يشهد تاريخنا الإسلامي على أن فنون الغناء والشعر وأدوات الموسيقى كانت جزءاً من مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كأحد أبرز نماذج اللهو والترفيه منذ بزوغ فجر الإسلام، وهي امتداد لما كانت عليه فنون الغناء والموسيقى في العصر الجاهلي ولكن تم تهذيبها مع دخول الإسلام بمعايير الدين وأحكامه في الحفاظ على الأخلاق والآداب العامة، وفي سياق تاريخ الغناء والموسيقى في العاصمتين المقدستين كإحدى وسائل الترفيه في العصور الإسلامية الأولى، تسعى «عكاظ» لإعادة تسليط الضوء على ذلك التاريخ من خلال هذا التحقيق نتيجة للغياب الكبير لهذا المبحث الثري إعلامياً خلال حقبة ما يسمى بحراك «الصحوة»، التي آثرت خلال العقود الأربعة الماضية غض الطرف عن مظاهر الترفيه وفرض الزهد عنها، والآن جاءت الفرصة مناسبة لتسليط الضوء مجدداً على تاريخ الغناء وما كان عليه في صدر الإسلام، خاصة في ظل الازدهار الكبير الذي يشهده قطاع «الترفيه» حالياً.
اختلف العلماء حول موقفهم من الموسيقى والغناء، وقد تناقش الفقهاء قروناً حول نظرة الإسلام إلى الموسيقى والغناء ما بين محلل ومحرم، ولا يسعنا في هذا التحقيق استيعاب مبحث الحجج التي سيقت في هذه المسألة، ولكن من المسلَّم به هو عدم وجود أية كلمة كراهية مباشرة للموسيقى في القرآن الكريم، لذلك فإن غالبية الأدلة والحجج استندت إلى الأحاديث، وقد حثَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام على التغنِّي بالقرآن، وما التجويد في قراءة كتاب الله إلا تحسين الصوت، وفي حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن عائشة: «دخل عليَّ أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار تُغنِّيان بما تقاوَلَتْ به الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليست بِمُغنيتَيْن، فقال أبوبكر: أَبِمَزمور الشَّيطان في بيت رسول الله؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا بكر، إنَّ لكلِّ قومٍ عيداً، وهذا عيدنا»، وكذلك روى البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة أنها زفَّت امرأة من الأنصار، فقال النبِيُّ «يا عائشة: ما كان معكم من لَهْو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو».
وقد روي في صحيح مسلم حديث للصحابي حنظلة -رضي الله عنه- وفيه قال: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال الرسول: «وما ذلك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا -(اشتغلنا بها، عالجنا معايشنا وحظوظنا)- الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة «ساعة وساعة».. ثلاث مرات»، وهو ما يدل على أهمية «الترفيه» كوسيلة للترويح عن النفس فهي من الأمور ذات الأهمية البالغة على نفسية الفرد ويحتاجها المرء في حياته في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية، ففيه تخفيف للتعب والمشقة وإدخال للسرور في النفس.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي، وهو أحد أعلام عصره ومن أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، «من لم يحركه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، وهذه المقولة تحث على أهمية المباح من الغناء والموسيقى في تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان ورفع ذائقته السمعية، والتاريخ الإسلامي قدم نماذج عديدة في عهوده الأولى حول الغناء والموسيقى كجزء من الإرث الاجتماعي والثقافي للمسلمين في شتى البقاع الإسلامية، ولعلَّ صاحب الصوت العذب والإسهامات الموسيقية الكبيرة الموسيقار العربي المسلم زرياب أحد الشواهد الشهيرة على أهمية الغناء في المجتمع العربي المسلم.
وهناك عدد كبير من العلماء تناول المسائل الفقهية في موضوع الغناء ومدى مشروعية العمل به أو الابتعاد عنه، ومن بين من أباح الموسيقى والغناء، عبدالغني النابلسي في كتابه (إيضاح الدلالات في سماع الآلات)، ومحمد بن علي الشوكاني في (إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع)، وابن حزم في كتاب (المحلى)، وابن القيسراني في كتاب (السماع)، وكذلك أبو حامد الغزالي في كتاب (آداب السماع والوجد)، وغيرهم الكثير على مر العصور الإسلامية.. وجميع هؤلاء لهم آراء حول هذه المسألة جديرة بالدراسة والاطلاع، ولعلنا نجتهد في هذا الصدد فنشير إلى أن أحد أسباب وجود تحفظ على الغناء في صدر الإسلام كان نتيجة لشدة ارتباط الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية في المجتمع الجاهلي بظاهرة الغناء، فكان من الطبيعي على الإسلام، وقد استهدف بناء مجتمع يقوم على الدعوة ونشر الدين بطريقة صحيحة، وتكوين عادات اجتماعية وثقافية توافق تعاليم وقيم الدين الصحيح، أن يحدث ثورة على تلك الاتجاهات الجاهلية، وأن يعمل على تهذيب ممارسة الغناء بما لا يتعارض مع القيم الدينية، ويعمل على تعديل أغراض الغناء وغاياته وتحريرها مما كان يؤطرها من عادات جاهلية مرفوضة.
الغناء في الجزيرة العربية
استأثر الغناء في الجزيرة العربية بعامة، وفي منطقة الحجاز بحاضرتيه الرئيستين مكة المكرمة والمدينة المنورة بخاصة، باهتمامات عدد من مؤرخي الحياة الثقافية، فقد أفرد الأصفهاني أجزاءً كبيرة من موسوعته الشهيرة «الأغاني» لأخبار المغنين والمغنيات مبرزاً شواهد وروايات عديدة عنهم، كما تناول ابن عبدربه في مؤلفه «العقد الفريد» فصلاً عن الغناء واختلاف الناس فيه احتوى على أخبار الغناء في صدر الإسلام، واحتل الغناء اهتمامات عدد من كبار المؤرخين من بينهم: الطبري من خلال ما طرحه في كتاب (تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك)، والمسعودي (كتاب التنبيه والإشراف)، والسيوطي (المزهر في علوم اللغة)، وابن خلدون (كتاب المقدمة)، وغيرهم.
وشكلت الدراسات الحديثة تراكماً معرفياً في مجال الغناء والموسيقى العربية وتشكل أدباً وصفياً وتحليلياً لما كانت عليه فنون الغناء في الجزيرة العربية ومنها منطقة الحجاز، وهو أدب أسهم به عدد من الباحثين والمحققين العرب منهم أحمد تيمور باشا في كتابه (الموسيقى والغناء عند العرب)، وخليل مردم في كتابه (جمهرة المغنين)، ومحمد محمود سامي حافظ في كتابه (تاريخ الموسيقى والغناء العربي)، وغيرهم، بيد أن الدراسات المعمقة التي نشرها هنري جورج فارمر حول تاريخ الموسيقى العربية، وما أسهم به عدد آخر من المستشرقين، إضافة إلى الدراسات التي أعدت في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932 برعاية الملك فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، وما جاء في منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت من دراسات نشرت في مجلدين تحت عنوان: (دراسات في الموسيقى الشرقية)، وتناولت في المجلد الأول التاريخ والنظرية، وفي المجلد الثاني الآلات الموسيقية الشرقية، ومجموعة التسجيلات الصوتية التي خلفها المستشرق الهولندي «سنوك» وأودعت مكتبة جامعة ليدن لـ(الأغاني المكية) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كل هذه الدراسات تشكل مرجعية مهمة لوصف ما كانت عليه فنون الغناء والموسيقى في عدد من العصور الإسلامية الأولى، وخاصة في مكة والمدينة ومنطقة الحجاز.
جذور الغناء قبل الإسلام
أصل الغناء الحجازي يعود إلى العصر الجاهلي، تؤكد تلك الحقيقة سلسلة طويلة من المصادر، إلا أن البداية كانت غامضة أياً كانت الآراء حول بداية الغناء لعدم وجود الأدلة والشواهد القاطعة، وتشير المصادر إلى أن قبيلة جرهم -بعد سقوط العماليق- قد عملت على تفعيل دور ديني وثقافي واقتصادي لمكة المكرمة، وأصبحت حاضرة تستقطب الهجرات من كافة أرجاء الجزيرة العربية، فانتقلت فنون الغناء من اليمن والحيرة ومن بلاد الغساسنة ومن فارس والروم وغيرها إلى الحجاز، فاتصال مكة ويثرب بالحضارات المجاورة -سلماً أو حرباً- كان حقيقة أثبتتها الأحداث والوقائع، وبالتالي فإن فن الغناء والموسيقى الحجازية كانت نتاجاً لذلك التواصل الذي حدث في العصر الجاهلي، دون إقامة دليل قاطع بالزمن الذي بدأ فيه الغناء تحديداً.
واستناداً إلى المصادر التي تناولت مظاهر الحياة في العصر الجاهلي، فإن كافة مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية قد ارتبطت بشكل أو بآخر بالغناء، فمعظم الطقوس الدينية التي كانت تمارس في العصر الجاهلي كانت تصاحب شعائرها طقوس غناء تُؤدى أمام الأنصاب، ومن الأمثلة على ذلك، ما كان ينشده الجاهليون وهم يفيضون إلى منى:
«أشرق ثبير كيما نغير».
وتطور فن الغناء الحجازي حول مكة ويثرب تدريجياً في العصر الجاهلي باستخدام آلات موسيقية وترية كالبربط والمزهر والكيران والمعزفة والربابة والطنبور، وآلات هوائية بالنفخ كالقصابة والشبابة والمزمار وزمارة القرب، كما ساهم الجاهليون في الحجاز بابتداع أدوات موسيقية، ويشير ابن عبدربه إلى أن «أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة».
الغناء في صدر الإسلام
شهد عصر صدر الإسلام، رغم ما جاء في السنة النبوية من أحاديث كريمة وشواهد في شأن الغناء، استمرار تأثير الغناء من الناحية الاجتماعية تأثيراً كبيراً، وكان من الصعب على بيئة شكَّل الغناء تأطيراً قوياً لبنيتها الدينية والاجتماعية والثقافية في العصر الجاهلي أن تتوقف عن ممارسة تلك التقاليد بشكل قاطع.
ومع امتداد العصر الذي ظهر فيه المغنون والمغنيات في عصر صدر الإسلام، كانت حركة إبداع وأصالة وريادة في فنون الغناء احتلت فيه مكة والمدينة موقعاً بارزاً اتفق عليه معظم المؤرخين الذين تناولوا الموضوع ذاته، فالقرون الثلاثة الأولى من صدر الإسلام شهدت تحولاً مهماً في فنون الغناء في الحجاز اختلفت عما كان عليه الوضع في الجاهلية، إذ أضحت حركة فنية مجردة وفيَّة لعناصرها التي تقوم على المنافسة في اختيار القصائد المغناة لفحول الشعراء، والإبداع اللحني، وحسن الأداء، وتطوير الأدوات، وبيئة منفتحة اتسعت لممارسة الفنون على نحو غير مسبوق، وكانت شكلاً من أشكال فنون اللهو والترفيه الاجتماعي الذي مورس عند سراة القوم أولاً حتى بلغ أوجهاً في قصور بعض الخلفاء والأمراء من بني أمية وبني العباس.
وفضلاً عن ذلك فهناك شواهد دينية واجتماعية في استحسان الأصوات العذبة المطربة، وهذا رسول الله يقول لأبي موسى الأشعري وقد أعجبه حسن صوته: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود»، وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم، قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمتم أن الأنصار يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكـــم... نحييكـم نحييكــم
ولولا الحبة السمراء... لم نحلل بواديكم».
وجاء في (فتح الباري) لابن حجر، حديث أنس أن النبي كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير»، وجاءت في صحيح مسلم عن أنس: «رويداً يا أنجشة لا تكسر القوارير»، فكأنه عليه الصلاة والسلام يشير إلى أنجشة ألا ينشد بالمقام المتسارع، حتى لا تتأثر النساء، فقد كانت أم سليم في «الثقل»، (أي حامل في أشهرها الأخيرة)، فكان عليه الصلاة والسلام يرغب إلى أنجشة، أن يحدو بلحن بطيء ممدود كما هو لحن (الصبا) المعروف اليوم، وهو لون من ألوان مقام (الرصد).
أشهر المغنين في مكة والمدينة
اشتهر في مكة المكرمة والمدينة المنورة عدد كبير ممن مارسوا فنون الغناء والعزف على الآلات الموسيقية كوسيلة للترفيه في صدر الإسلام وعهود الخلافة الراشدة، ومن أبرز هؤلاء:
- طويس (11هـ - 92هـ): واسمه تصغير للطاووس، ورد ذكره عند الأصفهاني وابن عبد ربه وابن خلكان وغيرهم، وهو الذي ضرب به المثل الشهير «أشأم من طويس» لموافقة مولده وختانه وزواجه بأحداث توفي فيها رجال بارزون، اسمه أبو عبدالمنعم عيسى ابن عبدالله، وهو مولى لبني مخزوم، نشأ في دار أروى أم الخليفة عثمان رضي الله عنه في المدينة المنورة، وبلغت شهرته في نهاية عهد الخليفة عثمان، وتروى أخبار كثيرة عن المنافسة بينه وبين مغني مكة ابن سريج، الذي قدم إلى المدينة وغنى فيها مما أثار حماسة الناس حتى نصبوه كأكبر مغنٍ في العالم، ومر طويس بالمكان وغنى ضارباً على الدف:
تناهى فيكُمُ وجدي... وصدَّع حبكـم كبدي
فقلبي مسعرٌ حزناً... بذات الخال في الخدِّ
فما إن سمعه ابن سريج حتى تقدم نحوه صائحاً: «والله هذا أعظم مغنٍّ عرفته الناس» (الأغاني، الجزء الثالث ص30)، واستخدم طويس أسلوب الإيقاع الخفيف في غنائه مستخدماً آلة الدف.
- أبو الخطاب مسلم بن محرز (توفي 140هـ): وهو من أعلام الغناء المكي في صدر الإسلام رحل إلى فارس والشام، ودرس الأنغام الفارسية والرومية، واقتبس منها في صناعة ألحانه المكية، ولقب بـ«صناج العرب» لإجادته العزف على الصنج، وهي صفيحة مستديرة يضرب عليها بصفيحة أخرى، تنقل مغنياً بين مكة والمدينة، ودرس الغناء على عزة الميلاء في المدينة، وعلى ابن سريج وأبي مسجح في مكة، ويعتبر أول من غنى في الحجاز على إيقاع الرمل، كما أنشد رملاً فارسياً، وينسب له التجديد في الموسيقى العربية فابتكر غناءً سمي بـ«غناء الزوج»، وهو أول من غنى بزوج من الألحان للبيت الشعري الواحد، أي أنه لم يكتف بلحن واحد يردد مع كل بيت. وذاع صيت ابن محرز فبلغ الكوفة، وأطرب مجالسها، ثم عاد للحجاز، ليموت منعزلاً بعد أن داهمه مرض الجذام (الأعلام، خير الدين الزركلي، الجزء7، ص223).
- أبو جعفر سائب بن يسار والمعروف بـ(سائب خاثر)، (توفي 64هـ): وهو ممن أبدع في الغناء والتلحين في المدينة المنورة، وهو ابن لأحد موالي الفرس، برع في العزف على العود فأطرب أشراف المدينة ومنهم عبدالله بن جعفر واستدعاه معاوية للغناء، ابتكر الإيقاع الذي سمي بـ«الثقيل الأول»، وغنَّى به لأول مرة في تاريخ الغناء العربي، تأثر بنشيط الفارسي، وهو من أقدم المغنين الفرس الذين أخذ عنهم العرب الغناء في الإسلام، وحوَّر بعض الألحان الفارسية إلى العربية. استمر سائب خاثر في الغناء حتى استشهد في «وقعة الحرة» (سنة 63هـ) بين أهل المدينة من طرف ويزيد بن معاوية والأمويين من طرف آخر، وكان من تلاميذه عزة الميلاء وجميلة وابن سريج ومعبد.
- معبد بن وهب (44هـ - 126هـ): من موالي بني مخزوم، ومن أعلام الغناء في المدينة المنورة، درس فن الغناء على سائب خاثر ونشيط الفارسي وجميلة، وبرع حتى لقب بـ«أمير المغنين»، سمعه ابن سريج والغريض، مغنيا مكة، وهما في رحلة إلى المدينة، وكان يتغنى بشعر أبي قطيفة من لحن خفيف الثقيل الأول:
القصر فالنخل فالجماء بينهما... أشهى إلى القلب من أبواب جيرونِ
فعادا أدراجهما من حيث قدما اعترافاً بمكانته في الغناء، وتنازلا عن منافسته، ووردت روايات عن المنافسة بينه وبين معبد وابن سريج مما يوحي بما كانت عليه المنافسة بين المدينة ومكة في فنون الغناء في صدر الإسلام.
وقد تطور فن الغناء الحجازي المدني عند معبد بن وهب مرحلياً، حيث تأثر في غنائه بإيقاع «الحداء»، ثم تطور بابتداع ألحان أكثر إتقاناً وصنعة من «الحداء» حتى قال عنه الأصفهاني: «ولمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدم ولا زاد عليه فيها من تأخر»، فأهم ما جاء به معبد على فن الغناء المدني تلك النشوة التي يحدثها غناؤه في نفوس سامعيه، فضلاً عن محاولاته الأولى ابتداع ما عرف فيما بعد بـ«فن المقامات»، فله سبعة ألحان تقابلها سبع قصائد عرفت بـ«حصون معبد»، وذلك لجودتها ومتانة صياغتها، وكان في ذلك نقلة في فن الغناء من الأنشودة الشعبية القديمة التي تعتمد على البيت الشعري الواحد إلى غناء القصيدة التي تعتمد على الإيقاع اللحني المستقل عن الأوزان الشعرية.
- يونس بن سليمان الكاتب (توفي 135هـ): وهو من المغنين المدنيين ومولى لعمرو بن الزبير، كان والده كاتباً في ديوان المدينة، أخذ الغناء عن ابن سريج ومعبد وابن محرز والغريض، غنى أشعاراً سميت بـ«الزيانب» تغزلاً في زينب بنت عكرمة (هنري جورج فارمر، تاريخ الموسيقى العربية، ص101)، مما أثار عليه حقد أهل المدينة فغادرها. ويعد يونس الكاتب وفقاً لما جاء في (فهرست) ابن النديم، أول من ألف في الغناء في المدينة من خلال كتاب «النغم» وكتاب «القيان» (أبو إسحاق محمد بن النديم، الفهرست، تحقيق ناهد عباس عثمان، ص227).
- سعيد بن مسجح (توفي 85هـ): وهو ممن برز في الغناء المكي في صدر الإسلام مولى بني جمح، أخذ عن الفرس والروم أجمل ألحانهم وصاغها صياغة مكية حتى قيل بأنه أول من وضع أسس اقتباس الألحان من الثقافات الفنية المجاورة، تعلم منه ابن سريج ومعبد والغريض (الأغاني، ج3، ص209).
- ابن سريج (20هـ - 98هـ): برز كعلم شهير في الغناء المكي، وهو أبو يحيى عبيدالله ابن سريج، مولى لبني نوفل بن عبد مناف، اشتهر بلبس «الجمة» (الشعر المصطنع) وكان يغني مقنعاً برداء على وجهه لجذام أصابه، ويعتبر أحد أعمدة الغناء الأربعة في الحجاز، وهم مكِّيان: ابن سريج وابن محرز، ومدنيان: معبد ومالك الطائي، وهو أول من استخدم العود في مكة، غنى به «النوح»، وأبدع في نوحه على يزيد بن عبدالملك على قمة أبي قبيس:
يا عين جودي بالدموع السفاح... وابكي على قتلي قريش البطاح
تعلم منه الغريض، وغنى له معبد والذلفاء، ومدحه جرير، وبداية غنائه كانت بإيقاع «الرمل»، ثم تطور إلى إيقاع «الثقيل الأول»، فغنى به من أشعار عمر ابن أبي ربيعة. ويقول ابن سريج عن فن الغناء: «المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويجتلى مواقع النبرات، ويستوفي ما يشكالها في الضرب من النقرات» (سيمون جارجي، الموسيقى العربية، ترجمة: عبدالله نعمان، ص29).
- أبو يزيد عبدالملك الغريض (توفي 95هـ): كان مولى للعبلات، وهن أخوات مشهورات بمكة، أخذ الغناء عن ابن سريج، كان نواحاً في المآتم في مكة، تفوق على أستاذه ابن سريج، وغنى بمراسلة القضيب والعود والدف.
- أبو الوليد مالك بن أبي السمح (توفي 137هــ): مـن أعلام الغناء المدني في صدر الإسلام، أبوه من بني ثعل وأمه مخزومية، تيتم صغيراً فرباه عبدالله بن جعفر، وتعلم الغناء من معبد، وغنى في مجالس يزيد بن عبدالملك والوليد بن يزيد، وغنى من شعر الحسين بن عبدالله بن العباس.
هذا وقد حفل الغناء في مكة والمدينة بعدد آخر ممن فاقت شهرتهم حدود مكة والمدينة، منهم في مكة: أحمد بن يحيى بن مرزوق المكي الذي عاش في النصف الأول من القرن الهجري الثالث، وله كتاب في الغناء سماه «المجرد في الأغاني ونسبها»، قال عنه الأصفهاني: «ما أعرف كتاباً يقارب كتابه ولا يقاس به»، ومحمد بن عباد، ويحيى المكي، وابن جامع، وعمر الوادي، وخالد صامة، وفليح، وأبو وهب عبدالله بن وهب، وعبادل بن عطي، وفليح بن أبي العوراء، وأبو طالب عبيدالله بن القاسم الذي لقب بـ«الأبجر». كما برع في المدينة (عَطَرَّد الذي تعلم الغناء من معبد وغنى للوليد بن يزيد، والبردان، وابن أبي عتيق، وابن عائشة، وقند، والدلال، وبذل، ودنانير)، وعشرات غيرهم ممن بلغت شهرتهم الحواضر الكبرى.
وإن من أهمية فنون الغناء في الحجاز وارتقائه في عصر صدر الإسلام أن وفد عدد من المغنين من مكة والمدينة إلى حواضر الأمويين والعباسيين والتحقوا بمجالس الغناء في دمشق وبغداد والكوفة والبصرة، بينهم إسماعيل بن الهربذ المكي وابن دحمان، وعمر بن داود بن زاذان الملقب بـ(عمر الوادي)، وأبو صدقة، ومخارق، وعلوية وغيرهم.
المغنيات في صدر الإسلام
كان هناك العديد من المغنيات الشهيرات، المكيات والمدنيات، في صدر الإسلام، من اللواتي تفوقن في غنائهن على الرجال، ومن أبرزهن:
- جميلة: (توفيت نحو 135هـ): مولاة بني سليم وهي أصل من أصول الغناء في المدينة، أخذ عنها معبد، وابن عائشة، وحبابة، وسلامة، وعقيلة العقيقية، والشماستان خليدة المكية، مولاة ابن شماس، وربيحة. قال عنها معبد: «أصل الغناء جميلة وفرعه نحن». (صلاح الدين الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات، ص236).
اشتهرت جميلة في المدينة بمجالس غنائها التي جمعت المشاهير من المغنين المكيين والمدنيين من أمثال معبد وابن سريج وابن مسجح والغريض وغيرهم.. وغنت من شعر الأحوص وعمر بن أبي ربيعة وامرؤ القيس، وزهير، وفطاحل شعراء صدر الإسلام، ومن أبرز إسهاماتها تأسيسها أول مدرسة موسيقية عربية في المدينة (الموسيقى العربية، ترجمة: عبدالله نعمان ص29).
- سلامة القس (توفيت نحو 130هـ): وهي من قيان المدينة، أخذت الغناء عن جميلة، واشتهرت هي وأختها ريا في مجالس الغناء بالمدينة حتى اشتراها يزيد ابن عبدالملك، فلما توفي ناحت عليه من مجزوء الرمل:
لا تلمنا أن خَشعْنا... أو هممنا بخشوع
إذْ فقدنا سيداً كان... لنا غير مضيع
وهو كالليث إذا ما... عُدَّ أصحاب الدروع
- بصبص: مولدة من مولدات المدينة، حلوة الوجه، حسنة الغناء، وقد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين، وهي جارية ابن نفيس التي اشتهرت بغناء المجالس وفتن بغنائها كثيرون، وقيل فيها:
بصبصٌ أنتِ الشمس مزدانةٌ... فإن تبذَّلت فأنتِ الهلالُ
إذا دعت بالعود في مشهدٍ... وعاونت يمنى يديها الشمالُ
غنت غناءً يستفز الفتى... حذقاً وزان الحذق منها الدلالُ
- حبابة (توفيت 105هـ): من القينات المغنيات في الحجاز، ظهرت وكان اسمها (العالية)، كانت جارية لآل لاحق المكيين ولابن مينا، أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز، اشتراها يزيد بن عبدالملك بأربعة آلاف دينار، فغلبت على عقله وشغل بها، ثم ماتت فحزن عليها ومات بعدها بأيام قليلة. وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً، قرأت القرآن وروت الشعر وتعلمت العربية.
- عزة الميلاء (توفيت نحو 115هـ): نالت شهرة كبيرة في الغناء في المدينة وكانت مولاة للأنصار، وهي أقدم من غنى الغناء الموقَّع في الحجاز حسب ما جاء عند الأصفهاني، وكانت تضرب بالعيدان والمعازف، وبدأت في الغناء تقليداً لسالفات القيان كسيرين، وزريب، وخولة، والرباب، وسلمى، ورائقة، واقتبست من الأغاني الفارسية، وكانت بارعة في العزف على العود، وتعلم منها ابن سريج وابن محرز وطويس ومعبد. وكانت وافرة السمن، جميلة الوجه، لقبت بالميلاء لتمايلها في مشيتها، كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة ليسمعها ويتعلم غناءها، وقال عنها: «هي أحسن الناس غناءً»، وقال عنها طويس «هي سيدة من غنى من النساء». كانت إذا غنت في مجلس عام فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها. كانت بارعة الجمال وكريمة الخلق وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء.
قال ابن جعدبة: «كان ابن أبي عتيق معجباً بعزة الميلاء، فأتى يوماً عند عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، فقال له: بأبي أنت وأمي! هل لك في عزة، فقد اشتقت إليها! قال: لا، أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت وأمي! إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل، فأتياها ورسول والي المدينة سعيد بن العاص على بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضج أهل المدينة منك، وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم. فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه، ويظهر لنا ولك أمره، فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه».
كما أورد صاحب (الإصابة في تمييز الصحابة) تراجم ثلاث من المغنيات في المدينة، هن: (أرنب المدنية) و(زينب الأنصارية) و(حمامة)، وقال في هذه الأخيرة: «مغنية من جواري الأنصار، ذُكرت في حديث عائشة لمَّا دخل أبو بكر عليها في يوم عيد وعندها جاريتان تغنيان، سمَّى منهما حمامة، وأصل الحديث في الصحيحين من هذا الوجه، لكن لم تسمَّ فيه واحدة منهما، وأوضحتها في (فتح الباري)».
ويتضح مما سبق أن فنون الغناء قد ازدهرت في مكة والمدينة في صدر الإسلام وخاصة في عهد الأمويين والعباسيين، بل احتلت المدينة ريادة في ذلك بما ضمت من مشاهير المغنين والمغنيات، يؤكد ذلك شوقي ضيف بقوله: «لم تُعنَ الشام بالغناء في أول الأمر، واستمرت العراق لا تُعنى به طوال هذا العصر إلا قليلاً، وأما الحجاز فقد غرقت فيه إلى أذنيها، وكانت المدينة أسبق مدن الحجاز إلى العناية بالغناء، فقد رأينا أنها أخذت تُعنى به منذ عصر عثمان». (شوقي ضيف، الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية، ص46)، وكذلك أشار في موضع آخر: «ومع ذلك فإن مكة لم تلبث أن عنيت بالغناء وأصبحت تنافس المدينة فيه، فظهر عندها ابن مسجح وتلاميذه، ولكن ينبغي أن نعرف أن المدينة ظلت هي المركز الأول في الحجاز للغناء والمغنين وتخريجهم، ولعل مما يدل على ذلك دلالة واضحة أن نجد خلفاء دمشق يطلبون مغنيهم غالباً من المدينة، بل إننا نجد مكة نفسها تطلب مغنيها من المدينة». (المرجع السابق، ص47).
ومما يعطي الحجاز شاهداً لتلك الريادة محاولة هارون الرشيد اختيار أحسن الأصوات غناءً، فاختير أولاً مائة صوت من أغاني كل عصر، ثم اختير منها عشرة، حتى استقر الرأي على اختيار ألحان ثلاثة (محمد محمود سامي حافظ، تاريخ الموسيقى والغناء العربي، ص68)، وهي:
1- لمعبد من (خفيف الثقيل الأول) من شعر أبي قطيفة: القصر فالنخل فالجماء بينهما... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
2- لابن سريج من (الثقيل الثاني) من شعر عمر بن أبي ربيعة: تَشَكَّى الكميت الجري لما جهدتهُ... وبَيَّنَ لو يستطيع أن يتكلما
3- لابن محرز من (الثقيل الثاني) من شعر نُصَيبْ: أهاج هواك المنزل المتقادم... نعم... وبه ممن شجاك معالمُ.
الآلات الموسيقية
عهود صدر الإسلام الأُولى اتسمت بتأثيرات ثقافية على الموسيقى وأدواتها، وعلى الغناء أيضاً، يظهر ذلك جلياً من النصوص التي تناولت أحكام الغناء والموسيقى في تلك العهود.
وبالرغم من أن بعضاً؛ كالأصفهاني في (الأغاني)، وابن عبد ربه في (العقد الفريد)، قد توسع في وصف الحالة التي كان عليها الطرب والغناء والموسيقى في تلك العهود في الحجاز، واسترسل في سرد أخبار المغنين في مكة والمدينة من أمثال: ابن مسحج، وطويس، والأبجر، وعطرَّد، وسياط، وجميلة، ودقاق، وقلم، وبصبص، ودنانير، وعريب، وغيرهم؛ إلا أن بعضاً آخر قد تناول الغناء والموسيقى في عصر صدر الإسلام بالتأكيد على التأثيرات الثقافية الإسلامية التي جاءت في شأن أحكام الغناء والموسيقى وأدوات الطرب.
تناول النويري في كتاب (نهاية الأرب) شرح بعض الآلات الموسيقية التي سادت تلك الحقبة، منها:
- الدف: وهو من آلات الضرب بأنواعه المختلفة المعروفة والممتدة من العصر الجاهلي.
- اليَرَاع: وهو قصبة الزَّمر، ويقال له: اليراع المثقب، كما في قول الشاعر: «حنينٌ كَتِرجَاعِ اليَرَاع المثقبِ» (محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، جـ11ص396).
- الأوتار: وهي الآلات الوترية ومنها العود، الموصوفة في أبيات للشاعر(كُشَاجِمْ) في العصر العباسي الذي ولد في القرن الثالث الهجري وكان شاعراً ومغنياً في بلاط سيف الدولة في حلب، وطرحت في كتاب (أنور ماجد عشقي، الركب المكي، ص12):
شدت فجلت أسماعنا بمخفف... يحدثها عن سرها وتحدثه
مشاكلة أوتاره في طباعها... عناصر منها أحدث الخلق محدثه
فللنار منه الزير والأرض بمه... وللريح متناه وللماء مثلثه
وكل امرئ يرتاح منه لنغمة... على حسب الطبع الذي منه يبعثه
شكا ضرب يمناها فظلت يسارها... تطوقه طوراً وطوراً ترعثه
فما برحت حتى أرتنا مخارقاً... يجاذبه في أسحن النقر عثعثة
وحتى حسبت البابليين القنا؟... على لفظها السحر الذي فيه تنفثه
- الطنبور: وهو ما يشبه العود، لكنه أصغر حجماً، وجاء فيه قول الشاعر:
مُخْطَفُ الخَصرِ أجوفُ... جِيدُه نصف سائرِه
أنطقتْهُ يدا فتىً... فاتر اللحظ ساحره
فجلا عن ضميره... ما حوى في خواطره
- الشبابة: وهي من آلات النفخ، (ناي) استعمله الجاهليون واستمر وتطور في صدر الإسلام.
- الطار: وهو من آلات الضرب كالدف.
وعلى نحو ما رأينا من شواهد للآلات الموسيقية التي استخدمها أهل الحجاز في عصر صدر الإسلام، فقد كانت امتداداً للآلات التي استخدمها الجاهليون.
فيما تطرق المستشرق البريطاني هنري فارمر في إحدى دراساته المضمنة في كتاب: (هنري جورج فارمر، دراسات في الموسيقى الشرقية، إعداد إيكهار نويباور)، إلى مخطوطة في المكتبة الوطنية الإسبانية في مدريد عنوانها: (كتاب الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع)، قائلاً إنها من تأليف محمد بن إبراهيم الشلاحي، ومؤكداً على أهمية الكتاب من الناحية الثقافية الحضارية والتاريخية، وبخاصة في شموله للعصور السابقة للعصر الذي كتب فيه، وحاول فارمر التحقيق في اسم مؤلف الكتاب (الشلاحي)، فلم يقف على إجابات لتساؤلاته، تاركاً الكثير من علامات الاستفهام حول المؤلف الحقيقي لهذا العمل المهم، ثم تصدى الباحث الدكتور محمد ابن شقرون، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، لتحقيق النسخة الوحيدة المتوافرة في المكتبة الوطنية الإسبانية بمدريد تحت رقم (1334)، فوجدها منسوخة على يد محمد بن إبراهيم الشلاحي سنة 701هـ، ثم توصل إلى حقيقة مؤلفها، وهو أبو عبدالله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن سليـمان الأنصاري السبتي، المعروف بابن الدراج السبتي (توفي سنة 693هـ).
وكتاب ابن الدرَّاج، بالرغم من أنه مخصص لأحكام الغناء والسماع وآلات الطرب والمعازف، إلا أنه يقدم في الفصل الثاني شرحاً وافياً للآلات الموسيقية التي كانت في عصر صدر الإسلام؛ استخرجها، على حد قوله، من: «جملة ما حضر في حفظي الآن مما يدور على ألسنة علماء الشريعة، ويتردد ذكره في كتبهم الشريفة الرفيعة، من ذلك دون ما لم أقف عليه فيها كالقانون وغيره من الآلات المسموعة إحدى وثلاثون آلة، وهي:
الدف، والغربال، والمصافق، والكبر، والأصف، والمزهر، والعود، والرباب، والكران، والصنج، والكيثار، والمعزف، والعزف، والمزمار، والناي، والقصابة، والبوق، والطبل، والكوس، والكوبة، والعيد، والطنبور، والبربط، والقضيب، والشاهين، والسفاقس، والشيزان، والكنارات، والعرطبة، والصفارة، والشبابة».
كما قدم شرحاً موجزاً عن كل آلة مع ما يسندها من الشواهد، فالدُّف العربي: هو الدف المدور الذي يسميه العامة الطَّار.
أما (الغربال): فهو من أسماء الدف، سمي به على وجه التشبيه بشكل الغربال الذي يغربل به الدقيق. و(المصافق): أطلق على الأكف، وهو الضرب بباطن إحدى اليدين على باطن الأخرى. أما (الكبر): فهو طبل له وجه واحد.
و(المزهر): هو العود، وقيل في المزهر: خُلِقَتْ لمسلاةِ القلوب ولن ترى... أسلى لأرباب الهوى من مزهرِ.
و(العود): هو الآلة البطينة المجوفة ذات الأوتار الأربعة والملاوي الأربعة، وكانت العرب تسمي الرقيق من أوتاره: الزير، وتسمي الوتر الثاني: المثنى، والوتر الثالث: المثلث، والوتر الرابع: البم. وفي ذلك قال أبو بكر يحيى بن هذيل:
رقَّت معانيه برقة أربع... صارت عليه قلائداً وعقوداً.
والرباب يشبه العود، لكنه كما جاء في وصف ابن هذيل:
يخالف العود في تصرفه... وهو على خلقه وإن صغرا
وإنما يحتـوي على نغم... من حكم القوس كلما خطرا
كأنه في يدي محركه... ينشر قلبــي به وما شعرا
و(الكران» من أصناف العود، سمته العرب كراناً لأنه يوضع على بضعة في الصدر اسمها الكران.
(الصنج): آلة أصلها رومي، واستخدمها عرب الجاهلية ومن بعدهم. قال فيها الأعشى:
ترى الصنج يبكي له شجوه ... مخافة أن سوف يدعى بها.
ومن هنا سمي الأعشى بصناجة العرب لكثرة أشعاره فيه.
أما (الكيثار): فمن ذوات الأوتار، وربما كان اسمه مولَّداً، وهو شبيه بآلة الجيتار الحديثة، حيث أخذ الغربيون الاسم وسموا به آلة الجيتار أو القيثارة لدى العرب الحديثين. قال عنه ابن عبد ربه:
وحَنَّ من بينها الكيثار عن نغمٍ ... يبدي عن الصب ما تخفي ضمائرهُ.
و(المعزف): من جملة الطنابير، والعزف صوت المعازف، والمعازف يقصد بها الملاهي المصوتة كالبرابط والعيدان والعرطبة والكيثارة والمزهر.
أما (المزمار) فهو من آلات النفخ كالناي؛ وقد ورد في حديث أبي موسى الأشعري: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود»، ووردت عند العرب بأسماء كالقصابة والبوق.
(الطبل): من آلات الضرب، وورد في التراث بأصناف وأسماء منها: (الكوبة)، وهو ما يضيق في وسطه ويتسع في طرفيه، ويضرب من الناحيتين، وورد فيها الحديث: «إن الله حرَّم الخمر والكوبة»، واختُلِف في تفسير (الكوبة) على أنها النرد أو البربط، وقيل: الطبل، وأطلق على الطبل أيضاً أسماء كالعيد، والكوس (ابن النديم، الفهرست، ص 227).
وقد امتد استخدام تلك الآلات الموسيقية الأصيلة في الحجاز زمناً حتى أخذت بعض الأسماء تختفي تدريجياً مع انتقال فنون الغناء والموسيقى والآلات إلى حواضر أُخَر كبغداد ومدن الأندلس الكبرى.
ويحتفظ متحف (ريكيس) (Rijks) في ليدن بهولندا بمجموعة نادرة من الآلات الموسيقية التي جلبها المستشرق الهولندي سنوك هورخرونية من رحلته المكية في القرن الرابع عشر الهجري والتي كانت بين السنوات (1302- 1304هـ/ 1884 – 1885م) وأودعها في المتحف المذكور. وقد لفت الانتباه إلى هذه المجموعة المستشرق البريطاني هنري فارمر حين كتب سنة 1925 مقالته المشهورة بعنوان (الآلات الموسيقية المكية) التي نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية في لندن، وأهمية الدراسة التي أعدها فارمر تتمثل في أمرين، (الأول): تصنيفه الآلات الموسيقية المكية إلى ست مجموعات هي:
- العود The Lute
- الكمان The Violes
- قصبات الناي Reed - Pipes
- الناي الزنامي The Oboe
- القصابة والشبابة The Flute
- الدف The Tambourine
(الثاني): تقديم عرض تاريخي للآلات الموسيقية المصنفة متبوعاً بوصف مفصل للآلة المحفوظة في المتحف، وأهم ما نستنتجه من تلك الدراسة هو أن منطقة الحجاز كانت، في العصر الجاهلي، وعصر صدر الإسلام، من المناطق التي كان لها سبق في ابتداع الآلات الموسيقية وتطويرها، حتى تنازلت وأصبحت عالة على ثقافات أُخر، معتمدة على الآلات الموسيقية الحديثة التي تصدر إليها.
اختلف العلماء حول موقفهم من الموسيقى والغناء، وقد تناقش الفقهاء قروناً حول نظرة الإسلام إلى الموسيقى والغناء ما بين محلل ومحرم، ولا يسعنا في هذا التحقيق استيعاب مبحث الحجج التي سيقت في هذه المسألة، ولكن من المسلَّم به هو عدم وجود أية كلمة كراهية مباشرة للموسيقى في القرآن الكريم، لذلك فإن غالبية الأدلة والحجج استندت إلى الأحاديث، وقد حثَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام على التغنِّي بالقرآن، وما التجويد في قراءة كتاب الله إلا تحسين الصوت، وفي حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن عائشة: «دخل عليَّ أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار تُغنِّيان بما تقاوَلَتْ به الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليست بِمُغنيتَيْن، فقال أبوبكر: أَبِمَزمور الشَّيطان في بيت رسول الله؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا بكر، إنَّ لكلِّ قومٍ عيداً، وهذا عيدنا»، وكذلك روى البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة أنها زفَّت امرأة من الأنصار، فقال النبِيُّ «يا عائشة: ما كان معكم من لَهْو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو».
وقد روي في صحيح مسلم حديث للصحابي حنظلة -رضي الله عنه- وفيه قال: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال الرسول: «وما ذلك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا -(اشتغلنا بها، عالجنا معايشنا وحظوظنا)- الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة «ساعة وساعة».. ثلاث مرات»، وهو ما يدل على أهمية «الترفيه» كوسيلة للترويح عن النفس فهي من الأمور ذات الأهمية البالغة على نفسية الفرد ويحتاجها المرء في حياته في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية، ففيه تخفيف للتعب والمشقة وإدخال للسرور في النفس.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي، وهو أحد أعلام عصره ومن أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، «من لم يحركه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، وهذه المقولة تحث على أهمية المباح من الغناء والموسيقى في تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان ورفع ذائقته السمعية، والتاريخ الإسلامي قدم نماذج عديدة في عهوده الأولى حول الغناء والموسيقى كجزء من الإرث الاجتماعي والثقافي للمسلمين في شتى البقاع الإسلامية، ولعلَّ صاحب الصوت العذب والإسهامات الموسيقية الكبيرة الموسيقار العربي المسلم زرياب أحد الشواهد الشهيرة على أهمية الغناء في المجتمع العربي المسلم.
وهناك عدد كبير من العلماء تناول المسائل الفقهية في موضوع الغناء ومدى مشروعية العمل به أو الابتعاد عنه، ومن بين من أباح الموسيقى والغناء، عبدالغني النابلسي في كتابه (إيضاح الدلالات في سماع الآلات)، ومحمد بن علي الشوكاني في (إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع)، وابن حزم في كتاب (المحلى)، وابن القيسراني في كتاب (السماع)، وكذلك أبو حامد الغزالي في كتاب (آداب السماع والوجد)، وغيرهم الكثير على مر العصور الإسلامية.. وجميع هؤلاء لهم آراء حول هذه المسألة جديرة بالدراسة والاطلاع، ولعلنا نجتهد في هذا الصدد فنشير إلى أن أحد أسباب وجود تحفظ على الغناء في صدر الإسلام كان نتيجة لشدة ارتباط الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية في المجتمع الجاهلي بظاهرة الغناء، فكان من الطبيعي على الإسلام، وقد استهدف بناء مجتمع يقوم على الدعوة ونشر الدين بطريقة صحيحة، وتكوين عادات اجتماعية وثقافية توافق تعاليم وقيم الدين الصحيح، أن يحدث ثورة على تلك الاتجاهات الجاهلية، وأن يعمل على تهذيب ممارسة الغناء بما لا يتعارض مع القيم الدينية، ويعمل على تعديل أغراض الغناء وغاياته وتحريرها مما كان يؤطرها من عادات جاهلية مرفوضة.
الغناء في الجزيرة العربية
استأثر الغناء في الجزيرة العربية بعامة، وفي منطقة الحجاز بحاضرتيه الرئيستين مكة المكرمة والمدينة المنورة بخاصة، باهتمامات عدد من مؤرخي الحياة الثقافية، فقد أفرد الأصفهاني أجزاءً كبيرة من موسوعته الشهيرة «الأغاني» لأخبار المغنين والمغنيات مبرزاً شواهد وروايات عديدة عنهم، كما تناول ابن عبدربه في مؤلفه «العقد الفريد» فصلاً عن الغناء واختلاف الناس فيه احتوى على أخبار الغناء في صدر الإسلام، واحتل الغناء اهتمامات عدد من كبار المؤرخين من بينهم: الطبري من خلال ما طرحه في كتاب (تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك)، والمسعودي (كتاب التنبيه والإشراف)، والسيوطي (المزهر في علوم اللغة)، وابن خلدون (كتاب المقدمة)، وغيرهم.
وشكلت الدراسات الحديثة تراكماً معرفياً في مجال الغناء والموسيقى العربية وتشكل أدباً وصفياً وتحليلياً لما كانت عليه فنون الغناء في الجزيرة العربية ومنها منطقة الحجاز، وهو أدب أسهم به عدد من الباحثين والمحققين العرب منهم أحمد تيمور باشا في كتابه (الموسيقى والغناء عند العرب)، وخليل مردم في كتابه (جمهرة المغنين)، ومحمد محمود سامي حافظ في كتابه (تاريخ الموسيقى والغناء العربي)، وغيرهم، بيد أن الدراسات المعمقة التي نشرها هنري جورج فارمر حول تاريخ الموسيقى العربية، وما أسهم به عدد آخر من المستشرقين، إضافة إلى الدراسات التي أعدت في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932 برعاية الملك فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، وما جاء في منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت من دراسات نشرت في مجلدين تحت عنوان: (دراسات في الموسيقى الشرقية)، وتناولت في المجلد الأول التاريخ والنظرية، وفي المجلد الثاني الآلات الموسيقية الشرقية، ومجموعة التسجيلات الصوتية التي خلفها المستشرق الهولندي «سنوك» وأودعت مكتبة جامعة ليدن لـ(الأغاني المكية) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كل هذه الدراسات تشكل مرجعية مهمة لوصف ما كانت عليه فنون الغناء والموسيقى في عدد من العصور الإسلامية الأولى، وخاصة في مكة والمدينة ومنطقة الحجاز.
جذور الغناء قبل الإسلام
أصل الغناء الحجازي يعود إلى العصر الجاهلي، تؤكد تلك الحقيقة سلسلة طويلة من المصادر، إلا أن البداية كانت غامضة أياً كانت الآراء حول بداية الغناء لعدم وجود الأدلة والشواهد القاطعة، وتشير المصادر إلى أن قبيلة جرهم -بعد سقوط العماليق- قد عملت على تفعيل دور ديني وثقافي واقتصادي لمكة المكرمة، وأصبحت حاضرة تستقطب الهجرات من كافة أرجاء الجزيرة العربية، فانتقلت فنون الغناء من اليمن والحيرة ومن بلاد الغساسنة ومن فارس والروم وغيرها إلى الحجاز، فاتصال مكة ويثرب بالحضارات المجاورة -سلماً أو حرباً- كان حقيقة أثبتتها الأحداث والوقائع، وبالتالي فإن فن الغناء والموسيقى الحجازية كانت نتاجاً لذلك التواصل الذي حدث في العصر الجاهلي، دون إقامة دليل قاطع بالزمن الذي بدأ فيه الغناء تحديداً.
واستناداً إلى المصادر التي تناولت مظاهر الحياة في العصر الجاهلي، فإن كافة مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية قد ارتبطت بشكل أو بآخر بالغناء، فمعظم الطقوس الدينية التي كانت تمارس في العصر الجاهلي كانت تصاحب شعائرها طقوس غناء تُؤدى أمام الأنصاب، ومن الأمثلة على ذلك، ما كان ينشده الجاهليون وهم يفيضون إلى منى:
«أشرق ثبير كيما نغير».
وتطور فن الغناء الحجازي حول مكة ويثرب تدريجياً في العصر الجاهلي باستخدام آلات موسيقية وترية كالبربط والمزهر والكيران والمعزفة والربابة والطنبور، وآلات هوائية بالنفخ كالقصابة والشبابة والمزمار وزمارة القرب، كما ساهم الجاهليون في الحجاز بابتداع أدوات موسيقية، ويشير ابن عبدربه إلى أن «أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة».
الغناء في صدر الإسلام
شهد عصر صدر الإسلام، رغم ما جاء في السنة النبوية من أحاديث كريمة وشواهد في شأن الغناء، استمرار تأثير الغناء من الناحية الاجتماعية تأثيراً كبيراً، وكان من الصعب على بيئة شكَّل الغناء تأطيراً قوياً لبنيتها الدينية والاجتماعية والثقافية في العصر الجاهلي أن تتوقف عن ممارسة تلك التقاليد بشكل قاطع.
ومع امتداد العصر الذي ظهر فيه المغنون والمغنيات في عصر صدر الإسلام، كانت حركة إبداع وأصالة وريادة في فنون الغناء احتلت فيه مكة والمدينة موقعاً بارزاً اتفق عليه معظم المؤرخين الذين تناولوا الموضوع ذاته، فالقرون الثلاثة الأولى من صدر الإسلام شهدت تحولاً مهماً في فنون الغناء في الحجاز اختلفت عما كان عليه الوضع في الجاهلية، إذ أضحت حركة فنية مجردة وفيَّة لعناصرها التي تقوم على المنافسة في اختيار القصائد المغناة لفحول الشعراء، والإبداع اللحني، وحسن الأداء، وتطوير الأدوات، وبيئة منفتحة اتسعت لممارسة الفنون على نحو غير مسبوق، وكانت شكلاً من أشكال فنون اللهو والترفيه الاجتماعي الذي مورس عند سراة القوم أولاً حتى بلغ أوجهاً في قصور بعض الخلفاء والأمراء من بني أمية وبني العباس.
وفضلاً عن ذلك فهناك شواهد دينية واجتماعية في استحسان الأصوات العذبة المطربة، وهذا رسول الله يقول لأبي موسى الأشعري وقد أعجبه حسن صوته: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود»، وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم، قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمتم أن الأنصار يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكـــم... نحييكـم نحييكــم
ولولا الحبة السمراء... لم نحلل بواديكم».
وجاء في (فتح الباري) لابن حجر، حديث أنس أن النبي كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير»، وجاءت في صحيح مسلم عن أنس: «رويداً يا أنجشة لا تكسر القوارير»، فكأنه عليه الصلاة والسلام يشير إلى أنجشة ألا ينشد بالمقام المتسارع، حتى لا تتأثر النساء، فقد كانت أم سليم في «الثقل»، (أي حامل في أشهرها الأخيرة)، فكان عليه الصلاة والسلام يرغب إلى أنجشة، أن يحدو بلحن بطيء ممدود كما هو لحن (الصبا) المعروف اليوم، وهو لون من ألوان مقام (الرصد).
أشهر المغنين في مكة والمدينة
اشتهر في مكة المكرمة والمدينة المنورة عدد كبير ممن مارسوا فنون الغناء والعزف على الآلات الموسيقية كوسيلة للترفيه في صدر الإسلام وعهود الخلافة الراشدة، ومن أبرز هؤلاء:
- طويس (11هـ - 92هـ): واسمه تصغير للطاووس، ورد ذكره عند الأصفهاني وابن عبد ربه وابن خلكان وغيرهم، وهو الذي ضرب به المثل الشهير «أشأم من طويس» لموافقة مولده وختانه وزواجه بأحداث توفي فيها رجال بارزون، اسمه أبو عبدالمنعم عيسى ابن عبدالله، وهو مولى لبني مخزوم، نشأ في دار أروى أم الخليفة عثمان رضي الله عنه في المدينة المنورة، وبلغت شهرته في نهاية عهد الخليفة عثمان، وتروى أخبار كثيرة عن المنافسة بينه وبين مغني مكة ابن سريج، الذي قدم إلى المدينة وغنى فيها مما أثار حماسة الناس حتى نصبوه كأكبر مغنٍ في العالم، ومر طويس بالمكان وغنى ضارباً على الدف:
تناهى فيكُمُ وجدي... وصدَّع حبكـم كبدي
فقلبي مسعرٌ حزناً... بذات الخال في الخدِّ
فما إن سمعه ابن سريج حتى تقدم نحوه صائحاً: «والله هذا أعظم مغنٍّ عرفته الناس» (الأغاني، الجزء الثالث ص30)، واستخدم طويس أسلوب الإيقاع الخفيف في غنائه مستخدماً آلة الدف.
- أبو الخطاب مسلم بن محرز (توفي 140هـ): وهو من أعلام الغناء المكي في صدر الإسلام رحل إلى فارس والشام، ودرس الأنغام الفارسية والرومية، واقتبس منها في صناعة ألحانه المكية، ولقب بـ«صناج العرب» لإجادته العزف على الصنج، وهي صفيحة مستديرة يضرب عليها بصفيحة أخرى، تنقل مغنياً بين مكة والمدينة، ودرس الغناء على عزة الميلاء في المدينة، وعلى ابن سريج وأبي مسجح في مكة، ويعتبر أول من غنى في الحجاز على إيقاع الرمل، كما أنشد رملاً فارسياً، وينسب له التجديد في الموسيقى العربية فابتكر غناءً سمي بـ«غناء الزوج»، وهو أول من غنى بزوج من الألحان للبيت الشعري الواحد، أي أنه لم يكتف بلحن واحد يردد مع كل بيت. وذاع صيت ابن محرز فبلغ الكوفة، وأطرب مجالسها، ثم عاد للحجاز، ليموت منعزلاً بعد أن داهمه مرض الجذام (الأعلام، خير الدين الزركلي، الجزء7، ص223).
- أبو جعفر سائب بن يسار والمعروف بـ(سائب خاثر)، (توفي 64هـ): وهو ممن أبدع في الغناء والتلحين في المدينة المنورة، وهو ابن لأحد موالي الفرس، برع في العزف على العود فأطرب أشراف المدينة ومنهم عبدالله بن جعفر واستدعاه معاوية للغناء، ابتكر الإيقاع الذي سمي بـ«الثقيل الأول»، وغنَّى به لأول مرة في تاريخ الغناء العربي، تأثر بنشيط الفارسي، وهو من أقدم المغنين الفرس الذين أخذ عنهم العرب الغناء في الإسلام، وحوَّر بعض الألحان الفارسية إلى العربية. استمر سائب خاثر في الغناء حتى استشهد في «وقعة الحرة» (سنة 63هـ) بين أهل المدينة من طرف ويزيد بن معاوية والأمويين من طرف آخر، وكان من تلاميذه عزة الميلاء وجميلة وابن سريج ومعبد.
- معبد بن وهب (44هـ - 126هـ): من موالي بني مخزوم، ومن أعلام الغناء في المدينة المنورة، درس فن الغناء على سائب خاثر ونشيط الفارسي وجميلة، وبرع حتى لقب بـ«أمير المغنين»، سمعه ابن سريج والغريض، مغنيا مكة، وهما في رحلة إلى المدينة، وكان يتغنى بشعر أبي قطيفة من لحن خفيف الثقيل الأول:
القصر فالنخل فالجماء بينهما... أشهى إلى القلب من أبواب جيرونِ
فعادا أدراجهما من حيث قدما اعترافاً بمكانته في الغناء، وتنازلا عن منافسته، ووردت روايات عن المنافسة بينه وبين معبد وابن سريج مما يوحي بما كانت عليه المنافسة بين المدينة ومكة في فنون الغناء في صدر الإسلام.
وقد تطور فن الغناء الحجازي المدني عند معبد بن وهب مرحلياً، حيث تأثر في غنائه بإيقاع «الحداء»، ثم تطور بابتداع ألحان أكثر إتقاناً وصنعة من «الحداء» حتى قال عنه الأصفهاني: «ولمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدم ولا زاد عليه فيها من تأخر»، فأهم ما جاء به معبد على فن الغناء المدني تلك النشوة التي يحدثها غناؤه في نفوس سامعيه، فضلاً عن محاولاته الأولى ابتداع ما عرف فيما بعد بـ«فن المقامات»، فله سبعة ألحان تقابلها سبع قصائد عرفت بـ«حصون معبد»، وذلك لجودتها ومتانة صياغتها، وكان في ذلك نقلة في فن الغناء من الأنشودة الشعبية القديمة التي تعتمد على البيت الشعري الواحد إلى غناء القصيدة التي تعتمد على الإيقاع اللحني المستقل عن الأوزان الشعرية.
- يونس بن سليمان الكاتب (توفي 135هـ): وهو من المغنين المدنيين ومولى لعمرو بن الزبير، كان والده كاتباً في ديوان المدينة، أخذ الغناء عن ابن سريج ومعبد وابن محرز والغريض، غنى أشعاراً سميت بـ«الزيانب» تغزلاً في زينب بنت عكرمة (هنري جورج فارمر، تاريخ الموسيقى العربية، ص101)، مما أثار عليه حقد أهل المدينة فغادرها. ويعد يونس الكاتب وفقاً لما جاء في (فهرست) ابن النديم، أول من ألف في الغناء في المدينة من خلال كتاب «النغم» وكتاب «القيان» (أبو إسحاق محمد بن النديم، الفهرست، تحقيق ناهد عباس عثمان، ص227).
- سعيد بن مسجح (توفي 85هـ): وهو ممن برز في الغناء المكي في صدر الإسلام مولى بني جمح، أخذ عن الفرس والروم أجمل ألحانهم وصاغها صياغة مكية حتى قيل بأنه أول من وضع أسس اقتباس الألحان من الثقافات الفنية المجاورة، تعلم منه ابن سريج ومعبد والغريض (الأغاني، ج3، ص209).
- ابن سريج (20هـ - 98هـ): برز كعلم شهير في الغناء المكي، وهو أبو يحيى عبيدالله ابن سريج، مولى لبني نوفل بن عبد مناف، اشتهر بلبس «الجمة» (الشعر المصطنع) وكان يغني مقنعاً برداء على وجهه لجذام أصابه، ويعتبر أحد أعمدة الغناء الأربعة في الحجاز، وهم مكِّيان: ابن سريج وابن محرز، ومدنيان: معبد ومالك الطائي، وهو أول من استخدم العود في مكة، غنى به «النوح»، وأبدع في نوحه على يزيد بن عبدالملك على قمة أبي قبيس:
يا عين جودي بالدموع السفاح... وابكي على قتلي قريش البطاح
تعلم منه الغريض، وغنى له معبد والذلفاء، ومدحه جرير، وبداية غنائه كانت بإيقاع «الرمل»، ثم تطور إلى إيقاع «الثقيل الأول»، فغنى به من أشعار عمر ابن أبي ربيعة. ويقول ابن سريج عن فن الغناء: «المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويجتلى مواقع النبرات، ويستوفي ما يشكالها في الضرب من النقرات» (سيمون جارجي، الموسيقى العربية، ترجمة: عبدالله نعمان، ص29).
- أبو يزيد عبدالملك الغريض (توفي 95هـ): كان مولى للعبلات، وهن أخوات مشهورات بمكة، أخذ الغناء عن ابن سريج، كان نواحاً في المآتم في مكة، تفوق على أستاذه ابن سريج، وغنى بمراسلة القضيب والعود والدف.
- أبو الوليد مالك بن أبي السمح (توفي 137هــ): مـن أعلام الغناء المدني في صدر الإسلام، أبوه من بني ثعل وأمه مخزومية، تيتم صغيراً فرباه عبدالله بن جعفر، وتعلم الغناء من معبد، وغنى في مجالس يزيد بن عبدالملك والوليد بن يزيد، وغنى من شعر الحسين بن عبدالله بن العباس.
هذا وقد حفل الغناء في مكة والمدينة بعدد آخر ممن فاقت شهرتهم حدود مكة والمدينة، منهم في مكة: أحمد بن يحيى بن مرزوق المكي الذي عاش في النصف الأول من القرن الهجري الثالث، وله كتاب في الغناء سماه «المجرد في الأغاني ونسبها»، قال عنه الأصفهاني: «ما أعرف كتاباً يقارب كتابه ولا يقاس به»، ومحمد بن عباد، ويحيى المكي، وابن جامع، وعمر الوادي، وخالد صامة، وفليح، وأبو وهب عبدالله بن وهب، وعبادل بن عطي، وفليح بن أبي العوراء، وأبو طالب عبيدالله بن القاسم الذي لقب بـ«الأبجر». كما برع في المدينة (عَطَرَّد الذي تعلم الغناء من معبد وغنى للوليد بن يزيد، والبردان، وابن أبي عتيق، وابن عائشة، وقند، والدلال، وبذل، ودنانير)، وعشرات غيرهم ممن بلغت شهرتهم الحواضر الكبرى.
وإن من أهمية فنون الغناء في الحجاز وارتقائه في عصر صدر الإسلام أن وفد عدد من المغنين من مكة والمدينة إلى حواضر الأمويين والعباسيين والتحقوا بمجالس الغناء في دمشق وبغداد والكوفة والبصرة، بينهم إسماعيل بن الهربذ المكي وابن دحمان، وعمر بن داود بن زاذان الملقب بـ(عمر الوادي)، وأبو صدقة، ومخارق، وعلوية وغيرهم.
المغنيات في صدر الإسلام
كان هناك العديد من المغنيات الشهيرات، المكيات والمدنيات، في صدر الإسلام، من اللواتي تفوقن في غنائهن على الرجال، ومن أبرزهن:
- جميلة: (توفيت نحو 135هـ): مولاة بني سليم وهي أصل من أصول الغناء في المدينة، أخذ عنها معبد، وابن عائشة، وحبابة، وسلامة، وعقيلة العقيقية، والشماستان خليدة المكية، مولاة ابن شماس، وربيحة. قال عنها معبد: «أصل الغناء جميلة وفرعه نحن». (صلاح الدين الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات، ص236).
اشتهرت جميلة في المدينة بمجالس غنائها التي جمعت المشاهير من المغنين المكيين والمدنيين من أمثال معبد وابن سريج وابن مسجح والغريض وغيرهم.. وغنت من شعر الأحوص وعمر بن أبي ربيعة وامرؤ القيس، وزهير، وفطاحل شعراء صدر الإسلام، ومن أبرز إسهاماتها تأسيسها أول مدرسة موسيقية عربية في المدينة (الموسيقى العربية، ترجمة: عبدالله نعمان ص29).
- سلامة القس (توفيت نحو 130هـ): وهي من قيان المدينة، أخذت الغناء عن جميلة، واشتهرت هي وأختها ريا في مجالس الغناء بالمدينة حتى اشتراها يزيد ابن عبدالملك، فلما توفي ناحت عليه من مجزوء الرمل:
لا تلمنا أن خَشعْنا... أو هممنا بخشوع
إذْ فقدنا سيداً كان... لنا غير مضيع
وهو كالليث إذا ما... عُدَّ أصحاب الدروع
- بصبص: مولدة من مولدات المدينة، حلوة الوجه، حسنة الغناء، وقد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين، وهي جارية ابن نفيس التي اشتهرت بغناء المجالس وفتن بغنائها كثيرون، وقيل فيها:
بصبصٌ أنتِ الشمس مزدانةٌ... فإن تبذَّلت فأنتِ الهلالُ
إذا دعت بالعود في مشهدٍ... وعاونت يمنى يديها الشمالُ
غنت غناءً يستفز الفتى... حذقاً وزان الحذق منها الدلالُ
- حبابة (توفيت 105هـ): من القينات المغنيات في الحجاز، ظهرت وكان اسمها (العالية)، كانت جارية لآل لاحق المكيين ولابن مينا، أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز، اشتراها يزيد بن عبدالملك بأربعة آلاف دينار، فغلبت على عقله وشغل بها، ثم ماتت فحزن عليها ومات بعدها بأيام قليلة. وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكملهم عقلاً وأفضلهم أدباً، قرأت القرآن وروت الشعر وتعلمت العربية.
- عزة الميلاء (توفيت نحو 115هـ): نالت شهرة كبيرة في الغناء في المدينة وكانت مولاة للأنصار، وهي أقدم من غنى الغناء الموقَّع في الحجاز حسب ما جاء عند الأصفهاني، وكانت تضرب بالعيدان والمعازف، وبدأت في الغناء تقليداً لسالفات القيان كسيرين، وزريب، وخولة، والرباب، وسلمى، ورائقة، واقتبست من الأغاني الفارسية، وكانت بارعة في العزف على العود، وتعلم منها ابن سريج وابن محرز وطويس ومعبد. وكانت وافرة السمن، جميلة الوجه، لقبت بالميلاء لتمايلها في مشيتها، كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة ليسمعها ويتعلم غناءها، وقال عنها: «هي أحسن الناس غناءً»، وقال عنها طويس «هي سيدة من غنى من النساء». كانت إذا غنت في مجلس عام فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها. كانت بارعة الجمال وكريمة الخلق وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء.
قال ابن جعدبة: «كان ابن أبي عتيق معجباً بعزة الميلاء، فأتى يوماً عند عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، فقال له: بأبي أنت وأمي! هل لك في عزة، فقد اشتقت إليها! قال: لا، أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت وأمي! إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل، فأتياها ورسول والي المدينة سعيد بن العاص على بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضج أهل المدينة منك، وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم. فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه، ويظهر لنا ولك أمره، فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه».
كما أورد صاحب (الإصابة في تمييز الصحابة) تراجم ثلاث من المغنيات في المدينة، هن: (أرنب المدنية) و(زينب الأنصارية) و(حمامة)، وقال في هذه الأخيرة: «مغنية من جواري الأنصار، ذُكرت في حديث عائشة لمَّا دخل أبو بكر عليها في يوم عيد وعندها جاريتان تغنيان، سمَّى منهما حمامة، وأصل الحديث في الصحيحين من هذا الوجه، لكن لم تسمَّ فيه واحدة منهما، وأوضحتها في (فتح الباري)».
ويتضح مما سبق أن فنون الغناء قد ازدهرت في مكة والمدينة في صدر الإسلام وخاصة في عهد الأمويين والعباسيين، بل احتلت المدينة ريادة في ذلك بما ضمت من مشاهير المغنين والمغنيات، يؤكد ذلك شوقي ضيف بقوله: «لم تُعنَ الشام بالغناء في أول الأمر، واستمرت العراق لا تُعنى به طوال هذا العصر إلا قليلاً، وأما الحجاز فقد غرقت فيه إلى أذنيها، وكانت المدينة أسبق مدن الحجاز إلى العناية بالغناء، فقد رأينا أنها أخذت تُعنى به منذ عصر عثمان». (شوقي ضيف، الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية، ص46)، وكذلك أشار في موضع آخر: «ومع ذلك فإن مكة لم تلبث أن عنيت بالغناء وأصبحت تنافس المدينة فيه، فظهر عندها ابن مسجح وتلاميذه، ولكن ينبغي أن نعرف أن المدينة ظلت هي المركز الأول في الحجاز للغناء والمغنين وتخريجهم، ولعل مما يدل على ذلك دلالة واضحة أن نجد خلفاء دمشق يطلبون مغنيهم غالباً من المدينة، بل إننا نجد مكة نفسها تطلب مغنيها من المدينة». (المرجع السابق، ص47).
ومما يعطي الحجاز شاهداً لتلك الريادة محاولة هارون الرشيد اختيار أحسن الأصوات غناءً، فاختير أولاً مائة صوت من أغاني كل عصر، ثم اختير منها عشرة، حتى استقر الرأي على اختيار ألحان ثلاثة (محمد محمود سامي حافظ، تاريخ الموسيقى والغناء العربي، ص68)، وهي:
1- لمعبد من (خفيف الثقيل الأول) من شعر أبي قطيفة: القصر فالنخل فالجماء بينهما... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
2- لابن سريج من (الثقيل الثاني) من شعر عمر بن أبي ربيعة: تَشَكَّى الكميت الجري لما جهدتهُ... وبَيَّنَ لو يستطيع أن يتكلما
3- لابن محرز من (الثقيل الثاني) من شعر نُصَيبْ: أهاج هواك المنزل المتقادم... نعم... وبه ممن شجاك معالمُ.
الآلات الموسيقية
عهود صدر الإسلام الأُولى اتسمت بتأثيرات ثقافية على الموسيقى وأدواتها، وعلى الغناء أيضاً، يظهر ذلك جلياً من النصوص التي تناولت أحكام الغناء والموسيقى في تلك العهود.
وبالرغم من أن بعضاً؛ كالأصفهاني في (الأغاني)، وابن عبد ربه في (العقد الفريد)، قد توسع في وصف الحالة التي كان عليها الطرب والغناء والموسيقى في تلك العهود في الحجاز، واسترسل في سرد أخبار المغنين في مكة والمدينة من أمثال: ابن مسحج، وطويس، والأبجر، وعطرَّد، وسياط، وجميلة، ودقاق، وقلم، وبصبص، ودنانير، وعريب، وغيرهم؛ إلا أن بعضاً آخر قد تناول الغناء والموسيقى في عصر صدر الإسلام بالتأكيد على التأثيرات الثقافية الإسلامية التي جاءت في شأن أحكام الغناء والموسيقى وأدوات الطرب.
تناول النويري في كتاب (نهاية الأرب) شرح بعض الآلات الموسيقية التي سادت تلك الحقبة، منها:
- الدف: وهو من آلات الضرب بأنواعه المختلفة المعروفة والممتدة من العصر الجاهلي.
- اليَرَاع: وهو قصبة الزَّمر، ويقال له: اليراع المثقب، كما في قول الشاعر: «حنينٌ كَتِرجَاعِ اليَرَاع المثقبِ» (محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، جـ11ص396).
- الأوتار: وهي الآلات الوترية ومنها العود، الموصوفة في أبيات للشاعر(كُشَاجِمْ) في العصر العباسي الذي ولد في القرن الثالث الهجري وكان شاعراً ومغنياً في بلاط سيف الدولة في حلب، وطرحت في كتاب (أنور ماجد عشقي، الركب المكي، ص12):
شدت فجلت أسماعنا بمخفف... يحدثها عن سرها وتحدثه
مشاكلة أوتاره في طباعها... عناصر منها أحدث الخلق محدثه
فللنار منه الزير والأرض بمه... وللريح متناه وللماء مثلثه
وكل امرئ يرتاح منه لنغمة... على حسب الطبع الذي منه يبعثه
شكا ضرب يمناها فظلت يسارها... تطوقه طوراً وطوراً ترعثه
فما برحت حتى أرتنا مخارقاً... يجاذبه في أسحن النقر عثعثة
وحتى حسبت البابليين القنا؟... على لفظها السحر الذي فيه تنفثه
- الطنبور: وهو ما يشبه العود، لكنه أصغر حجماً، وجاء فيه قول الشاعر:
مُخْطَفُ الخَصرِ أجوفُ... جِيدُه نصف سائرِه
أنطقتْهُ يدا فتىً... فاتر اللحظ ساحره
فجلا عن ضميره... ما حوى في خواطره
- الشبابة: وهي من آلات النفخ، (ناي) استعمله الجاهليون واستمر وتطور في صدر الإسلام.
- الطار: وهو من آلات الضرب كالدف.
وعلى نحو ما رأينا من شواهد للآلات الموسيقية التي استخدمها أهل الحجاز في عصر صدر الإسلام، فقد كانت امتداداً للآلات التي استخدمها الجاهليون.
فيما تطرق المستشرق البريطاني هنري فارمر في إحدى دراساته المضمنة في كتاب: (هنري جورج فارمر، دراسات في الموسيقى الشرقية، إعداد إيكهار نويباور)، إلى مخطوطة في المكتبة الوطنية الإسبانية في مدريد عنوانها: (كتاب الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع)، قائلاً إنها من تأليف محمد بن إبراهيم الشلاحي، ومؤكداً على أهمية الكتاب من الناحية الثقافية الحضارية والتاريخية، وبخاصة في شموله للعصور السابقة للعصر الذي كتب فيه، وحاول فارمر التحقيق في اسم مؤلف الكتاب (الشلاحي)، فلم يقف على إجابات لتساؤلاته، تاركاً الكثير من علامات الاستفهام حول المؤلف الحقيقي لهذا العمل المهم، ثم تصدى الباحث الدكتور محمد ابن شقرون، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، لتحقيق النسخة الوحيدة المتوافرة في المكتبة الوطنية الإسبانية بمدريد تحت رقم (1334)، فوجدها منسوخة على يد محمد بن إبراهيم الشلاحي سنة 701هـ، ثم توصل إلى حقيقة مؤلفها، وهو أبو عبدالله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن سليـمان الأنصاري السبتي، المعروف بابن الدراج السبتي (توفي سنة 693هـ).
وكتاب ابن الدرَّاج، بالرغم من أنه مخصص لأحكام الغناء والسماع وآلات الطرب والمعازف، إلا أنه يقدم في الفصل الثاني شرحاً وافياً للآلات الموسيقية التي كانت في عصر صدر الإسلام؛ استخرجها، على حد قوله، من: «جملة ما حضر في حفظي الآن مما يدور على ألسنة علماء الشريعة، ويتردد ذكره في كتبهم الشريفة الرفيعة، من ذلك دون ما لم أقف عليه فيها كالقانون وغيره من الآلات المسموعة إحدى وثلاثون آلة، وهي:
الدف، والغربال، والمصافق، والكبر، والأصف، والمزهر، والعود، والرباب، والكران، والصنج، والكيثار، والمعزف، والعزف، والمزمار، والناي، والقصابة، والبوق، والطبل، والكوس، والكوبة، والعيد، والطنبور، والبربط، والقضيب، والشاهين، والسفاقس، والشيزان، والكنارات، والعرطبة، والصفارة، والشبابة».
كما قدم شرحاً موجزاً عن كل آلة مع ما يسندها من الشواهد، فالدُّف العربي: هو الدف المدور الذي يسميه العامة الطَّار.
أما (الغربال): فهو من أسماء الدف، سمي به على وجه التشبيه بشكل الغربال الذي يغربل به الدقيق. و(المصافق): أطلق على الأكف، وهو الضرب بباطن إحدى اليدين على باطن الأخرى. أما (الكبر): فهو طبل له وجه واحد.
و(المزهر): هو العود، وقيل في المزهر: خُلِقَتْ لمسلاةِ القلوب ولن ترى... أسلى لأرباب الهوى من مزهرِ.
و(العود): هو الآلة البطينة المجوفة ذات الأوتار الأربعة والملاوي الأربعة، وكانت العرب تسمي الرقيق من أوتاره: الزير، وتسمي الوتر الثاني: المثنى، والوتر الثالث: المثلث، والوتر الرابع: البم. وفي ذلك قال أبو بكر يحيى بن هذيل:
رقَّت معانيه برقة أربع... صارت عليه قلائداً وعقوداً.
والرباب يشبه العود، لكنه كما جاء في وصف ابن هذيل:
يخالف العود في تصرفه... وهو على خلقه وإن صغرا
وإنما يحتـوي على نغم... من حكم القوس كلما خطرا
كأنه في يدي محركه... ينشر قلبــي به وما شعرا
و(الكران» من أصناف العود، سمته العرب كراناً لأنه يوضع على بضعة في الصدر اسمها الكران.
(الصنج): آلة أصلها رومي، واستخدمها عرب الجاهلية ومن بعدهم. قال فيها الأعشى:
ترى الصنج يبكي له شجوه ... مخافة أن سوف يدعى بها.
ومن هنا سمي الأعشى بصناجة العرب لكثرة أشعاره فيه.
أما (الكيثار): فمن ذوات الأوتار، وربما كان اسمه مولَّداً، وهو شبيه بآلة الجيتار الحديثة، حيث أخذ الغربيون الاسم وسموا به آلة الجيتار أو القيثارة لدى العرب الحديثين. قال عنه ابن عبد ربه:
وحَنَّ من بينها الكيثار عن نغمٍ ... يبدي عن الصب ما تخفي ضمائرهُ.
و(المعزف): من جملة الطنابير، والعزف صوت المعازف، والمعازف يقصد بها الملاهي المصوتة كالبرابط والعيدان والعرطبة والكيثارة والمزهر.
أما (المزمار) فهو من آلات النفخ كالناي؛ وقد ورد في حديث أبي موسى الأشعري: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود»، ووردت عند العرب بأسماء كالقصابة والبوق.
(الطبل): من آلات الضرب، وورد في التراث بأصناف وأسماء منها: (الكوبة)، وهو ما يضيق في وسطه ويتسع في طرفيه، ويضرب من الناحيتين، وورد فيها الحديث: «إن الله حرَّم الخمر والكوبة»، واختُلِف في تفسير (الكوبة) على أنها النرد أو البربط، وقيل: الطبل، وأطلق على الطبل أيضاً أسماء كالعيد، والكوس (ابن النديم، الفهرست، ص 227).
وقد امتد استخدام تلك الآلات الموسيقية الأصيلة في الحجاز زمناً حتى أخذت بعض الأسماء تختفي تدريجياً مع انتقال فنون الغناء والموسيقى والآلات إلى حواضر أُخَر كبغداد ومدن الأندلس الكبرى.
ويحتفظ متحف (ريكيس) (Rijks) في ليدن بهولندا بمجموعة نادرة من الآلات الموسيقية التي جلبها المستشرق الهولندي سنوك هورخرونية من رحلته المكية في القرن الرابع عشر الهجري والتي كانت بين السنوات (1302- 1304هـ/ 1884 – 1885م) وأودعها في المتحف المذكور. وقد لفت الانتباه إلى هذه المجموعة المستشرق البريطاني هنري فارمر حين كتب سنة 1925 مقالته المشهورة بعنوان (الآلات الموسيقية المكية) التي نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية في لندن، وأهمية الدراسة التي أعدها فارمر تتمثل في أمرين، (الأول): تصنيفه الآلات الموسيقية المكية إلى ست مجموعات هي:
- العود The Lute
- الكمان The Violes
- قصبات الناي Reed - Pipes
- الناي الزنامي The Oboe
- القصابة والشبابة The Flute
- الدف The Tambourine
(الثاني): تقديم عرض تاريخي للآلات الموسيقية المصنفة متبوعاً بوصف مفصل للآلة المحفوظة في المتحف، وأهم ما نستنتجه من تلك الدراسة هو أن منطقة الحجاز كانت، في العصر الجاهلي، وعصر صدر الإسلام، من المناطق التي كان لها سبق في ابتداع الآلات الموسيقية وتطويرها، حتى تنازلت وأصبحت عالة على ثقافات أُخر، معتمدة على الآلات الموسيقية الحديثة التي تصدر إليها.