عبدالرحمن الحارثي
عبدالرحمن الحارثي
-A +A
«عكاظ» (جدة)
في مجتمع فتي، أكثر من 60% من مواطنيه تحت سن الثلاثين، يملك السعوديون الرغبة الجامحة للمشاركة في برنامج التحول الاقتصادي، ولم يعد مقبولا أن تظل نظرة العالم للسعودية على أنها مجرد صنبور نفط فحسب، خصوصا أن الاحتياطات السعودية تتجاوز 560 مليار دولار، ما يكفي لتمويل الواردات لنحو أربعة أعوام، في وقت لا يزال فيه الدين العام يراوح في نسبة 10%، إضافة إلى عجز متوقع في نهاية العام قد يصل إلى 35 مليار دولار، وهو يمثل نحو 6% فقط من هذه الاحتياطات.

وفي حواره مع «عكاظ» أكد المصرفي ورجل الأعمال عبدالرحمن الحارثي أن السعودية التي تملك ربع احتياطي النفط العالمي، تصر على خوض مشروعها الذي أطلقته باتجاه التحول الاقتصادي الأضخم في الكرة الأرضية. فإلى نص الحوار:


• كيف يرى الاقتصاد الدولي تأثير النفط في تشكيل هوية السعوديين، اقتصاديا وإنسانيا؟

•• في الحقيقة لا نريد أن تظل نظرة العالم للسعودية على أنها صنبور نفط فحسب، فنحن نؤمن أن الأوان قد آن لاسترداد مكاننا الطبيعي مجتمعا منتجا يقوم على اقتصاد المعرفة، وندعم الشباب ليكونوا رواد أعمال مبدعين ومخترعين ومبتكرين. فالأمل يحدو الجميع أن ننتج فيسبوك وصواريخ توماهوك وسيارات مرسيدس، إذ إن الجميع لديه رغبة حقيقية لتصدر مقاعد الأمم المتقدمة، وهذا ما تقودنا إليه رؤية 2030، التي تعتمد على اقتصاد المعرفة والإنتاج والابتكار، فهو خيار مستقبلي حتمي.

• وكيف يمكن تطبيق ذلك في ظل شح الموارد البشرية والاعتماد على النفط مصدرا أساسيا للدخل؟

•• الطريق طويلة، وعلينا أن نقتدي بالأجداد والآباء، فالموارد حينذاك كانت شبه معدومة، ولم يكن في هذه البقعة الشاسعة ما يمكن أن يطلق عليه بنية تحتية، وبعد اكتشاف النفط قطعت السعودية شوطا مميزا في بناء أجهزة الدولة والإنسان والبنية التحتية، لكننا اليوم بحاجة إلى تحول جديد لبناء وطن منتج ومبدع، فالقضية ليست تنافسا في استهلاك السلع أو المعرفة، بقدر ما هي تنافس في إنتاج السلع، ودعم هذا الجيل المبدع من الشباب للانطلاق نحو العالم. واليوم آن الأوان لإعادة هيكلة الاقتصاد دون الاعتماد على النفط.

• وهل تعتقد أن إعادة هيكلة الاقتصاد هو الإشكال الوحيد في السعودية؟

•• السعودية ليست قطعة مفصولة عن العالم، لدينا كحال غيرنا مشكلاتنا، من بطالة، وتعليم لا يلبي طموحات سوق العمل، ونساء يطالبن بالتصدي لدورهن المنتظر في المجتمع، كلها نسخ مكرورة من مجتمعات الأسواق الناشئة، إلا أن واقع الحال يؤكد أن هذه التحديات لم ترتق لتشكل ظاهرة، إذ وضعت الدولة هذه القضايا في عين الاعتبار، وتضع خططا قصيرة وطويلة المدى لإيجاد حلول عاجلة لها، وتدعو الجميع بلا استثناء أن يكونوا شركاء في التغيير والتطوير والتحول إلى وطن أرحب بأبنائه وبناته، فالإصلاحات الاقتصادية آتية، والاستثمارات تدخل إلى الأسواق تباعا، ما يوفر قدرا جيدا من الفعالية، سيتبعها تطورا نوعيا في الخدمات، ما يحقق المعادلة المثلى.

• وما المعادلة المثلى؟

•• أقصد أن الإصلاح الاقتصادي دون خدمات جيدة ومرضية لن يحوز على رضا المواطن، الذي اعتاد على الخدمات المجانية، غير أنه مطالب عبر مشاركته في التغيير، بتحمل تكلفة الخدمة أو المنتج المتوقع أن تكون أفضل في مقابل ما يدفع. ما يجعل التغلب على هذا التحدي قاسيا في البداية، غير أن وجود قيادة قوية ومؤمنة بالهدف، ومواطن يعرف أنه شريك في إنجاز المشروع، وأجهزة تنفيذية تعمل بأضعاف طاقتها حتى تنجز التحول، جميعها موجودة، وتشكل أضلاع هذا المثلث، وما بقي هو فقط عملية وقت، البداية صعبة نعم، وقد تتطلب بعض التضحيات، إلا أن النتائج ستتوالى تباعا في الظهور، وسيتعاظم زخم المشاركة وقوة الدفع مع مرور الوقت.

• وماذا عن تأخر المستحقات المالية للمقاولين؟

•• تأخير دفع مستحقات المقاولين ناتج عن ضغوط على السيولة قصيرة الأجل، وهذا الملف حساس، وقد شرعت وزارة المالية بالفعل في معالجته، خصوصا أن الدولة صرحت بتخصيص نحو 100 مليار ريال لتلبية مستحقات المقاولين قبل نهاية العام الحالي، وبالفعل بدأت عمليات الصرف، خصوصا أن الاقتصاد السعودي متين، وقادر على تحمل تبعات الضغوط الحالية ومواجهتها، وهذا ليس مجرد كلام إنشائي، وربما الإقبال الإيجابي البالغ الذي أبدته الأسواق الدولية لشراء الإصدار الأخير من السندات السعودية، دليل جديد على النظرة الإيجابية من جانب الأسواق العالمية إلى الاقتصاد السعودي. فالفرق كبير بين أن تصاب بحمى عارضة وبين أن تصاب بسكتة دماغية!

• وكيف تنظرون إلى نجاح الإصدار الأخير للسندات السعودية في الأسواق الدولية رغم ظروف السوق والمنطقة؟

•• أكد الإصدار الأخير للسندات السعودية بشكل لا شك فيه أن الأسواق الدولية شغوفة بإصدارات السعودية من السندات، فقد تمت تغطيته تقريبا لأربعة أضعاف، وبالمناسبة هذا أكبر إصدار سيادي في العالم لسوق ناشئة، ما يعكس ثقة الأسواق في قدرة السعودية على الوفاء بالتزاماتها في الأجل القريب والمتوسط والطويل، كما انعكس هذا مباشرة على تراجع تكلفة التأمين على الديون السعودية لأدنى مستوى هذا العام، فالإصدار له أهمية بالغة تضاف إلى السيولة التي وفرها، خصوصا أنه وفر مرجعا استرشاديا ضروريا لتكلفة الإقراض للديون السعودية، ما يمهد للشركات السعودية الكبيرة أن تبدأ الاقتراض بإصدار سندات أو صكوك في الأسواق الدولية، مستندة إلى مثل هذا الاسترشاد السعري. وأرى أنه من الأفضل أن تستمر وتيرة الإصدارات لعام على الأقل، كونها تخفف الضغوط على الوعاء النقدي المحلي وتكسبه زحما جديدا في الوقت ذاته.

• وماذا عن امتناع البنوك عن الإقراض بذريعة شح السيولة، وهل هناك خطورة على القطاع المصرفي؟

•• ربما هناك تحفظ نسبي وليس امتناع، فبيانات البنوك المعلنه تؤكد استمرار عمليات الإقراض، لكنها دون شك انخفضت بشكل واضح في قيمها المطلقة، نتيجة انخفاض مستوى النمو في الودائع، ما أثر بطريقة أو بأخرى على تسارع النمو الاقتصادي. وأرى أن البنوك السعودية لا تتعرض لأي مخاطر فعلية في الوضع الحالي، فمستويات الملاءة لا تزال ضمن المعايير العالميه لبازل 3، ناهيك أن معظم البنوك تبنت سياسات حذرة نسبيا، ورفعت كفاءة الإقراض بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وبالتالي فإن انكشاف محافظها الإقراضية لا يدعو للقلق الزائد عن المعتاد، وهنا علينا أن نشير إلى أن الديون التي تأخر سدادها هي في مجملها مستخلصات مستحقة الدفع لدى الحكومة، وبالتالي فإن تأخيرها هو حالة موقتة، سيتم تحصيلها في الأغلب في المستقبل القريب.

هذا لا ينفي أن السوق باتت في حاجة إلى تنافسية أكبر في القطاع المصرفي، وربما حان الوقت لمضاعفة عدد البنوك العاملة، وفتح الباب لمؤسسات مالية وإقليمية وعالمية، لتتواجد بشكل مستقل أو بشراكات محلية، خصوصا أن هناك شعورا يتجدد أن البنوك لها اليد العليا في معادلة العرض والطلب، نظرا لأن السوق شبه مغلقة على عدد محدود من اللاعبين -مجازا- وهذا ليس صحيا على المديين المتوسط والطويل، سواء على مستوى الخدمة أو التصدي للدور المناطف بالمصارف في تنشيط عجلة الاقتصاد.

• وهل يؤثر ذلك سلبا على استثمارات الشركات العالمية في السعودية؟

•• تعي الشركات المتعددة الجنسيات جيدا ما يجب القيام به، فعندما تبحث عن أسواق جديدة أو توسعات ضخمة، هي بالتأكيد قبل أي شيء لا تنظر إلى مدى زمني قصير، أو تقلبات سعرية حدثت بين عام وآخر في الموارد، إذ إنها تنفذ إلى الأسواق الجديدة بغرض البقاء لعقود طويلة، ما يدفعها للبحث عن أسواق توفر عوائد مجزية وفرص نمو وبيئة قانونية تحمي حقوق مساهميها، وتشريعات ضريبية مغرية وبنية تحتية ولوجستية تيسر عمليات الإنتاج والتوزيع والبيع، خصوصا أن السعودية قطعت شوطا كبيرا في تطوير البنية التحتية والقانونية والضريببة، -لم يصل إلى حد الكمال بلا شك- لكنه لا يعيق عمليات الاستثمار المباشر بالمرة.

• وهل يتأثر النمو الاقتصادي بعد وقف المشاريع الحكومية الكبيرة؟

•• المشاريع التي تم إيقافها أو مراجعتها، لا شك ستؤثر في مداها القصير على النمو الاقتصادي، لكنها لن تخل بالصورة العامة وخريطة الطريق. في آخر 10 أعوام استثمرنا بسخاء عوائد النفط في تمويل الكثير من المشاريع الضخمة، وارتفعت وتيرة النمو الاقتصادي بشكل لافت، بل وعانينا نسبيا من التضخم، في وقت كانت تعمل ماكينة الحراك الاقتصادي بطاقتها القصوى، ومن الطبيعي الآن أن تهدأ سرعة المحرك، ليلتقط أنفاسه، فالإجراءات التقشفية بكافة أنواعها وصورها هي ممارسة تندرج تحت السياسات المالية والاقتصادية الإجرائية للدولة، للتجاوب مع الواقع ومتطلباته بشكل فعال، ولمراجعة خطط التنمية، ورفع مستوى فعاليتها بشكل مباشر. ومن الواضح أن هناك أولوية لضبط الهدر والمصروفات وتنشيط الاقتصاد على حساب مزيد من التقشف.

• وكيف ينظر العالم إلى رؤية 2030؟

•• رؤية 2030، هي صورة احترافية ومعنية لأحلام الأجيال، ونيات القيادة الرشيدة، وخريطة طريق لمشروع ضخم متشعب، لكنه ليس مستحيل التطبيق، وهي رحلة طويلة، وبالتالي فهي قابلة للتطوير حالها كأي خطة عمل، لكنها تتطلب مشاركة الجميع، والتفاعل والإيمان بسمو الهدف، للوصول إلى إنجاز الأهداف دون تراجع. وعلى المجتمع أن يتفهم عميقا أهداف الخطة ونفعها، ما يؤدي إلى إنجاز التحول المأمول.