كشف الناقد معجب الزهراني استعداده للعودة من باريس، لقُرب انتهاء فترة إدارته لمعهد العالم العربي، وهاجسه الأكبر ردّ الجميل لفضاء الباحة، عبر مشاريع ثقافية وإنسانية ممكنة، ويرى (أبو توفيق) أنه عاش كثيراً والباقي كرم من الله، وبحكم إنجازه عدداً من المشاريع الثقافية والكتابية كان هذا الحوار في قرية (الغُرباء) بوادي الصُدر، مسقط رأس ضيفنا، فإلى نص الحوار:
• كأنك بدأت التهيئة للمكان، وللذات، لقضاء ما تبقى من العمر في حضن البئر الأولى؟
•• الشاطر لا يلعب على حاله، وللعلم (عِشتُ كثيراً، وما زاد كرم من الله) ونحن أبناء الزمان وضحاياه، والعودة ليست مجرد حنين، بالمعنى التقليدي الشائع، بل وفاء للجسد، شأن الوفاء للقِيَم، في مرحلة معينة لا بد للطفل أن يلعب، وإلا كان غير سويّ، والشاب يغامر ويكتشف ويجرّب، وفي هذه الفترة أميل للاستقرار، كون الطاقة تبدأ في الهدوء، والعودة للريف محاولة للبحث عن تصالح بين الجسد وبين الفضاء، وكأنما هي علاقة بكائن حيّ اسمه (الأُم) فالريف متطلباته وشروطه بسيطة، وإدارتها سهلة، مع يقيني أني لن أجداً شيئاً أو أحداً كما كان (وأولهم أنا).
• كيف ترى المجتمع من خلال حسّ الناقد؟
•• في العشرين عاما الأخيرة انقلبت حياة المجتمع في كل مكان، الثقافة التقليدية، عرضة للتغير، والإنسان يتلاشى، وهناك أنماط جديدة للإنسانية، وصور، بدأت تتشكل ملامحها في بعض البلدان، خصوصا في الحواضر التي قطعت فيها الحداثة شوطاً طويلاً، والإنسان بمعناه الراهن يختفي رويداً رويداً، داخل منازلنا الأطفال والفتيان منفصلون عن الذات وعن المحيط، ومرتبطون بالآلة.
• بماذا نجابه هذا التهديد؟
•• بتعزيز القيم الاجتماعية، وتبني مشاريع أنسنة، فالأحاسيس بمرور الوقت تضعف، والقيم القديمة تنهار، وفي المجتمعات التقليدية تغدو البنيات الثقافية أشبه بالمنازل إذا تريد إعادة البناء فلابد من انهيار السقوف، وأحيانا تتم بسلام وسلاسة، ومرونة في بلدان مثل آسيا، بحكم انعدام المحاذي، بعض المجتمعات انفصلت عن التاريخ نحو ثلاثة آلاف عام، وربما فرنسا على أبواب جمهورية سادسة.
• هل عالمنا العربي مجتمع تقليدي؟
•• الأصدق، عتيق، كما أصفه، بحكم أن فيه بنىً لم تتغير من قبل الإسلام إلى ما بعد الآلة، وتواجه الحداثة بكل تحدياتها، ورهاناتها، ولولا التجانس بين الطبقات الحاكمة والشعوب لوقعت تصدعات، شأن المجتمعات التي عرفت نخباً حاكمة حديثة.
• أي مستوى بلغه العنف في عالمنا؟
•• ما نشهده من صراعات وتوترات في عالمنا العربي، والمؤثرات في الشرق الأوسط، تكشف جانباً من العنف الناجم عن زلازل وتفاعلات عميقة، لا نرى المحفّز قدر مشاهدتنا للظواهر وما هو ماثل للعيان على السطح، والجميع عُرضة لدفع الثمن، إلا من يبادر للإصلاحات الجذرية.
• ماذا بقي من العولمة، أو الكونية؟
•• تمظهراتها وآثارها، في حاضرة العالم باريس أكثر من عندنا، في الثمانينات كُنا نفرح بصوت أو صورة عربي، واليوم نتشوّف لفرنسي، اتسعت التغيرات لتشمل المقهى والمطعم، لا يمكنك إحصاء النجوم الفرنسيين من أصل عربي على مستويات الثقافة والفن والفلسفة، لم يعد هناك حدود فاصلة، بين ما هو فرنسي وما هو متفرنس، ولهيجل مقولة (مكر التاريخ)، إذ يخلق القوي نقيضه من داخله، وتتبدل علاقات القوة، وانقلب معنى التعصب، العرب الأفارقة يتحمسون لأدبيات فرنسا وثقافتها والسلوكيات أكثر من الفرنسيين، وفي مسابقة لأشهر طبق في فرنسا حلّ الكسكسي المغربي في المرتبة الأولى، ببساطة شديدة لا توجد ثقافة فرنسية صافية.
• أما يتصدى لهذا الاختراق أحد؟
•• هناك مجموعات تصرخ وتحذر ليل نهار، وهم أشبه بفقهاء الصحوة، الذين كلما هبّت رياح تغيير نسبوها لمؤامرة، فغدو هامشاً، واليمين الشعبوي لو لم يتبن الحداثة والحوار في الثمانينات لما حصل على أكثر من ٢٪ من الأصوات.
• هل من مقاربة محليّة؟
•• نعم نحن في البيئة القروية والريفية والبدوية، لم نكن نقبل أن يعيش بيننا وداخل بيوتنا غرباء، شأن العمالة التي دخلت علينا بلباسها وثقافتها في اللبس والقناعات.
• ألا يعني تجدد مواجهة الإسلام والغرب؟
•• أنا مع العرب وأوروبا، أو المشرق، والغرب، مقولة الإسلام والغرب إسلاموية، واختطفها الإخوان المسلمون، وسيّسوها، أطروحة معتمة، ومعممة، وعمياء، فالذين يعيشون في الغرب من المسلمين يتمتعون بحُريات لا تتوفر في بلدانهم الأصلية، والذين يبدعون في الفكر الإسلامي يطرحون بجرأة كل ما يدور في أذهانهم دون حذر، لو كان في بلده العربي أو المسلم فلربما كفروه أو اقتادوه للمحاكم، وهناك سوابق لمثل هذا التصدي للفكر الحُر، فمقولة الإسلام والغرب أيديولوجية، واستثمرت بصورة غير نزيهة، ووُظّفت سياسياً، وعلينا الحذر عند استخدامها.
• ما سرّ التحوّل من زهد الكتابة إلى منتج؟
•• سؤال مهم، ذكرتني بما كنت أعاني منه في زمن الابتعاث للدراسة، من وعي بالنقص، لما فاتني من فرص للكتابة لم استثمرها، ولما عُدت للمملكة تقاللت ما لديّ، برغم قراءتي بثلاث لغات، وشعرت أن الزاد المعرفي محدود، وليس هناك ما يستحق النقاش أو الجدل حوله، فهربتُ، بالتلاعب على الذات، وعزفت عن النشر برغم إنجازي نحو سبعين دراسة.
• ما سبب العزوف؟
•• لم أشعر أن قدراتي متجلية في هذه الدراسات، ولحذري من مخاطر التلقي، وعدم رغبتي في التحايل بالكتابة التعميمية والتوسع في البلاغة المعرفية.
• ألا ترى أنك تسهب اليوم؟
•• عندما تحترم وعيك المعرفي، وضميرك الأخلاقي، فلا ضير في الكتابة، والمثقف النقدي عليه أن يتقبل الحياة اليومية ويعيشها إنساناً عادياً.
• ما نوع كتابتك الآن؟
•• كتابة الذات، أنا في سباق مسافات أخيرة، ومنذ عدت لباريس قبل خمسة أعوام خصصت الفترة الصباحية لكتابة الذات، بنشوة وقصدية، وإرادة واعية، علينا أن نسد ثغرة في السيرة الذاتية كونها تقوم على (اعرف نفسك)، ما يكتبه البعض مناقض للسيرة الذاتية، لأنها تعني الخروج من الذات لمراقبتها، ما الذي جعلني الآن أنا أنا، هي مكاشفة ومواجهة مع البنى السلطوية (العائلة العشيرة القبيلة)، فالسلطات الاجتماعية تعطي وتمنع وتحد من حريّة السيرة، بل وتوافق وترفض.
• ألم تتفاد البنى السلطوية في سيرة الوقت؟
•• صحيح، وحذفت منها نحو أربعين صفحة، لأنه تمثّل لي القارئ المحلي السلطوي، وطرأ على بالي، ولكنّي حاولت وربما نجحت.
• هل نعدها مواجهة حاسمة مع آخرك؟
•• ليس بمستوى إدوارد سعيد في (خارج المكان)، ولا (أيام) طه حسين، لكن هناك خروج من الذات ومرافقتها.
• ماذا عن المشاريع العملية؟
•• بالطبع أفخر بإنجاز كرسي غازي القصيبي في جامعة اليمامة، وعلى غراره أسست كرسياً في معهد العالم العربي، وكان مشروع مائة كتاب وكتاب، بالشراكة مع جائزة الملك فيصل، وأثمن حماسة الأمير خالد الفيصل للفكرة ودعمها وتمويلها، ولا أنسى جهود الأمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز السبيّل، وخلق الكرسي للمعهد جناحين، فذهبنا للمغرب، وتونس، وبيروت، وعمّان، وكرّمنا المفكرين (عبدالله العروي، وفهمي جدعان، وهشام جعيّط، ورشدي راشد، وناصيف نصّار)، وشعرت بردّ الجميل لأساتذتنا، ونجحنا في إيجاد تفاعلات وحراك ثقافي عربي، وتم تكريم باحثين مستعربين ممن خدموا الثقافة العربية والإسلامية.
• كيف تجاوزت العمل بعقلية موظّف؟
•• بالوعي بخطورة تحييد الجانب الأهم في شخصيتي، أنا مثقف، ولدي مشروعي، وتوسّعت في تكريم مخرجين سينمائيين، وموسيقيين ونحاتين، وفيروز، وآخر ضيوفنا الشاعر قاسم حداد خلال يومين.
• ألا تنزعج من إهمال الثقافة الصلبة، والاستعاضة عنها بالسائلة؟
•• كثرة المعلومات لا تُنتج عالِماً، وكثرة الأفكار لا تُنتج مفكّرا، الأجيال الجديدة عندها معلومات عن كل شيء ولا تملك شيئا، الأجهزة تستعملهم، ومواقع التواصل أكثر مما يستعملونها، ثقافة المعطيات الحديثة تُولّد وهم المعرفة، كم يتحدث في مجالسنا في قضية طبيّة غير متخصصين، ويجادلون الطبيب الذي أفنى عمره في دراسة تخصصات نادرة، ودقيقة، و أزعم أن وهم المعرفة يسوّي بين الناس في البلاهة، ولا أدري ماذا سيحدث إثر عقدين من الزمن، لكن الجاحظ يرى أن عبقريات الأمم أُفرغت في أعضائها، والعرب عبقريتهم مفرّغة في اللسان. الصينيون لا يتجادلون مثلنا في قضايا غيبية، ومجهولات، لأن عبقريتهم في أيديهم، فانشغلوا بصناعة العالم، ونحن نهدر الطاقات بالكلام والسلام.
• لماذا أجلّت إصدار كتابك (مكتب على السِّين)؟
•• ما دمت أنني ما زلت مديراً للمعهد إلى نهاية العام، فمن غير المناسب إصداره، لأنه سيخرجني أخلاقياً ووظيفياً، فآثرت توديعهم بالكتاب لأن فيه جانبا نقديا.
• ما ذا عن مشاريع ما بعد عودتك؟
•• هاجس ردّ الجميل للمنطقة، وللقرية، ولفضاء المكان، ما زال في القنديل زيت، أتطلع لتأسيس كرسي ثقافي، وكرسي دراسات بيئية واجتماعية، وترميم بيت الأسرة وتحويله لمتحف، ومختبر ومعتزل لاستضافة كتاب وكاتبات، وتحويل المكان لمركز إشعاع.
• مما تعاني الآن؟
•• أعاني ما يسمى بمرض الوطن، يعني التعلق بالمكان، وشوقي العارم لتجديد علاقتي بهذه الجغرافيا، التي شكّلت صورة العالم في ذهني، وأنا أحب المطر، ولكن مطر باريس يؤذيني، بخلاف مطر قرية الغرباء المُعزز الحميمية بيني. وبين شجر وحجر وتربة، وقبيل الغروب تشع الكثير من الأفكار.
• كأنك بدأت التهيئة للمكان، وللذات، لقضاء ما تبقى من العمر في حضن البئر الأولى؟
•• الشاطر لا يلعب على حاله، وللعلم (عِشتُ كثيراً، وما زاد كرم من الله) ونحن أبناء الزمان وضحاياه، والعودة ليست مجرد حنين، بالمعنى التقليدي الشائع، بل وفاء للجسد، شأن الوفاء للقِيَم، في مرحلة معينة لا بد للطفل أن يلعب، وإلا كان غير سويّ، والشاب يغامر ويكتشف ويجرّب، وفي هذه الفترة أميل للاستقرار، كون الطاقة تبدأ في الهدوء، والعودة للريف محاولة للبحث عن تصالح بين الجسد وبين الفضاء، وكأنما هي علاقة بكائن حيّ اسمه (الأُم) فالريف متطلباته وشروطه بسيطة، وإدارتها سهلة، مع يقيني أني لن أجداً شيئاً أو أحداً كما كان (وأولهم أنا).
• كيف ترى المجتمع من خلال حسّ الناقد؟
•• في العشرين عاما الأخيرة انقلبت حياة المجتمع في كل مكان، الثقافة التقليدية، عرضة للتغير، والإنسان يتلاشى، وهناك أنماط جديدة للإنسانية، وصور، بدأت تتشكل ملامحها في بعض البلدان، خصوصا في الحواضر التي قطعت فيها الحداثة شوطاً طويلاً، والإنسان بمعناه الراهن يختفي رويداً رويداً، داخل منازلنا الأطفال والفتيان منفصلون عن الذات وعن المحيط، ومرتبطون بالآلة.
• بماذا نجابه هذا التهديد؟
•• بتعزيز القيم الاجتماعية، وتبني مشاريع أنسنة، فالأحاسيس بمرور الوقت تضعف، والقيم القديمة تنهار، وفي المجتمعات التقليدية تغدو البنيات الثقافية أشبه بالمنازل إذا تريد إعادة البناء فلابد من انهيار السقوف، وأحيانا تتم بسلام وسلاسة، ومرونة في بلدان مثل آسيا، بحكم انعدام المحاذي، بعض المجتمعات انفصلت عن التاريخ نحو ثلاثة آلاف عام، وربما فرنسا على أبواب جمهورية سادسة.
• هل عالمنا العربي مجتمع تقليدي؟
•• الأصدق، عتيق، كما أصفه، بحكم أن فيه بنىً لم تتغير من قبل الإسلام إلى ما بعد الآلة، وتواجه الحداثة بكل تحدياتها، ورهاناتها، ولولا التجانس بين الطبقات الحاكمة والشعوب لوقعت تصدعات، شأن المجتمعات التي عرفت نخباً حاكمة حديثة.
• أي مستوى بلغه العنف في عالمنا؟
•• ما نشهده من صراعات وتوترات في عالمنا العربي، والمؤثرات في الشرق الأوسط، تكشف جانباً من العنف الناجم عن زلازل وتفاعلات عميقة، لا نرى المحفّز قدر مشاهدتنا للظواهر وما هو ماثل للعيان على السطح، والجميع عُرضة لدفع الثمن، إلا من يبادر للإصلاحات الجذرية.
• ماذا بقي من العولمة، أو الكونية؟
•• تمظهراتها وآثارها، في حاضرة العالم باريس أكثر من عندنا، في الثمانينات كُنا نفرح بصوت أو صورة عربي، واليوم نتشوّف لفرنسي، اتسعت التغيرات لتشمل المقهى والمطعم، لا يمكنك إحصاء النجوم الفرنسيين من أصل عربي على مستويات الثقافة والفن والفلسفة، لم يعد هناك حدود فاصلة، بين ما هو فرنسي وما هو متفرنس، ولهيجل مقولة (مكر التاريخ)، إذ يخلق القوي نقيضه من داخله، وتتبدل علاقات القوة، وانقلب معنى التعصب، العرب الأفارقة يتحمسون لأدبيات فرنسا وثقافتها والسلوكيات أكثر من الفرنسيين، وفي مسابقة لأشهر طبق في فرنسا حلّ الكسكسي المغربي في المرتبة الأولى، ببساطة شديدة لا توجد ثقافة فرنسية صافية.
• أما يتصدى لهذا الاختراق أحد؟
•• هناك مجموعات تصرخ وتحذر ليل نهار، وهم أشبه بفقهاء الصحوة، الذين كلما هبّت رياح تغيير نسبوها لمؤامرة، فغدو هامشاً، واليمين الشعبوي لو لم يتبن الحداثة والحوار في الثمانينات لما حصل على أكثر من ٢٪ من الأصوات.
• هل من مقاربة محليّة؟
•• نعم نحن في البيئة القروية والريفية والبدوية، لم نكن نقبل أن يعيش بيننا وداخل بيوتنا غرباء، شأن العمالة التي دخلت علينا بلباسها وثقافتها في اللبس والقناعات.
• ألا يعني تجدد مواجهة الإسلام والغرب؟
•• أنا مع العرب وأوروبا، أو المشرق، والغرب، مقولة الإسلام والغرب إسلاموية، واختطفها الإخوان المسلمون، وسيّسوها، أطروحة معتمة، ومعممة، وعمياء، فالذين يعيشون في الغرب من المسلمين يتمتعون بحُريات لا تتوفر في بلدانهم الأصلية، والذين يبدعون في الفكر الإسلامي يطرحون بجرأة كل ما يدور في أذهانهم دون حذر، لو كان في بلده العربي أو المسلم فلربما كفروه أو اقتادوه للمحاكم، وهناك سوابق لمثل هذا التصدي للفكر الحُر، فمقولة الإسلام والغرب أيديولوجية، واستثمرت بصورة غير نزيهة، ووُظّفت سياسياً، وعلينا الحذر عند استخدامها.
• ما سرّ التحوّل من زهد الكتابة إلى منتج؟
•• سؤال مهم، ذكرتني بما كنت أعاني منه في زمن الابتعاث للدراسة، من وعي بالنقص، لما فاتني من فرص للكتابة لم استثمرها، ولما عُدت للمملكة تقاللت ما لديّ، برغم قراءتي بثلاث لغات، وشعرت أن الزاد المعرفي محدود، وليس هناك ما يستحق النقاش أو الجدل حوله، فهربتُ، بالتلاعب على الذات، وعزفت عن النشر برغم إنجازي نحو سبعين دراسة.
• ما سبب العزوف؟
•• لم أشعر أن قدراتي متجلية في هذه الدراسات، ولحذري من مخاطر التلقي، وعدم رغبتي في التحايل بالكتابة التعميمية والتوسع في البلاغة المعرفية.
• ألا ترى أنك تسهب اليوم؟
•• عندما تحترم وعيك المعرفي، وضميرك الأخلاقي، فلا ضير في الكتابة، والمثقف النقدي عليه أن يتقبل الحياة اليومية ويعيشها إنساناً عادياً.
• ما نوع كتابتك الآن؟
•• كتابة الذات، أنا في سباق مسافات أخيرة، ومنذ عدت لباريس قبل خمسة أعوام خصصت الفترة الصباحية لكتابة الذات، بنشوة وقصدية، وإرادة واعية، علينا أن نسد ثغرة في السيرة الذاتية كونها تقوم على (اعرف نفسك)، ما يكتبه البعض مناقض للسيرة الذاتية، لأنها تعني الخروج من الذات لمراقبتها، ما الذي جعلني الآن أنا أنا، هي مكاشفة ومواجهة مع البنى السلطوية (العائلة العشيرة القبيلة)، فالسلطات الاجتماعية تعطي وتمنع وتحد من حريّة السيرة، بل وتوافق وترفض.
• ألم تتفاد البنى السلطوية في سيرة الوقت؟
•• صحيح، وحذفت منها نحو أربعين صفحة، لأنه تمثّل لي القارئ المحلي السلطوي، وطرأ على بالي، ولكنّي حاولت وربما نجحت.
• هل نعدها مواجهة حاسمة مع آخرك؟
•• ليس بمستوى إدوارد سعيد في (خارج المكان)، ولا (أيام) طه حسين، لكن هناك خروج من الذات ومرافقتها.
• ماذا عن المشاريع العملية؟
•• بالطبع أفخر بإنجاز كرسي غازي القصيبي في جامعة اليمامة، وعلى غراره أسست كرسياً في معهد العالم العربي، وكان مشروع مائة كتاب وكتاب، بالشراكة مع جائزة الملك فيصل، وأثمن حماسة الأمير خالد الفيصل للفكرة ودعمها وتمويلها، ولا أنسى جهود الأمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز السبيّل، وخلق الكرسي للمعهد جناحين، فذهبنا للمغرب، وتونس، وبيروت، وعمّان، وكرّمنا المفكرين (عبدالله العروي، وفهمي جدعان، وهشام جعيّط، ورشدي راشد، وناصيف نصّار)، وشعرت بردّ الجميل لأساتذتنا، ونجحنا في إيجاد تفاعلات وحراك ثقافي عربي، وتم تكريم باحثين مستعربين ممن خدموا الثقافة العربية والإسلامية.
• كيف تجاوزت العمل بعقلية موظّف؟
•• بالوعي بخطورة تحييد الجانب الأهم في شخصيتي، أنا مثقف، ولدي مشروعي، وتوسّعت في تكريم مخرجين سينمائيين، وموسيقيين ونحاتين، وفيروز، وآخر ضيوفنا الشاعر قاسم حداد خلال يومين.
• ألا تنزعج من إهمال الثقافة الصلبة، والاستعاضة عنها بالسائلة؟
•• كثرة المعلومات لا تُنتج عالِماً، وكثرة الأفكار لا تُنتج مفكّرا، الأجيال الجديدة عندها معلومات عن كل شيء ولا تملك شيئا، الأجهزة تستعملهم، ومواقع التواصل أكثر مما يستعملونها، ثقافة المعطيات الحديثة تُولّد وهم المعرفة، كم يتحدث في مجالسنا في قضية طبيّة غير متخصصين، ويجادلون الطبيب الذي أفنى عمره في دراسة تخصصات نادرة، ودقيقة، و أزعم أن وهم المعرفة يسوّي بين الناس في البلاهة، ولا أدري ماذا سيحدث إثر عقدين من الزمن، لكن الجاحظ يرى أن عبقريات الأمم أُفرغت في أعضائها، والعرب عبقريتهم مفرّغة في اللسان. الصينيون لا يتجادلون مثلنا في قضايا غيبية، ومجهولات، لأن عبقريتهم في أيديهم، فانشغلوا بصناعة العالم، ونحن نهدر الطاقات بالكلام والسلام.
• لماذا أجلّت إصدار كتابك (مكتب على السِّين)؟
•• ما دمت أنني ما زلت مديراً للمعهد إلى نهاية العام، فمن غير المناسب إصداره، لأنه سيخرجني أخلاقياً ووظيفياً، فآثرت توديعهم بالكتاب لأن فيه جانبا نقديا.
• ما ذا عن مشاريع ما بعد عودتك؟
•• هاجس ردّ الجميل للمنطقة، وللقرية، ولفضاء المكان، ما زال في القنديل زيت، أتطلع لتأسيس كرسي ثقافي، وكرسي دراسات بيئية واجتماعية، وترميم بيت الأسرة وتحويله لمتحف، ومختبر ومعتزل لاستضافة كتاب وكاتبات، وتحويل المكان لمركز إشعاع.
• مما تعاني الآن؟
•• أعاني ما يسمى بمرض الوطن، يعني التعلق بالمكان، وشوقي العارم لتجديد علاقتي بهذه الجغرافيا، التي شكّلت صورة العالم في ذهني، وأنا أحب المطر، ولكن مطر باريس يؤذيني، بخلاف مطر قرية الغرباء المُعزز الحميمية بيني. وبين شجر وحجر وتربة، وقبيل الغروب تشع الكثير من الأفكار.