محمد أمين عبدالله بستكي، واحد من رجالات عمان غير المعروفين كثيراً خارج حدود السلطنة على الرغم من دوره المؤثر على صعيدين خطيرين؛ أولهما قيامه في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932 ــ 1970) بعملية تنظيم ترحيل أبناء وطنه إلى الخارج من أجل العلم، وتوفير معاهد الدراسة المناسبة لهم في الدول المجاورة، وثانيهما قيامه في عهد السلطان قابوس بن سعيد بإثراء المكتبة العمانية والخليجية والعربية بترجمات متقنة للعديد من المؤلفات التاريخية إلى اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها إجادة تامة، ولاسيما تلك المؤلفات الخاصة بتاريخ عمان والخليج العربي.
حاول رجل الأعمال العماني المقيم سابقاً في دبي «حسين حيدر درويش»، وهو ابن من أبناء عائلة تُعرف في الإمارات وعمان والبحرين باسم الزعابي، أنْ يخلد ذكرى صديقه ورفيق دربه محمد أمين بستكي ويوثق سيرته من خلال كتاب صغير بعنوان «مناضل من عمان»، لكنه خرج عن هدفه الرئيسي إلى سرد قصته الذاتية ومعايشته للأحداث والتطورات في وطنه العماني، مع شن هجوم عنيف على «الاستعمار البريطاني والاستعمار الأمريكي» ناهيك عن توثيق ما سماه «الحركة الوطنية/ اليسارية في الخليج العربي» وعلاقاتها بالقوى الخارجية مع تسليط الضوء بين الفينة والأخرى على سيرة وجهود محمد أمين.
وكتاب «مناضل من عمان» أصدره درويش سنة 1987 في قبرص وحمل الإهداء التالي «إلى العظماء المجهولين من أبناء هذه الأمة الذين يولدون في الظلام ولكنهم يتطلعون إلى النور ويتجهون نحو الشروق وينشدون الشفق دون ملل أو كلل حتى تغمض أعينهم في الظلام»، ثم أعاد طباعته سنة 1990 لمَّا علم بنفاد الطبعة الأولى وسمع بإشاعة مفادها أن جهات مجهولة قامت بشراء كل النسخ وحرقها كي لا تصل إلى أيدي القراء العمانيين والعرب. وسواء صدقت تلك الرواية أو لم تصدق، فإن المؤلف بادر إلى نشر كتابه على حلقات في مجلة «الأزمنة العربية» الصادرة من قبرص ابتداءً من عددها رقم (164).
وقد اشتكى درويش مراراً من انتقادات كثيرة وُجِّهَتْ إليه من قبل بعض من ظهرت أسماؤهم في كتابه، بدعوى أنه أظهرهم في صورة نشطاء سياسيين في يوم ما. كما انتقده البعض الآخر لأنه تجرأ وعبَّر عن رأيه الشخصي في الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وذلك حينما كتب في الفصل السادس المعنون بـ«على ضفاف النيل»: «... إن من أخطاء جمال عبدالناصر الجسيمة عدم تطبيق النهج الديمقراطي خلال الثمانية عشر عاماً من حكمه». في هذا السياق كتب الرجل في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: «لقد اقترح علي الكثير ممن قرأ الطبعة الأولى من كتابي هذا بأن أحذف كلمتي (من أخطاء) اللتين توحيان طبعاً بكثير من الأخطاء، واستبدالهما بكلمة (خطأ) فأبيت. واقترح الآخرون أن أحذف من العبارة كلمة (جسيمة)، فأبيت أيضاً...».
وفي تلك المقدمة نقرأ أيضاً التالي: «إنني لا أبتغي من تأليف كتابي هذا، ولا مما يسطره قلمي سوى وضع الحقائق أمام القارئ، وللأجيال القادمة، بصدق وإيمان، دون تحيز أو محاباة. وقد أدركتُ منذ الوهلة الأولى أن كتاباتي هذه التي بدأ قلمي بخطها منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت سوف تجلب لي المشاكل وتلحق الأضرار بمصالحي الشخصية، ولكني وجدت تلك التضحيات تهون أمام الهدف المنشود في كشف الحقائق وإعلاء كلمة الحق..».
ونجد في الصفحة (3) من كتابه نصاً آخر حول دوافعه للكتابة عن صديقه، وفيه أنه لم يفعل ذلك بدافع الصداقة الوطيدة فحسب وإنما أيضاً ليسجل صفحة من صفحات تاريخ مواطن يجب أنْ يعتز به وطنه العماني، مضيفاً: «وبهذا الدافع الشخصي والوطني معاً قررتُ الكتابة عن الأستاذ محمد أمين عبدالله، وكم تمنيت لو مضيتُ قبله كي يسقط عن كاهلي هذا الواجب، لكن ليس لي خيار فيما اختاره القدر».
ولد محمد أمين عبدالله البستكي في مسقط سنة 1915، ابناً لأسرة تعود أصولها إلى مدينة بستك الواقعة اليوم ضمن محافظة هرمزكان في جنوب فارس العربي الذي كان حتى عام 1868 تحت إدارة الإمبراطورية العمانية الممتدة من سواحل شرق أفريقيا حتى سواحل بندر عباس.
تلقى تعليمه الأساسي الذي كان مقتصراً في تلك الفترة على اللغة العربية وعلوم الدين (وفق المذهب الشافعي) في مسقط رأسه على يد مدرس اسمه «أبودينة»، لكن طموحاته العلمية والثقافية قادته إلى الاعتماد على نفسه بشتى الوسائل الممكنة، خصوصاً في ظل انعدام المدارس النظامية بمراحلها المعروفة آنذاك. وهكذا اكتسب الرجل ثقافة رفيعة المستوى مقارنة بغيره من مواطنيه، مما مهد الطريق أمامه للالتحاق بوظيفة في المحكمة العدلية بمسقط، ثم استقال منها للعمل، في الفترة التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية، لدى القنصلية البريطانية في مسقط. غير أن خلافات ومشادات كلامية وقعت بينه وبين القنصل البريطاني، فآثر ترك وظيفته ومغادرة عمان إلى كراتشي في سنة 1947، هرباً من احتمال انتقام البريطانيين منه.
مقهى شيزان
كانت كراتشي في تلك الأيام لا تزال تتمتع بحرية الكتابة والفكر كنتيجة لبقايا الإرث البريطاني، وكانت مكتباتها تعج بالكتب الصادرة في الشرق والغرب، وهو ما سمح له بالاطلاع على أمهات الكتب في الفكر والسياسة والتاريخ. كما كانت كراتشي آنذاك معقلاً من معاقل الهاربين من أوطانهم، فكان هناك العماني والسوداني واليمني والإيراني وغيرهم ممن كانوا يجتمعون يومياً حول طاولة في «مقهى شيزان» للحديث عن مواضيع الساعة.
في كراتشي، ووسط هذه الأجواء، التقى محمد أمين سنة 1950 للمرة الأولى بحسين حيدر درويش الذي كان قادماً من عمان لدراسة الاقتصاد السياسي بجامعة كراتشي، بينما كان محمد أمين قد سبقه في الالتحاق بتلك الجامعة، بل كان يعمل بالتزامن موظفاً في وزارة الإعلام الباكستانية مختصاً بالترجمة من الإنجليزية إلى العربية. ويعترف درويش في كتابه فيقول (بتصرف): «كان محمد أمين أغزرنا ثقافة وأوسعنا معرفة وأعمقنا فكراً، وكان الجميع من المثقفين والسياسيين في المقهى يسارعون بإفساح المكان له. وبحكم عمله في وزارة الإعلام الباكستانية كان مطلعاً على كل الأحداث وملماً بكل ما يحدث في العالم». كما يعترف في مكان آخر بنبوغ وألمعية صديقه فيقول: «بما أنني كنت أدرس الاقتصاد السياسي، فقد وجدتُ محمد أمين ملماً بهذه المادة ولا يقل إلمامه بها عن أساتذة الجامعة، وكثيراً ما كنت أستعين به في شرح بعض النظريات الاقتصادية».
الاتحاد العماني
ثم ينتقل المؤلف للحديث عن ظروف تأسيس رابطة تحت اسم «الاتحاد العماني» في أوائل عام 1952 تجمع العمانيين، ولاسيما عشرات الآلاف من النازحين عن وطنهم لطلب العيش الكريم في مختلف أقطار الخليج المجاورة، فيخبرنا أن تلك الرابطة كانت ثمرة مداولات طويلة على مدى أشهر في مقهى شيزان بكراتشي بينه وبين زميليه محمد أمين وأحمد محمد الغزالي حول كيفية انتشال بلدهم عمان من أشباح الجهل والفقر والمرض والعبودية والاضطهاد التي كانت غارقة فيها آنذاك، إلى درجة أن «مجرد التطرق إلى الوضع كان يبعث الحزن والأسى في نفوسنا لذا دأبنا إلى تجنب الخوض فيه، ثم بدأنا بعد ذلك في تقبله على مضض، بعد أن استطعنا أن نقنع أنفسنا بأن ذلك واقعنا ولا مناص من الاعتراف به».
تحدد أن يكون لـ«الإتحاد العماني» هدفان في بادئ الأمر تمثلا في: نشر الوعي بين العمانيين في المهجر الخليجي؛ وفسح المجال للطلاب الذين أكملوا دراستهم الابتدائية في مدرسة مسقط الوحيدة آنذاك (المدرسة السعيدية) للخروج من البلاد من أجل إكمال دراستهم الثانوية خارج عمان. ولئن بدا هذان الهدفان سهلين، فإن مجرد التحدث عنهما في تلك الفترة كان شيئاً من الخيال بسبب وجود عوائق منيعة لإخراج الطلبة من عمان، ناهيك عن صعوبة استخراج وثائق السفر لترحيلهم. وفي هذا السياق يقول المؤلف إن المهمة ألقيت على كاهله لأن زميليه كان من الصعب عليهما المجازفة بدخول عمان خوفاً من المساءلة، ثم بسبب عدم امتلاكهما جوازات سفر صالحة للتنقل بين دول الخليج من أجل الاتصال بالمسؤولين في هذه الدول لاستقبال الطلبة العمانيين في مدارسها.
الكويت تفتح أبوابها للعمانيين
وهكذا طرق حسين حيدر درويش أبواباً كثيرة في أقطار عربية عدة من أجل هدفه الوطني النبيل، فرفض بعضها واشترط البعض الآخر تقديم طلب رسمي من حكومة عمان بشأن قبول الطلاب. كانت مديرية المعارف الكويتية على رأس الجهات التي تفهمت جهود درويش وتعاونت معه وقبلت ترشيحه للطلاب واعتبرته بمثابة طلب رسمي دون الإصرار على موافقة الحكومة العمانية. وحول هذا كتب درويش ما مفاده بأن الاتصال بينه وبين مديرية معارف الكويت بدأ في عام 1952، وأثمر فتح المعاهد الكويتية أبوابها بسخاء أمام الطلاب العمانيين لينهلوا من بحار العلم والمعرفة، وليدرسوا على نفقتها بعيداً عن أي عوائق.
كانت البداية بدفعة من ثلاثة طلاب، تم قبول أحدهم في القسم الداخلي فوراً بسبب وجوده في الكويت، ثم انضم إليه الآخران بعد دخولهما الكويت بموجب تصريح صادر من المعتمدية البريطانية في البحرين. بعد ذلك وافقت الكويت على استقبال دفعات أخرى من العمانيين الذين تمكنوا من الخروج من مسقط علاوة على عمانيين كانوا يعيشون في مشيخات الساحل المتصالح إلى أن بلغ عددهم في عام 1958 نحو 39 طالباً. وحينما تعذر قبول المزيد منهم في الكويت، وجَّه درويش جهوده صوب أقطار خليجية أخرى فكان له ما أراد.
التوسع سياسياً
بعدما حقق «الاتحاد الوطني» نجاحاً في هذا المجال التربوي أراد أن يوسع نشاطه إلى المجال السياسي فعهد إلى واحد من مؤسسيه الثلاثة وهو «أحمد محمد الغزالي» بوضع ما عُرف بميثاق «حزب الاتحاد العماني». وقد قام الأخير بكتابة هذا الميثاق بخط يده في عام 1953، وقد تضمن 8 مواد رئيسية والعديد من المواد الفرعية، وكانت صياغتها ومضامينها على نسق الدارج في الأحزاب اليسارية لجهة الهياكل وشروط العضوية وكيفية الانتماء وغيرها. وقد اختير درويش لقيادة الحزب تحت إلحاح زميليه محمد أمين وأحمد الغزالي، علماً بأن درويش كتب (بتصرف): «لم تكن ظروفي الدراسية تسمح لي بتحمل المزيد من المسؤوليات الوطنية (.....) وقد كنت أحبذ لو أن الزميل محمد أمين تحمل هذا العبء عني، بما أنه أكبر مني سناً وأكثر خبرة بهذا الشأن، سيما وقد تدرج في عدة وظائف مكتسباً منها تجارب قيِّمة كنت أفتقر إليها، ولكن الزميل محمد أمين هو الآخر أبى إلا أن أتقبل ذلك الواجب الوطني».
معارضو الاتحاد
ويعترف درويش بظهور معارضة من بعض الفئات بُعيد الإعلان عن ميثاق الاتحاد الوطني، ويشير كمثال إلى اعتراضات وصلت من المؤرخ والشاعر العماني المعروف المرحوم عبدالله محمد الطائي الذي كان وقتها يعمل في مجال التعليم والصحافة بالبحرين، علماً بأن اعتراضات الطائي كان محورها بعض الوسائل التنفيذية ولم تنصب على الهدف الوطني الجامع المتفق عليه بين كل العمانيين بمن فيهم بعض رموز الأسرة الحاكمة مثل السيد فيصل بن علي بن فيصل آل سعيد (تولى حقيبتي التربية والتعليم والتراث القومي والثقافة كما شغل منصب السفير في واشنطن والأمم المتحدة في عهد السلطان قابوس).
مرحلة ما بعد باكستان
وبالعودة إلى سيرة محمد أمين نجده يقرر في عام 1953 مغادرة باكستان نهائياً بعد أن سئم من الإقامة الطويلة بها، ومن الضغوط التي كان يتعرض لها من وزارة الإعلام الباكستانية للترويج لأفكار معينة متعلقة بالنموذج السياسي الباكستاني القائم على إثارة الحماس الديني فيما كانت رغبته هي حصر عمله في ترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية فحسب. ومن الأسباب الأخرى التي دعته لمغادرة باكستان أن يكون بالقرب من العاملين في الاتحاد العماني. وهكذا وصل الرجل إلى الكويت، التي كانت تشهد آنذاك نشاطاً طلابياً عمانياً قابلاً للاستثمار في تحقيق أهداف العمانيين الوطنية، وحصل على وظيفة في ميناء الكويت في الفترة ما بين عامي 1953 و1955. وخلال وجوده في الكويت في هذه الفترة عمل على ترسيخ مبادئ الاتحاد العماني عبر التنسيق ما بين لجانه المحلية في الأقطار التي كان فيها العمانيون وقتذاك، والاتصال بمحرري الصحف والطبقة المثقفة، والتردد على القاهرة ما بين الفينة والأخرى. وساعده في هذه المهمات الوطنية مواطنه «حمدان عبدالله» الذي كان يعمل وقتها في منصب المدير العام لدائرة بريد الكويت.
يقول درويش إنه بمرور الوقت توسعت دائرة الخلافات والانشقاقات في الاتحاد العماني، ناسباً ذلك إلى المستعمر البريطاني الذي أوعز إلى أعوانه بدخول الاتحاد من أجل بث الفرقة في صفوف أعضائه على حد قوله، فقرر أن يتخلى عن القيادة والمسؤولية لإفساح المجال لغيره، إلا أن اللجان عقدت اجتماعاً في الكويت في سبتمبر 1955 للنظر في الموضوع برئاسة محمد أمين، وقررت عدم قبول استقالته.
حقبة القاهرة
عاش محمد أمين فترة من حياته في القاهرة، التي عشقها بكل جوارحه، وذلك في الفترة التي كان لإمامة عمان مكتب في العاصمة المصرية زمن الرئيس عبدالناصر، حيث عمل موظفاً في ذلك المكتب مقابل راتب زهيد لم يكن يسد التزاماته والتزامات أسرته، الأمر الذي تسبب له في ضائقة مادية. هنا لجأ إلى تدبير أموره بالعودة إلى نشاطه القديم في ترجمة الكتب من الإنجليزية إلى العربية ومحاولة بيعها في الأقطار الخليجية. غير أن تلك الكتب كثيراً ما ما مُنعت من الدخول أو خافت المكتبات تصريفها، رغم محاولات صديقه حمدان عبدالله التوسط لإزالة هذه العوائق. وبوقوع كارثة حزيران 1967 وتداعياتها ساءت نفسية محمد أمين وأصابه الحدث في مقتل فجمَّد نشاطه في مصر لكنه آثر البقاء فيها متحملاً مرارة الغربة وضيق اليد وقلة الحيلة.
العودة للوطن
وفي عام 1974، أي بعد مضي أربع سنوات على التغيير الذي قاده جلالة السلطان قابوس، والذي نقل عمان من مجاهل القرون الوسطى إلى آفاق النهضة والحداثة والتنمية، عاد محمد أمين إلى وطنه لينضم إلى أصدقائه الثلاثة في المهجر (حسين حيدر درويش وأحمد الجمالي وحمدان عبدالله) الذين كانوا قد سبقوه في العودة استجابةً لدعوة تلقوها من رئيس الوزراء السيد طارق بن سعيد، ضمَّنها سياسة حكومته القاضية بتأمين أمنهم وسلامتهم وحريتهم مع تعيينهم في المناصب الحكومية، تعويضاً لسنوات الغربة والتشرد.
رفض المناصب
وهكذا، على حين رفض درويش قبول منصب مدير للتجارة في وزارة الاقتصاد مفضلاً عليه العمل التجاري الحر في مسقط ودبي، تم تعيين أحمد الجمالي مديراً للتربية والتعليم قبل أن يعين سكرتيراً أول في وفد عمان الدائم لدى الأمم المتحدة ومن ثم سفيراً في الأردن وإيطاليا، وتم تعيين حمدان عبدالله مديراً عاماً للبريد، ووافق محمد أمين أن يعمل موظفاً في قسم المطبوعات والنشر بوزارة الإعلام، وظل بحكم عمله هذا يتردد كثيراً على القاهرة.
في فبراير 1982 نقل محمد أمين من القاهرة، التي كان يزورها، إلى مسقط وأدخل أحد المستشفيات على عجل بسبب تردي صحته. بلغ الخبر أسماع صديقه درويش في دبي فسارع إلى العودة إلى مسقط ليكون بجوار زميله في الكفاح فوجده لا يقوى على الكلام. وحينما زاره في صبيحة اليوم التالي وجده في حالة احتضار، وبجواره زوجته وزميلهما الجمالي.
فارقت روح محمد أمين الحياة ظهر يوم 18 يناير 1982، وشُيِّع جثمانه مساء اليوم نفسه بحضور مشيعين لم يتجاوز عددهم بضعة عشر نفراً، فيما كان زميله درويش يتوقع حضور جماهير غفيرة، تاركاً خلفه للمكتبة العربية جملة من الترجمات بلغت 22 كتاباً كلها من إصدارات وزارة التراث القومي والثقافة بالسلطنة أهمها، صحار عبر التاريخ من تأليف أندرو ويليامسون، عمان في صفحات التاريخ بقلم روبين بيدويل، ملحق البلاد السعيدة بقلم سير آرثر كيث وويليون ماريون كروجمان، بريطانيا والخليج 1795 - 1870 بقلم جون. ب كيلي، عمان وشرقي أفريقية من تأليف أحمد حمود المعمري، عمان: تاريخاً وعلماء من تأليف أ ف. سي. ولكنسون، البوسعيديون: حكام زنجبار ألفه بالإنجليزية عبدالله بن صالح الفارس، لمحة تاريخية عن المباني الأثرية في مسقط بقلم روت هولي، الأفلاج ووسائل الري في عمان من تأليف جي. رسي.ولكنسون، والخليج: بلدانه وقبائله بقلم س. ب. مايلز.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن مرسوماً سلطانياً صدر في عام 1997 قضى بتعيين السيدة سميرة بنت محمد أمين عبدالله (ابنة المترجم له) إلى جانب السيدات لميسة عبدالله الطائي وسلمى محمد اللمكي ورحيمة علي القاسمي أعضاء في مجلس الدولة العماني (مجلس يقوم السلطان بتعيين أعضائه السبعة والخمسين من ذوي الكفاءة والخبرة).
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
حاول رجل الأعمال العماني المقيم سابقاً في دبي «حسين حيدر درويش»، وهو ابن من أبناء عائلة تُعرف في الإمارات وعمان والبحرين باسم الزعابي، أنْ يخلد ذكرى صديقه ورفيق دربه محمد أمين بستكي ويوثق سيرته من خلال كتاب صغير بعنوان «مناضل من عمان»، لكنه خرج عن هدفه الرئيسي إلى سرد قصته الذاتية ومعايشته للأحداث والتطورات في وطنه العماني، مع شن هجوم عنيف على «الاستعمار البريطاني والاستعمار الأمريكي» ناهيك عن توثيق ما سماه «الحركة الوطنية/ اليسارية في الخليج العربي» وعلاقاتها بالقوى الخارجية مع تسليط الضوء بين الفينة والأخرى على سيرة وجهود محمد أمين.
وكتاب «مناضل من عمان» أصدره درويش سنة 1987 في قبرص وحمل الإهداء التالي «إلى العظماء المجهولين من أبناء هذه الأمة الذين يولدون في الظلام ولكنهم يتطلعون إلى النور ويتجهون نحو الشروق وينشدون الشفق دون ملل أو كلل حتى تغمض أعينهم في الظلام»، ثم أعاد طباعته سنة 1990 لمَّا علم بنفاد الطبعة الأولى وسمع بإشاعة مفادها أن جهات مجهولة قامت بشراء كل النسخ وحرقها كي لا تصل إلى أيدي القراء العمانيين والعرب. وسواء صدقت تلك الرواية أو لم تصدق، فإن المؤلف بادر إلى نشر كتابه على حلقات في مجلة «الأزمنة العربية» الصادرة من قبرص ابتداءً من عددها رقم (164).
وقد اشتكى درويش مراراً من انتقادات كثيرة وُجِّهَتْ إليه من قبل بعض من ظهرت أسماؤهم في كتابه، بدعوى أنه أظهرهم في صورة نشطاء سياسيين في يوم ما. كما انتقده البعض الآخر لأنه تجرأ وعبَّر عن رأيه الشخصي في الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وذلك حينما كتب في الفصل السادس المعنون بـ«على ضفاف النيل»: «... إن من أخطاء جمال عبدالناصر الجسيمة عدم تطبيق النهج الديمقراطي خلال الثمانية عشر عاماً من حكمه». في هذا السياق كتب الرجل في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: «لقد اقترح علي الكثير ممن قرأ الطبعة الأولى من كتابي هذا بأن أحذف كلمتي (من أخطاء) اللتين توحيان طبعاً بكثير من الأخطاء، واستبدالهما بكلمة (خطأ) فأبيت. واقترح الآخرون أن أحذف من العبارة كلمة (جسيمة)، فأبيت أيضاً...».
وفي تلك المقدمة نقرأ أيضاً التالي: «إنني لا أبتغي من تأليف كتابي هذا، ولا مما يسطره قلمي سوى وضع الحقائق أمام القارئ، وللأجيال القادمة، بصدق وإيمان، دون تحيز أو محاباة. وقد أدركتُ منذ الوهلة الأولى أن كتاباتي هذه التي بدأ قلمي بخطها منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت سوف تجلب لي المشاكل وتلحق الأضرار بمصالحي الشخصية، ولكني وجدت تلك التضحيات تهون أمام الهدف المنشود في كشف الحقائق وإعلاء كلمة الحق..».
ونجد في الصفحة (3) من كتابه نصاً آخر حول دوافعه للكتابة عن صديقه، وفيه أنه لم يفعل ذلك بدافع الصداقة الوطيدة فحسب وإنما أيضاً ليسجل صفحة من صفحات تاريخ مواطن يجب أنْ يعتز به وطنه العماني، مضيفاً: «وبهذا الدافع الشخصي والوطني معاً قررتُ الكتابة عن الأستاذ محمد أمين عبدالله، وكم تمنيت لو مضيتُ قبله كي يسقط عن كاهلي هذا الواجب، لكن ليس لي خيار فيما اختاره القدر».
ولد محمد أمين عبدالله البستكي في مسقط سنة 1915، ابناً لأسرة تعود أصولها إلى مدينة بستك الواقعة اليوم ضمن محافظة هرمزكان في جنوب فارس العربي الذي كان حتى عام 1868 تحت إدارة الإمبراطورية العمانية الممتدة من سواحل شرق أفريقيا حتى سواحل بندر عباس.
تلقى تعليمه الأساسي الذي كان مقتصراً في تلك الفترة على اللغة العربية وعلوم الدين (وفق المذهب الشافعي) في مسقط رأسه على يد مدرس اسمه «أبودينة»، لكن طموحاته العلمية والثقافية قادته إلى الاعتماد على نفسه بشتى الوسائل الممكنة، خصوصاً في ظل انعدام المدارس النظامية بمراحلها المعروفة آنذاك. وهكذا اكتسب الرجل ثقافة رفيعة المستوى مقارنة بغيره من مواطنيه، مما مهد الطريق أمامه للالتحاق بوظيفة في المحكمة العدلية بمسقط، ثم استقال منها للعمل، في الفترة التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية، لدى القنصلية البريطانية في مسقط. غير أن خلافات ومشادات كلامية وقعت بينه وبين القنصل البريطاني، فآثر ترك وظيفته ومغادرة عمان إلى كراتشي في سنة 1947، هرباً من احتمال انتقام البريطانيين منه.
مقهى شيزان
كانت كراتشي في تلك الأيام لا تزال تتمتع بحرية الكتابة والفكر كنتيجة لبقايا الإرث البريطاني، وكانت مكتباتها تعج بالكتب الصادرة في الشرق والغرب، وهو ما سمح له بالاطلاع على أمهات الكتب في الفكر والسياسة والتاريخ. كما كانت كراتشي آنذاك معقلاً من معاقل الهاربين من أوطانهم، فكان هناك العماني والسوداني واليمني والإيراني وغيرهم ممن كانوا يجتمعون يومياً حول طاولة في «مقهى شيزان» للحديث عن مواضيع الساعة.
في كراتشي، ووسط هذه الأجواء، التقى محمد أمين سنة 1950 للمرة الأولى بحسين حيدر درويش الذي كان قادماً من عمان لدراسة الاقتصاد السياسي بجامعة كراتشي، بينما كان محمد أمين قد سبقه في الالتحاق بتلك الجامعة، بل كان يعمل بالتزامن موظفاً في وزارة الإعلام الباكستانية مختصاً بالترجمة من الإنجليزية إلى العربية. ويعترف درويش في كتابه فيقول (بتصرف): «كان محمد أمين أغزرنا ثقافة وأوسعنا معرفة وأعمقنا فكراً، وكان الجميع من المثقفين والسياسيين في المقهى يسارعون بإفساح المكان له. وبحكم عمله في وزارة الإعلام الباكستانية كان مطلعاً على كل الأحداث وملماً بكل ما يحدث في العالم». كما يعترف في مكان آخر بنبوغ وألمعية صديقه فيقول: «بما أنني كنت أدرس الاقتصاد السياسي، فقد وجدتُ محمد أمين ملماً بهذه المادة ولا يقل إلمامه بها عن أساتذة الجامعة، وكثيراً ما كنت أستعين به في شرح بعض النظريات الاقتصادية».
الاتحاد العماني
ثم ينتقل المؤلف للحديث عن ظروف تأسيس رابطة تحت اسم «الاتحاد العماني» في أوائل عام 1952 تجمع العمانيين، ولاسيما عشرات الآلاف من النازحين عن وطنهم لطلب العيش الكريم في مختلف أقطار الخليج المجاورة، فيخبرنا أن تلك الرابطة كانت ثمرة مداولات طويلة على مدى أشهر في مقهى شيزان بكراتشي بينه وبين زميليه محمد أمين وأحمد محمد الغزالي حول كيفية انتشال بلدهم عمان من أشباح الجهل والفقر والمرض والعبودية والاضطهاد التي كانت غارقة فيها آنذاك، إلى درجة أن «مجرد التطرق إلى الوضع كان يبعث الحزن والأسى في نفوسنا لذا دأبنا إلى تجنب الخوض فيه، ثم بدأنا بعد ذلك في تقبله على مضض، بعد أن استطعنا أن نقنع أنفسنا بأن ذلك واقعنا ولا مناص من الاعتراف به».
تحدد أن يكون لـ«الإتحاد العماني» هدفان في بادئ الأمر تمثلا في: نشر الوعي بين العمانيين في المهجر الخليجي؛ وفسح المجال للطلاب الذين أكملوا دراستهم الابتدائية في مدرسة مسقط الوحيدة آنذاك (المدرسة السعيدية) للخروج من البلاد من أجل إكمال دراستهم الثانوية خارج عمان. ولئن بدا هذان الهدفان سهلين، فإن مجرد التحدث عنهما في تلك الفترة كان شيئاً من الخيال بسبب وجود عوائق منيعة لإخراج الطلبة من عمان، ناهيك عن صعوبة استخراج وثائق السفر لترحيلهم. وفي هذا السياق يقول المؤلف إن المهمة ألقيت على كاهله لأن زميليه كان من الصعب عليهما المجازفة بدخول عمان خوفاً من المساءلة، ثم بسبب عدم امتلاكهما جوازات سفر صالحة للتنقل بين دول الخليج من أجل الاتصال بالمسؤولين في هذه الدول لاستقبال الطلبة العمانيين في مدارسها.
الكويت تفتح أبوابها للعمانيين
وهكذا طرق حسين حيدر درويش أبواباً كثيرة في أقطار عربية عدة من أجل هدفه الوطني النبيل، فرفض بعضها واشترط البعض الآخر تقديم طلب رسمي من حكومة عمان بشأن قبول الطلاب. كانت مديرية المعارف الكويتية على رأس الجهات التي تفهمت جهود درويش وتعاونت معه وقبلت ترشيحه للطلاب واعتبرته بمثابة طلب رسمي دون الإصرار على موافقة الحكومة العمانية. وحول هذا كتب درويش ما مفاده بأن الاتصال بينه وبين مديرية معارف الكويت بدأ في عام 1952، وأثمر فتح المعاهد الكويتية أبوابها بسخاء أمام الطلاب العمانيين لينهلوا من بحار العلم والمعرفة، وليدرسوا على نفقتها بعيداً عن أي عوائق.
كانت البداية بدفعة من ثلاثة طلاب، تم قبول أحدهم في القسم الداخلي فوراً بسبب وجوده في الكويت، ثم انضم إليه الآخران بعد دخولهما الكويت بموجب تصريح صادر من المعتمدية البريطانية في البحرين. بعد ذلك وافقت الكويت على استقبال دفعات أخرى من العمانيين الذين تمكنوا من الخروج من مسقط علاوة على عمانيين كانوا يعيشون في مشيخات الساحل المتصالح إلى أن بلغ عددهم في عام 1958 نحو 39 طالباً. وحينما تعذر قبول المزيد منهم في الكويت، وجَّه درويش جهوده صوب أقطار خليجية أخرى فكان له ما أراد.
التوسع سياسياً
بعدما حقق «الاتحاد الوطني» نجاحاً في هذا المجال التربوي أراد أن يوسع نشاطه إلى المجال السياسي فعهد إلى واحد من مؤسسيه الثلاثة وهو «أحمد محمد الغزالي» بوضع ما عُرف بميثاق «حزب الاتحاد العماني». وقد قام الأخير بكتابة هذا الميثاق بخط يده في عام 1953، وقد تضمن 8 مواد رئيسية والعديد من المواد الفرعية، وكانت صياغتها ومضامينها على نسق الدارج في الأحزاب اليسارية لجهة الهياكل وشروط العضوية وكيفية الانتماء وغيرها. وقد اختير درويش لقيادة الحزب تحت إلحاح زميليه محمد أمين وأحمد الغزالي، علماً بأن درويش كتب (بتصرف): «لم تكن ظروفي الدراسية تسمح لي بتحمل المزيد من المسؤوليات الوطنية (.....) وقد كنت أحبذ لو أن الزميل محمد أمين تحمل هذا العبء عني، بما أنه أكبر مني سناً وأكثر خبرة بهذا الشأن، سيما وقد تدرج في عدة وظائف مكتسباً منها تجارب قيِّمة كنت أفتقر إليها، ولكن الزميل محمد أمين هو الآخر أبى إلا أن أتقبل ذلك الواجب الوطني».
معارضو الاتحاد
ويعترف درويش بظهور معارضة من بعض الفئات بُعيد الإعلان عن ميثاق الاتحاد الوطني، ويشير كمثال إلى اعتراضات وصلت من المؤرخ والشاعر العماني المعروف المرحوم عبدالله محمد الطائي الذي كان وقتها يعمل في مجال التعليم والصحافة بالبحرين، علماً بأن اعتراضات الطائي كان محورها بعض الوسائل التنفيذية ولم تنصب على الهدف الوطني الجامع المتفق عليه بين كل العمانيين بمن فيهم بعض رموز الأسرة الحاكمة مثل السيد فيصل بن علي بن فيصل آل سعيد (تولى حقيبتي التربية والتعليم والتراث القومي والثقافة كما شغل منصب السفير في واشنطن والأمم المتحدة في عهد السلطان قابوس).
مرحلة ما بعد باكستان
وبالعودة إلى سيرة محمد أمين نجده يقرر في عام 1953 مغادرة باكستان نهائياً بعد أن سئم من الإقامة الطويلة بها، ومن الضغوط التي كان يتعرض لها من وزارة الإعلام الباكستانية للترويج لأفكار معينة متعلقة بالنموذج السياسي الباكستاني القائم على إثارة الحماس الديني فيما كانت رغبته هي حصر عمله في ترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية فحسب. ومن الأسباب الأخرى التي دعته لمغادرة باكستان أن يكون بالقرب من العاملين في الاتحاد العماني. وهكذا وصل الرجل إلى الكويت، التي كانت تشهد آنذاك نشاطاً طلابياً عمانياً قابلاً للاستثمار في تحقيق أهداف العمانيين الوطنية، وحصل على وظيفة في ميناء الكويت في الفترة ما بين عامي 1953 و1955. وخلال وجوده في الكويت في هذه الفترة عمل على ترسيخ مبادئ الاتحاد العماني عبر التنسيق ما بين لجانه المحلية في الأقطار التي كان فيها العمانيون وقتذاك، والاتصال بمحرري الصحف والطبقة المثقفة، والتردد على القاهرة ما بين الفينة والأخرى. وساعده في هذه المهمات الوطنية مواطنه «حمدان عبدالله» الذي كان يعمل وقتها في منصب المدير العام لدائرة بريد الكويت.
يقول درويش إنه بمرور الوقت توسعت دائرة الخلافات والانشقاقات في الاتحاد العماني، ناسباً ذلك إلى المستعمر البريطاني الذي أوعز إلى أعوانه بدخول الاتحاد من أجل بث الفرقة في صفوف أعضائه على حد قوله، فقرر أن يتخلى عن القيادة والمسؤولية لإفساح المجال لغيره، إلا أن اللجان عقدت اجتماعاً في الكويت في سبتمبر 1955 للنظر في الموضوع برئاسة محمد أمين، وقررت عدم قبول استقالته.
حقبة القاهرة
عاش محمد أمين فترة من حياته في القاهرة، التي عشقها بكل جوارحه، وذلك في الفترة التي كان لإمامة عمان مكتب في العاصمة المصرية زمن الرئيس عبدالناصر، حيث عمل موظفاً في ذلك المكتب مقابل راتب زهيد لم يكن يسد التزاماته والتزامات أسرته، الأمر الذي تسبب له في ضائقة مادية. هنا لجأ إلى تدبير أموره بالعودة إلى نشاطه القديم في ترجمة الكتب من الإنجليزية إلى العربية ومحاولة بيعها في الأقطار الخليجية. غير أن تلك الكتب كثيراً ما ما مُنعت من الدخول أو خافت المكتبات تصريفها، رغم محاولات صديقه حمدان عبدالله التوسط لإزالة هذه العوائق. وبوقوع كارثة حزيران 1967 وتداعياتها ساءت نفسية محمد أمين وأصابه الحدث في مقتل فجمَّد نشاطه في مصر لكنه آثر البقاء فيها متحملاً مرارة الغربة وضيق اليد وقلة الحيلة.
العودة للوطن
وفي عام 1974، أي بعد مضي أربع سنوات على التغيير الذي قاده جلالة السلطان قابوس، والذي نقل عمان من مجاهل القرون الوسطى إلى آفاق النهضة والحداثة والتنمية، عاد محمد أمين إلى وطنه لينضم إلى أصدقائه الثلاثة في المهجر (حسين حيدر درويش وأحمد الجمالي وحمدان عبدالله) الذين كانوا قد سبقوه في العودة استجابةً لدعوة تلقوها من رئيس الوزراء السيد طارق بن سعيد، ضمَّنها سياسة حكومته القاضية بتأمين أمنهم وسلامتهم وحريتهم مع تعيينهم في المناصب الحكومية، تعويضاً لسنوات الغربة والتشرد.
رفض المناصب
وهكذا، على حين رفض درويش قبول منصب مدير للتجارة في وزارة الاقتصاد مفضلاً عليه العمل التجاري الحر في مسقط ودبي، تم تعيين أحمد الجمالي مديراً للتربية والتعليم قبل أن يعين سكرتيراً أول في وفد عمان الدائم لدى الأمم المتحدة ومن ثم سفيراً في الأردن وإيطاليا، وتم تعيين حمدان عبدالله مديراً عاماً للبريد، ووافق محمد أمين أن يعمل موظفاً في قسم المطبوعات والنشر بوزارة الإعلام، وظل بحكم عمله هذا يتردد كثيراً على القاهرة.
في فبراير 1982 نقل محمد أمين من القاهرة، التي كان يزورها، إلى مسقط وأدخل أحد المستشفيات على عجل بسبب تردي صحته. بلغ الخبر أسماع صديقه درويش في دبي فسارع إلى العودة إلى مسقط ليكون بجوار زميله في الكفاح فوجده لا يقوى على الكلام. وحينما زاره في صبيحة اليوم التالي وجده في حالة احتضار، وبجواره زوجته وزميلهما الجمالي.
فارقت روح محمد أمين الحياة ظهر يوم 18 يناير 1982، وشُيِّع جثمانه مساء اليوم نفسه بحضور مشيعين لم يتجاوز عددهم بضعة عشر نفراً، فيما كان زميله درويش يتوقع حضور جماهير غفيرة، تاركاً خلفه للمكتبة العربية جملة من الترجمات بلغت 22 كتاباً كلها من إصدارات وزارة التراث القومي والثقافة بالسلطنة أهمها، صحار عبر التاريخ من تأليف أندرو ويليامسون، عمان في صفحات التاريخ بقلم روبين بيدويل، ملحق البلاد السعيدة بقلم سير آرثر كيث وويليون ماريون كروجمان، بريطانيا والخليج 1795 - 1870 بقلم جون. ب كيلي، عمان وشرقي أفريقية من تأليف أحمد حمود المعمري، عمان: تاريخاً وعلماء من تأليف أ ف. سي. ولكنسون، البوسعيديون: حكام زنجبار ألفه بالإنجليزية عبدالله بن صالح الفارس، لمحة تاريخية عن المباني الأثرية في مسقط بقلم روت هولي، الأفلاج ووسائل الري في عمان من تأليف جي. رسي.ولكنسون، والخليج: بلدانه وقبائله بقلم س. ب. مايلز.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن مرسوماً سلطانياً صدر في عام 1997 قضى بتعيين السيدة سميرة بنت محمد أمين عبدالله (ابنة المترجم له) إلى جانب السيدات لميسة عبدالله الطائي وسلمى محمد اللمكي ورحيمة علي القاسمي أعضاء في مجلس الدولة العماني (مجلس يقوم السلطان بتعيين أعضائه السبعة والخمسين من ذوي الكفاءة والخبرة).
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين