عبدالله ساعد
عبدالله ساعد
-A +A
عبدالله ساعد
من متون الجبال المحيطة بنا ينسل شعاع الشمس كسهام مضيئة، يغمر قريتنا الغافية في النعاس، يعبر نوافذها الخشبية وفتحات الأبواب، ويعانق زواياها المعتمة.

وبينما صوت أمي يتردد في سمعي كرتم محبب، وهي تحثني على النهوض لأذهب للمدرسة، أبقى مستلقيا دون حراك تحت بطّانيتي الدافئة، مستعذبا لبقية من خدر النوم تداعب أجفاني بكثافة.


عندما يغمر الضياء كافة أرجاء المنزل أنهض متثاقلا، أجر خطواتي مترنحا نحو الباب الخشبي المشرع مبكرا لشعاع الشمس.

أتناول أبريقا فيه بقية من ماء الوضوء خلّفه أبي في فناء البيت، أتوضأ منه وأغسل وجهي، ثم أدلف بكسل وأتربع عند حافة الموقد المشتعل بنارٍ هادئة، أرقب ساهما حركات أمي، وهي تمسك بالمقبض الطويل (للمجرفة)*، تمدد عليها قطع من عجين القمح، تجعلها دوائر وتقلّبها عليه حتى تنضج.

وأنا أتأمل في حركاتها الرشيقة، ترفع طرفها تنظر في وجهي الذي ما زال به أثر النعاس، وعلى وجهها ترتسم ابتسامة مشفقة.

تدفع نحوي بواحدة من تلك الدوائر، تضعها في الصحن النحاسي الصغير الموضوع أمامي، فتستقر في وسطه سمراء مدورة كراحة كف لفحتها الشموس.

وبخمول يتلاشى أرقب يدها، وهي تمتد بحذر لعِلاقة براد الشاهي الصيني الأحمر، المستقر على كومة من الجمر الغافي في طرف الموقد، لتسكب لي منه فنجانا قبل أن تعيده إلى مكانه ليبقى ساخنا لبقية أفراد العائلة.

وبينما ألوك في فمي قطع (الحِنّة)* على مهل شارد الذهن أتأمل في البخار المتصاعد من الفنجان وبراد الشاهي؛ تواصل أمي حثي كي أعجل بالأكل، لألحق بزملائي من أبناء القرية الذين انطلقوا مغبشين، كي لا أقطع الطريق وحيدا.

عندما أفرغ من الطعام تلبسني ثوبي الآخر الأكثر نظافة، تضع العمامة على رأسي وتلف أطرافها حول عنقي كي لا تسقط أثناء الطريق الطويل، ثم تتلو على مسامعي وصاياها المعتادة، مصحوبة بفيض من الدعوات، ثم تناولني حقيبتي المدرسية.

قبل أن أغادر الباب تقبل جبهتي، تمسح وجهي برفق بكفها الموشومة بأثرٍ لحناء لم يزل من العيد الذي سلف.

أنطلق أعدو مبتعدا، أتعثر في طريقي وأنهض، محاولا إدراك زملائي الذين تباعدوا زمرا، عبر طرقات الأودية المفضية إلى السهل الذي تقبع فيه المدرسة.

وقبل أن أغيب وتتلقفني الأودية البعيدة، ألتفت فأرى طيف أمي وهي ما تزال واقفة تحت الشمس على ذلك الحيد الصخري الممتد طرف القرية ترقبني حتى أغيب.

أطمئن وأستأنف السير نحو وجهتي، وفي أنفي ما زلت أشم شيئا من رائحة كفها، وعلى وجهي ما زلت أحس بأثرٍ محبب لتلك اللمسة.

* المجرفة: صاج نحاسي

* الحِنّة: فطيرة قمح