بحسب السائد في المصادر والمراجع الطبية والعلمية، انتقلت سلالات من فايروسات «كورونا» من الحيوانات إلى البشر، بداية من فايروس كورونا المسبب لـ«متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم» (السارس) الذي انتقل من قطط الزباد إلى البشر في الصين عام 2002، ثم فايروس كورونا المسبب لـ«متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» (Mers) الذي انتقل من الإبل إلى البشر في السعودية عام 2012، كذلك يرتبط انتقال فايروس كورونا «المستجد» المعروف أيضاً بمسمى «COVID19» من الحيوانات، حيث ترجح غالبية المصادر والمراجع العلمية حالياً أن مصدر انتقاله هو سوق للأسماك والحيوانات في مدينة ووهان الصينية. إلا أن السلطات الصينية قلبت أخيراً موازين فرضيات مصدر انتقال فايروس «كورونا المستجد» الذي أثار هلعاً عالمياً بعد انتشاره حول العالم ليصل إلى 165 دولة مخلفاً نحو 200 ألف إصابة وأكثر من 8 آلاف حالة وفاة حتى لحظة إعداد هذا التقرير، حيث ألمح المتحدث باسم الخارجية الصينية «تشاو لي جان» الأسبوع الماضي إلى احتمالية تخليق فايروس كورونا في معامل الجيش الأمريكي ونشره عمداً في الصين، زاعماً عبر حسابه على «تويتر» أن الجيش الأمريكي ربما جلب الفايروس لمدينة ووهان، وسرد بعض التساؤلات حول توقيت ظهور الفايروس في الولايات المتحدة وأعداد المصابين وما هي أسماء المستشفيات التي استقبلتهم، وهو ما دفع الحكومة الأمريكية لاستدعاء السفير الصيني لدى واشنطن، تسوي تيان كاي، للاحتجاج على تلك الاتهامات.
ورغم أن الاتهامات الصينية لا تعدو كونها مزاعم باعتبار أنها لم تقدم أي أدلة وبراهين تثبت صحة تلك الادعاءات، إلا أنها لم تأت من فراغ تام، فالمختبرات البيولوجية العسكرية لها تاريخ أسود دائما ما يثير التساؤلات حول قضية استخدام هذه المختبرات لأغراض غير علمية وغير أخلاقية، إضافة إلى تهرب بعض الدول من الالتزام بمعاهدات حظر استخدام الأسلحة البيولوجية، وحتى لا ندفع هذا الطرح في سياقات «نظريات المؤامرة» غير الموضوعية، سوف نسلط الضوء من خلال هذا التقرير المقتضب على سلسلة من الـ«حقائق» حول الحروب البيولوجية وتداعيات التجارب الفايروسية والجرثومية على البشرية.
الحروب البيولوجية البدائية
بدأ الإنسان في استخدام الجراثيم كسلاح في حروبه منذ القدم، بل وقبل اكتشاف أنواع الجراثيم والفايروسات وتصنيفاتها العلمية، فقبل الميلاد بـ10 آلاف عام، استخدم البشر السهام المسمومة بسم الأفاعي والعقارب، وفي مراحل أخرى من التاريخ القديم، كان البشر يغمسون رؤوس الرماح في الجثث المتعفنة حتى يصاب الضحايا بمرض «الكزاز» (التيتانوس) والغرغرينا، في حين تعمد آخرون تسميم مياه الآبار والينابيع بإلقاء جثث الحيوانات النافقة فيها.
وفي عام 1344 حاصر المغول مدينة كافا التجارية في شبه جزيرة القرم، وبعد أن طال أمد الحصار لنحو 3 سنوات بدأت معاناة المغول تتضاعف بعد انتشار الطاعون بين الجنود، فعمد قائد الجيش المغولي جوني بيغ إلى استخدام الجثث المصابة كسلاح بيولوجي، وقام بقذف جثث الجنود فوق أسوار المدينة ما تسبب في انتشار المرض، وحينها هرب تجار جنوة بحراً إلى جنوب أوروبا ناقلين معهم المرض إلى صقلية وفينيسيا ومرسيليا، وهي حقبة الطاعون الكبرى حيث تسبب الوباء في مقتل ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا.
وفي الحرب الروسية السويدية (1656-1658)، كرر الروس ما فعله المغول في القرن الـ14، إذ قاموا بوضع جثث موتى الطاعون المتفسخة في المنجنيق وقذفها فوق أسوار مدينة ريفال (الاسم القديم لمدينة تالين عاصمة جمهورية إستونيا حاليا).
وفي عام 1763 حاصر اللورد جيفري أمهيرست القائد العام للقوات البريطانية في شمال أمريكا، قبائل الهنود الحمر الثائرة ضد الإنجليز بقيادة الزعيم الهندي «بونتياك»، وخطط أمهيرست حينها لإبادتهم من خلال إهدائهم بطاطين ملوثة بداء الجدري.
وخلال حصار باريس في عام 1870 وتقدم الألمان في الحرب الفرنسية البروسية، اقترح أحد الأطباء أخذ نحو 8 آلاف غطاء سرير لمرضى الجدري ووضعها في ناقلة وتركها بالقرب من مخيمات الجنود الألمان لنقل العدوى إليهم.
رواية روبيدا
بعد قرون من المحاولات البدائية للحروب البيولوجية، بدأ الإنسان بالاعتماد على المعرفة العلمية في التعامل مع البكتيريا والفايروسات، وتطورت البحوث العلمية في مجال الجراثيم لأهداف طبية ذات طابع سلمي، ولكن في العقد الأخير من القرن الـ19 عادت فكرة استخدام «الحروب البيولوجية» من خلال رواية أدبية مثيرة من 3 أجزاء للفرنسي ألبير روبيدا، صدرت في أعوام 1882 و1887 و1890 وتتمحور حول الخيال العلمي بعنوان «القرن العشرون». وبسبب هذه الثلاثية اشتهر روبيدا وأصبح ملء الأسماع والأبصار في موطنه فرنسا، حيث قدم من خلال هذه الثلاثية رؤية استشرافية وتصورات من وحي خياله لما سيكون عليه المستقبل في القرن الـ20، ذلك القرن الذي كان حينها أوشك على الاقتراب ويثير خيالات الناس حول التقدم التكنولوجي والاختراعات، إلا أنه في الجزء الثاني من الرواية التي خصصها لحروب القرن الـ20، خلق جدلاً كبيراً، بعد أن حض فيها على فكرة الاستغناء عن الجيوش التقليدية وبدء ما أطلق عليه مسمى عهد «الحرب الطبية» بنشر الأمراض عن طريق قصف العدو بقنابل محشوة بالجراثيم، مشيراً إلى أنها أرخص ثمنا حتى إن كانت تتطلب خبراء وعلماء لنشرها، وكأنه كان مسافراً عبر الزمن وشاهد ما كان سيحدث فعلاً في القرن الـ20. وأشارت العديد من المراجع إلى أن انتشار هذه الرواية في زمنها كانت ربما ملهمة لكثير من المجرمين وقادة الحروب في ذلك الزمن، ومهدت للتوسع في استخدام وتطوير الأسلحة البيولوجية في المستقبل، وهو ما حدث لا حقا بالفعل.
تجارب غروينارد
في عام 1942، أمر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بتصميم سلاح يردع الألمان عن استعمال الغازات السامة ضد بلاده، فقام مركز الأبحاث السرية «بورتون داون» التابع للجيش البريطاني بإجراء ابحاث بيولوجية حول جرثومة الجمرة الخبيثة (الانتراكس) وجرى اختبارها على الخراف في جزيرة غروينارد النائية والواقعة شمال اسكتلندا، وبعد اختبار مدى قدرتها على إبادة الحيوانات وقتل البشر عن طريق الجهاز التنفسي، تمت صناعة 5 آلاف قنبلة جرثومية من الجمرة الخبيثة بحلول شتاء 1944، وكانت بريطانيا تسعى إلى إسقاطها على 6 مدن ألمانية وقتل ما لا يقل عن 3 ملايين نسمة من سكانها، إلا أن تقهقر قوات هتلر وانهيارها أمام ضربات الحلفاء دفعت تشرشل للتراجع عن استخدام السلاح البيولوجي حفاظاً على الاقتصاد الأوروبي. وفي عام 1962 توفي الباحث في علم الأحياء جيفري بيكون داخل أحد مختبرات مركز أبحاث بورتون داون إثر إصابته بالطاعون الرئوي، وهو ما أثار ردود فعل واسعة في الأوساط الإعلامية أدى في نهاية الأمر إلى إغلاق المركز في ذلك الحين، وفي عام 1970 غير مركز بورتون داون مسار أبحاثه ليصبح «مركز أبحاث الحماية من الأسلحة الكيميائية». وكانت جزيرة غروينارد قد أغلقت فور الانتهاء من التجارب البيولوجية في الجزيرة، ومنع الوصول اليها حتى عام 1986، وحينها قررت الحكومة البريطانية إطلاق عملية لاستئصال المرض الوبائي منها برش نحو 300 طن من مادة «فورمالدهيد» السامة المطهرة.
فظائع «الوحدة 731»
في عام 1937 بدأت اليابان مشروعها السري لتطوير الأسلحة الجرثومية ولم يعرف بوجوده إلا في عام 1949، وفي إطار هذا المشروع نشأت «الوحدة 731» وهي وحدة أبحاث كيميائية وبيولوجية سرية في الجيش الياباني الإمبراطوري، وكانت الوحدة بقيادة الجنرال الطبيب شيرو إيشي، وتتكون من أكثر من 300 باحث علمي عسكري، وبلغ إجمالي العاملين فيها أكثر من 3600 شخص، وجرت فيها تجارب وحشية على البشر الذين تم اختيارهم من بين المجرمين العاديين وقطّاع الطرق الذين تم القبض عليهم والمعارضين السياسيين والمشردين والمعوقين عقليا، وبعض الموقوفين من قبل الشرطة للاشتباه بهم، وتم استخدامهم كفئران تجارب.
وتركزت الأبحاث البيولوجية لهذه الوحدة على الطاعون والجمرة الخبيثة والتيفوس والكوليرا والدوزنتاريا، وتم إنتاج انواع مختلفة من القنابل المصممة لذر الجراثيم والميكروبات الدقيقة على هيئة سحابة جرثومية، وكان بعض الضحايا يوضع في حاويات معدنية حتى تخترق أجسادهم بشظايا وتنتقل الجراثيم إليهم، وشهدت المختبرات تجارب في غاية الوحشية ضد البشر مثل إجراء العمليات الجراحية دون تخدير بما في ذلك بتر الأطراف واستئصال الأعضاء الداخلية، والتجويع حتى الموت بحجة قياس المدة التي يستطيع فيها البشر البقاء على قيد الحياة دون طعام أو شراب، ورغم أن سجون هذه الوحدة شهدت ولادة العديد من الأطفال إلا أنه لا وجود لناجين من معامل تجارب «الوحدة 731»، فمع دخول الجيش الروسي الأحمر عام 1945 تخلصت اليابان من أي أدلة على تجريمها، بما في ذلك السجناء وأي شهود محتملين، الجميع قتلوا إما بالسم أو الغاز أو اطلاق النار عليهم وتم تفجير المجمع في الأيام الأخيرة من الحرب.
ومن أفعال هذه الوحدة الشنيعة، نشر الطاعون عن طريق وضع براغيث نقلت لها العدوى من قوارض تم حقنها بجرثومة الطاعون، ثم وضعت البراغيث الموبوءة في أكياس من القمح والرز وألقيت عبر الطائرات في الصين ومنغوليا عام 1940، كما تم حقن سجينات صينيات بجرثومة مرض الزهري التناسلي لمعرفة مدى انتشار العدوى بعد إطلاق سراحهن.
وفي أواخر عام 1949، تمت محاكمة عدد من قيادات «الوحدة 731» كمجرمي حرب بعد أن تمكنت القوات السوفيتية من القبض عليهم، وجرت المحاكمات في مدينة خباروفسك الصناعية بالاتحاد السوفيتي، وفي عام 1950 نشر الاتحاد السوفييتي تفاصيل المحاكمات باللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان «محاكمة الجنود السابقين بالجيش الياباني المكلف بصناعة الأسلحة البكتريولوجية واستخدامها»، فيما منحت السلطات الأمريكية حصانة سياسية للجنرال إيشي قائد الوحدة وعدد من الأطباء الآخرين، مقابل تزويد الولايات المتحدة بأبحاثهم حول الحرب البيولوجية والبيانات حول التجارب البشرية التي أجروها. وفي أغسطس 2002، أقرت محكمة مقاطعة طوكيو بأن اليابان شاركت في حرب بيولوجية، وقضت بأن «الوحدة 731» استخدمت أسلحة بكتريولوجية على مدنيين صينيين بين عامي 1940 و1942 ونشرت أمراض من بينها الطاعون والتيفوئيد في عدة مدن.
استهداف خنازير كوبا
في عام 1971 قدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) شحنة من حمى الخنازير الأفريقية (طاعون الخنازير) إلى معارضين كوبيين ضد نظام فيدل كاسترو، وقاموا بتهريبها إلى كوبا، وتبع ذلك انتشار الفايروس الوبائي في غضون أسابيع قليلة، ما أدى إلى نفوق نصف مليون رأس من الخنازير. وبعد 6 سنوات، اعترفت وكالة المخابرات المركزية في عام 1977 بمسؤوليتها عن ذلك، وكشفت أنها سلمت بكتيريا طاعون الخنازير الأفريقي إلى مجموعة من المعارضين الكوبيين الذين كلفوا بنقل الإصابة إلى الحيوانات. المثير في هذه الواقعة، أن توقيت وقوعها حدث بعد انقضاء عامين على إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عام 1969 أن الولايات المتحدة ستتخلى من تلقاء نفسها عن برنامجها البيولوجي الهجومي، وفي نفس العام الذي أعلنت فيه تمير مخزونها من الأسلحة البيولوجية الهجومية، وهو ما يثير التحفظات حول التزام الدول فعليا بالتخلص من هذه الأسلحة الوبائية الخطيرة
ورغم أن الاتهامات الصينية لا تعدو كونها مزاعم باعتبار أنها لم تقدم أي أدلة وبراهين تثبت صحة تلك الادعاءات، إلا أنها لم تأت من فراغ تام، فالمختبرات البيولوجية العسكرية لها تاريخ أسود دائما ما يثير التساؤلات حول قضية استخدام هذه المختبرات لأغراض غير علمية وغير أخلاقية، إضافة إلى تهرب بعض الدول من الالتزام بمعاهدات حظر استخدام الأسلحة البيولوجية، وحتى لا ندفع هذا الطرح في سياقات «نظريات المؤامرة» غير الموضوعية، سوف نسلط الضوء من خلال هذا التقرير المقتضب على سلسلة من الـ«حقائق» حول الحروب البيولوجية وتداعيات التجارب الفايروسية والجرثومية على البشرية.
الحروب البيولوجية البدائية
بدأ الإنسان في استخدام الجراثيم كسلاح في حروبه منذ القدم، بل وقبل اكتشاف أنواع الجراثيم والفايروسات وتصنيفاتها العلمية، فقبل الميلاد بـ10 آلاف عام، استخدم البشر السهام المسمومة بسم الأفاعي والعقارب، وفي مراحل أخرى من التاريخ القديم، كان البشر يغمسون رؤوس الرماح في الجثث المتعفنة حتى يصاب الضحايا بمرض «الكزاز» (التيتانوس) والغرغرينا، في حين تعمد آخرون تسميم مياه الآبار والينابيع بإلقاء جثث الحيوانات النافقة فيها.
وفي عام 1344 حاصر المغول مدينة كافا التجارية في شبه جزيرة القرم، وبعد أن طال أمد الحصار لنحو 3 سنوات بدأت معاناة المغول تتضاعف بعد انتشار الطاعون بين الجنود، فعمد قائد الجيش المغولي جوني بيغ إلى استخدام الجثث المصابة كسلاح بيولوجي، وقام بقذف جثث الجنود فوق أسوار المدينة ما تسبب في انتشار المرض، وحينها هرب تجار جنوة بحراً إلى جنوب أوروبا ناقلين معهم المرض إلى صقلية وفينيسيا ومرسيليا، وهي حقبة الطاعون الكبرى حيث تسبب الوباء في مقتل ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا.
وفي الحرب الروسية السويدية (1656-1658)، كرر الروس ما فعله المغول في القرن الـ14، إذ قاموا بوضع جثث موتى الطاعون المتفسخة في المنجنيق وقذفها فوق أسوار مدينة ريفال (الاسم القديم لمدينة تالين عاصمة جمهورية إستونيا حاليا).
وفي عام 1763 حاصر اللورد جيفري أمهيرست القائد العام للقوات البريطانية في شمال أمريكا، قبائل الهنود الحمر الثائرة ضد الإنجليز بقيادة الزعيم الهندي «بونتياك»، وخطط أمهيرست حينها لإبادتهم من خلال إهدائهم بطاطين ملوثة بداء الجدري.
وخلال حصار باريس في عام 1870 وتقدم الألمان في الحرب الفرنسية البروسية، اقترح أحد الأطباء أخذ نحو 8 آلاف غطاء سرير لمرضى الجدري ووضعها في ناقلة وتركها بالقرب من مخيمات الجنود الألمان لنقل العدوى إليهم.
رواية روبيدا
بعد قرون من المحاولات البدائية للحروب البيولوجية، بدأ الإنسان بالاعتماد على المعرفة العلمية في التعامل مع البكتيريا والفايروسات، وتطورت البحوث العلمية في مجال الجراثيم لأهداف طبية ذات طابع سلمي، ولكن في العقد الأخير من القرن الـ19 عادت فكرة استخدام «الحروب البيولوجية» من خلال رواية أدبية مثيرة من 3 أجزاء للفرنسي ألبير روبيدا، صدرت في أعوام 1882 و1887 و1890 وتتمحور حول الخيال العلمي بعنوان «القرن العشرون». وبسبب هذه الثلاثية اشتهر روبيدا وأصبح ملء الأسماع والأبصار في موطنه فرنسا، حيث قدم من خلال هذه الثلاثية رؤية استشرافية وتصورات من وحي خياله لما سيكون عليه المستقبل في القرن الـ20، ذلك القرن الذي كان حينها أوشك على الاقتراب ويثير خيالات الناس حول التقدم التكنولوجي والاختراعات، إلا أنه في الجزء الثاني من الرواية التي خصصها لحروب القرن الـ20، خلق جدلاً كبيراً، بعد أن حض فيها على فكرة الاستغناء عن الجيوش التقليدية وبدء ما أطلق عليه مسمى عهد «الحرب الطبية» بنشر الأمراض عن طريق قصف العدو بقنابل محشوة بالجراثيم، مشيراً إلى أنها أرخص ثمنا حتى إن كانت تتطلب خبراء وعلماء لنشرها، وكأنه كان مسافراً عبر الزمن وشاهد ما كان سيحدث فعلاً في القرن الـ20. وأشارت العديد من المراجع إلى أن انتشار هذه الرواية في زمنها كانت ربما ملهمة لكثير من المجرمين وقادة الحروب في ذلك الزمن، ومهدت للتوسع في استخدام وتطوير الأسلحة البيولوجية في المستقبل، وهو ما حدث لا حقا بالفعل.
تجارب غروينارد
في عام 1942، أمر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بتصميم سلاح يردع الألمان عن استعمال الغازات السامة ضد بلاده، فقام مركز الأبحاث السرية «بورتون داون» التابع للجيش البريطاني بإجراء ابحاث بيولوجية حول جرثومة الجمرة الخبيثة (الانتراكس) وجرى اختبارها على الخراف في جزيرة غروينارد النائية والواقعة شمال اسكتلندا، وبعد اختبار مدى قدرتها على إبادة الحيوانات وقتل البشر عن طريق الجهاز التنفسي، تمت صناعة 5 آلاف قنبلة جرثومية من الجمرة الخبيثة بحلول شتاء 1944، وكانت بريطانيا تسعى إلى إسقاطها على 6 مدن ألمانية وقتل ما لا يقل عن 3 ملايين نسمة من سكانها، إلا أن تقهقر قوات هتلر وانهيارها أمام ضربات الحلفاء دفعت تشرشل للتراجع عن استخدام السلاح البيولوجي حفاظاً على الاقتصاد الأوروبي. وفي عام 1962 توفي الباحث في علم الأحياء جيفري بيكون داخل أحد مختبرات مركز أبحاث بورتون داون إثر إصابته بالطاعون الرئوي، وهو ما أثار ردود فعل واسعة في الأوساط الإعلامية أدى في نهاية الأمر إلى إغلاق المركز في ذلك الحين، وفي عام 1970 غير مركز بورتون داون مسار أبحاثه ليصبح «مركز أبحاث الحماية من الأسلحة الكيميائية». وكانت جزيرة غروينارد قد أغلقت فور الانتهاء من التجارب البيولوجية في الجزيرة، ومنع الوصول اليها حتى عام 1986، وحينها قررت الحكومة البريطانية إطلاق عملية لاستئصال المرض الوبائي منها برش نحو 300 طن من مادة «فورمالدهيد» السامة المطهرة.
فظائع «الوحدة 731»
في عام 1937 بدأت اليابان مشروعها السري لتطوير الأسلحة الجرثومية ولم يعرف بوجوده إلا في عام 1949، وفي إطار هذا المشروع نشأت «الوحدة 731» وهي وحدة أبحاث كيميائية وبيولوجية سرية في الجيش الياباني الإمبراطوري، وكانت الوحدة بقيادة الجنرال الطبيب شيرو إيشي، وتتكون من أكثر من 300 باحث علمي عسكري، وبلغ إجمالي العاملين فيها أكثر من 3600 شخص، وجرت فيها تجارب وحشية على البشر الذين تم اختيارهم من بين المجرمين العاديين وقطّاع الطرق الذين تم القبض عليهم والمعارضين السياسيين والمشردين والمعوقين عقليا، وبعض الموقوفين من قبل الشرطة للاشتباه بهم، وتم استخدامهم كفئران تجارب.
وتركزت الأبحاث البيولوجية لهذه الوحدة على الطاعون والجمرة الخبيثة والتيفوس والكوليرا والدوزنتاريا، وتم إنتاج انواع مختلفة من القنابل المصممة لذر الجراثيم والميكروبات الدقيقة على هيئة سحابة جرثومية، وكان بعض الضحايا يوضع في حاويات معدنية حتى تخترق أجسادهم بشظايا وتنتقل الجراثيم إليهم، وشهدت المختبرات تجارب في غاية الوحشية ضد البشر مثل إجراء العمليات الجراحية دون تخدير بما في ذلك بتر الأطراف واستئصال الأعضاء الداخلية، والتجويع حتى الموت بحجة قياس المدة التي يستطيع فيها البشر البقاء على قيد الحياة دون طعام أو شراب، ورغم أن سجون هذه الوحدة شهدت ولادة العديد من الأطفال إلا أنه لا وجود لناجين من معامل تجارب «الوحدة 731»، فمع دخول الجيش الروسي الأحمر عام 1945 تخلصت اليابان من أي أدلة على تجريمها، بما في ذلك السجناء وأي شهود محتملين، الجميع قتلوا إما بالسم أو الغاز أو اطلاق النار عليهم وتم تفجير المجمع في الأيام الأخيرة من الحرب.
ومن أفعال هذه الوحدة الشنيعة، نشر الطاعون عن طريق وضع براغيث نقلت لها العدوى من قوارض تم حقنها بجرثومة الطاعون، ثم وضعت البراغيث الموبوءة في أكياس من القمح والرز وألقيت عبر الطائرات في الصين ومنغوليا عام 1940، كما تم حقن سجينات صينيات بجرثومة مرض الزهري التناسلي لمعرفة مدى انتشار العدوى بعد إطلاق سراحهن.
وفي أواخر عام 1949، تمت محاكمة عدد من قيادات «الوحدة 731» كمجرمي حرب بعد أن تمكنت القوات السوفيتية من القبض عليهم، وجرت المحاكمات في مدينة خباروفسك الصناعية بالاتحاد السوفيتي، وفي عام 1950 نشر الاتحاد السوفييتي تفاصيل المحاكمات باللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان «محاكمة الجنود السابقين بالجيش الياباني المكلف بصناعة الأسلحة البكتريولوجية واستخدامها»، فيما منحت السلطات الأمريكية حصانة سياسية للجنرال إيشي قائد الوحدة وعدد من الأطباء الآخرين، مقابل تزويد الولايات المتحدة بأبحاثهم حول الحرب البيولوجية والبيانات حول التجارب البشرية التي أجروها. وفي أغسطس 2002، أقرت محكمة مقاطعة طوكيو بأن اليابان شاركت في حرب بيولوجية، وقضت بأن «الوحدة 731» استخدمت أسلحة بكتريولوجية على مدنيين صينيين بين عامي 1940 و1942 ونشرت أمراض من بينها الطاعون والتيفوئيد في عدة مدن.
استهداف خنازير كوبا
في عام 1971 قدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) شحنة من حمى الخنازير الأفريقية (طاعون الخنازير) إلى معارضين كوبيين ضد نظام فيدل كاسترو، وقاموا بتهريبها إلى كوبا، وتبع ذلك انتشار الفايروس الوبائي في غضون أسابيع قليلة، ما أدى إلى نفوق نصف مليون رأس من الخنازير. وبعد 6 سنوات، اعترفت وكالة المخابرات المركزية في عام 1977 بمسؤوليتها عن ذلك، وكشفت أنها سلمت بكتيريا طاعون الخنازير الأفريقي إلى مجموعة من المعارضين الكوبيين الذين كلفوا بنقل الإصابة إلى الحيوانات. المثير في هذه الواقعة، أن توقيت وقوعها حدث بعد انقضاء عامين على إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عام 1969 أن الولايات المتحدة ستتخلى من تلقاء نفسها عن برنامجها البيولوجي الهجومي، وفي نفس العام الذي أعلنت فيه تمير مخزونها من الأسلحة البيولوجية الهجومية، وهو ما يثير التحفظات حول التزام الدول فعليا بالتخلص من هذه الأسلحة الوبائية الخطيرة