سنة 1994، يمكن أن أسمّيها في فهرست حياتي الأدبيّة وغربتي الطّويلة المزمنة، بسنة رؤوف مسعد، ودون ترددّ. ففي هذه السنة، وقعت بين يديّ مُصادفة رواية، سيكون لها أثر ووقع شديد على مساري الإبداعي، ويُمكن اعتبارها نقطة تحوّل وعلامة بارزة في رؤيتي وذائقتي للإبداع الرّوائي والسّرديّ كلّه.
وجدتها هكذا، على كرسيّ خشبيّ أسود في مقهى نصف معتّم كلّ الوقت، نسميّه (لابوهام) عند آخر شارع الأتراك بوسط البلد بمدينة ميونيخ، حيث كنت أعيش منذ سنتين، آنذاك، بعد رحلة ودراسة في الاتحاد السوفييتي الذي تركته ينهار سنة 1992 لألوذ بألمانيا، وأواصل الدّراسة فيها بأمان وبحثًا عن عشّ هادئ بعيدًا عن الصّخب الأيديولوجي والأخطار؛ لكي أفرّخ فيه ما ظننته مشروعًا شعريًّا كونيًا سيهزّ الدّنيا ويقلب الموازين.
وجدتها هكذا وكأنّها كانت تتعمدّ التحرّش بي في صقيع غربتي وجذوة غروري ونشوة يقيني برسالتي كشاعر ألمعي.
وجدتها هكذا، رواية بيضاء مستطيلة الشّكل، متّسخة الغلاف، مهترئة، ويلطّخ حروف عنوانها بقعة قبيحة من الزيت وصلصة الطّماطم.
كنتُ على موعد مع صديق تونسي، ويبدو أنني وصلتُ باكرًا، فقد أخبرني النّادل الألبانيّ حين سألته عنه، أنّني أوّل زبون اليوم، كونهم لم يفتحوا المقهى إلاّ منذ نصف ساعة فقط.. لذلك، وفضلاً عن أنّها رواية باللّغة العربيّة، فقد شدّت انتباهي فورًا، فمسحت بقعة الصلصة والزّيت بمنديل ورقي، وبدأت أتصفّحها منساقًا بحبّ الفضول الفطريّ فيّ أوّل الأمر، وما استدعاه عنوانها وحرّكه في نفسي من بؤر دلالات، ثمّ بدأت مع توالي الصّفحات أنغرز فيها بكلّ جوارحي.
وأعترف الآن، أنّ جملة مسكونة حبلى، في مفتتح الرواية وصفحتها الأولى، هي التيّ جرجرتني وشدّتني أكثر، لأهمّ بها بكلّ شغف وغبطة.. أذكر أنّ الجملة كانت بهذه الصيغة المكثّفة تقريبًا:
«اسمي جوقة.. لأنّنا كثيرون»، (المقتبسة من انجيل مرقس، الإصحاح الخامس، على ما أظن).. وسأخمّن، ثمّ سأكتشف يومها، حتى قبل أن أكمل الرّواية، بأنّ هذه الجملة تحديدًا هي التي ستكون مدخلي لعوالم المبدع رؤوف مسعد. ذلك أنهّا إعلان صريح عن شفرة التعامل مع نسيجه السردي وأبواب أروقة الحكاية عنده. فكأنّما هي إعلان عن ثنائيّة تبادل الوظائف، التي هي سِمة بارزة في كتابات رؤوف مسعد. فالفرد، يتجمّع بالتبعثر والتكاثر وليس العكس، كما ينبغي ومن المفروض أن يكون الأمر عليه. وعبارة جوقة، هي بؤرة دلاليّة كاملة، وبقدر ما تبدو عليه من وضوح وبساطة، فهي بقعة دلاليّة مليئة بالفخاخ والحفر. وهي تضلل القارئ النفعيّ البسيط ولكنّها تربك القارئ النافذ المتوجس، بل ربمّا تقوضّ كلّ قناعاته المسبقة حين يباشر الرواية على أنّها سرد محايد لسيرة ذاتية محبوكة بنسيج حكائيّ سلس ولطيف ومرح وخفيف.
فالجوقة صيغة مفرد في مقام صيغة الجمع. فهي توليفة هائلة من التقاطعات والآلات.. وراء كلّ آلة عازف، على الوتر أو نافخ في بوقه أو نايه أو طارق مُدربكٍ ومستنطق لجلدة حيوان، ووراء كلّ عازف أو نافخ أو ضابط إيقاعٍ خريطة صوتية صارمة. وقد تجد في الجوقة الواحدة، من يبهرك بنقاء ما يصدره من أصوات تشي به، وقد نجد بينها من قد ينفّرك بنشازه وخروجه عن الطّبقة.
وما أقرب هذا الصندوق اللّغويّ البصريّ الصوتي إلى الحياة، بل إلى حيوات الكاتب نفسه في مملكته السردية.. فهوّ نسيج أيضًا.. نسيج هائل من الشخوص والرؤى والمواقف. وهو متجمع فقط لأنّه متبعثر في كلّ هاته الشخوص. وعليه أن يوافق بين مِزاجها جميعًا، وعليه أن يخفف ما أمكن من حدّة نشاز هذه الشخصية أو تلك التي تعزف في وجدانه وتعصف بها أحيانًا.
سأتيقّن كلّ اليقين بعد ذلك بسنوات، حين أدمنتُ قراءة رؤوف مسعد، وتتبع كلّ آثاره وأخباره وخصوماته وصخبه واستنطاق صمته وسكوته، أو متابعة مقالاته النّارية التي يسوط بها وببذخ ومازوشيّة نبيلة كلّ من تسوّل له نفسه بيعها والانحناء أو التعالي دون وجه حقّ، في مكتبه ووظيفته أو في نصّه.. رؤوف مسعد لا يفرّق كثيرًا بين هذا وذاك..
وسأدرك أنّ بيضة النّعامة، هي عالم رؤوف مسعد الأكثر حميميّة.
ورؤوف مسعد يسوق بنفسه سبب اختياره لهذا العنوان المربك بالذات، فيذكر حكاية مفادها أنه رأى خلال زيارته لأحد الأديرة بيضة نعام كبيرة. وحين سأل القسّيس عن معناها، أجابه أن النعامة حينما تحسّ بالخطر تسارع بتخبئة بيضها، ثم تجري مبتعدة عنه لتحول نظر المطارد عن البيض؛ ذلك أنها أي النعامة التي مازلنا منذ القدمِ نتّهمها بالجبن، تفضل أن تضحّي بحياتها مقابل إنقاذها لبيضتها.. ورؤوف مسعد، يريد أن يصرّح لنا حتّى قبل مباشرة القراءة، أنّ علينا أن نعيد النّظر في كلّ ما نركنُ ونرتاح إليه من أفكار مُسبقة. فماذا لو أنّك تُفاجأ بأنّ نفس تلك النّعامة التي تظنّها تهرب منك لمسافة قليلة فقط قبل أن تغرز رأسها في الرّمال، في الحقيقة قد ضللتك كثيرًا، وهي إنّما هربت منك وسلكت طريقًا بعيدًا عن عشّها الرّملي وعن بيضها، كونها تدرك أنّها لن تفنى، وإنّما هي ستتكاثر في فراخها، إن هي أمّنت خروجهم من سجن قشرة البيض السّميكة سالمين، وليقينها أنّ الفراخ لا تحتاجها بعد ذلك، وفعلاً، فمن بين كلّ طيور الأرض العامرة والغامرة، نجد أنّ البطّ البريّ والنّعام غير المدجّن، الذي يحرث ويهيم في الأحراش، هي أكثر الطيور التي لا يحتاج الفراخ فيها إلى معلّم وراعٍ وحارس وملقّن.. فالبطّ البريّ يخرج من بيضته بمُخاطه ودمه، وينطّ في لجّة الماء والنّهر، سابحًا بمهارة، لا يدري أحد متى وأين تعلّمها، ولا تمضي دقائق، حتّى تكون حوصلته قد امتلأت باليرقات والدّود والسّمك الصغير والعشب والحمأ والحشرات المتهوّرة.
وكذلك النّعام، فبسبب كون الفترة الممتدة بين يوم وضعها في الرّمال وتفقيسها، يمتدّ بين 42 إلى 55 يومًا، وبسبب أنّ النّعامة الواحدة تضع حوالى 12 إلى 15 بيضة في العراء، وبسبب ضخامة حجم البيضة التي تُغري مئات الجيران من الحيوانات التي تضعها في أعلى سلّم قائمة طعامها المفضلّ، وبسبب ضخامة النّعامة التي ترى عن بعد أميال، وتجلب العدّو من بعيد، فإنّ النّعامة، تتعمّد عدم الاقتراب من عشّ بيضها إلاّ بعد تثبّت وتركيز ويقين من عدم وجود عيون تتلصص، وهي لا تفعل ذلك إلا للضرورة، ولتقليب البيض مرتين أو ثلاث مرّات فقط في اليوم. وأحيانًا تكتفي بتقليبه مرّة واحدة، وحال شعورها بوجود عدوّ متربّص أو خطر وشيك، فهي لا تجري مباشرة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فهي تبدأ فورًا في إغراء واستفزاز العدوّ، ملوّحة بأجنحتها في رقصة خرقاء، وكأنها جريحة وغنيمة متاحة، ثمّ وهي تتحرّك في خطّ لولبيّ، تموّه المتربّص وتبدأ في الجري في اتجاه بعيد عن عشّها، ولكنّها تعدّل سرعتها في البداية على سرعة مطاردها، حتّى إذا توقّف أوهمته أنّها تدفن رأسها في الرّمال خوفًا منه، ولكنّها في الحقيقة لا تفعل ذلك إلاّ مع الحيوانات الأقلّ حجمًا منها بكثير، كالثعالب وبنات آوى وكلاب البراري وغيرها، وحال وصول العدوّ وتأكدها أنه بعيد عن عشّها، فهي ترفسه بقدمها الغليظة القاسية رفسة مميتة ثم تواصل العدو من جديد.
وخبر النّعامة وطريقتها، هو ما أعتقد بثقة، أنّها رؤية وإيمان الكاتب نفسه، فهو يؤمن بالنصّ الذي سيتكاثر فيه وضرورة توفير كلّ أسباب الحماية الممكنة له، حتّى بالتضحية بالنّفس، أكثر من إيمانه بضرورة حماية هذا الجسد الخامل الذي تركبه هذه الرّوح المُستفزة، وبالتالي فحماية الكلمة والدّفاع المستميت عن الموقف عند رؤوف مسعد، أهمّ وأنبل بكثير وأولى من الحفاظ على الجسد والخوف عليه.
ولو تتبّعنا حياة الكاتب المبدع رؤوف مسعد، خلال كلّ محطّات حياته الحافلة بالأحداث، لأمكننا أن نتلمّس هذا التقاطع بوضوح بين رؤيته للكتابة وموقفه من دور الكاتب ونضاله، مع طريقة التمويه عند النّعامة، التي مازالوا يسيئون بها الظنّ عن جهل وسذاجة.
فرؤوف مسعد الذي ولد بين عائلة مسيحيّة شديدة التديّن ولأب يعمل قسيسًا في أحد الأديرة الصغيرة، في نهاية الثلاثينات في مدينة محافظة عند تخوم غرب السودان، قبل أن تتمصرن وتحلّ بالقاهرة، يبدأ منذ تمرّده وتجربته السياسيّة الخطرة في وقت مبكرّ.
ومنذ عام 1960، وحال تخرّجه من الجامعة، وهو في الثالثة والعشرين من العمر، يلقى عليه القبض ليقضي أربع سنوات كاملة بالمعتقل بمعسكر الواحة، وينتمي خطيًّا كعنصر بارز في تنظيم طليعة العمّال السريّ، ثمّ إلى حزب العمّال ثمّ ينضمّ وهو في السّجن إلى الحزب الشيوعي ويواصل نضاله وتحرّكاته الخطرة حتّى بعد الإفراج عنه، وقد انتبه وهو في السّجن، أنّه مسكون ومنذور للكتابة، وأنّ له موهبة مذهلة في القدرة على التعبير كتابة أيضًا فضلاً عن سلاطة لسانه وشراسته، فيبدأ رحلة التمويه، ليبتعد عن عشّه ومكان بيضه الذي سيتكاثر فيه ومن خلاله، وأعني مشروعه الإبداعي، لذلك يطلب الغرب، وهو يحضن الشرق، ويسافر إلى بولندا سنة 1970 ليتزوّج ويسجّل بالمعهد العالي للفنون الدرامية، ويعود بعد التخرّج من قسم الإخراج المسرحي إلى بغداد سنة 1975، ومنها إلى بيروت ثمّ لبنان، وليعمل في عدد من المنابر الإعلامية والصحفية مثل جريدة السفير التي عمل بها مترجمًا للأخبار ومجلّة اللّوتس ببيروت وغيرهما.
هو يضرب في الأرض منذ أكثر من أربعين عامًا، يوهمنا بتتبّع مسار رحلته وأخباره أنهّ يبتعد عن العشّ، عن مصر، وعن الشرق، لكنّ ما أن تطمئنّ إلى قناعتك، حتّى يفاجئك برواية سمراء الملامح، غليظة القسمات، تُدين وتغلي وتمور، وتشير بعصبيّة إلى مواضع الدّاء والورم.. فإذا لا غرب. ولا غربة. ولا هم يحزنون.
لطالما طلع علينا المتحذلقون والنّقاد الذين يرتادون الأماكن مرّة واحدة، للسياحة الثقافيّة أو الانهماك قلبًا وقالبًا في المقررّ للحصول على شهادة، بأنّهم عاشوا في الغرب، وأنهّم يفهمون أنّ الكاتب يتلوّن بطبيعة ولون ومذاق وذائقة وحوامض وكيمياء البلد الذي يقيم فيه، ولكنّ نظريّتهم بالية وتثير الشّفقة حين نحاول أن نطبّقها على كاتب غير مستأنس ولا أمل في أن يُستأنس مثل الصديق المبدع رؤوف مسعد. فهو لم يهاجر إلا بجسده فقط، ولكنّ نصّه بقي محافظًا على سماته وجُرأته وشراسته وعمقه وشرقيّته وحدّته.. فأوروبا لم تكن غير مجرّد مكتب من الخشب الميّت يرسل منه ما ينسجه من سرد عربيّ شرقيّ متين وبديع، وضارب في عمق الأرض.. تلك الأرض التي نذر أن تكون علامته وكيانه ووجدانه وعشّه الأبقى.
ها هو الكاتب رؤوف مسعد إذن معكم بعد غيبة جسد امتدّت لأكثر من أربعين سنة. تمعنوا جيّدًا في ملامحه وملابسه ولكنته وسخريته وقسمات وجهه وابتسامته المصريّة الموحيّة، وكمّ انعكاس الطّين والأرض في أفقه وبريق عينيه.. هل هذا إرث كاتب متلوّن بلون الغرب وبياضه؟!
نعم.. أعترف الآن ممتنًا، بأنني حال انتهائي من قراءة رواية بيضة النّعامة للعزيز رؤوف مسعد، وهي النّسخة الورقيّة التي علمت فيما بعد، بأنّ أحد المهاجرين التونسيين كان يقرأها في الليلة السابقة، قبل أن ينساها على الكرسيّ الأسود في (لابوهام) بشارع الأتراك بجنوب ألمانيا بميونيخ، لأجدها مبقّعة بالزيت ولطخة صلصة الطّماطم.. أعترف الآن، بعد مرور أكثر من ربع قرن على هذه الحادثة السعيدة، أعترف وكلّي امتنان، أنّني وبسبب هذه الرّواية بالذات، وبسب افتتاني بها، وبسبب روعة وفتنة وسلاسة السرد وجُرأته.. بسبب كلّ ذلك، قرّرت يومها أن أتخلصّ من قشرة الإيقاع وطبلة الشعر الصوفي الخشن الهائم بين أروقة بخوره وأحاجيه ونداءاته وتأوّهاته وعذريته، وأنني عشقت السرد وابتعدت عن الإيحاء المبالغ في تهويماته وقررّت من يومها أن أكتب بوضوح، وألا أتخفى وراء قراطيس المعاني الرمزية المكثفة.. وبدأت وبالتحديد سنة 1994. نفس السّنة التي قرأت فيها رواية بيضة النّعامة لرؤوف مسعد، في كتابة النصوص السردية.. وقررتُ أن أكون مثله شرسًا ومسكونًا وعنيدًا وواضحًا ومستلهمًا في حياتي رقصة النّعامة التي تستفزّ عدوّها ومن يتربّص ببيضها لتضلله وتبتعد به عن عشّها الذي ستتكاثر وتُستنسخ فيها.. كون الجسد باليًا وعرضيًّا ومعرضًّا كلّ الوقت للإهانات، بالغربة أو السّجن أو النسف أو الذبح أو التعطيل بكلّ أشكاله وضروبه وأصنافه، لكنّما الموقف والرؤية والرؤيا والمبادئ والمُنجز، ثروة لا تفنى.
وجدتها هكذا، على كرسيّ خشبيّ أسود في مقهى نصف معتّم كلّ الوقت، نسميّه (لابوهام) عند آخر شارع الأتراك بوسط البلد بمدينة ميونيخ، حيث كنت أعيش منذ سنتين، آنذاك، بعد رحلة ودراسة في الاتحاد السوفييتي الذي تركته ينهار سنة 1992 لألوذ بألمانيا، وأواصل الدّراسة فيها بأمان وبحثًا عن عشّ هادئ بعيدًا عن الصّخب الأيديولوجي والأخطار؛ لكي أفرّخ فيه ما ظننته مشروعًا شعريًّا كونيًا سيهزّ الدّنيا ويقلب الموازين.
وجدتها هكذا وكأنّها كانت تتعمدّ التحرّش بي في صقيع غربتي وجذوة غروري ونشوة يقيني برسالتي كشاعر ألمعي.
وجدتها هكذا، رواية بيضاء مستطيلة الشّكل، متّسخة الغلاف، مهترئة، ويلطّخ حروف عنوانها بقعة قبيحة من الزيت وصلصة الطّماطم.
كنتُ على موعد مع صديق تونسي، ويبدو أنني وصلتُ باكرًا، فقد أخبرني النّادل الألبانيّ حين سألته عنه، أنّني أوّل زبون اليوم، كونهم لم يفتحوا المقهى إلاّ منذ نصف ساعة فقط.. لذلك، وفضلاً عن أنّها رواية باللّغة العربيّة، فقد شدّت انتباهي فورًا، فمسحت بقعة الصلصة والزّيت بمنديل ورقي، وبدأت أتصفّحها منساقًا بحبّ الفضول الفطريّ فيّ أوّل الأمر، وما استدعاه عنوانها وحرّكه في نفسي من بؤر دلالات، ثمّ بدأت مع توالي الصّفحات أنغرز فيها بكلّ جوارحي.
وأعترف الآن، أنّ جملة مسكونة حبلى، في مفتتح الرواية وصفحتها الأولى، هي التيّ جرجرتني وشدّتني أكثر، لأهمّ بها بكلّ شغف وغبطة.. أذكر أنّ الجملة كانت بهذه الصيغة المكثّفة تقريبًا:
«اسمي جوقة.. لأنّنا كثيرون»، (المقتبسة من انجيل مرقس، الإصحاح الخامس، على ما أظن).. وسأخمّن، ثمّ سأكتشف يومها، حتى قبل أن أكمل الرّواية، بأنّ هذه الجملة تحديدًا هي التي ستكون مدخلي لعوالم المبدع رؤوف مسعد. ذلك أنهّا إعلان صريح عن شفرة التعامل مع نسيجه السردي وأبواب أروقة الحكاية عنده. فكأنّما هي إعلان عن ثنائيّة تبادل الوظائف، التي هي سِمة بارزة في كتابات رؤوف مسعد. فالفرد، يتجمّع بالتبعثر والتكاثر وليس العكس، كما ينبغي ومن المفروض أن يكون الأمر عليه. وعبارة جوقة، هي بؤرة دلاليّة كاملة، وبقدر ما تبدو عليه من وضوح وبساطة، فهي بقعة دلاليّة مليئة بالفخاخ والحفر. وهي تضلل القارئ النفعيّ البسيط ولكنّها تربك القارئ النافذ المتوجس، بل ربمّا تقوضّ كلّ قناعاته المسبقة حين يباشر الرواية على أنّها سرد محايد لسيرة ذاتية محبوكة بنسيج حكائيّ سلس ولطيف ومرح وخفيف.
فالجوقة صيغة مفرد في مقام صيغة الجمع. فهي توليفة هائلة من التقاطعات والآلات.. وراء كلّ آلة عازف، على الوتر أو نافخ في بوقه أو نايه أو طارق مُدربكٍ ومستنطق لجلدة حيوان، ووراء كلّ عازف أو نافخ أو ضابط إيقاعٍ خريطة صوتية صارمة. وقد تجد في الجوقة الواحدة، من يبهرك بنقاء ما يصدره من أصوات تشي به، وقد نجد بينها من قد ينفّرك بنشازه وخروجه عن الطّبقة.
وما أقرب هذا الصندوق اللّغويّ البصريّ الصوتي إلى الحياة، بل إلى حيوات الكاتب نفسه في مملكته السردية.. فهوّ نسيج أيضًا.. نسيج هائل من الشخوص والرؤى والمواقف. وهو متجمع فقط لأنّه متبعثر في كلّ هاته الشخوص. وعليه أن يوافق بين مِزاجها جميعًا، وعليه أن يخفف ما أمكن من حدّة نشاز هذه الشخصية أو تلك التي تعزف في وجدانه وتعصف بها أحيانًا.
سأتيقّن كلّ اليقين بعد ذلك بسنوات، حين أدمنتُ قراءة رؤوف مسعد، وتتبع كلّ آثاره وأخباره وخصوماته وصخبه واستنطاق صمته وسكوته، أو متابعة مقالاته النّارية التي يسوط بها وببذخ ومازوشيّة نبيلة كلّ من تسوّل له نفسه بيعها والانحناء أو التعالي دون وجه حقّ، في مكتبه ووظيفته أو في نصّه.. رؤوف مسعد لا يفرّق كثيرًا بين هذا وذاك..
وسأدرك أنّ بيضة النّعامة، هي عالم رؤوف مسعد الأكثر حميميّة.
ورؤوف مسعد يسوق بنفسه سبب اختياره لهذا العنوان المربك بالذات، فيذكر حكاية مفادها أنه رأى خلال زيارته لأحد الأديرة بيضة نعام كبيرة. وحين سأل القسّيس عن معناها، أجابه أن النعامة حينما تحسّ بالخطر تسارع بتخبئة بيضها، ثم تجري مبتعدة عنه لتحول نظر المطارد عن البيض؛ ذلك أنها أي النعامة التي مازلنا منذ القدمِ نتّهمها بالجبن، تفضل أن تضحّي بحياتها مقابل إنقاذها لبيضتها.. ورؤوف مسعد، يريد أن يصرّح لنا حتّى قبل مباشرة القراءة، أنّ علينا أن نعيد النّظر في كلّ ما نركنُ ونرتاح إليه من أفكار مُسبقة. فماذا لو أنّك تُفاجأ بأنّ نفس تلك النّعامة التي تظنّها تهرب منك لمسافة قليلة فقط قبل أن تغرز رأسها في الرّمال، في الحقيقة قد ضللتك كثيرًا، وهي إنّما هربت منك وسلكت طريقًا بعيدًا عن عشّها الرّملي وعن بيضها، كونها تدرك أنّها لن تفنى، وإنّما هي ستتكاثر في فراخها، إن هي أمّنت خروجهم من سجن قشرة البيض السّميكة سالمين، وليقينها أنّ الفراخ لا تحتاجها بعد ذلك، وفعلاً، فمن بين كلّ طيور الأرض العامرة والغامرة، نجد أنّ البطّ البريّ والنّعام غير المدجّن، الذي يحرث ويهيم في الأحراش، هي أكثر الطيور التي لا يحتاج الفراخ فيها إلى معلّم وراعٍ وحارس وملقّن.. فالبطّ البريّ يخرج من بيضته بمُخاطه ودمه، وينطّ في لجّة الماء والنّهر، سابحًا بمهارة، لا يدري أحد متى وأين تعلّمها، ولا تمضي دقائق، حتّى تكون حوصلته قد امتلأت باليرقات والدّود والسّمك الصغير والعشب والحمأ والحشرات المتهوّرة.
وكذلك النّعام، فبسبب كون الفترة الممتدة بين يوم وضعها في الرّمال وتفقيسها، يمتدّ بين 42 إلى 55 يومًا، وبسبب أنّ النّعامة الواحدة تضع حوالى 12 إلى 15 بيضة في العراء، وبسبب ضخامة حجم البيضة التي تُغري مئات الجيران من الحيوانات التي تضعها في أعلى سلّم قائمة طعامها المفضلّ، وبسبب ضخامة النّعامة التي ترى عن بعد أميال، وتجلب العدّو من بعيد، فإنّ النّعامة، تتعمّد عدم الاقتراب من عشّ بيضها إلاّ بعد تثبّت وتركيز ويقين من عدم وجود عيون تتلصص، وهي لا تفعل ذلك إلا للضرورة، ولتقليب البيض مرتين أو ثلاث مرّات فقط في اليوم. وأحيانًا تكتفي بتقليبه مرّة واحدة، وحال شعورها بوجود عدوّ متربّص أو خطر وشيك، فهي لا تجري مباشرة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فهي تبدأ فورًا في إغراء واستفزاز العدوّ، ملوّحة بأجنحتها في رقصة خرقاء، وكأنها جريحة وغنيمة متاحة، ثمّ وهي تتحرّك في خطّ لولبيّ، تموّه المتربّص وتبدأ في الجري في اتجاه بعيد عن عشّها، ولكنّها تعدّل سرعتها في البداية على سرعة مطاردها، حتّى إذا توقّف أوهمته أنّها تدفن رأسها في الرّمال خوفًا منه، ولكنّها في الحقيقة لا تفعل ذلك إلاّ مع الحيوانات الأقلّ حجمًا منها بكثير، كالثعالب وبنات آوى وكلاب البراري وغيرها، وحال وصول العدوّ وتأكدها أنه بعيد عن عشّها، فهي ترفسه بقدمها الغليظة القاسية رفسة مميتة ثم تواصل العدو من جديد.
وخبر النّعامة وطريقتها، هو ما أعتقد بثقة، أنّها رؤية وإيمان الكاتب نفسه، فهو يؤمن بالنصّ الذي سيتكاثر فيه وضرورة توفير كلّ أسباب الحماية الممكنة له، حتّى بالتضحية بالنّفس، أكثر من إيمانه بضرورة حماية هذا الجسد الخامل الذي تركبه هذه الرّوح المُستفزة، وبالتالي فحماية الكلمة والدّفاع المستميت عن الموقف عند رؤوف مسعد، أهمّ وأنبل بكثير وأولى من الحفاظ على الجسد والخوف عليه.
ولو تتبّعنا حياة الكاتب المبدع رؤوف مسعد، خلال كلّ محطّات حياته الحافلة بالأحداث، لأمكننا أن نتلمّس هذا التقاطع بوضوح بين رؤيته للكتابة وموقفه من دور الكاتب ونضاله، مع طريقة التمويه عند النّعامة، التي مازالوا يسيئون بها الظنّ عن جهل وسذاجة.
فرؤوف مسعد الذي ولد بين عائلة مسيحيّة شديدة التديّن ولأب يعمل قسيسًا في أحد الأديرة الصغيرة، في نهاية الثلاثينات في مدينة محافظة عند تخوم غرب السودان، قبل أن تتمصرن وتحلّ بالقاهرة، يبدأ منذ تمرّده وتجربته السياسيّة الخطرة في وقت مبكرّ.
ومنذ عام 1960، وحال تخرّجه من الجامعة، وهو في الثالثة والعشرين من العمر، يلقى عليه القبض ليقضي أربع سنوات كاملة بالمعتقل بمعسكر الواحة، وينتمي خطيًّا كعنصر بارز في تنظيم طليعة العمّال السريّ، ثمّ إلى حزب العمّال ثمّ ينضمّ وهو في السّجن إلى الحزب الشيوعي ويواصل نضاله وتحرّكاته الخطرة حتّى بعد الإفراج عنه، وقد انتبه وهو في السّجن، أنّه مسكون ومنذور للكتابة، وأنّ له موهبة مذهلة في القدرة على التعبير كتابة أيضًا فضلاً عن سلاطة لسانه وشراسته، فيبدأ رحلة التمويه، ليبتعد عن عشّه ومكان بيضه الذي سيتكاثر فيه ومن خلاله، وأعني مشروعه الإبداعي، لذلك يطلب الغرب، وهو يحضن الشرق، ويسافر إلى بولندا سنة 1970 ليتزوّج ويسجّل بالمعهد العالي للفنون الدرامية، ويعود بعد التخرّج من قسم الإخراج المسرحي إلى بغداد سنة 1975، ومنها إلى بيروت ثمّ لبنان، وليعمل في عدد من المنابر الإعلامية والصحفية مثل جريدة السفير التي عمل بها مترجمًا للأخبار ومجلّة اللّوتس ببيروت وغيرهما.
هو يضرب في الأرض منذ أكثر من أربعين عامًا، يوهمنا بتتبّع مسار رحلته وأخباره أنهّ يبتعد عن العشّ، عن مصر، وعن الشرق، لكنّ ما أن تطمئنّ إلى قناعتك، حتّى يفاجئك برواية سمراء الملامح، غليظة القسمات، تُدين وتغلي وتمور، وتشير بعصبيّة إلى مواضع الدّاء والورم.. فإذا لا غرب. ولا غربة. ولا هم يحزنون.
لطالما طلع علينا المتحذلقون والنّقاد الذين يرتادون الأماكن مرّة واحدة، للسياحة الثقافيّة أو الانهماك قلبًا وقالبًا في المقررّ للحصول على شهادة، بأنّهم عاشوا في الغرب، وأنهّم يفهمون أنّ الكاتب يتلوّن بطبيعة ولون ومذاق وذائقة وحوامض وكيمياء البلد الذي يقيم فيه، ولكنّ نظريّتهم بالية وتثير الشّفقة حين نحاول أن نطبّقها على كاتب غير مستأنس ولا أمل في أن يُستأنس مثل الصديق المبدع رؤوف مسعد. فهو لم يهاجر إلا بجسده فقط، ولكنّ نصّه بقي محافظًا على سماته وجُرأته وشراسته وعمقه وشرقيّته وحدّته.. فأوروبا لم تكن غير مجرّد مكتب من الخشب الميّت يرسل منه ما ينسجه من سرد عربيّ شرقيّ متين وبديع، وضارب في عمق الأرض.. تلك الأرض التي نذر أن تكون علامته وكيانه ووجدانه وعشّه الأبقى.
ها هو الكاتب رؤوف مسعد إذن معكم بعد غيبة جسد امتدّت لأكثر من أربعين سنة. تمعنوا جيّدًا في ملامحه وملابسه ولكنته وسخريته وقسمات وجهه وابتسامته المصريّة الموحيّة، وكمّ انعكاس الطّين والأرض في أفقه وبريق عينيه.. هل هذا إرث كاتب متلوّن بلون الغرب وبياضه؟!
نعم.. أعترف الآن ممتنًا، بأنني حال انتهائي من قراءة رواية بيضة النّعامة للعزيز رؤوف مسعد، وهي النّسخة الورقيّة التي علمت فيما بعد، بأنّ أحد المهاجرين التونسيين كان يقرأها في الليلة السابقة، قبل أن ينساها على الكرسيّ الأسود في (لابوهام) بشارع الأتراك بجنوب ألمانيا بميونيخ، لأجدها مبقّعة بالزيت ولطخة صلصة الطّماطم.. أعترف الآن، بعد مرور أكثر من ربع قرن على هذه الحادثة السعيدة، أعترف وكلّي امتنان، أنّني وبسبب هذه الرّواية بالذات، وبسب افتتاني بها، وبسبب روعة وفتنة وسلاسة السرد وجُرأته.. بسبب كلّ ذلك، قرّرت يومها أن أتخلصّ من قشرة الإيقاع وطبلة الشعر الصوفي الخشن الهائم بين أروقة بخوره وأحاجيه ونداءاته وتأوّهاته وعذريته، وأنني عشقت السرد وابتعدت عن الإيحاء المبالغ في تهويماته وقررّت من يومها أن أكتب بوضوح، وألا أتخفى وراء قراطيس المعاني الرمزية المكثفة.. وبدأت وبالتحديد سنة 1994. نفس السّنة التي قرأت فيها رواية بيضة النّعامة لرؤوف مسعد، في كتابة النصوص السردية.. وقررتُ أن أكون مثله شرسًا ومسكونًا وعنيدًا وواضحًا ومستلهمًا في حياتي رقصة النّعامة التي تستفزّ عدوّها ومن يتربّص ببيضها لتضلله وتبتعد به عن عشّها الذي ستتكاثر وتُستنسخ فيها.. كون الجسد باليًا وعرضيًّا ومعرضًّا كلّ الوقت للإهانات، بالغربة أو السّجن أو النسف أو الذبح أو التعطيل بكلّ أشكاله وضروبه وأصنافه، لكنّما الموقف والرؤية والرؤيا والمبادئ والمُنجز، ثروة لا تفنى.