يعد محمد علي باشراحيل رمزا من رموز الإصلاح والفكر التنويري والسياسة والتشريع والصحافة في الجنوب العربي بصفة عامة وفي عدن بصفة خاصة، بل حفر الرجل اسمه في صفحات تاريخ بلاده بمداد من ذهب بسبب أنشطته المتنوعة وعمله في سبيل حرية واستقلال ووحدة الجنوب العربي منذ خمسينات القرن العشرين، غير آبه بالمعوقات الكثيرة التي اعترضت طريقه أو هددته في حياة ولقمة عيشه. وتميزت حياته بالانشغال بقضايا «العدننة» والعروبة وغيرها من القضايا ذات التأثير على حياة ناسه، كما تميزت بتصديه لقضايا الحداثة وتنوير المجتمع وتحريره والارتقاء به بطرق عقلانية وبوعي تاريخي مدني عبر استخدام الكتابة الصحفية ونشر المؤلفات والمشاركة في الفعاليات والمنتديات. لذا ليس كثيرا عليه لو وصفناه بأيقونة عدن، الميناء الذي انفرد بميزات خاصة بفضل موقعه الجغرافي واحتكاكه المبكر مع العالم الخارجي وما زرعته الإدارة البريطانية فيه من قيم الحداثة والتمدن ومؤسسات المجتمع المدني عبر حكمها طيلة 129 عاما.
كتب عنه الباحث الدكتور قاسم المحبشي بصحيفة «عدن الغد» (29/12/2017) فوصفه بـ«مثقف عاش تجربته الثقافية لحظة بلحظة ونبعت أسئلته من موقف شخصي ملتزم ووعي عميق بالذات وبالآخر. وضدا من أولئك المثقفين الذين فضلوا العيش في أبراجهم العاجية، نجد في نصوصه نزوعا متقدا ورغبة جامحة في اقتحام دروب الفعل والممارسة ومناوشة مشكلات الحياة الواقعية للعدالة والحرية والتعليم وحقوق الإنسان وحرية المرأة في وطنه وفي العالم، إذ كان مسكونا بهاجس البحث عن الأسئلة التي تستوجب الطرح والنقاش وعن المسكوت عنه بما يستجيب لمقتضيات الواقع العربي والعالمي. لذا جاءت تجربته الوطنية السياسية والإعلامية مفعمة بالحياة لأنها نابعة من قلب مثقف قلق، حنكته الصعاب وأنضجته التجارب، وصقلته الممارسة وهذبته الآداب والعلوم».
وقال عنه محمد سالم باسندوه، الذي عرفه منذ عام 1948 وربطته به صداقة عمر، في ذكرى وفاته الـ15 سنة 2008 إن كل شيء فيه كان يدل على الاستقامة وعزة النفس وكرم الخلق وطيب المعشر وخفة الدم، وأناقة اللباس والتصرف. وأضاف: «لم أره يوما هازلا أو مبتذلا، أو اسمع منه لفظا جارحا. كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه حتى في أحلك الظروف والمواقف، وكان له ذكاء حاد متوقد وعقل مرتب وقدرة على تحليل القضايا بدقة واستقراء النتائج قبل وقوعها».
ولد محمد علي عبدالله عمر باشراحيل في حي العيدروس بكريتر في عدن في الرابع من إبريل 1919 لأب حضرمي وأم يافعية هي السيدة لوله بنت حسن خالد. وبدأ تلقي جرعاته الأولى من التعليم من خلال الكتاتيب التقليدية في عدن، فأحسن القراءة والكتابة وتعلم مبادئ الحساب، ثم انتقل للدراسة في مدرسة خرجت جهابذة عدن وهي مدرسة البعثة التبشيرية الدانماركية بحي العيدروس والتي ارتبط اسمها بواحدة من أعظم مكتبات عدن ألا وهي مكتبة البعثة الدانماركية في كريتر.
بسبب الظروف المعيشية الصعبة لأسرته، اضطر أن يخرج إلى سوق العمل مبكرا. ففي الرابعة عشرة من عمره، وتحديدا في عام 1935، التحق للعمل بشركة البرق واللاسلكي كمتدرب على جهاز وشفرة مورس لإرسال المعلومات تلغرافيا. وبسبب موقع عمله بحي التواهي، انتقل والداه إلى هناك للإقامة إلى جواره. وفي عام 1941 قرر باشراحيل الزواج فاقترن بسعيدة محمد عمر الشيبة (جرجرة) التي شاركته بقية حياته وكانت خير سند وعون له.
وقتها طلب صاحبنا من رؤسائه في شركة البرق واللاسلكي البريطانية أن يمنحوه إجازة غير مدفوعة، إلا أن طلبه قوبل بالرفض، فما كان منه إلا تقديم استقالته. وكان البديل المتاح وقتذاك هو أن يعمل من داخل منزله في أعمال الترجمة وكتابة الرسائل التجارية بمقابل لمن يريد من رجال الأعمال والشركات. وقامت زوجته الشابة بتحمل جزء من أعباء الأسرة وتكاليف المعيشة من خلال بيع الأقمشة وخياطة الملابس للنساء والأطفال.
في خمسينات القرن العشرين، وباعتباره أحد الطلائع المتعلمة والمستنيرة اختير من قبل زملائه لرئاسة نادي الإصلاح العربي بعد أن كان نائبا لرئيس النادي، علما بأن هذا النادي تأسس سنة 1929 من قبل عدد من مثقفي عدن وشبابها بهدف محاربة الدجل والخرافات والجهل والعادات الدخيلة على المجتمع، ورفع مستوى الأخلاق الفاضلة، ونشر العلوم والمعارف، وتنشيط الحركة الثقافية، والسعي لتوظيف العاطلين في الدوائر الحكومية والخاصة، ورفع مطالب السكان الإصلاحية إلى حاكم عدن البريطاني، والسعي لإرسال الطلبة إلى الخارج، والضغط لإنشاء مدارس للفتيات والفنون والحرف والصناعات، وغيرها. وكان باشراحيل قد شارك قبل ذلك في تأسيس حلقة شوقي الأدبية في عدن سنة 1942، والتي كانت عبارة عن كيان ثقافي يهدف إلى رفع مستوى الثقافة والأدب والوعي الاجتماعي مشابه لكيانات عدنية مماثلة مثل مخيم أبي الطيب وكرمة أبي العلاء المعري.
أما سنة 1951 فقد شهدت مشاركته في تأسيس حزب الرابطة إلى جانب نفر من الصفوة العدنية المثقفة من أمثال محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وسالم الصافي وأحمد عبده حمزة ورشيد الحريري وآخرين. وقد شغل باشراحيل في هذا الكيان السياسي عضوية لجنته التنفيذية، ثم راح يرتقي سلالمه حتى وصل إلى منصب نائب الرئيس. والمعروف أن حزب الرابطة يمتد حبله السري إلى ما قبل تأسيسه العلني بسنوات كجبهة وطنية عريضة مرنة تضم قيادات وطنية من ذات اليمين واليسار والوسط، خلافا لما أشيع عنه لاحقا حينما خيمت التوجهات الماركسية على الجنوب العربي.
وفي الفترة من عام 1952 إلى 1958، وانطلاقا من عشقه للعمل العام الهادف إلى خدمة وطنه ومجتمعه وناسه، اقتحم العمل البلدي من خلال حصوله على عضوية المجلس البلدي لعدن، حيث كانت حكومة مستعمرة عدن قد شرعت منذ عام 1949 في إجراء انتخابات بلدية لاختيار ثلاثة من أعضاء المجلس عن طريق الانتخاب وأربعة عن طريق التعيين المباشر للقيام بمهام الإشراف والمراقبة على خدمات الصحة والطرق والبناء والترفيه والأسواق. ومما لا شك فيه أن مشاركته في أعمال المجلس البلدي، بل توليه رئاسته، أكسبته الخبرة معطوفة على جرعات إضافية من محبة الناس فأقدم على ترشيح نفسه في أول انتخابات تشريعية عدنية في عام 1955، ففاز وأصبح أحد أعضائه العرب التسعة من بين 12 عضوا، حيث كان البرلمان مكونا من 12 مقعدا (9 للعرب العدنيين ومقعدان للصوماليين العدنيين ومقعد واحد للهنود العدنيين).
أبلى باشراحيل بلاء حسنا في البرلمان العدني من خلال عضويته في اللجان العاملة مثل اللجنة المالية ولجنة الأراضي، وأنجز عددا من المكاسب الموثقة للصالح العام، أبرزها المطالبة بجعل العربية لغة رسمية للبلاد فرضخت الإدارة البريطانية وجعلتها لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية، وهو ما جعله محط الأنظار فدعي ليكون عضوا في مجلس أمناء مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية التي تعد من أقدم مدارس عدن والتي أنشأها سنة 1912 الشيخ محمد عمر بازرعة في كريتر، وخرجت أجيالا من الطلبة.
دخل باشراحيل أيضا مجال الإعلام، وكانت خطوة البداية من خلال مشاركته مع زوجته في برامج إذاعة عدن التي تأسست في 17 أغسطس عام 1954 تحت اسم محطة عدن للإذاعة كأول محطة من نوعها لتقديم خدمات إذاعية في مستعمرة عدن والمحميات البريطانية، وكثاني محطة إذاعية في الوطن العربي من بعد الإذاعة المصرية التي بدأت إرسالها سنة 1934م.
بعد ذلك فطن الرجل إلى أهمية الصحافة ودورها في تنوير العقول وتنشيط الحركة الثقافية والإبداعية ونقل كل ما هو حديث ومثير من أخبار وتطورات لشعبه، فطرق باب العمل الصحفي بتأسيس صحيفة أطلق عليها اسم الرقيب (صدر عددها الأول في 29 أكتوبر 1955)، وكان نصفها الأيمن باللغة العربية ونصفها الأيسر باللغة الإنجليزية. غير أنه شعر بعد ثلاث سنوات بأن عليه إصدار صحيفتين واحدة بالعربية وأخرى بالإنجليزية التي كان يجيدها ويهتم بها ويقرأ آخر إصداراتها، فأطلق صحيفة الأيام وشقيقتها صحيفة ريكوردر (recorder) اليوميتين المستقلتين في السابع من أغسطس 1958 من مبنى كان يضم مسكنه، ولهذا المسكن قصة وجدتها منشورة في صحيفة الأيام العدنية ومفادها أن باشراحيل حينما كان يترأس المجلس البلدي حصل على قطعة أرض ليبني فوقها مسكنه الخاص، لكن أوضاعه المالية حالت دون التنفيذ إلى حد أنه يئس وكاد أن يعيد قطعة الأرض لولا أن الله قيض له صديقه الشيخ عبدالله صالح المحضار الذي اقترح عليه أن يمنح الأرض للشيخ المقتدر محمد عوض باوزير ليبني عليها فيلتين، واحدة لنفسه والأخرى لباشراحيل.
وحول خط الصحيفتين، اللتين أطلقهما الرجل وتعرضتا للمتاعب والتضييق والإغلاق في فترات مختلفة سواء أثناء الحقبة الاستعمارية أو بعدها، قال الدكتور مسعود عمشوش مدير مركز الدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عدن في ورقة علمية قدمها خلال فعاليات ندوة عن باشراحيل ومسيرته الصحفية والوطنية نظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر سنة 2017، ما مفاده أن صاحبهما لم يتردد في أن يجعل منهما منبرا لجميع التيارات الوطنية على مستوى عدن والمحميات والوطن العربي بشكل عام.
والحقيقة أن صحيفة الأيام عاشت عصرها الذهبي تحت قيادة مؤسسها، مستفيدة من خبراته المتراكمة ورؤاه العقلانية من جهة ومن ظروف حقبة بروز مؤسسات المجتمع المدني في عدن ما قبل الاستقلال من جهة أخرى، الأمر الذي ساهم في احتلالها موقعا متميزا. ولعل ما حققته الصحيفة من نجاحات هو ما جعل باشراحيل يترك العمل الحزبي ويركز على العمل الصحفي وتوظيفه في تحقيق تطلعاته الثاقبة وترجمة أفكاره السديدة. واستمر كذلك حتى دخول عدن والمحميات في صراعات وحروب داخلية انتهت باستقلال الجنوب العربي عام 1967 وخضوعه لنظام حكم يساري شمولي منع التعددية الصحفية والملكية الخاصة وأصدر الأوامر بإغلاق الصحف المحلية وتأميمها. وقتها أدرك باشراحيل وغيره من النخب الوطنية الليبرالية من ساسة وإعلاميين ورجال أعمال أن الساحة لم تعد تسعهم وأن التعايش مع الأوضاع الجديدة لم يعد ممكنا فشدوا الرحال إلى المنافي الاختيارية. وعليه، تخلص باشراحيل من أصول مؤسسته الصحفية من مطابع وأحبار وأوراق وأثاث وأجهزة، وحمل عصا الترحال إلى شمال اليمن، حيث استقر به المقام هناك حتى قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.
وعلى الرغم من أنه استبشر خيرا بهذه الوحدة وقت إعلانها، إلا أنه كان حذرا، خصوصا وأنه لئن كان من دعاة الوحدة والاتحاد منذ الستينات حينما تأسس النظام الجمهوري في اليمن، فإنه كان في الوقت نفسه ضد أي وحدة اندماجية مع الشمال تمحي هوية وخصوصية الجنوب. وفي هذا السياق قالت الباحثة أفراح سالم الحميقاني في ورقة قدمتها في ندوة مركز عدن 2017 المشار إليها آنفا ما مفاده أن باشراحيل حذر مبكرا «بأن على الجنوب العربي التنبه للنوايا غير الحسنة التي قد تحدث من قبل جمهورية اليمن»، في إشارة إلى تصريحات أطلقها آنذاك السيد محسن العيني، حينما كان يشغل منصب الممثل الدائم للجمهورية العربية اليمنية في الأمم المتحدة، ووصف فيها شعب عدن والمحميات بشعب جنوب بلاده المحتل.
والحقيقة أن موقف باشراحيل هذا لم يكن موقفه وحده، وإنما أيضا موقف شخصيات أخرى من مجايليه مثل محمد علي لقمان صاحب صحيفة «فتاة الجزيرة» العدنية، ومحمد علي البار صاحب صحيفة «الرائد» الحضرمية وأحمد عوض باوزير صاحب «الطليعة» الحضرمية، وغيرهم ممن انشغلوا بموضوع هوية الجنوب العربي ووحدته وعلاقته باليمن بعد طرد المستعمر.
وقد أثبتت الأيام صحة مخاوف الرجل المبكرة، لكن الأقدار رحمته فلم يعش ما حدث لاحقا من حروب واقتتال في صيف 1994 بين اليمنين. إذ إنه أسلم الروح إلى باريها في صباح يوم 21 فبراير 1993 بمنفاه في صنعاء ووري جثمانه الثرى في عدن لتلحقه رفيقة عمره وشريكة نضاله وكده، التي توفيت بعدن في 11 ديسمبر 2006.
وربما ما أراح الفقيد في قبره، هو أن إرثه الخالد ممثلا في صحيفة «الأيام» عادت إلى الصدور، من بعد غياب قسري، في السابع من نوفمبر 1990 على يدي نجليه هشام باشراحيل (توفي في ألمانيا بعد صراع مع المرض سنة 2012)، وتمام باشراحيل، حيث بدأت أسبوعية ثم تدرجت حتى أصبحت يومية مزدانة بالألوان ومنتشرة على نطاق واسع.
كتب عنه الباحث الدكتور قاسم المحبشي بصحيفة «عدن الغد» (29/12/2017) فوصفه بـ«مثقف عاش تجربته الثقافية لحظة بلحظة ونبعت أسئلته من موقف شخصي ملتزم ووعي عميق بالذات وبالآخر. وضدا من أولئك المثقفين الذين فضلوا العيش في أبراجهم العاجية، نجد في نصوصه نزوعا متقدا ورغبة جامحة في اقتحام دروب الفعل والممارسة ومناوشة مشكلات الحياة الواقعية للعدالة والحرية والتعليم وحقوق الإنسان وحرية المرأة في وطنه وفي العالم، إذ كان مسكونا بهاجس البحث عن الأسئلة التي تستوجب الطرح والنقاش وعن المسكوت عنه بما يستجيب لمقتضيات الواقع العربي والعالمي. لذا جاءت تجربته الوطنية السياسية والإعلامية مفعمة بالحياة لأنها نابعة من قلب مثقف قلق، حنكته الصعاب وأنضجته التجارب، وصقلته الممارسة وهذبته الآداب والعلوم».
وقال عنه محمد سالم باسندوه، الذي عرفه منذ عام 1948 وربطته به صداقة عمر، في ذكرى وفاته الـ15 سنة 2008 إن كل شيء فيه كان يدل على الاستقامة وعزة النفس وكرم الخلق وطيب المعشر وخفة الدم، وأناقة اللباس والتصرف. وأضاف: «لم أره يوما هازلا أو مبتذلا، أو اسمع منه لفظا جارحا. كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه حتى في أحلك الظروف والمواقف، وكان له ذكاء حاد متوقد وعقل مرتب وقدرة على تحليل القضايا بدقة واستقراء النتائج قبل وقوعها».
ولد محمد علي عبدالله عمر باشراحيل في حي العيدروس بكريتر في عدن في الرابع من إبريل 1919 لأب حضرمي وأم يافعية هي السيدة لوله بنت حسن خالد. وبدأ تلقي جرعاته الأولى من التعليم من خلال الكتاتيب التقليدية في عدن، فأحسن القراءة والكتابة وتعلم مبادئ الحساب، ثم انتقل للدراسة في مدرسة خرجت جهابذة عدن وهي مدرسة البعثة التبشيرية الدانماركية بحي العيدروس والتي ارتبط اسمها بواحدة من أعظم مكتبات عدن ألا وهي مكتبة البعثة الدانماركية في كريتر.
بسبب الظروف المعيشية الصعبة لأسرته، اضطر أن يخرج إلى سوق العمل مبكرا. ففي الرابعة عشرة من عمره، وتحديدا في عام 1935، التحق للعمل بشركة البرق واللاسلكي كمتدرب على جهاز وشفرة مورس لإرسال المعلومات تلغرافيا. وبسبب موقع عمله بحي التواهي، انتقل والداه إلى هناك للإقامة إلى جواره. وفي عام 1941 قرر باشراحيل الزواج فاقترن بسعيدة محمد عمر الشيبة (جرجرة) التي شاركته بقية حياته وكانت خير سند وعون له.
وقتها طلب صاحبنا من رؤسائه في شركة البرق واللاسلكي البريطانية أن يمنحوه إجازة غير مدفوعة، إلا أن طلبه قوبل بالرفض، فما كان منه إلا تقديم استقالته. وكان البديل المتاح وقتذاك هو أن يعمل من داخل منزله في أعمال الترجمة وكتابة الرسائل التجارية بمقابل لمن يريد من رجال الأعمال والشركات. وقامت زوجته الشابة بتحمل جزء من أعباء الأسرة وتكاليف المعيشة من خلال بيع الأقمشة وخياطة الملابس للنساء والأطفال.
في خمسينات القرن العشرين، وباعتباره أحد الطلائع المتعلمة والمستنيرة اختير من قبل زملائه لرئاسة نادي الإصلاح العربي بعد أن كان نائبا لرئيس النادي، علما بأن هذا النادي تأسس سنة 1929 من قبل عدد من مثقفي عدن وشبابها بهدف محاربة الدجل والخرافات والجهل والعادات الدخيلة على المجتمع، ورفع مستوى الأخلاق الفاضلة، ونشر العلوم والمعارف، وتنشيط الحركة الثقافية، والسعي لتوظيف العاطلين في الدوائر الحكومية والخاصة، ورفع مطالب السكان الإصلاحية إلى حاكم عدن البريطاني، والسعي لإرسال الطلبة إلى الخارج، والضغط لإنشاء مدارس للفتيات والفنون والحرف والصناعات، وغيرها. وكان باشراحيل قد شارك قبل ذلك في تأسيس حلقة شوقي الأدبية في عدن سنة 1942، والتي كانت عبارة عن كيان ثقافي يهدف إلى رفع مستوى الثقافة والأدب والوعي الاجتماعي مشابه لكيانات عدنية مماثلة مثل مخيم أبي الطيب وكرمة أبي العلاء المعري.
أما سنة 1951 فقد شهدت مشاركته في تأسيس حزب الرابطة إلى جانب نفر من الصفوة العدنية المثقفة من أمثال محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وسالم الصافي وأحمد عبده حمزة ورشيد الحريري وآخرين. وقد شغل باشراحيل في هذا الكيان السياسي عضوية لجنته التنفيذية، ثم راح يرتقي سلالمه حتى وصل إلى منصب نائب الرئيس. والمعروف أن حزب الرابطة يمتد حبله السري إلى ما قبل تأسيسه العلني بسنوات كجبهة وطنية عريضة مرنة تضم قيادات وطنية من ذات اليمين واليسار والوسط، خلافا لما أشيع عنه لاحقا حينما خيمت التوجهات الماركسية على الجنوب العربي.
وفي الفترة من عام 1952 إلى 1958، وانطلاقا من عشقه للعمل العام الهادف إلى خدمة وطنه ومجتمعه وناسه، اقتحم العمل البلدي من خلال حصوله على عضوية المجلس البلدي لعدن، حيث كانت حكومة مستعمرة عدن قد شرعت منذ عام 1949 في إجراء انتخابات بلدية لاختيار ثلاثة من أعضاء المجلس عن طريق الانتخاب وأربعة عن طريق التعيين المباشر للقيام بمهام الإشراف والمراقبة على خدمات الصحة والطرق والبناء والترفيه والأسواق. ومما لا شك فيه أن مشاركته في أعمال المجلس البلدي، بل توليه رئاسته، أكسبته الخبرة معطوفة على جرعات إضافية من محبة الناس فأقدم على ترشيح نفسه في أول انتخابات تشريعية عدنية في عام 1955، ففاز وأصبح أحد أعضائه العرب التسعة من بين 12 عضوا، حيث كان البرلمان مكونا من 12 مقعدا (9 للعرب العدنيين ومقعدان للصوماليين العدنيين ومقعد واحد للهنود العدنيين).
أبلى باشراحيل بلاء حسنا في البرلمان العدني من خلال عضويته في اللجان العاملة مثل اللجنة المالية ولجنة الأراضي، وأنجز عددا من المكاسب الموثقة للصالح العام، أبرزها المطالبة بجعل العربية لغة رسمية للبلاد فرضخت الإدارة البريطانية وجعلتها لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية، وهو ما جعله محط الأنظار فدعي ليكون عضوا في مجلس أمناء مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية التي تعد من أقدم مدارس عدن والتي أنشأها سنة 1912 الشيخ محمد عمر بازرعة في كريتر، وخرجت أجيالا من الطلبة.
دخل باشراحيل أيضا مجال الإعلام، وكانت خطوة البداية من خلال مشاركته مع زوجته في برامج إذاعة عدن التي تأسست في 17 أغسطس عام 1954 تحت اسم محطة عدن للإذاعة كأول محطة من نوعها لتقديم خدمات إذاعية في مستعمرة عدن والمحميات البريطانية، وكثاني محطة إذاعية في الوطن العربي من بعد الإذاعة المصرية التي بدأت إرسالها سنة 1934م.
بعد ذلك فطن الرجل إلى أهمية الصحافة ودورها في تنوير العقول وتنشيط الحركة الثقافية والإبداعية ونقل كل ما هو حديث ومثير من أخبار وتطورات لشعبه، فطرق باب العمل الصحفي بتأسيس صحيفة أطلق عليها اسم الرقيب (صدر عددها الأول في 29 أكتوبر 1955)، وكان نصفها الأيمن باللغة العربية ونصفها الأيسر باللغة الإنجليزية. غير أنه شعر بعد ثلاث سنوات بأن عليه إصدار صحيفتين واحدة بالعربية وأخرى بالإنجليزية التي كان يجيدها ويهتم بها ويقرأ آخر إصداراتها، فأطلق صحيفة الأيام وشقيقتها صحيفة ريكوردر (recorder) اليوميتين المستقلتين في السابع من أغسطس 1958 من مبنى كان يضم مسكنه، ولهذا المسكن قصة وجدتها منشورة في صحيفة الأيام العدنية ومفادها أن باشراحيل حينما كان يترأس المجلس البلدي حصل على قطعة أرض ليبني فوقها مسكنه الخاص، لكن أوضاعه المالية حالت دون التنفيذ إلى حد أنه يئس وكاد أن يعيد قطعة الأرض لولا أن الله قيض له صديقه الشيخ عبدالله صالح المحضار الذي اقترح عليه أن يمنح الأرض للشيخ المقتدر محمد عوض باوزير ليبني عليها فيلتين، واحدة لنفسه والأخرى لباشراحيل.
وحول خط الصحيفتين، اللتين أطلقهما الرجل وتعرضتا للمتاعب والتضييق والإغلاق في فترات مختلفة سواء أثناء الحقبة الاستعمارية أو بعدها، قال الدكتور مسعود عمشوش مدير مركز الدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عدن في ورقة علمية قدمها خلال فعاليات ندوة عن باشراحيل ومسيرته الصحفية والوطنية نظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر سنة 2017، ما مفاده أن صاحبهما لم يتردد في أن يجعل منهما منبرا لجميع التيارات الوطنية على مستوى عدن والمحميات والوطن العربي بشكل عام.
والحقيقة أن صحيفة الأيام عاشت عصرها الذهبي تحت قيادة مؤسسها، مستفيدة من خبراته المتراكمة ورؤاه العقلانية من جهة ومن ظروف حقبة بروز مؤسسات المجتمع المدني في عدن ما قبل الاستقلال من جهة أخرى، الأمر الذي ساهم في احتلالها موقعا متميزا. ولعل ما حققته الصحيفة من نجاحات هو ما جعل باشراحيل يترك العمل الحزبي ويركز على العمل الصحفي وتوظيفه في تحقيق تطلعاته الثاقبة وترجمة أفكاره السديدة. واستمر كذلك حتى دخول عدن والمحميات في صراعات وحروب داخلية انتهت باستقلال الجنوب العربي عام 1967 وخضوعه لنظام حكم يساري شمولي منع التعددية الصحفية والملكية الخاصة وأصدر الأوامر بإغلاق الصحف المحلية وتأميمها. وقتها أدرك باشراحيل وغيره من النخب الوطنية الليبرالية من ساسة وإعلاميين ورجال أعمال أن الساحة لم تعد تسعهم وأن التعايش مع الأوضاع الجديدة لم يعد ممكنا فشدوا الرحال إلى المنافي الاختيارية. وعليه، تخلص باشراحيل من أصول مؤسسته الصحفية من مطابع وأحبار وأوراق وأثاث وأجهزة، وحمل عصا الترحال إلى شمال اليمن، حيث استقر به المقام هناك حتى قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.
وعلى الرغم من أنه استبشر خيرا بهذه الوحدة وقت إعلانها، إلا أنه كان حذرا، خصوصا وأنه لئن كان من دعاة الوحدة والاتحاد منذ الستينات حينما تأسس النظام الجمهوري في اليمن، فإنه كان في الوقت نفسه ضد أي وحدة اندماجية مع الشمال تمحي هوية وخصوصية الجنوب. وفي هذا السياق قالت الباحثة أفراح سالم الحميقاني في ورقة قدمتها في ندوة مركز عدن 2017 المشار إليها آنفا ما مفاده أن باشراحيل حذر مبكرا «بأن على الجنوب العربي التنبه للنوايا غير الحسنة التي قد تحدث من قبل جمهورية اليمن»، في إشارة إلى تصريحات أطلقها آنذاك السيد محسن العيني، حينما كان يشغل منصب الممثل الدائم للجمهورية العربية اليمنية في الأمم المتحدة، ووصف فيها شعب عدن والمحميات بشعب جنوب بلاده المحتل.
والحقيقة أن موقف باشراحيل هذا لم يكن موقفه وحده، وإنما أيضا موقف شخصيات أخرى من مجايليه مثل محمد علي لقمان صاحب صحيفة «فتاة الجزيرة» العدنية، ومحمد علي البار صاحب صحيفة «الرائد» الحضرمية وأحمد عوض باوزير صاحب «الطليعة» الحضرمية، وغيرهم ممن انشغلوا بموضوع هوية الجنوب العربي ووحدته وعلاقته باليمن بعد طرد المستعمر.
وقد أثبتت الأيام صحة مخاوف الرجل المبكرة، لكن الأقدار رحمته فلم يعش ما حدث لاحقا من حروب واقتتال في صيف 1994 بين اليمنين. إذ إنه أسلم الروح إلى باريها في صباح يوم 21 فبراير 1993 بمنفاه في صنعاء ووري جثمانه الثرى في عدن لتلحقه رفيقة عمره وشريكة نضاله وكده، التي توفيت بعدن في 11 ديسمبر 2006.
وربما ما أراح الفقيد في قبره، هو أن إرثه الخالد ممثلا في صحيفة «الأيام» عادت إلى الصدور، من بعد غياب قسري، في السابع من نوفمبر 1990 على يدي نجليه هشام باشراحيل (توفي في ألمانيا بعد صراع مع المرض سنة 2012)، وتمام باشراحيل، حيث بدأت أسبوعية ثم تدرجت حتى أصبحت يومية مزدانة بالألوان ومنتشرة على نطاق واسع.