لن تُغلق الحكاياتُ أبوابها طالما أن الراحل (الفتى مفتاح) وستظل الأجيال في العالم العربي تتذكر دور (أبو مدين) في الانتصار للفن ومحاربة الأدلجة مستمداً قوّته من صدقه واستشرافه للمستقبل بحكم القراءات المعمّقة الطويلة والمعاصرة للتحولات في المملكة والمحيطين الإقليمي والدولي، وكأنما هو ذلك الذي قال عنه الشاعر محمود درويش «فإن سقطتُ وكفي رافع علماً، سيكتب الناس فوق القبر لم يمتِ».
نال الراحل تكريماً يليق به من قيادات المملكة، وتقلّد وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى من يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في المهرجان الوطني للتراث والثقافة الثالث والثلاثين.
أسهم الرائد عبدالفتاح أبو مدين طيلة ربع قرن في التنوير وألّف 12 كتاباً، في النقد والدراسة والسيرة، منها (في معترك الحياة) عام 1982، و(وتلك الأيام) عام 1986، و(حكاية الفتى مفتاح) عام 1996، و(هؤلاء عرفت) عام 2000، و(أيامي في النادي) عام 2010.
تظل حيّاً في القلوب
تعودت على مدى عقود أن أكتب عنه وأنا أعرف أنه سيقرأ ما أكتب، فكان قلمي يمضي على الورق وكأنه لساني يتحدث معه. هو الرجل الذي ملأ حياتي حضوراً ومعنى وصداقة ووفاء، يفي معنا أكثر من وفائنا مع أنفسنا، يتواصل معنا حتى قبل أن نهم بالتواصل معه، يعرف هاتفي صوته وتعرفه بناتي وزوجتي بمجرد أن يقول: أبو غادة حولكم، حتى صارت هذه الجملة هي بصمته الصوتية عندنا في البيت، وكانت بنتي بشاير في صغرها ترقب الهاتف دوماً لكي يرن ثم تجري نحوي لتقول فرحة ومنبهرة وبصوت يملأ البيت كله: أبو غادة حولكم، تنطقها باللهجة الحجازية كما ينطقها الأستاذ، وكلمة الأستاذ في محيطنا الخاص تعني عبدالفتاح أبو مدين، فإن كان المعني غيره فيلزم أن نذكر اسم المقصود وألاّ فهي مفردة تخص أبا وديع.
اليوم أكتب ولن يقرأ ما أكتب، واليوم يرحل دون أن أحظى بشرف توديعه، يحبسني ألم انتاب أسفل ظهري يوم أمس ويمنعني من السفر، وهذا ألم يفوق ألم الفراق، ألاّ أودع حبيباً له في القلب أعلى المنازل، فهذه حسرة أعرف أنه سيعذرني فيها وأنه سيكون أشد رأفة بي من نفسي حين تقصر همتي عن حقه علي، وكم مرة قصرت في حقه وكان لا يعفو فحسب، بل يضحك من قلبه ليعالج ندمي، ويرفع عني ألم تأنيب الضمير.
حين كنت في جدة كنا نلتقي كل لحظة وكل التفاتة، كان دوماً حولنا يأتي قبل أن نطلبه، ويفهم قبل أن ننطق، ويتسع صدره حين تضيق صدورنا، والمرة الوحيدة التي تكدر وجهه أمامي هي تلك اللحظة التي أبلغته فيها أنني قررت مغادرة جدة والانتقال إلى الرياض، صمت طويلاً صمتاً كان وقعه أقسى من أي كلام وأي لغة وأي سؤال، جلسنا وجهاً لوجه لقرابة الساعة في صمت مطبق.. أعرف الذي في قلبه ويعرف الذي في قلبي، وعجز كل واحد أن يحرك لسانه ليقول، وبعد ساعة أو شبه ساعة نهض وعجزت أن أنهض، بقيت في الكرسي لأغطي دمعتي، ولا أعلم والله ماذا فعل هو، لا بد أنه ابتعد عني ليذرف دمعته، وحين عاد تغيرت ملامح وجهه وعادت له البسمة، وقال حتى وأنت في الرياض فأنت معنا وسيظل النادي أمانة عندك ولن تقصر بأمانتك.
كان الكلام عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، تلك المظلة التي احتوت أفراحنا وأوجاعنا والتي أخذت جانباً بهياً من عمر كل واحد منا ومن ذاكرته وذكرياته، ولم أكن لأتخلى عن النادي ولا عن صداقة عظيمة جمعتني مع عبدالفتاح أبو مدين، واستمر كل شيء وكأننا في مكان واحد، وكلما جاء للرياض جاء لبيتي، وكل البيت كان ينتظره ويفرح به، وآخره العام الماضي حين تقلد وسام الملك عبدالعزيز ومع الانشعال الرسمي والإعلامي في مثل هذه المناسبة فقد خصص يوم السبت ليجعله لمنزلي، وحضرت زوجته الكريمة معه، وأمضيا ساعات عندنا لم يكن يريد إنهاءها لولا اتصال جاء من الفندق يبلغه بحضور مسؤول كبير لزيارته هناك وأنه في الانتظار في البهو، وقرر الأستاذ التشاغل عن الأمر لكننا كلنا ضغطنا عليه ليعود للفندق، وكانت هذه الزيارة آخر لقاء بيننا، وإن كان الهاتف لم ينقطع، وإن انقطع الهاتف اليوم فإن الأرواح متصلة والقلوب تعرف بعضها وتعرف كيف تتواصل.
رحمة الله على ذاك القلب النقي الذي ما رأيت فيه ولا منه كدراً على مدى أربعين عاماً من الرفقة والمحبة، هي روح ذهبت لبارئها راضية مرضية، هي روح أحبت الله وتحببت لله بالمعروف والمروءة ونوايا الخير، هي روح انطوت على قلب فيه من الصفاء والنقاء ما يجعله يبهج كل من رآه وعرفه، تغمدك الله برضاه ورضوانه أيها الرجل النبيل.
عبدالله الغذامي
رحل منتشياً بهزيمة أعداء الجمال
عدّ الناقد الدكتور سعيد السريحي الجديّة الثقافية أبرز صفات الراحل عبدالفتاح أبو مدين، وقال هذا الرجل قدم الأنموذج الأمثل لمن يُؤْمِن بالثقافة ويتفانى في خدمتها والرهان عليها. ولفت إلى شجاعة المثقف الذي راهن على الثقافة في زمن لم يكن أحد يجرؤ على الرهان عليها. وحمد الله أنه عاش عمراً مديداً حتى شاهد وعايش انتصار ما راهن عليه وانكسار كل الذئاب التي كشّرت عن أنيابها في وجهه بحكم يقينها أنه حامل شعلة التنوير التي تكشف للناس الزيف والخداع الذي مارسه البعض بوحشية).
سعيد السريحي
روح وثّابة
رحم الله الرمز الكبير عبدالفتاح أبو مدين، تعرفت عليه منذ حوالى 40 عاماً عندما كنت أرتاد النادي وأنا حينها طالب في الجامعة، كان رحمه الله شعلة نشاط، كان فريقاً بكامله خصوصاً عندما تقدم به العمر، إذ كنا فئة الشباب حينها نعجب من تلك الطاقة التي يتحرك بها ولا أزعم أنني كنت من القريبين منه غير أنني كنت حريصاً على الحضور كل أحد، كان -رحمه الله- يعيش هموم جيلنا وكأنه من لِداتنا وحتى عندما ترجل وسلم النادي كنا نشعر أنه يسلم قلبه لمن بعده وما غاب يوماً عن ذاكرة من تولوا قيادة النادي حتى في ملتقى قراءة النص، كان حاضراً بقوة تكريماً وتفاعلاً وروحاً وثابة.. رحمك الله أيها الكبير، وسيبقى في ذاكرة الأجيال ذلك الصوت الحر صاحب الكلمة الجريئة ولسان الصدق، سيفتقدك نادي جدة الأدبي الثقافي، وسيفتقدك الوطن الثقافي.
عبدالعزيز قزان
«الثقافة مغارم»
من العبارات الخالدة للراحل «الثقافة مغارم وليست مغانم»، وبهذه العبارة يلخص الأستاذ الأديب عبدالفتاح أبو مدين رأيه في الثقافة وفي الإدارة الثقافية. فالثقافة بالنسبة له التزام ومسؤولية، والإدارة الثقافية استيعاب للاختلاف وتنوع التجارب مع قدر من الطموح نحو تطوير آليات العمل. وفي النهاية عليك أن تتحمل الأعباء ولا تنتظر الثناء. كلنا عرفنا الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين صاحب النشاط الثقافي والإعلامي النشط عبر متابعته سواء من خلال تاريخه في صحيفتي الرائد والأضواء أو من خلال رئاسته لنادي جدة الأدبي الذي صنع منه منارة ثقافية على مستوى الوطن العربي. أتيحت لي فرصة العمل ضمن إدارة نادي جدة برئاسة الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين ما بين عامي 2003 و2006م، ولذلك قصة تروى. كنت قبل انضمامي للنادي قد أطلقت مع الزملاء عبده خال وعلي الشدوي وسحمي الهاجري نادي القصة في جمعية الثقافة والفنون بجدة في عام 2002، وعلى مدى موسم قدم نادي القصة برنامجاً عن الرواية السعودية بعد عام 2000م، وقد لقيت أمسيات النادي متابعات كبيرة من المثقفين والصحافة الثقافية. وكان النادي يعاني من انصراف الجمهور لأسباب مختلفة. في تلك الفترة التقيت الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في نادي القصيم الأدبي، يومها عرض علي عضوية مجلس إدارة نادي جدة الأدبي التي كانت شاغرة حينذاك. فقد أدرك بنظرته الثاقبة حاجته إلى من يحرك النادي، فقد لاحظ أن مجموعة الشباب في نادي القصة هي التي يمكن أن تعيد للنادي حضوره المنبري الذي أصابه الوهن. فاستمهلته التفكير، حيث إنني مرتبط مع الجمعية. لم يطل قراري، ووجدتها فرصة أكبر للعمل الثقافي واسترشدت بآراء بعض الأصدقاء الذين أكدوا أن فرصة العمل الثقافي في النادي أكبر.
انتقلت لنادي جدة الأدبي في عام 2003م بعد أن قدمت مشروع جماعة حوار الذي رحب به النادي. وقد عرفت أمراً مهماً بعد ذلك، وهي صفة نادرة في الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، أنه يقبل كل من يقدم مشروعاً على أن يتحمل كافة مسؤولياته. وكانت هذه الميزة تناسبني تماماً، فلا أحب أن أراجع المسؤول في كل صغيرة وكبيرة، ولعل هذا أحد أسباب نفوري من المناصب الإدارية التي تؤمن بالتراتبية والبيروقراطية، ولو لم يكن العمل ثقافياً سواء في الجمعية أو النادي لما أقدمت عليه. وجدت في الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين رجلاً مؤمناً بوجهات النظر مهما اختلفت، بشرط أن يعقب القولَ عملٌ. أما من يتحدث ولا يفعل فهو ساقط من عينه، وقد مر على النادي أشخاص أسقطهم من عينه إذ رأى فيهم أدعياء كلام فحسب.
في تجربة جماعة حوار، وفي ليلة الافتتاح قدمت الأستاذ أبو مدين على أنه راعي الحفل، فصعد المنبر وقال، وهو خطاب مدون، «لست راعياً ولا مرعياً، ما أنا إلا رجل من عرض الناس، أنا منكم وإليكم، وربما نصيبي من القياس إليكم من الثقافة أقل مما تتوقعون».
وقد كان فعله مصدقاً لهذا الكلام، حضر كل جلسات جماعة حوار، إلا أن يكون له عذر من سفر ونحوه، يجلس مستمعاً، ويتداخل بصفته الثقافية لا أكثر ولا أقل. فعله هذا كان دائماً محل نظر ممن يحضر، ويرون رئيس النادي يجلس في عرض الجلسة لا في المنصة ينصت برغبة الاستفادة لا مجاملة ولا استعراضاً.
هذا هو الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، إن تواضع تواضع بصدق، وإن عمل عمل بجد، وإن طاول الطموح كان أهلاً له. مرن في العمل إلى أبعد مدى، وصلب في المواقف إلى حد الجمود. يكره من يتحدث كثيراً، ويفرح بمن يعمل. عندما رأى أبو مدين أحد الزملاء ممن يملأ الدنيا ضجيجاً إلى حد الآن، أنه لم ينجز ما أسنده له، قال له: «من الأفضل أن نبقى أصدقاء، وأنت في حل مما طلبت منك».
هذه الروح الإدارية الفذة التي توازن بين إعطاء الصلاحيات حتى ليظن من يعمل معه أنه صاحب قرار، وبين مركزية تهتم بالمنجز في شكله النهائي، وليس الدخول في تفاصيل التفاصيل التي قد تنزع الثقة ممن يعمل معه، هي أحد أسباب نجاح أبومدين في إدارة دفة النادي بكفاءة واقتدار لأكثر من 20 عاماً.
حسن النعمي
السيرة الذاتية
ولد مفتاح محمد عبدالله أبو مدين، والمعروف بـ«عبدالفتاح أبو مدين» في قرية «البركة» الليبية، عام 1926، وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة في الكُتّاب وتوفّي أبوه بائع الحطب والفحم وهو في السابعة من عمره، وفقد أشقاءه التسعة، ولم يبق له إلا أختان ووالدة مكلومة، ليضطر إلى العمل صبياً في البناء يخلط العجين، ثم في مقهى يُباشر الزبائن، إلى أن استقر به الحال فرّاناً يحمل الخبز على رأسه لبيعه في الشوارع، ويعيش حياة مثخنة بالحرمان والخذلان والفقر واليتم والفقد، سافر مع والدته إلى جدة للعيش مع خاله مصطفى بدر الذي كان يعمل فيها، ثم انتقلوا جميعاً إلى المدينة المنورة، ليُفجع بوفاة أمه بعد شهر من استقرارهم فيها. صنعت منه المعاناة اسماً لامعاً ليكون أحد أبرز وأهم رواد الحركة الثقافية والصحافية السعودية.
أسس أبو مدين مع محمد باعشن عام 1377 صحيفة الأضواء وأيضاً مجلة الرائد عام 1379، ومضى في المؤسسات الصحفية موجهاً ومخططاً وقائداً، إذ تولى إدارة تحرير العدد الأسبوعي في صحيفة «عكاظ» ونقله إلى مصاف الاحترافية، وشغل منصب مدير عام مؤسسة البلاد للصحافة والنشر والعضو المنتدب فكانت له بصمته في إدارة المال بمهنية المبتكر.