الحجر والإغلاق والعزل و«الكمامات»... شريط سينمائي تكرر بحذافيره!
أصل «الإسبانية» غير معروف مثل «كوفيد».. وفي الحالين خرافات ولا عقاقير ولا لقاح
ما أشبه الليلة بالبارحة! يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. وهي جدلية قديمة، يختصم من جرّائها الناس، بين مؤيد ومعارض. فعند اندلاع وباء كوفيد-19، الذي يسببه فايروس كورونا الجديد، نهاية العام 2019، استعاد كثيرون، كشريط سينمائي، مشاهد الموت، والمرض، والهلع، والدمار الاقتصادي الذي خلفته جائحة «الإنفلونزا الإسبانية»، التي اجتاحت العالم في 1918-1919. فقد أصيب بعدواها خلال 18 شهراً ثلث سكان الكرة الأرضية. وانتشر ذلك الوباء كالنار في الهشيم، ليعم العالم من أوروبا والولايات المتحدة، إلى الهند، وأستراليا، والجزر الصغيرة النائية في المحيط الهندي. ولم تنجُ منه الجزيرة العربية وبلدان العالم العربي. وذُكر أن عدد الوفيات التي نجمت عن الإنفلونزا الإسبانية يراوح بين 20 و50 مليوناً؛ فيما تصل به بعض التقديرات الى 100 مليون! وإذا صحت هذه التقديرات الأخيرة، فذلك يعني- بحسب مجلة «ناشونال جيوغرافيك»- أن الإنفلونزا الإسابنية أبادت عدداً من الناس أكبر مما خلّفته الحربان العالميتان الأولى والثانية.
ومَن يغوص في سجلات وباء 1918 سيكتشف أن ما يراه ماثلاً أمام عينيه من مشاهد في 2020 ليس سوى المأساة نفسها. تفاصيل متطابقة. المشاهد نفسها. الهلع، والموت، وانهيار الاقتصاد، الشوارع المقفرة. والحواضر التي أضحت مدن أشباح. ويمتد التطابق إلى البصمة الجغرافية، والديموغرافية للمرضيْن. فقد وقع عدد مفزع من الوفيات، والإصابات، في جميع أرجاء الكوكب الأرضي. بل إن الجدال الدائر حالياً في شأن منشأ فايروس كورونا الجديد، وما تلته من اتهامات للصين بالتسبب في الجائحة، هو صورة طبق الأصل لما دار في 1918!
«الخالق الناطق»، كما يقال في الشبه المتطابق. حتى الخرافات نفسها التي ترددت في أتون وباء الإنفلونزا الاسبانية في 1918، تكررت بأشكال أخرى في 2020. ففي الجائحة السابقة انتشر وسط العوام أن مسح الصدر بالبصل قبل النوم يضمن حماية كاملة من فايروس الإنفلونزا الإسبانية. أما في الحالية، فقد أتاحت سهولة الوصول الى مواقع التواصل الاجتماعي إطلاق عدد أكبر من النصائح غير العلمية، التي لم يقم عليها دليل.
وفي الحالتين الوبائتين لم يظهر لقاح، ولا دواء ناجع. وواصل الفايروس حصد ملايين الأرواح في 1918. وتلك هي حال كوفيد-19 اليوم. مشهد أقنعة الوجوه، والكمامات طاغٍ في الحالتين. ومثلما تردد عن عقوبات بدنية قاسية بحق مخالفين لتعليمات منع التجوال في بعض الدول في الآونة الأخيرة، فإن مسؤول التذاكر المرافق لبصات نيويورك كان يمنع الأشخاص من الركوب إذا لم يكن الواحد منهم واضعاً القناع على وجهه!
بيد أن أكبر ما يميز كلاً من الجائحتين أن كوفيد-19 وجد العالم مستعداً أكثر لمجابهته مبكراً. فقد تمكن العلماء من رسم الخريطة الجينية لفايروس كورونا الجديد بسرعة بعد ظهوره، باستخدام تكنولوجيا لم تكن موجودة في 1918. ونجحت البلدان التي سارعت الى اعتماد سياسة تكثيف الفحص لسكانها في تقليل أضرار كوفيد-19 بقدر يفوق ما لو كان هذا الفايروس قد هجم على الإنسانية قبل ستة أو سبعة عقود.
ومثلما بطش كوفيد-19 بالناس، فإن الإنفلونزا الإسبانية لم تستثنِ أحداً. فقد أصيب بها الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون، وملك إسبانايا الفونسو الثالث عشر، وملكة الدنمارك الإكسندرينا، والعاهل الإثيوبي الإمبراطور هيلاسيلاسي، وإمبراطور ألمانيا فيلهيلم الثاني، ورئيس وزراء بريطانيا آنذاك ديفيد لويد جورج. وكان فايروس الإنفلونزا الإسبانية فتاكاً جداً، إلى درجة أن أقصى فترة يتسبب فيها بالوفاة هي يومان بعد الإصابة. وفي أمريكا، قيل إن الناس كانوا يذهبون صباحاً بالباصات الى أشغالهم، ولا يعودون مطلقاً.
وتتشابه الجائحتان في أنه تسبب في كلتيهما فايروس تنفسي، قفز من الحيوانات الى الإنسان. ولم يكن أمام الطب في الحالتين سوى النصح بالغسل المتكرر لليدين، وارتداء قناع الوجه، والحرص على التباعد الجسدي. ويمتد التطابق ليشمل النصائح التي تقدمها وزارات الصحة في العالم حالياً: إذا دهمتك الأعراض فابقَ في بيتك. ألزم سريرك. أشرب سوائل ساخنة. وابقَ على هدوئك الى أن تمر الأعراض! وظهرت آنذاك أيضاً نصيحة بإبقاء النوافذ مفتوحة، لتحصل على أكبر قدر من الهواء النقي.
غير أن ما لا يجمعها أن الإنفلونزا الإسبانية استهدفت بوجه الخصوص الأشخاص من سن 20 الى 40 عاماً. وأدى ذلك إلى وفاة عدد كبير من هذه الشريحة التي تأتي منها عادة جموع المجندين في القوات المسلحة للدول الكبرى. ويقول الأطباء إن المعركة بين الإنسان وفايروس الإنفلونزا الإسبانية كانت على الرئتين. وكانت تنتهي بنجاح الفايروس في تدمير الرئتين في نهاية المطاف. وأدى ذلك الوباء الى وفاة 675 ألفاً في الولايات المتحدة وحدها.
وفي سبتمبر 1918، قرر مدير الصحة بولاية فلادلفيا تجاهل توصيات مستشاريه، وسمح بمسيرة ضخمة للترويج لسندات الحرب، عرفت لاحقاً بـ «المسيرة القاتلة».أصيب معظم المشاركين فيها. وحدثت مشاهد موت مروع. وفي نهاية 1918، ومطلع 1919، شهدت الولايات المتحدة موجة ثانية من الإنفلونزا الإسبانية. ونُكبت سان فرانسيسكو بمئات الوفيات.
الإنفلونزا الإسبانية في الجزيرة العربية
ولم تكن الجزيرة العربية- قبل توحيدها على يد الملك عبدالعزيز آل سعود- بمنجىً من الأوبئة، نظراً إلى موقعها الإستراتيجي، إذ ترد إليها وتخرج منها القوافل، ويفد إليها الحجاج من كل حدب وصوب. وفي 1918 عانت الجزيرة العربية من وباء الإنفلونزا الإسبانية، التي عرفت بـ «سَنة الحمى»، في إشارة إلى ارتفاع درجة حرارة جسم المصاب. وطبقاً لرواية الخبير الأكاديمي الألماني المهتم بالشؤون العربية غايدو والتر ستاينبيرغ، فإن الإنفلونزا الإسابنية أبادت قرى بأكملها في الجزيرة العربية. وكان الناس يعودون إلى بيوتهم ليجدوا أفرادها متوفين. ويصف كيف كان الناس يعكفون طوال النهار على حفر قبور للموتى، ولا يتوقفون عن ذلك إلا لأداء الصلوات. وذكرت مؤلفات أخرى أن السلطات آنذاك اتبعت سياسة الحجر المنزلي، وإقامة مراكز عزل خارج المدن، وخارج أسوار الرياض. ويشير بول ال. ارميردينغ، في كتابه «أطباء للمملكة: ما قامت به مستشفيات البعثة الأمريكية في المملكة العربية السعودية»، إلى أن الملك عبدالعزيز قام بدور بارز في المعركة ضد الجائحة، باستدعائه أطباء أمريكيين إلى البلاد. ويضيف المؤلف، نقلاً عن رئيس البعثة الطبية الأمريكية الدكتور بول هاريسون، أنه حين تم استدعاؤه لمقابلة الملك عبدالعزيز، أوضح له الملك الراحل أنه لم يطلب طبيباً ليعتني بصحته، أو صحة أفراد عائلته، وإنما يعتني بحاجة شعبه. وأبلغه الملك عبدالعزيز بأنه هيّأ منزلاً مجاوراً ليصبح مستشفى، وهو يريد أن يتم علاج أبناء شعبه في هذا المستشفى مجاناً. ولم يستثنِ وباء الإنفلونزا الإسبانية شبراً من السعودية.
وعلى رغم وجود أوجه الشبه التي أشرنا إليها بين الوبائين؛ إلاّ أن كلاً منهما جاء في ظل أوضاع دولية مختلفة. فقد كان العالم خارجاً لتوه من الحرب العالمية الأولى في 1919، فيما ليست هناك حرب عالمية بذلك المعنى في عصر كوفيد-19؛ وإن بقيت التوترات على حالها بين القوى نفسها، التي عادت للاحتراب، بعد أقل من ربع قرن، في ما عرف بالحرب العالمية الثانية. كانت الولايات المتحدة في حرب معلنة مع ألمانيا. وها هي اليوم في اتهامات متبادلة مع الصين.
ظهر فايروس الإنفلونزا الإسبانية في قاعدة فورت رايلي، بكنساس، حيث يتم تدريب 50 ألف مجند للجيش الأمريكي. تقدم مجند إلى قسم الرعاية الصحية بالقاعدة مشتكياً من ارتفاع درجة حرارته. وقبل أن تنتهي ساعات اليوم تقدم مئات المجندين بالشكوى نفسها! وبعد نحو شهرين زجت الولايات المتحدة بمزيد من جنودها في الحرب، فنقل الجنود الأمريكيون الفايروس معهم إلى القارة الأوروبية. يبدأ الفايروس بالحمى، ثم يتلاشى الهواء في رئتي المصاب. وما يلبث أن يتقيأ دماً، وينزف دماً من أنفه، حتى الموت.
هل جاء فايروس كورونا من الصين؟ هل جاءت الإنفلونزا الإسبانية من إسبانيا؟ في الحالتين لا يملك أحد إجابة قاطعة عن أيٍّ من السؤالين.
يقول علماء الأوبئة إن فايروس الإنفلونزا الإسبانية جاء نتيجة تحور وراثي، ربما حدث له في الصين. ومن المؤكد أن تفشيه تسارع بسبب التحركات المكثفة للقوات العسكرية، في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى. وعلى النقيض من فايروس كورونا الجديد، تم تسجيل عدد كبير من الوفيات في عام 1918 باعتبارها ناجمة عن «التهاب رئوي». لم يكن هناك فهم علمي متكامل لمسألة الفايروس. وأدت سياسات الرقابة على الصحف ومحطات الإذاعة الأوروبية والأمريكية، بسبب أوضاع الحرب، إلى التعتيم على عدد الوفيات والإصابات. وكانت الصحف الإسبانية وحدها القادرة على تغطية تفشي وباء الإنفلونزا آنذاك، لأن إسبانيا كانت محايدة خلال الحرب العالمية الأولى. ولم تكن تخضع للقيود الرقابية في الدول المتحاربة. ومن هنا جاءت تسمية ذلك الفايروس، على رغم أنه ضرب إسبانيا مثلما أوجع البلدان الأخرى، حتى أن العاهل الإسباني آنذاك الفونسو الثالث عشر أصيب ثم تعافى.
وخلال 13 أسبوعاً من سبتمبر الى ديسمبر 2018، أدى تفشي الإنفلونزا الإسبانية الى وفاة مئات آلاف الأمريكيين. وفي أكتوبر 1918 وحده توفي 195 ألف أمريكي. وانهار تماماً النظام الصحي الأمريكي. وأضحى مستحيلاً إقامة جنازة لمتوفى بمفرده. وبات الحانوتيون وحفارو القبور يكادون يموتون من الإرهاق والتعب. ولم تنج الدول التي سارعت لاتخاذ تدابير وقائية مشددة، كالحجر والعزل والإغلاق، وأبرزها أستراليا التي قضى آلاف من سكانها بالفايروس اللعين، الذي لم يقم بإحالة نفسه للتقاعد إلا قبيل نهاية 1919 بقليل.
وتعزى نهاية الفايروس السابق إلى تحور وراثي حدث له من تلقاء نفسه، جعله لا يشكل خطراً على البشر. ولكن بعدما أحدث ما حدث من وفيات، وإصابات، وتبعات صحية استمرت عقوداً. وتسببت الإنفلونزا الإسبانية في وفاة 228 ألف بريطاني، و400 ألف ياباني، و675 ألف أمريكي، وفقدت جزيرة ساموا الغربية الواقعة جنوب المحيط الهادي خُمس عدد سكانها. وفقدت الهند ما يراوح بين 12 و17 مليون شخص.
وأكثر ما يخشاه العلماء حالياً أن يحدث تحور وراثي في فايروس كورونا الجديد ليصبح أشد فتكاً بالبشر. ويجزمون بأن ذلك التحور الوراثي ليس سوى مسألة وقت. لكن العالم كان أفضل استعداداً هذه المرة من سابقتها. ليس من ناحية تخطيط، وتوقعات، ودراسات؛ بل لأنه تطور في الطب، والعلوم، والتكنولوجيا، والمعرفة إجمالاً. كما أن دولاً رعت على مدى عقود أنظمة صحية قادرة على تحمل الضغوط الوبائية.
كورونا ليس الأول... هل يكون الأخير؟!
يقال إن الأوبئة قديمة قدم الحضارات على وجه الأرض. وجائحة كورونا ليست الأولى التي تفتك بالإنسانية، بل سبقها تاريخ طويل من الأوبئة، التي ربما كانت الإنفلونزا الإسبانية آخرها. من الكوارث الصحية التي شهدها العالم على مر العصور:
• طاعون أنطوان: ضرب العالم في سنة 165م. وأدى الى وفاة 5 ملايين نسمة.
• طاعون جستنيان: اجتاح العالم في 541-542م. وأسفر عن وفاة 25 مليون شخص.
• الطاعون الأسود: ويعرف أيضاً بـ «الموت الأسود». واجتاح العالم خلال 1346-1353. ويقال إنه أسفر عن إبادة 60% من سكان القارة الأوروبية.
• وباء الإنفلونزا: ويعرف أيضاً بالإنفلونزا الروسية. واجتاح العالم في 1889-1890، وأدى الى وفاة مليون شخص.
• الإنفلونزا الآسيوية: انطلقت خلال 1956-1958 من مقاطعة غويجو الصينية، وانتقلت لهونغ كونغ، وسنغافورة، وأمريكا. وتسببت في وفاة مليوني نسمة، منهم 69800 أمريكي.
«المئويون»... هل يذكر أحدهم ما حدث في 1918؟
هل بيننا أحد الناجين من الإنفلونزا الإسبانية (1918-1919)؟ سؤال يستحق عناء الإجابة. البحث عن مثل ذلك الشخص يعني أنه لا بد أن يكون «مئوياً»، أي أنه بلغ عامه الـ 100، أو أكثر من ذلك. لا توجد معلومات موثّقة عن مئويين في المنطقة العربية والخليجية؛ على رغم أنك قد تعرف أكثر من شخص تجاوز جدهم الـ 100 عام وفوقها. غير أن اليابان هي البلد الذي يوجد فيه أكبر عدد من «المئويين». وتقدر الأمم المتحدة نسبتهم الى سكان اليابان بـ 0.048%. وتقول الولايات المتحدة إن 71972 من مواطنيها «مئويون»، ويمثلون نحو 0.022 من سكان البلاد. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة لسنة 2010 الى أن عدد «المئويين في العالم يصل الى 1.9 مليون نسمة. وبعد وفاة أكبر معمر في العالم، وهو الياباني تشيتيسو واتانابي عن 112 عاماً في 23 فبراير 2020؛ انتقل اللقب الى المعمر البريطاني روبرت وايتون الذي ولد في 29 مارس 1908. وبات مستيحلاً أن تجد الآن في العالم شخصاً على قيد الحياة من مواليد نهاية القرن الـ 19. وكانت الإيطالية إيما مارتينا لويجيا مورانو، التي توفيت في 15 إبريل 2017، الشخص الوحيد الذي تم التحقق من مولده في القرن الـ 19. فقد ولدت في 29 نوفمبر 1899. وتورد قائمة «المئويين» التي تنشرها موسوعة ويكيبديا المفتوحة على الإنترنت أسماء أكثر من 300 شخص على قيد الحياة، وهم من مواليد الفترة 1910-1920. ويوجد أيضاً من تمت تسميتهم «السوبرمئويون»، وهم من تعدوا الـ 100 عام من أعمارهم. وهو شيء لا يحدث إلا لشخص واحد من كل 1000 «مئوي». وفي بريطانيا حال بلوغ المعمر عامه الـ 100، فإنه يتلقى رسالة تهنية من ملكة بريطانيا. وفي الجمهورية الآيرلندية، يتم إرسال شيك لـ«المئوي» هدية من الدولة بمبلغ 2540 يورو، مع رسالة تهنئة من رئيس البلاد. وفي اليابان تهدي الدولة «المئوي» كأساً فضية، وشهادة من رئيس وزراء اليابان!
أصل «الإسبانية» غير معروف مثل «كوفيد».. وفي الحالين خرافات ولا عقاقير ولا لقاح
ما أشبه الليلة بالبارحة! يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. وهي جدلية قديمة، يختصم من جرّائها الناس، بين مؤيد ومعارض. فعند اندلاع وباء كوفيد-19، الذي يسببه فايروس كورونا الجديد، نهاية العام 2019، استعاد كثيرون، كشريط سينمائي، مشاهد الموت، والمرض، والهلع، والدمار الاقتصادي الذي خلفته جائحة «الإنفلونزا الإسبانية»، التي اجتاحت العالم في 1918-1919. فقد أصيب بعدواها خلال 18 شهراً ثلث سكان الكرة الأرضية. وانتشر ذلك الوباء كالنار في الهشيم، ليعم العالم من أوروبا والولايات المتحدة، إلى الهند، وأستراليا، والجزر الصغيرة النائية في المحيط الهندي. ولم تنجُ منه الجزيرة العربية وبلدان العالم العربي. وذُكر أن عدد الوفيات التي نجمت عن الإنفلونزا الإسبانية يراوح بين 20 و50 مليوناً؛ فيما تصل به بعض التقديرات الى 100 مليون! وإذا صحت هذه التقديرات الأخيرة، فذلك يعني- بحسب مجلة «ناشونال جيوغرافيك»- أن الإنفلونزا الإسابنية أبادت عدداً من الناس أكبر مما خلّفته الحربان العالميتان الأولى والثانية.
ومَن يغوص في سجلات وباء 1918 سيكتشف أن ما يراه ماثلاً أمام عينيه من مشاهد في 2020 ليس سوى المأساة نفسها. تفاصيل متطابقة. المشاهد نفسها. الهلع، والموت، وانهيار الاقتصاد، الشوارع المقفرة. والحواضر التي أضحت مدن أشباح. ويمتد التطابق إلى البصمة الجغرافية، والديموغرافية للمرضيْن. فقد وقع عدد مفزع من الوفيات، والإصابات، في جميع أرجاء الكوكب الأرضي. بل إن الجدال الدائر حالياً في شأن منشأ فايروس كورونا الجديد، وما تلته من اتهامات للصين بالتسبب في الجائحة، هو صورة طبق الأصل لما دار في 1918!
«الخالق الناطق»، كما يقال في الشبه المتطابق. حتى الخرافات نفسها التي ترددت في أتون وباء الإنفلونزا الاسبانية في 1918، تكررت بأشكال أخرى في 2020. ففي الجائحة السابقة انتشر وسط العوام أن مسح الصدر بالبصل قبل النوم يضمن حماية كاملة من فايروس الإنفلونزا الإسبانية. أما في الحالية، فقد أتاحت سهولة الوصول الى مواقع التواصل الاجتماعي إطلاق عدد أكبر من النصائح غير العلمية، التي لم يقم عليها دليل.
وفي الحالتين الوبائتين لم يظهر لقاح، ولا دواء ناجع. وواصل الفايروس حصد ملايين الأرواح في 1918. وتلك هي حال كوفيد-19 اليوم. مشهد أقنعة الوجوه، والكمامات طاغٍ في الحالتين. ومثلما تردد عن عقوبات بدنية قاسية بحق مخالفين لتعليمات منع التجوال في بعض الدول في الآونة الأخيرة، فإن مسؤول التذاكر المرافق لبصات نيويورك كان يمنع الأشخاص من الركوب إذا لم يكن الواحد منهم واضعاً القناع على وجهه!
بيد أن أكبر ما يميز كلاً من الجائحتين أن كوفيد-19 وجد العالم مستعداً أكثر لمجابهته مبكراً. فقد تمكن العلماء من رسم الخريطة الجينية لفايروس كورونا الجديد بسرعة بعد ظهوره، باستخدام تكنولوجيا لم تكن موجودة في 1918. ونجحت البلدان التي سارعت الى اعتماد سياسة تكثيف الفحص لسكانها في تقليل أضرار كوفيد-19 بقدر يفوق ما لو كان هذا الفايروس قد هجم على الإنسانية قبل ستة أو سبعة عقود.
ومثلما بطش كوفيد-19 بالناس، فإن الإنفلونزا الإسبانية لم تستثنِ أحداً. فقد أصيب بها الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون، وملك إسبانايا الفونسو الثالث عشر، وملكة الدنمارك الإكسندرينا، والعاهل الإثيوبي الإمبراطور هيلاسيلاسي، وإمبراطور ألمانيا فيلهيلم الثاني، ورئيس وزراء بريطانيا آنذاك ديفيد لويد جورج. وكان فايروس الإنفلونزا الإسبانية فتاكاً جداً، إلى درجة أن أقصى فترة يتسبب فيها بالوفاة هي يومان بعد الإصابة. وفي أمريكا، قيل إن الناس كانوا يذهبون صباحاً بالباصات الى أشغالهم، ولا يعودون مطلقاً.
وتتشابه الجائحتان في أنه تسبب في كلتيهما فايروس تنفسي، قفز من الحيوانات الى الإنسان. ولم يكن أمام الطب في الحالتين سوى النصح بالغسل المتكرر لليدين، وارتداء قناع الوجه، والحرص على التباعد الجسدي. ويمتد التطابق ليشمل النصائح التي تقدمها وزارات الصحة في العالم حالياً: إذا دهمتك الأعراض فابقَ في بيتك. ألزم سريرك. أشرب سوائل ساخنة. وابقَ على هدوئك الى أن تمر الأعراض! وظهرت آنذاك أيضاً نصيحة بإبقاء النوافذ مفتوحة، لتحصل على أكبر قدر من الهواء النقي.
غير أن ما لا يجمعها أن الإنفلونزا الإسبانية استهدفت بوجه الخصوص الأشخاص من سن 20 الى 40 عاماً. وأدى ذلك إلى وفاة عدد كبير من هذه الشريحة التي تأتي منها عادة جموع المجندين في القوات المسلحة للدول الكبرى. ويقول الأطباء إن المعركة بين الإنسان وفايروس الإنفلونزا الإسبانية كانت على الرئتين. وكانت تنتهي بنجاح الفايروس في تدمير الرئتين في نهاية المطاف. وأدى ذلك الوباء الى وفاة 675 ألفاً في الولايات المتحدة وحدها.
وفي سبتمبر 1918، قرر مدير الصحة بولاية فلادلفيا تجاهل توصيات مستشاريه، وسمح بمسيرة ضخمة للترويج لسندات الحرب، عرفت لاحقاً بـ «المسيرة القاتلة».أصيب معظم المشاركين فيها. وحدثت مشاهد موت مروع. وفي نهاية 1918، ومطلع 1919، شهدت الولايات المتحدة موجة ثانية من الإنفلونزا الإسبانية. ونُكبت سان فرانسيسكو بمئات الوفيات.
الإنفلونزا الإسبانية في الجزيرة العربية
ولم تكن الجزيرة العربية- قبل توحيدها على يد الملك عبدالعزيز آل سعود- بمنجىً من الأوبئة، نظراً إلى موقعها الإستراتيجي، إذ ترد إليها وتخرج منها القوافل، ويفد إليها الحجاج من كل حدب وصوب. وفي 1918 عانت الجزيرة العربية من وباء الإنفلونزا الإسبانية، التي عرفت بـ «سَنة الحمى»، في إشارة إلى ارتفاع درجة حرارة جسم المصاب. وطبقاً لرواية الخبير الأكاديمي الألماني المهتم بالشؤون العربية غايدو والتر ستاينبيرغ، فإن الإنفلونزا الإسابنية أبادت قرى بأكملها في الجزيرة العربية. وكان الناس يعودون إلى بيوتهم ليجدوا أفرادها متوفين. ويصف كيف كان الناس يعكفون طوال النهار على حفر قبور للموتى، ولا يتوقفون عن ذلك إلا لأداء الصلوات. وذكرت مؤلفات أخرى أن السلطات آنذاك اتبعت سياسة الحجر المنزلي، وإقامة مراكز عزل خارج المدن، وخارج أسوار الرياض. ويشير بول ال. ارميردينغ، في كتابه «أطباء للمملكة: ما قامت به مستشفيات البعثة الأمريكية في المملكة العربية السعودية»، إلى أن الملك عبدالعزيز قام بدور بارز في المعركة ضد الجائحة، باستدعائه أطباء أمريكيين إلى البلاد. ويضيف المؤلف، نقلاً عن رئيس البعثة الطبية الأمريكية الدكتور بول هاريسون، أنه حين تم استدعاؤه لمقابلة الملك عبدالعزيز، أوضح له الملك الراحل أنه لم يطلب طبيباً ليعتني بصحته، أو صحة أفراد عائلته، وإنما يعتني بحاجة شعبه. وأبلغه الملك عبدالعزيز بأنه هيّأ منزلاً مجاوراً ليصبح مستشفى، وهو يريد أن يتم علاج أبناء شعبه في هذا المستشفى مجاناً. ولم يستثنِ وباء الإنفلونزا الإسبانية شبراً من السعودية.
وعلى رغم وجود أوجه الشبه التي أشرنا إليها بين الوبائين؛ إلاّ أن كلاً منهما جاء في ظل أوضاع دولية مختلفة. فقد كان العالم خارجاً لتوه من الحرب العالمية الأولى في 1919، فيما ليست هناك حرب عالمية بذلك المعنى في عصر كوفيد-19؛ وإن بقيت التوترات على حالها بين القوى نفسها، التي عادت للاحتراب، بعد أقل من ربع قرن، في ما عرف بالحرب العالمية الثانية. كانت الولايات المتحدة في حرب معلنة مع ألمانيا. وها هي اليوم في اتهامات متبادلة مع الصين.
ظهر فايروس الإنفلونزا الإسبانية في قاعدة فورت رايلي، بكنساس، حيث يتم تدريب 50 ألف مجند للجيش الأمريكي. تقدم مجند إلى قسم الرعاية الصحية بالقاعدة مشتكياً من ارتفاع درجة حرارته. وقبل أن تنتهي ساعات اليوم تقدم مئات المجندين بالشكوى نفسها! وبعد نحو شهرين زجت الولايات المتحدة بمزيد من جنودها في الحرب، فنقل الجنود الأمريكيون الفايروس معهم إلى القارة الأوروبية. يبدأ الفايروس بالحمى، ثم يتلاشى الهواء في رئتي المصاب. وما يلبث أن يتقيأ دماً، وينزف دماً من أنفه، حتى الموت.
هل جاء فايروس كورونا من الصين؟ هل جاءت الإنفلونزا الإسبانية من إسبانيا؟ في الحالتين لا يملك أحد إجابة قاطعة عن أيٍّ من السؤالين.
يقول علماء الأوبئة إن فايروس الإنفلونزا الإسبانية جاء نتيجة تحور وراثي، ربما حدث له في الصين. ومن المؤكد أن تفشيه تسارع بسبب التحركات المكثفة للقوات العسكرية، في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى. وعلى النقيض من فايروس كورونا الجديد، تم تسجيل عدد كبير من الوفيات في عام 1918 باعتبارها ناجمة عن «التهاب رئوي». لم يكن هناك فهم علمي متكامل لمسألة الفايروس. وأدت سياسات الرقابة على الصحف ومحطات الإذاعة الأوروبية والأمريكية، بسبب أوضاع الحرب، إلى التعتيم على عدد الوفيات والإصابات. وكانت الصحف الإسبانية وحدها القادرة على تغطية تفشي وباء الإنفلونزا آنذاك، لأن إسبانيا كانت محايدة خلال الحرب العالمية الأولى. ولم تكن تخضع للقيود الرقابية في الدول المتحاربة. ومن هنا جاءت تسمية ذلك الفايروس، على رغم أنه ضرب إسبانيا مثلما أوجع البلدان الأخرى، حتى أن العاهل الإسباني آنذاك الفونسو الثالث عشر أصيب ثم تعافى.
وخلال 13 أسبوعاً من سبتمبر الى ديسمبر 2018، أدى تفشي الإنفلونزا الإسبانية الى وفاة مئات آلاف الأمريكيين. وفي أكتوبر 1918 وحده توفي 195 ألف أمريكي. وانهار تماماً النظام الصحي الأمريكي. وأضحى مستحيلاً إقامة جنازة لمتوفى بمفرده. وبات الحانوتيون وحفارو القبور يكادون يموتون من الإرهاق والتعب. ولم تنج الدول التي سارعت لاتخاذ تدابير وقائية مشددة، كالحجر والعزل والإغلاق، وأبرزها أستراليا التي قضى آلاف من سكانها بالفايروس اللعين، الذي لم يقم بإحالة نفسه للتقاعد إلا قبيل نهاية 1919 بقليل.
وتعزى نهاية الفايروس السابق إلى تحور وراثي حدث له من تلقاء نفسه، جعله لا يشكل خطراً على البشر. ولكن بعدما أحدث ما حدث من وفيات، وإصابات، وتبعات صحية استمرت عقوداً. وتسببت الإنفلونزا الإسبانية في وفاة 228 ألف بريطاني، و400 ألف ياباني، و675 ألف أمريكي، وفقدت جزيرة ساموا الغربية الواقعة جنوب المحيط الهادي خُمس عدد سكانها. وفقدت الهند ما يراوح بين 12 و17 مليون شخص.
وأكثر ما يخشاه العلماء حالياً أن يحدث تحور وراثي في فايروس كورونا الجديد ليصبح أشد فتكاً بالبشر. ويجزمون بأن ذلك التحور الوراثي ليس سوى مسألة وقت. لكن العالم كان أفضل استعداداً هذه المرة من سابقتها. ليس من ناحية تخطيط، وتوقعات، ودراسات؛ بل لأنه تطور في الطب، والعلوم، والتكنولوجيا، والمعرفة إجمالاً. كما أن دولاً رعت على مدى عقود أنظمة صحية قادرة على تحمل الضغوط الوبائية.
كورونا ليس الأول... هل يكون الأخير؟!
يقال إن الأوبئة قديمة قدم الحضارات على وجه الأرض. وجائحة كورونا ليست الأولى التي تفتك بالإنسانية، بل سبقها تاريخ طويل من الأوبئة، التي ربما كانت الإنفلونزا الإسبانية آخرها. من الكوارث الصحية التي شهدها العالم على مر العصور:
• طاعون أنطوان: ضرب العالم في سنة 165م. وأدى الى وفاة 5 ملايين نسمة.
• طاعون جستنيان: اجتاح العالم في 541-542م. وأسفر عن وفاة 25 مليون شخص.
• الطاعون الأسود: ويعرف أيضاً بـ «الموت الأسود». واجتاح العالم خلال 1346-1353. ويقال إنه أسفر عن إبادة 60% من سكان القارة الأوروبية.
• وباء الإنفلونزا: ويعرف أيضاً بالإنفلونزا الروسية. واجتاح العالم في 1889-1890، وأدى الى وفاة مليون شخص.
• الإنفلونزا الآسيوية: انطلقت خلال 1956-1958 من مقاطعة غويجو الصينية، وانتقلت لهونغ كونغ، وسنغافورة، وأمريكا. وتسببت في وفاة مليوني نسمة، منهم 69800 أمريكي.
«المئويون»... هل يذكر أحدهم ما حدث في 1918؟
هل بيننا أحد الناجين من الإنفلونزا الإسبانية (1918-1919)؟ سؤال يستحق عناء الإجابة. البحث عن مثل ذلك الشخص يعني أنه لا بد أن يكون «مئوياً»، أي أنه بلغ عامه الـ 100، أو أكثر من ذلك. لا توجد معلومات موثّقة عن مئويين في المنطقة العربية والخليجية؛ على رغم أنك قد تعرف أكثر من شخص تجاوز جدهم الـ 100 عام وفوقها. غير أن اليابان هي البلد الذي يوجد فيه أكبر عدد من «المئويين». وتقدر الأمم المتحدة نسبتهم الى سكان اليابان بـ 0.048%. وتقول الولايات المتحدة إن 71972 من مواطنيها «مئويون»، ويمثلون نحو 0.022 من سكان البلاد. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة لسنة 2010 الى أن عدد «المئويين في العالم يصل الى 1.9 مليون نسمة. وبعد وفاة أكبر معمر في العالم، وهو الياباني تشيتيسو واتانابي عن 112 عاماً في 23 فبراير 2020؛ انتقل اللقب الى المعمر البريطاني روبرت وايتون الذي ولد في 29 مارس 1908. وبات مستيحلاً أن تجد الآن في العالم شخصاً على قيد الحياة من مواليد نهاية القرن الـ 19. وكانت الإيطالية إيما مارتينا لويجيا مورانو، التي توفيت في 15 إبريل 2017، الشخص الوحيد الذي تم التحقق من مولده في القرن الـ 19. فقد ولدت في 29 نوفمبر 1899. وتورد قائمة «المئويين» التي تنشرها موسوعة ويكيبديا المفتوحة على الإنترنت أسماء أكثر من 300 شخص على قيد الحياة، وهم من مواليد الفترة 1910-1920. ويوجد أيضاً من تمت تسميتهم «السوبرمئويون»، وهم من تعدوا الـ 100 عام من أعمارهم. وهو شيء لا يحدث إلا لشخص واحد من كل 1000 «مئوي». وفي بريطانيا حال بلوغ المعمر عامه الـ 100، فإنه يتلقى رسالة تهنية من ملكة بريطانيا. وفي الجمهورية الآيرلندية، يتم إرسال شيك لـ«المئوي» هدية من الدولة بمبلغ 2540 يورو، مع رسالة تهنئة من رئيس البلاد. وفي اليابان تهدي الدولة «المئوي» كأساً فضية، وشهادة من رئيس وزراء اليابان!