائهم. كان -رحمه الله- رقيقا معهم، ناصحا لهم، حانيا عليهم على الدوام، الأمر الذي انعكس في خطاب المعارضين أنفسهم الذي يكاد أن يخلو من أي مس بشخصه.
ولعل الجانب الأبرز في شخصية عيسى بن سلمان، الذي لمسه الكثيرون ووقفوا عند طويلا في حالة اندهاش هو ذلك التواضع الجم في التعامل مع المترددين عليه من زوار وضيوف، حتى قيل أنه بطيبته ورهافة حسه وأحاديثه العفوية البعيدة عن التكلف، وطريقة استقباله وتوديعه لزواره يشعرك، كائنا من كنت، بأنك في مستواه ومقامه.
ومما عُرف عن الراحل الكبير أيضا أنه كان كارها للحواجز الفاصلة ما بين الحاكم والمحكوم، في زمن اعتاد فيه كثير من الحكام على تعزيز إجراءات الأمن والاحتماء برجال المخابرات والأسلاك الفاصلة المكهربة أو الاختباء داخل السيارات المضادة للرصاص أو خلف نوافذها الداكنة. وفي هذا، لم يكن ليخشى حدوث أي مفاجأة غير سارة من تلك المفاجآت التي كان يخشاها نظراؤه، لأنه ببساطة لم يؤذ أحدا ولم يكن سببا في الإيذاء كي يصبح هدفا للانتقام.
وأستطيع أن أجزم -طبقا لما سمعته من أشخاص عملوا معه لسنوات- أنه كان يتألم مما كان يسببه موكبه الرسمي من إيقاف مؤقت لحركة المرور وتعطيل لمصالح الناس لبضع دقائق، إلا أن الأمر كان ضروريا في معظم الأحيان لتأمين وصوله إلى مواعيده واجتماعاته المقررة دون تأخير في بلد تشكو طرقاته من الضيق والازدحام والكثافة المرورية.
وبخلاف تلك المواكب الرسمية، فإن البحرينيين يتذكرون كيف أن أميرهم الراحل كان حريصا في أحايين كثيرة على التجوال دون مركبات مسرعة تتحرك من أمامه أو من خلفه، وكيف أن يده كانت على الدوام تخرج من نافذة سيارته، ملقية التحية والسلام على المارة العابرين من أبناء شعبه، قبل أن يتعرف هؤلاء على هويته ليرفعوا هم أياديهم بالتحية. ليس هذا فحسب، وإنما هناك الكثير من القصص التي تروى عن حوادث وقعت على الطرقات خارج المناطق السكنية المأهولة لأناس من عامة الشعب وكان المنقذ فيها هو الأمير عيسى بن سلمان بفعل مروره بالمكان مصادفة.
من تلك الحوادث أن الشيخ عيسى كان مارا ذات مرة من أحد التقاطعات، فرأى إصابة حافلة مدرسية محملة بالأطفال جراء إنزلاقها على الطريق. كان بإمكان الرجل أن يأمر بتوجيه المساعدة إلى مكان الحادث، ويمضي في سبيله، إلا أنه أصر على التوقف والترجل من سيارته ومداعبة الأطفال والتخفيف من روعهم، ولم ينصرف إلا بعد التأكد من ذهاب آخر طفل إلى حضن والديه سليما.
وإذا ما قمنا بجردة سريعه لما تم إنجازه في عهد عيسى بن سلمان، فإننا نجد الكثير ومنه تأسيس مجلس الدولة، وإعلان البحرين دولة عربية كاملة السيادة، ووضع الدستور من خلال مجلس تأسيسي منتخب، وتدشين الحياة البرلمانية، وتنويع الاقتصاد الوطني، وافتتاح جامعة البحرين والمبنى الحديث لمطار البحرين الدولي، وميناء سلمان، ومدينة عيسى، ومتحف البحرين، والمستشفى العسكري، والحوض الجاف، وتأسيس قوة دفاع البحرين، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والسياحية، والترخيص للصحف اليومية باللغتين العربية والإنجليزية، وإطلاق أول بث تلفزيوني ملون على مستوى دول الخليج، وإنشاء مركز الوثائق التاريخية، وافتتاح جسر الملك فهد، وغيرها.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
أما نحن في فصل الربيع؟ فتمتمت
فرائصها والحزن في الصدر يرعد
وقالت أما تدري بعيسى وقد مضى
وعيسي هو السيف الـذي أتقلـد
وها أنـذا مفجوعـة بعـد فقـده
فلا الصبر يجدي لا ولا الحزن ينفد
بهذه الأبيات ودّع شاعر «أوال» الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة أميره حاكم البحرين العاشر الراحل الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد بن عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن أحمد (الفاتح) بن محمد بن خليفة آل خليفة الذي انتقل إلى جوار ربه في مثل هذا الشهر من عام 1999.
يتفق الذين عرفوا الراحل الكبير عن قرب، وأولئك الذين راقبوه عن بعد على أنه كان طرازا نادرا من الحكام، بل ظاهرة غير قابلة للتكرار. ومن هنا فإن عنصر المفاجأة في رحيله الصامت على إثر نوبة قلبية حادة لم يكن وحده سبب تلك الصدمة العميقة في الشارعين البحريني والخليجي، وإنما كان للموضوع جوانب أخرى جديرة بأن تُروى، خصوصا للأجيال الجديدة التي لم تعاصره.
بدأت قصة الشيخ عيسى -رحمه الله- بميلاده في قرية الجسرة في الثالث من يونيو سنة 1933 الذي صادف اليوم التاسع من شهر صفر من عام 1352 للهجرة ابنا من أبناء آل خليفة الكرام الذين حكموا البحرين منذ عام 1782، واكتملتْ فصولها بوفاته في السادس من مارس سنة 1999 وهو يؤدي مهماته الرسمية بقصره في الرفاع. وما بين التاريخين جرت مياه كثيرة، وشهدت البحرين خضات وأحداثاً كبيرة، كان منها السياسي البحت، ومنها ما امتزج فيه السياسي بالاقتصادي والاجتماعي والطائفي، وصراعات القوى المحافظة مع قوى التجديد والتنوير والحداثة. غير أن العناوين الرئيسية لأسلوب عيسى بن سلمان في تعامله مع المتغيرات الكثيرة على مدى رحلة الحياة التي تجاوزت العقود الستة، ومشوار الحكم الذي امتد لأربعة عقود إلا نيفا كانت على الدوام واحدة: سخاء في اليد، وهدوء واتزان في الرأي، وتواضع آسر للقلوب، وانفتاح مدهش على الآخر، وتوازن دقيق في علاقاته مع الشرائح المختلفة المكونة لمجتمعه، وعمل دؤوب على تنمية بلده وعصرنته بما أوتي من موارد قليلة وإمكانات محدودة، وعلاقات حميمة مع دول الجوار الخليجي وحكامها، وحرص على استتباب الأمن والنظام لما له من تأثير على النشاط الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
بهذا الأسلوب تمكن الشيخ عيسى من كسب محبة الجميع وتجنيب بلاده الأسوأ، وحقق لها استقرارا طويلا ونهضة ماثلة للعيان ومتجسدة في الكثير من المرافق الخدمية والإدارية والمظاهر العمرانية والتنموية ومنابر الخير والبر والإحسان، وصروح الثقافة والعلم والإصلاح.
خليج ما قبل النفط
ينتمي عيسى بن سلمان بحكم الميلاد والتنشئة الأولى إلى حقبة خليج ما قبل النفط. وهكذا فإن تعليمه كان في مدارس البحرين التقليدية القائمة على تلقين أصول الدين واللغة العربية ومبادئ الحساب وحفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية، ونشأته كانت في بيئة عربية إسلامية، لكن ما إنْ اشتد عوده حتى تم إرساله إلى أوروبا وبعض البلاد العربية والأجنبية في جولات وزيارات متعددة؛ من أجل الاحتكاك بالثقافات الأخرى ومشاهدة مظاهر الحضارة والرقي في الخارج، وكذلك من أجل اكتساب مهارات اللغة الإنجليزية التي صار يتحدثها بطلاقة كأصحابها. علاوة على ذلك، عهد إليه والده ببعض المهمات الإدارية وهو شاب كي يتمرس على الحكم، ومنها تعيينه في مجلس الوصاية على العرش أثناء قيامه بزيارة لبريطانيا لحضور احتفالات تتويج الملكة إليزابيث الثانية في يونيو سنة 1952. وما بين هذا وذاك، أتيحت له فرص تعلم وممارسة العديد من الهوايات والرياضات في شبابه مثل الرماية والقنص وركوب الخيل والسباحة.ما بعد النفط
على أن كل ذلك لم يكن ليقارن بما تعلمه بالفطرة والمشاهدة من بيئة الخليج البسيطة وقتذاك، من فنون التواضع، والتسامح، والإيثار، وأصول المودة، والتواصل، والتراحم، التي ميزت سلوكيات أبناء تلك الحقبة. ومع نشوء مجتمعات ما بعد اكتشاف النفط، التي تغير فيها الكثير من السائد والمتعارف عليه رأسا على عقب، واختفى منها تدريجيا أخلاقيات الآباء والأجداد وعفويتهم ونقائهم لصالح أنماط جديدة من السلوكيات والقيم، حرص عيسى بن سلمان بقوة على ألا يمتد التغيير إلى خصاله، وظل وفيا إلى آخر دقيقة من عمره لما تعلمه ابتداء، وما ورثه عن والده من الهدوء والاتزان والحصافة والرقة والسماحة واللطف، وما ورثه عن أجداده من صفات الكرم والشجاعة والنبل.وهو لئن واجه في سنوات توليه ولاية العهد في ظل والده المغفور له الشيخ سلمان ما بين يوليو 1957 ونوفمبر 1961، ومن ثمّ خلال سنوات حكمه التي بدأت كحاكم للبحرين وتوابعها في عام 1961، ثم أميراً لدولة البحرين المستقلة ابتداء من منتصف أغسطس 1971، معارضة من هذه الفئة أو تلك لقرار أو سياسة ما، فإنه -بغض النظر عن شخوص المعارضين والمنتقدين أو نوعية مطالبهم وأدوات اعتراضهم- حرص على ألا يعادي أي رمز من رموز المعارضة شخصيا، أو يسيء إليه بكلمة نابية أو هجوم لاذع، كما لم يثبت أنه أصر، بما أوتي من أدوات السلطة، على مطاردة الخصوم أو إيذائهم. كان -رحمه الله- رقيقا معهم، ناصحا لهم، حانيا عليهم على الدوام، الأمر الذي انعكس في خطاب المعارضين أنفسهم الذي يكاد أن يخلو من أي مس بشخصه.
مسافة واحدة من الجميع
ولما كان قدر البحرين أن تنشأ مجتمعاً متنوعاً يسكنه أصحاب مذاهب وأعراق وثقافات وأصول متباينة، علاوة على أصحاب الأيديولوجيات السياسية المتصادمة من أولئك الذين استفادوا من فرص التعليم المجاني المبكرة وفرص الابتعاث إلى الخارج ومناخات البلاد الثقافية المنفتحة للبروز على الساحات السياسية والثقافية والاجتماعية، فإن عيسى بن سلمان تمكن، بقدرة عجيبة، من الوقوف على مسافة واحدة من كل هذه الطوائف والتيارات والثقافات، واستطاع أن يتعامل معها على قدم المساواة وفق قاعدة «أن البلد للجميع، وأن أميره مسؤول عن الكل»، سادا بذلك باب الشكوى من انحيازه إلى فئة على حساب الفئات الأخرى.ولعل الجانب الأبرز في شخصية عيسى بن سلمان، الذي لمسه الكثيرون ووقفوا عند طويلا في حالة اندهاش هو ذلك التواضع الجم في التعامل مع المترددين عليه من زوار وضيوف، حتى قيل أنه بطيبته ورهافة حسه وأحاديثه العفوية البعيدة عن التكلف، وطريقة استقباله وتوديعه لزواره يشعرك، كائنا من كنت، بأنك في مستواه ومقامه.
يلقي بالبروتوكولات جانباً
وكان من الطبيعي لمن كانت هذه صفاته أن يلقي بالبروتوكولات جانبا، وهذا ما لمسه كل من زار عيسى بن سلمان أو التقاه في قصره، إذ كان على خلاف غالبية نظرائه من الزعماء والقادة، يخرج لاستقبال ضيوفه عند البوابات الخارجية ويصطحبهم بنفسه إلى الداخل، ويبادر بالحديث معهم، حديث الصديق للصديق، مخففا من رهبة اللقاء بالحاكم.ومما عُرف عن الراحل الكبير أيضا أنه كان كارها للحواجز الفاصلة ما بين الحاكم والمحكوم، في زمن اعتاد فيه كثير من الحكام على تعزيز إجراءات الأمن والاحتماء برجال المخابرات والأسلاك الفاصلة المكهربة أو الاختباء داخل السيارات المضادة للرصاص أو خلف نوافذها الداكنة. وفي هذا، لم يكن ليخشى حدوث أي مفاجأة غير سارة من تلك المفاجآت التي كان يخشاها نظراؤه، لأنه ببساطة لم يؤذ أحدا ولم يكن سببا في الإيذاء كي يصبح هدفا للانتقام.
وأستطيع أن أجزم -طبقا لما سمعته من أشخاص عملوا معه لسنوات- أنه كان يتألم مما كان يسببه موكبه الرسمي من إيقاف مؤقت لحركة المرور وتعطيل لمصالح الناس لبضع دقائق، إلا أن الأمر كان ضروريا في معظم الأحيان لتأمين وصوله إلى مواعيده واجتماعاته المقررة دون تأخير في بلد تشكو طرقاته من الضيق والازدحام والكثافة المرورية.
وبخلاف تلك المواكب الرسمية، فإن البحرينيين يتذكرون كيف أن أميرهم الراحل كان حريصا في أحايين كثيرة على التجوال دون مركبات مسرعة تتحرك من أمامه أو من خلفه، وكيف أن يده كانت على الدوام تخرج من نافذة سيارته، ملقية التحية والسلام على المارة العابرين من أبناء شعبه، قبل أن يتعرف هؤلاء على هويته ليرفعوا هم أياديهم بالتحية. ليس هذا فحسب، وإنما هناك الكثير من القصص التي تروى عن حوادث وقعت على الطرقات خارج المناطق السكنية المأهولة لأناس من عامة الشعب وكان المنقذ فيها هو الأمير عيسى بن سلمان بفعل مروره بالمكان مصادفة.
من تلك الحوادث أن الشيخ عيسى كان مارا ذات مرة من أحد التقاطعات، فرأى إصابة حافلة مدرسية محملة بالأطفال جراء إنزلاقها على الطريق. كان بإمكان الرجل أن يأمر بتوجيه المساعدة إلى مكان الحادث، ويمضي في سبيله، إلا أنه أصر على التوقف والترجل من سيارته ومداعبة الأطفال والتخفيف من روعهم، ولم ينصرف إلا بعد التأكد من ذهاب آخر طفل إلى حضن والديه سليما.
كارهاً للأضواء
كما عُرف عن عيسى بن سلمان كرهه للأضواء، وتفضيله عدم إشعار الآخرين بصفته حين الوجود وسط أناس يجهلون هويته كما في رحلاته الخارجية الخاصة. وفي هذا السياق، يتذكر كاتب هذه السطور كيف أن الشيخ عيسى كان يجلس مع اثنين من أصدقائه المرافقين في بهو أحد الفنادق اللندنية القريبة من مطار هيثرو في عقد التسعينات، خلال توقفه في لندن في طريقه إلى الولايات المتحدة لمعاودة شقيقه وعضيده الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء الذي كان وقتها يتعالج في المستشفيات الأمريكية، وكيف أن مداخل ومخارج الفندق كانت خالية من رجال الأمن والحرس الخاص على خلاف ما يحدث عادة في حالة إقامة زعماء الدول في الفنادق، بل إن الأكثر دهشة هو أن موظفي الفندق وإدارييه لم يكونوا على علم بهوية ضيفهم، وهذا دليل آخر على ما كان يتحلى به الأمير الراحل من تواضع وتمسك بالسهل والبسيط. كانت تلك المناسبة هي المرة الوحيدة التي تشرفتُ فيها بالسلام على الشيخ عيسى وتقبيله والتعريف بنفسي، فما كان منه إلا أن سألني عن أهلي ودراستي وعما إذا كنت في حاجة لمساعدة مادية تعينني على تحصيلي العلمي.رجل الإنجازات
هكذا كان عيسى بن سلمان، حاكما أسر القلوب بتواضعه وطيبته، وبالتالي ليس من المبالغة القول إن مجتمع البحرين الموزاييكي قد أجمع على احترامه وحبه في حياته، وعلى الحزن عليه في مماته بمثل ما لم يجمع على شأن آخر في تاريخه.وإذا ما قمنا بجردة سريعه لما تم إنجازه في عهد عيسى بن سلمان، فإننا نجد الكثير ومنه تأسيس مجلس الدولة، وإعلان البحرين دولة عربية كاملة السيادة، ووضع الدستور من خلال مجلس تأسيسي منتخب، وتدشين الحياة البرلمانية، وتنويع الاقتصاد الوطني، وافتتاح جامعة البحرين والمبنى الحديث لمطار البحرين الدولي، وميناء سلمان، ومدينة عيسى، ومتحف البحرين، والمستشفى العسكري، والحوض الجاف، وتأسيس قوة دفاع البحرين، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والسياحية، والترخيص للصحف اليومية باللغتين العربية والإنجليزية، وإطلاق أول بث تلفزيوني ملون على مستوى دول الخليج، وإنشاء مركز الوثائق التاريخية، وافتتاح جسر الملك فهد، وغيرها.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين