إنها صورة والدي، الصورة الوحيدة التي لدينا له في البيت، ولذلك جعلت لها أمي إطارا خشبيا يحمل بعض الزخرفات، وخصصت لها مكانا في صالة المعيشة، ودقّت لها مسمارا تتدلى منه على الحائط المائل جصه للاصفرار، وهذا ما يجعلها بعيدة عن الأيدي، وأيضا في مكان يراها فيه كلّ داخل للبيت، وكل خارج من المطبخ أو من إحدى الغرف أيضا تكون الصورة أول شيء يقابله. فتحس وأنت في البيت بوجوده بيننا وحضوره الدائم في حياتنا. وبأنه واقف هناك يحرسنا بنظرته الدافئة التي تتبع حركتنا وتسمع كلماتنا.
أجلس كل مرة أراقب الصورة وأدرس قسمات وجه أبي وملامحه التي تُظهر رجلا ذا ملْمح مهيب، يغشاه الوقار والغموض، بوجه ممتلئ واسع، وبأنفه الأقنى الطويل، وبشاربه الكث الذي يملأ أعلى فمه ويتدلى على شفتيه، وبشعره الأسود الناعم المسدل على أعلى أذنيه وجبهته العريضة، شعره الذي تقول أمي دائما حين تمشط لي ضفيرتي إنني قد ورثته منه.
أنا لا أذكر أبي في الحقيقة كثيرا، فالمشهد الوحيد الذي ما زالت ذاكرتي تحتفظ به له، يعود لسنوات لم ألج فيها بعد المدرسة. كان في ذلك الصباح الباكر حين استيقظت على وقع أصوات وحركة غير مألوفة في البيت، فوجدت عمي مصطفى يرافق والدي نحو الباب خارجين وأمي خلفهما تمسح الدموع وهي تتمتم بكلمات لم أسمعها. أذكر أنني أطللت بوجهي من النافذة وأنا أغالب النعاس فلمحني أبي وعاد إليّ متثاقلا وأخذني في أحضانه بشدة وقبلني على رأسي ووجنتيّ بحرارة، قبْل أن يعود أدراجه ويركب السيارة مع عمي ويذهبا.
مرت أيام قليلة وعاد عمي مصطفى ومعه الكثير من الرجال والنساء لزيارتنا، واكتظ بيتنا بالزوار الذين لا أعرف سبب قدومهم، فالذي أذكره أنهم جاؤوا بصندوق طويل انهالت عليه أمي بالتّقبيل قبل أن يأخذوه منها بالقوة ويذهبوا به خارجا. لكن أبي لم يكن بين هؤلاء ولم يعد، ولم تره عيني قط مجددا.
فمنذ ذلك الصباح الباكر الذي خرج فيه أبي مسافرا، على ما أذكر، كانت فيه ملامحه مختلفة كثيرا عن هذه التي يظهر بها في الصورة المعلقة أمامي، فما زلت أذكر أنه كان حينها حليق الشعر والشارب، بل والحاجب أيضا! ولم تكن وجنتاه منتفختين كما في هذه الصورة. وهذا ما يجعلني أشك في أن الذي في الصورة هو أبي بالفعل.
غير أن أمي حين أخبرها بذلك وبما أذكره عن أبي يكون ردها:
- لا يا ابنتي، ملامح والدك الحقيقية هي التي في الصورة، أما ما تتخيلينه فلعل النعاس هو ما جعلك تتوهمين ذلك، كما أنك كنت صغيرة جدا يومها على تذكره.
ربما أمي محقة فأنْ يحلق الشخص حاجبه أمر لا يصدق ولا يقوم به أحد.. نعم إن أبي هو الذي في الصورة بشاربه الكبير ووجنتيه الممتلئتين وشعره الأسود الجميل.
- لكن لم لا يعود من غيابه الطويل يا أمي وأراه مجددا بدل هذه الصورة؟ لم لا يعيش معنا كما يعيش كل الآباء مع أبنائهم؟ لم قرر العيش بعيدا عنا؟ ألا يحبنا يا أمي؟
فترد أمي بحزم بأنه مسافر للمدينة من أجل العمل، وبأنه سيعود يوما، أو ننتقل للعيش معه في المدينة. وتنهي كلامها دائما بقولها:
- لما تكبرين يا بنتي ستدركين لِمَ الصور تقوم مقام المسافرين.
أحاول أن أنتظره بصبر كأمي، وأن أكتفي بأبي هذا الواقف في الصورة دون حركة، وبعينيه اللتين ترمقانني كلما مررت أمامه أو نظرت إليه، فأشعر بأنه هنا قريب يرقبني ويرعاني. لكن ما إن أرى صديقتي في المدرسة غادة ترافق والدها ممسكة بيده، وهما يبتسمان ويتحدثان، أو أسمعها تتحدث عن الرحلات التي قامت بها مع أبيها، وكيف تخرج معه للتنزه في الحديقة كل نهاية أسبوع، أو الهدايا التي جاء بها لها بمناسبة حصولها على نتيجة ممتازة، حتى أعود للبيت حانقة حزينة وأطلب من أمي باستعطاف أن تتصل بوالدي وتخبره بأنني حصلت على مرتبة مشرفة وبأنني أريد أنا أيضا هدية نجاحي كالتي اشتراها والد غادة لابنته، فلا يهدأ لي بال حتى تطمئنني أمي بأنها فعلت وبأنه سيأتي ومعه هدايا كثيرة لي.
وحين تلوذ أمي للنوم بعد الزوال، أستغل تلك الفرصة، فأحمل معي الكرسي لصالة المعيشة خلسة وأصعد عليه وأنزع الصورة من مكانها، فأجلس وهي في أحضاني وأبدأ بملامسة والدي والحديث معه في كل شيء، فأحكي له كل أسراري التي لا يعلمها أحد غيري، وأشكي له جارنا العم (عامر) الذي أصبح يتربص بي في الطريق للمدرسة، فما إن يراني حتى يقترب مني ويحضنني بعد أن يقدم لي الحلوى التي أكرهها كما أكره أحضانه وتقبيله الغريب، وأحكي له أيضاً عن عمي مصطفى الذي لم يعد كما كان وأصبح لا يدخل لبيتنا ولا يناديني بابنتي إن التقيت به في الطريق كما كان يفعل من قبل.. فيكتفي أبي بالنظر إليّ دون حركة ولا حتى تنطق شفتاه بكلمة واحدة، لكنني أحس بأنه يواسيني ويعدني بأنه سيحميني يوم يأتي من جارنا العم عامر.
تمر الشهور والسنوات وأنا أراقب كل السيارات والحافلات التي تتوقف قرب بيتنا ولا ينزل منها أبي، ولا يفي بوعوده لي بالمجيء، وتصبح الصورة المعلقة في الصالة أكثر صمتاً وجفاءً، ويزيد الجص الأصفر اصفراراً وقتامةً. كما أن أمي صارت تتغيب عن البيت أيضا دون أن أعرف إلى أين، بل وفي العديد من الأيام تأتي خالتي وتنام معي لأسبوع أو أسبوعين قبل أن تعود أمي مجددا، غير أنها تعود كل مرة بملامح مختلفة، وتنام في غرفتها دون أن تسمح لي خالتي برؤيتها إلا بعد أيام طويلة.
اليوم لاحظت صدفة رأس أمي عارياً وهي تتوضأ ففوجئت أنها أيضاً حلقت شعرها، وما إن رأتني حتى أسرعت في ارتداء المنديل وإخفاء ذلك عني. عدتُ لغرفتي وأنا خائفة مما رأيت ومستغربة منه، فهل تفكر أمي في السفر؟ فلربما ستذهب هي أيضاً في صباح الغد، ولكن لِمَ تخفي ذلك عني؟ ألا تريد أن أرافقها للمدينة حيث سافر والدي من قبل؟ وهل ستعلق صورتها بملامحها الحقيقية في صالة المعيشة أيضاً؟
أجلس كل مرة أراقب الصورة وأدرس قسمات وجه أبي وملامحه التي تُظهر رجلا ذا ملْمح مهيب، يغشاه الوقار والغموض، بوجه ممتلئ واسع، وبأنفه الأقنى الطويل، وبشاربه الكث الذي يملأ أعلى فمه ويتدلى على شفتيه، وبشعره الأسود الناعم المسدل على أعلى أذنيه وجبهته العريضة، شعره الذي تقول أمي دائما حين تمشط لي ضفيرتي إنني قد ورثته منه.
أنا لا أذكر أبي في الحقيقة كثيرا، فالمشهد الوحيد الذي ما زالت ذاكرتي تحتفظ به له، يعود لسنوات لم ألج فيها بعد المدرسة. كان في ذلك الصباح الباكر حين استيقظت على وقع أصوات وحركة غير مألوفة في البيت، فوجدت عمي مصطفى يرافق والدي نحو الباب خارجين وأمي خلفهما تمسح الدموع وهي تتمتم بكلمات لم أسمعها. أذكر أنني أطللت بوجهي من النافذة وأنا أغالب النعاس فلمحني أبي وعاد إليّ متثاقلا وأخذني في أحضانه بشدة وقبلني على رأسي ووجنتيّ بحرارة، قبْل أن يعود أدراجه ويركب السيارة مع عمي ويذهبا.
مرت أيام قليلة وعاد عمي مصطفى ومعه الكثير من الرجال والنساء لزيارتنا، واكتظ بيتنا بالزوار الذين لا أعرف سبب قدومهم، فالذي أذكره أنهم جاؤوا بصندوق طويل انهالت عليه أمي بالتّقبيل قبل أن يأخذوه منها بالقوة ويذهبوا به خارجا. لكن أبي لم يكن بين هؤلاء ولم يعد، ولم تره عيني قط مجددا.
فمنذ ذلك الصباح الباكر الذي خرج فيه أبي مسافرا، على ما أذكر، كانت فيه ملامحه مختلفة كثيرا عن هذه التي يظهر بها في الصورة المعلقة أمامي، فما زلت أذكر أنه كان حينها حليق الشعر والشارب، بل والحاجب أيضا! ولم تكن وجنتاه منتفختين كما في هذه الصورة. وهذا ما يجعلني أشك في أن الذي في الصورة هو أبي بالفعل.
غير أن أمي حين أخبرها بذلك وبما أذكره عن أبي يكون ردها:
- لا يا ابنتي، ملامح والدك الحقيقية هي التي في الصورة، أما ما تتخيلينه فلعل النعاس هو ما جعلك تتوهمين ذلك، كما أنك كنت صغيرة جدا يومها على تذكره.
ربما أمي محقة فأنْ يحلق الشخص حاجبه أمر لا يصدق ولا يقوم به أحد.. نعم إن أبي هو الذي في الصورة بشاربه الكبير ووجنتيه الممتلئتين وشعره الأسود الجميل.
- لكن لم لا يعود من غيابه الطويل يا أمي وأراه مجددا بدل هذه الصورة؟ لم لا يعيش معنا كما يعيش كل الآباء مع أبنائهم؟ لم قرر العيش بعيدا عنا؟ ألا يحبنا يا أمي؟
فترد أمي بحزم بأنه مسافر للمدينة من أجل العمل، وبأنه سيعود يوما، أو ننتقل للعيش معه في المدينة. وتنهي كلامها دائما بقولها:
- لما تكبرين يا بنتي ستدركين لِمَ الصور تقوم مقام المسافرين.
أحاول أن أنتظره بصبر كأمي، وأن أكتفي بأبي هذا الواقف في الصورة دون حركة، وبعينيه اللتين ترمقانني كلما مررت أمامه أو نظرت إليه، فأشعر بأنه هنا قريب يرقبني ويرعاني. لكن ما إن أرى صديقتي في المدرسة غادة ترافق والدها ممسكة بيده، وهما يبتسمان ويتحدثان، أو أسمعها تتحدث عن الرحلات التي قامت بها مع أبيها، وكيف تخرج معه للتنزه في الحديقة كل نهاية أسبوع، أو الهدايا التي جاء بها لها بمناسبة حصولها على نتيجة ممتازة، حتى أعود للبيت حانقة حزينة وأطلب من أمي باستعطاف أن تتصل بوالدي وتخبره بأنني حصلت على مرتبة مشرفة وبأنني أريد أنا أيضا هدية نجاحي كالتي اشتراها والد غادة لابنته، فلا يهدأ لي بال حتى تطمئنني أمي بأنها فعلت وبأنه سيأتي ومعه هدايا كثيرة لي.
وحين تلوذ أمي للنوم بعد الزوال، أستغل تلك الفرصة، فأحمل معي الكرسي لصالة المعيشة خلسة وأصعد عليه وأنزع الصورة من مكانها، فأجلس وهي في أحضاني وأبدأ بملامسة والدي والحديث معه في كل شيء، فأحكي له كل أسراري التي لا يعلمها أحد غيري، وأشكي له جارنا العم (عامر) الذي أصبح يتربص بي في الطريق للمدرسة، فما إن يراني حتى يقترب مني ويحضنني بعد أن يقدم لي الحلوى التي أكرهها كما أكره أحضانه وتقبيله الغريب، وأحكي له أيضاً عن عمي مصطفى الذي لم يعد كما كان وأصبح لا يدخل لبيتنا ولا يناديني بابنتي إن التقيت به في الطريق كما كان يفعل من قبل.. فيكتفي أبي بالنظر إليّ دون حركة ولا حتى تنطق شفتاه بكلمة واحدة، لكنني أحس بأنه يواسيني ويعدني بأنه سيحميني يوم يأتي من جارنا العم عامر.
تمر الشهور والسنوات وأنا أراقب كل السيارات والحافلات التي تتوقف قرب بيتنا ولا ينزل منها أبي، ولا يفي بوعوده لي بالمجيء، وتصبح الصورة المعلقة في الصالة أكثر صمتاً وجفاءً، ويزيد الجص الأصفر اصفراراً وقتامةً. كما أن أمي صارت تتغيب عن البيت أيضا دون أن أعرف إلى أين، بل وفي العديد من الأيام تأتي خالتي وتنام معي لأسبوع أو أسبوعين قبل أن تعود أمي مجددا، غير أنها تعود كل مرة بملامح مختلفة، وتنام في غرفتها دون أن تسمح لي خالتي برؤيتها إلا بعد أيام طويلة.
اليوم لاحظت صدفة رأس أمي عارياً وهي تتوضأ ففوجئت أنها أيضاً حلقت شعرها، وما إن رأتني حتى أسرعت في ارتداء المنديل وإخفاء ذلك عني. عدتُ لغرفتي وأنا خائفة مما رأيت ومستغربة منه، فهل تفكر أمي في السفر؟ فلربما ستذهب هي أيضاً في صباح الغد، ولكن لِمَ تخفي ذلك عني؟ ألا تريد أن أرافقها للمدينة حيث سافر والدي من قبل؟ وهل ستعلق صورتها بملامحها الحقيقية في صالة المعيشة أيضاً؟