-A +A
علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@
يتمتع القاص والإعلامي والناشر محمد المنقري بقدر عالٍ من الشفافية، ويكتنز أرشيفاً موسوعياً للثقافة والصحافة، ويحفظ في ذاكرته معظم الأنظمة واللوائح، وبحكم صدقه مع نفسه والآخرين اضطر للتخلي عن أشياء عشقها، وأخرى عشقته، ولكي لا يخسر العلاقة بالوسط الذي خبر دهاليزه وأعرافه وتقاليده، أسس دار نشر ليظل على علاقة بالورق حتى إن لم يعد أحد يردّ على الرسائل أو يبعث بها. وهنا نص حوارنا معه:

• بحكم التجربة في العمل الصحفي والعشق الأزلي إلا أنك خرجت بصمت وتركت كثيراً من الأسئلة، ماذا وراء هذه الخروج؟


•• غادرت عندما وجدت نفسي مدفوعاً لأعمال غير مهنية تحت مظلة العمل الصحفي، وبعد تكاثر الدخلاء في (بلاط صاحبة الجلالة) في حقبة زمنية لعل من أبرز صفاتها عدم وجود رسالة واضحة للمؤسسة، وتقاعسها عن منح الكتّاب المشاركين المكافآت التي يستحقونها، وتأخير مكافآت المحررين الذين هم أهل لها أيضاً، وربما بعض القيادات الصحفية -حينذاك- لم تمتلك القدرة على التفريق بين المقال والحوار، أو بين التغطية الصحفية وأغطية جوالين الزيت، وهي حقبة تزايد فيها الواصلون إلى الكراسي استناداً إلى الهدايا والهبات، وليس الكفاءة وتلك (لعمري) مدعاة لضيق الصدر والعيش في معترك تتدنى فيه القيم وتطفو الهوامش.. غادرت ببعض الصمت حين حاول دخيل على المهنة التسلق على كتفي أسبوعياً ليحقق بعض أطماعه الرخيصة ويريد مني دفع الثمن من الذائقة الثقافية والمهنية والضمير.

ومن دواعي المغادرة أيضاً قلة الوفاء، وتفشّي اللؤم، وتعكير المياه للاصطياد فيها من بعض البؤساء.. تخيل صحفياً منسياً تعيد تأهيله وتخرجه إلى فضاء الصحافة مرة أخرى، وعندما يستوي على الورق مرة أخرى يتفرّغ ليكون أداة في يد آخرين يحرّر الدسائس ويتباكى بكل لؤم ويتولّى إنشاء وكالة كبرى للأقنعة وألوان الضمير بدلاً من تلوين حياته الصحفية بتعدد الفنون والإنتاج.

• كيف رأيت عالم النشر والناشرين وجمعيتهم، وما قراءتك لمستقبل سوق الكتاب؟

•• واقع النشر في المملكة يتمثّل في عدة صور منها سيادة العمل التجاري في معارض الكتب مع غياب الدعم الرسمي والتسهيلات، وجمعية الناشرين ولدت مشوهة باهتة الملامح شأن بعض مؤسسات المجتمع المدني، والجهة المعنية بالتراخيص تتساهل في منحها، ففي البلد حوالى 495 ترخيصاً لدور نشر وتوزيع لا يعمل منها سوى 10% تقريباً، ومع ذلك يحْدثون جلبة بلا منتج، ولهم صوت في جمعية الناشرين، يضاف إلى ذلك عدم مراقبة سوق النشر ونقاط التوزيع والمكتبات ونسبة التوطين فيها ضعيفة جداً، والمؤسسات الثقافية والتعليمية تقدم الدعم للناشر الخارجي وتمنحه العقود والميزانيات والدعم، وعلى رأسها الأندية الأدبية، وعدد من الناشرين السعوديين الناجحين تستقر مكاتبهم وتصدر أعمالهم خارج المملكة هرباً من الرقابة وعدم وجود تشريعات واضحة مع ارتفاع الإنتاج في الداخل.

• ما أبرز معوقات صناعة النشر والتوزيع في المملكة؟

•• أعتى المعوقات يتمثل في الرقابة، ولعل كثيرين لا يعلمون أن لدينا رقابات عدة منها الرقابة على المطبوعات المنشورة داخل البلاد وهي أكثر تشدداً، والرقابة على المطبوعات المنشورة خارج البلاد ويرغب أصحابها توزيعها داخلياً؛ وهي متسامحة نسبياً، والرقابة على المطبوعات في معارض الكتب التي يجلبها الناشرون إلى معارض الكتب الداخلية وتزداد تسامحاً عاماً بعد عام، والرقابة على المطبوعات التي تبيعها المتاجر الإلكترونية العالمية والعربية وتشحنها بريدياً إلى عملائها، وهي من أرقى أنواع الرقابة وأكثرها تسامحاً، إضافةً إلى غياب الدعم الرسمي وتدني اهتمام المؤسسات التربوية والأكاديمية بالكتاب، ولعل أهم ملف على طاولة هيئة النشر والأدب والترجمة يتعلق بأسباب هجرة الناشر السعودي إلى العواصم العربية؛ فالنشر عنصر مهم في منظومة الصناعات الثقافية التي تتباهى بها الدول وهي جزء أصيل ضمن عتاد القوى الناعمة التي نُحسن الكلام عنها كثيراً ولا نهتم بتكريس ودعم فروعها، والظريف أن رئيس هيئة النشر والترجمة والإبداع لم ينشر طيلة حياته الثقافية كتاباً واحداً في المملكة، وبالتالي أظنه يعرف كوامن المشكلة ومعوقاتها والأوصياء، وسيعمل حثيثاً على تدارك ما يمكن تداركه والتماس الحلول العصرية المناسبة بالشراكة مع المهنيين الفاعلين في المجال مع ترك المجال لجمعية الناشرين لتعمل وفق أسسها المدنية ولائحتها المنظمة المعتمدة.

• ما سبب الزهد في كتابة القصة، والتوقف عن مواصلة الكتابة الإبداعية؟

•• في فترة الثانوية العامة والجامعة كنت شغوفاً بكتابة القصة القصيرة وقراءتها ثم دخلت معترك الحياة في العمل التعليمي والصحفي فأصبحت القصة أكبر من حدود الورق ومقاييس النشر.. تعددت الملامح والأبطال والصراعات والنهايات بكل تراجيديتها وانفتاحها واستمراريتها أحياناً.. كانت القصة القصيرة بالنسبة لي متسعاً لنقل الأفكار والتعبير عن بعض القناعات والتجارب، ثم وجدت في فنون أخرى متسعاً آخر يتواءم مع الصحافة والنشر اليومي مثل المقال، وقد أخلصت له أكثر من القصة القصيرة لأنني وجدته أكثر قرباً من الناس، وأصداؤه أوسع. ولا يعني ذلك أنني توقفت نهائياً عن كتابة القصة بل زهدت في نشرها، ولعل الأيام القادمة تسمح لي بنشر مجموعات أرى نشرها مهماً باعتبارها جزءاً من مشواري ونَزَقي أيضاً الذي لا يستوعبه سوى الورق.

• ما موقع المثقفين من مركبة التحولات التي نمرّ بها الآن؟

•• المثقف لم يكن في سنواته الماضية شريكاً بل كان منعزلاً في مؤسسات أكاديمية وثقافية لا تتوفر فيها شروط العمل المؤسسي، والأعمال التي يؤديها نمطية تقليدية حَذِرة كثيراً، وقد شهدت ساحتنا الثقافية صراعات وتصفيات وإخفاقات ونجاحات مشهودة أحياناً، لكنها محدودة الأثر وتستحق التقدير إذا علمنا الظروف التي أحاطت بها وهيأتها. وربما تجاوز مثقفون من جيل الرواد المؤسسات الثقافية والإدارية والتعليمية، وكانوا عوناً لها ومراقبين لمعطياتها ودفعَ بعضهم الثمن والتضحيات. ولعل وزارة الثقافة الجديدة والهيئات التي أعلنت تأسيسها أخيراً تضع المثقف في المناخات المناسبة أو تفسح له المجال دون توجس أو ريبة أو خذلان، وتستوعب مشاريعه ورؤاه وتتوازى مع طموحه، فلا تدفعه إلى الانطواء أو الصمت والزهد في المشاركة.. ومن دواعي ذلك تعزيز مؤسسات المجتمع المدني وجعلها روافد وأذرعة مساندة للوزارة وبرامجها، مع ضرورة تفعيل برامج مثل صندوق التنمية الثقافية وأظنه سيكون من أهم البرامج وأعلاها قيمة وأثراً.

• كيف تقرأ واقع المؤسسة الثقافية ومواكبتها للتحديات؟

•• القطاعات الثقافية لا تستحق صفة مؤسسات.. أظنها مجموعة قطاعات بلا هوية ولا خطط ولا إدارة عصرية.. تتلقى دعماً رسمياً، وبعضها يتلقى دعماً أهلياً أيضاً بلا نتائج تستحق الإشارة إليها أو الاعتداد بها، فهي تحت إدارات فردية ولا مجالس إدارة ولا جمعيات عمومية تشارك في صناعة القرار وتراقب النتائج. تحركت وزارة الثقافة والإعلام في عهد الوزير الأسبق الأستاذ إياد مدني ووكيل الوزارة -آنذاك- الدكتور عبدالعزيز السبيل من أجل إعادة تأهيل هذه القطاعات وتحريك مياهها الراكدة وفتح أبوابها أمام الأسماء الجديدة، ورسموا لها بنية مؤسساتية حقيقية ثم تهاوت سريعاً. ويمكن هنا استثناء قطاعات مستقلة مثل مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، دارة الملك عبدالعزيز، مكتبة الملك فهد الوطنية.

• أصدرتَ كتاب (تهامة.. رغيف ثقافي نادر).. ما سرّ اهتمامك بهذه التجربة؟

•• تهامة كانت رائدة في صناعة النشر والتوزيع، واستطاعت تجاوز مؤسسات سابقة لها مثل الدار السعودية للنشر والتوزيع، ودار المعرفة، ودار الشروق على سبيل المثال.. أتت تهامة مستندة إلى تقاليد الشركات وبرامجها المتكاملة فافتتحت برنامج النشر بكل جدارة، واختارت له مستشاراً كبيراً هو الأستاذ عبدالله عبدالجبار -يرحمه الله-، وأخلص الأستاذ محمد سعيد طيب لهذا الصرح منتصراً لروح المثقف داخله وافتتح عشرات الفروع في المدن والمطارات والموانئ والمستشفيات، ونشر مئات العناوين لرواد الثقافة والأدب في المملكة.. كانت تهامة أيقونة لا يوجد مواطن يعيش بيننا اليوم إلا وتأثر بها وارتادها. في هذا الكتاب حاولت أن أقول شكراً لهذه المؤسسة العريقة والفنار الذي لا يُنسى.. شكرٌ في كتاب يبقى ليكون شاهداً على مرحلة في تاريخ الثقافة السعودية.

• ما رأيك بالمبادرات التي تطرحها وزارة الثقافة والهيئات الجديدة؟

•• متفائل جداً؛ فالوزارة تعمل بشكل حثيث على إعلان برامجها وهيئاتها ومشاريعها لكنها تتطلب الإفصاح عن خطتها الشاملة بكل قنواتها لا أن تعمل بشكل متقطّع، كما يجب عليها اختيار الكفاءات الإدارية من العارفين بالساحة الثقافية ومتطلباتها، مع العناية بالمجالس الاستشارية التي تُعين الوزارة والهيئات على أداء عملها، فالمثقفون فئة متسعة القاعدة لا يمكن حيازة رضاها إلا ببرامج وإستراتيجيات مقنعة ومنهجية لها مصوغاتها، وما أنجز حتى الآن لن يحقق ذلك، وفي مواقع التواصل الاجتماعي حديث كثير يُدار، والحكمة تقتضي فرزه والاعتداد به وتنفيذ ما يجدر تنفيذه.