بعد 12 عاما على وفاته، لا يزال الإرث الأدبي للكاتب العربي الوحيد الحائز جائزة نوبل للآداب قبل 31 عاما نجيب محفوظ يعيش في أزقة القاهرة الضيقة.
وتطل لوحة فسيفسائية للأديب بنظارتيه الشهيرتين على سوق شعبي يعج بأطفال على دراجاتهم، ويظهر فيه نادلو المقاهي يحملون صواني المشروبات الساخنة، فيما يتجادل المتسوقون مع الباعة المتجولين على أسعار اللحوم.
وقد يبدو ذلك مشهدا نموذجيا من رواية لمحفوظ تركز على تفاصيل الحياة في العاصمة المصرية، مع إيحاءاتها السياسية الساخرة وشخصياتها الخالدة.
في يوليو الماضي، افتتح متحف نجيب محفوظ تكريما للكاتب الكبير في حي الغورية الشعبي المجاور لجامع الأزهر، بعد سنوات من العمل فيه.
ويضم المتحف ترجمات جديدة لأعمال محفوظ غير المنشورة ما يبرز التأثير الذي تركه الأديب المصري على الأدب العالمي والمصريين أنفسهم بعد 13 عاما من وفاته.
في نوفمبر، أثار الكاتب المصري الشاب أحمد مراد جدلا على وسائل التواصل الاجتماعي عندما انتقد إيقاع روايات محفوظ قائلا إنه لا بد من تكييف رواياته لمراعاة العصر.
وأجبرت التعليقات الغاضبة وردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي، الكاتب الشاب على اللجوء إلى أحد برامج التوك شو الشهيرة لتوضيح ما قاله بشأن محفوظ.
ويعتبر محفوظ أبا الرواية العربية الحديثة، إذ قام بتوسيع نطاقها الأدبي من خلال تخطّي بعض الخطوط.
وكاد أن يقتل بسبب قيامه بذلك. ففي العام 1994، طعنه رجل بسكين في رقبته في محاولة اغتيال نجا منها.
وكان المهاجم يتصرف بناء على فتوى دينية أصدرها زعيم الجماعة الإسلامية آنذاك الشيخ المصري الأميركي عمر عبد الرحمن الذي اعتبر مؤلفات محفوظ كفرا وأباح دمه.
- "عن القاهرة بحب" - وتقول ابنة الأديب المصري العالمي أم كلثوم إن والدها كان مولعا بشدة بطاقة القاهرة الفوضوية إلى حد أصبحت المدينة نفسها إحدى شخصيات مؤلفاته.
وتحكي أم كلثوم عن الروتين اليومي في حياة محفوظ وهو يشمل سيره على طول كورنيش النيل قاصدا الصالونات الثقافية ومقاهيه المفضلة قرب ميدان التحرير، وتضيف لوكالة فرانس برس "لقد كان دائما يكتب عن القاهرة بحب وكان يصفها بدقة شديدة... حتى لو انتقدها فهي لا تزال مليئة بالحب".
وتسلمت أم كلثوم وشقيقتها جائزة نوبل الآداب العام 1988 نيابة عن والدهما لعدم قدرته على السفر بسبب تدهور حالة بصره آنذاك.
وتتابع "أتذكر في بعض الأحيان أننا كنا نذهب إلى حي الحسين (في قلب القاهرة الفاطمية) وكنا نجلس في مقهى يحمل اسمه".
واستعرضت ذكرياتها معه، قائلة "لقد أرانا زقاق المدق وكان أشبه بغرفة صغيرة وكان يخبرنا قصصا رائعة عن أيامه عندما كان تلميذا".
وتعتبر رواية «زقاق المدق» من أكثر روايات محفوظ قراءة على مستوى العالم، وقد حوّلت إلى فيلم سينمائي العام 1995 أدت دور البطولة فيه سلمى حايك.
ولأن محفوظ أمضى سنواته الأولى في منطقة القاهرة الفاطمية، اختير موقع المتحف في دار ضيافة هناك يعود إلى العام 1774 خلال العهد العثماني وقد تم تجديده بشكل جميل.
وفي حي الجمالية، نشأ الكاتب محاطا بجدران يعود تاريخها إلى القرن العاشر. وتشير أم كلثوم الى أن نشأة محفوظ في ذلك المكان تركت تأثيرا كبيرا على مخيلته.
ويضم المعرض المؤلف من ثلاثة طوابق مقتنيات محفوظ الثمينة ومن بينها مكتبه المصنوع من خشب الماهوغوني وشهادة جائزة نوبل وآخر علبة سجائر له.
- كاتب عالمي - ويقول رودجر ألين، وهو أستاذ فخري في جامعة بن في الولايات المتحدة ترجم الكثير من مؤلفات الكتّاب العرب خصوصا نجيب محفوظ، إن المؤلف كان أساسيا "في تطور الخيال المصري".
ويضيف أن كتاباته تعمقت في «مصر القديمة والصوفية والسياسة»، موضحا "يمكنك الحصول على لمحات عن اهتماماته الكثيرة. لقد كان يعمل على مسارات عدة طيلة حياته المهنية".
وترجم ألين أخيرا مجموعة من كتابات محفوظ إلى اللغة الإنكليزية هذا العام في مجموعة عمل بعنوان "ذا كوارتر (المُربّع)".
وتعكس المجموعة «كيف يبدو شكل مربع سكني يعيش فيه القاهريون»، ويشبه إلى حد كبير الحي الذي يوجد فيه المتحف المخصص له.
وأشار ألين إلى أن المجموعة تعتبر أيضا "كيانا رمزيا مرتبطا بالإنسانية".
وتستند المجموعة الجديدة إلى مجموعة من الأوراق التي عثرت عليها ابنة محفوظ بعد سنوات من وفاته، ووضبها ونشرها أساسا المحرر في صحيفة «أخبار الأدب» المصرية محمح شعير.
ويقول شعير لوكالة فرانس برس "في السنوات التي سبقت فوزه بجائزة نوبل، فقد محفوظ بصره، لذا فإن علاقته بالواقع كانت شبه منقطعة وأصبحت الكتابة هاجسا بالنسبة إليه".
ويساعد شعير حاليا أم كلثوم في أرشفة أوراق محفوظ تحضيرا لنشر سيرته الذاتية في مجلدات متعددة.
وتحدث شعير عن دور محفوظ الرائد في إحداث ثورة في الرواية العربية إلى الحد الذي جعل العديد من المؤلفين العرب يسيرون على خطاه.
ومهّد محفوظ الطريق أمام العديد من المؤلفين الذين حازت كتبهم قراءات عالمية وجوائز دولية، مثل علاء الأسواني من مصر وأحمد سعداوي من العراق وأحلام مستغانمي من الجزائر.