لن تحول الظروف المادية والاجتماعية للفنان الموهوب دون إيصال ما لديه من قدرات مبدعة إلى جمهوره، الذي تكون نواته الأولى المنزل ثم بيوت الجيران وشباب الحي والحارة والفنون بحكم أنها ترفيهية. فالغالب الأعم تقبّل المجتمع لها، وليس أدل على ذلك من لعب الأحباش في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبين يديه، مع ما للمسجد من قداسة، إلا أنها كانت رسالة خالدة عن تسامح الإسلام مع الفنون.فنون الشارع تتخطى النخبة بقامات المهمَّشين
كسرت جدران العزلة وأسرت ذائقة الناس
وعرفت المجتمعات العربية والغربية مسارح الأرصفة وباعة الكتب وعازفي الآلات الموسيقية والرسامين، ما أنضج تجارب مبدعي الرصيف، فكسروا جدران العزلة وأسروا ذائقة الناس وأعلوا قامات المهمشين حد تخطي النخبة.
وفي العهود القديمة، قدم الرومان عروضهم المسرحية في الشوارع والساحات العامة، كذا كان الفلاسفة يخاطبون شعوبهم في الشارع مثل سقراط، الذي كان يتجوّل من مكان إلى آخر للقيام بالمناظرات الفكرية والمحاضرات، وسرعان ما تحولت الفنون إلى نخبوية وجلست على عرشها المتعالي في برجها العاجي. ويعد فن الشارع فناً غير رسمي ولا منتمٍ، نما في الأماكن العامة والشوارع وولد من مواهب فردية بجهودها الذاتية ونشأ متمرّدا خارج المؤسسات الثقافية والحاضنات الرسمية، وضمّ مزيجا من أشكال التعبير الفني مثل فن «الغرافيتي» والنحت والتصوير الفوتوغرافي في الأماكن العامة وفنون التعبير الجماعي والفنون الحركية ومنها الرقص.
من وراء اندثار دور رواة السير الشعبية ؟
قبل أن يعرف العالم العربي التلفزيون اشتهرت مقاه شعبية ومجالس سمر برواة يتأبط أحدهم كتاباً ويدخل على الساهرين ليقرأ عليهم صفحات من سيرة عنترة بن شداد والزير سالم وحمزة البهلوان، وسيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة الظاهر بيبرس وهي سير حربية وبطولات قائمة على مهارة الراوي للحبكة والوقت الذي يتوقف فيه ليحفّز متابعيه على الحضور في اليوم التالي ومتابعة الأحداث. وعرفت بعض البلدان السيرة الهلالية وتغريبة بني هلال الموثقة سيرة أكبر هجرة بشرية تناقل أخبارها الناس، بحذاء طريق الفيل الممتد من اليمن إلى مكة، ثم استقرارهم في شمال أفريقيا.
من أنفاق القطارات إلى براح الأحياء
إذا كان فن الشارع نشأ بنهاية الستينات الميلادية من القرن الماضي من خلال الرسوم في أنفاق القطارات ثم الغرافيتي، وارتبط لمدة طويلة بالتخريب والحركات الاحتجاجية، إلا أنه رسخ نفسه وأثبت وجوده وفتحت متاحف أبوابها لهذا الفن خصوصاً في أمستردام وسانت بطرسبرغ وبرلين.
ويرى الرائد المسرحي فهد ردة الحارثي، أن مصطلح فنون الرصيف بمفهومها العصري لم يكن معروفا في المملكة، بحكم طبيعة تكوين المدن والقرى. ولفت إلى أنه حل محلها ثقافة الأحياء والبرحات في المدن، وشهدت بيع الكتب على النواصي وإقامة حفلات الطرب في المناسبات الاجتماعية والوطنية. ويضيف أن ثقافة الرصيف ظهرت مع الطفرة الاقتصادية برغم التسارع في البناء وانصراف الناس للعمل وكسب الرزق والثروات، إلا أنهم خصصوا وقتا للترفيه خصوصا في عطلة نهاية الأسبوع. واستبشر ردة خيراً بشارع الفن في أبها بتقديم الرصيف الفني والثقافي، مع تحفظه على التقليد والمحاكاة دون تطوير في الشكل والمضمون، ورجح سهولة استعادة الفكرة وتنميتها بحكم توفر الجهات الراعية ولشغف المجتمع بالفنون.
أُمسيات شعرية في قوارب البحر
تحتفظ ذاكرة عدد من الشعراء السعوديين بقصص وصور مشاركاتهم في مهرجانات شعر عالمية في معظم بلدان العالم، وربما لم يتصور أحدهم أن تكون أمسيته الشعرية في حافلة أو حديقة أو على قارعة طريق، ومعه مترجم ينقل للعابرين والجالسين والواقفين النصوص مترجمة. ويؤكد الشاعر أحمد الملا، أن قراءة الشعر لم تعد مقتصرة على المنصات العالية أمام جمهور منتظم في الصالات والقاعات المغلقة، كون غالبية المهرجانات العالمية استعارت الفضاء العام للعابرين من الناس ليغدو منصة مفتوحة لتلقي الشعر، ما يحقق التفاعل التلقائي مع جمهور مختلف ومتنوع.
ويستعيد الملا أولى تلك التجارب التي صادفها في مهرجان أصوات المتوسط بمدينة لوديف في فرنسا عام 2007، إذ تتم القراءات في الشوارع وعلى الأرصفة، وفي قوارب البحر، وفي الكنائس وعلى ضفاف النهر. وعدها تجربة ماتعة وصادمة، وعلمته الكثير من طرق التنظيم الثقافي، خصوصا قراءات الشعر بمصاحبة الفنون الأخرى.
وأوضح الملا، أنه شارك لاحقاً في مهرجانات عربية وغربية مشابهة وثرية منها طرطوس سورية، وبرلين ألمانيا، وسيدي بوسعيد تونس، وسيت فرنسا، وطنطا مصر، وميديين كولومبيا، ومراكش المغرب، واعتبرها تجارب ناجحة وجاذبة تغري الجمهور بالإقبال على قراءات شعرية مفتوحة، وبشيء من المشاعر العفوية التي يندر التعبير عنها في الصالات الرسمية.
مسرح الرصيف يسوّق البهجة.. مجاناً
غالباً ما يتبنى بسطاء وبهيئات رثة عرض أعمالهم على مسرح الرصيف لتسويق البهجة على الناس دون أي مقابل مادي سوى ما يحصده من نظرات إعجاب ورسم ابتسامة على وجوه الغلابا، الذين لا يملكون ثمن تذكرة لحضور حفل فني رسمي.
واعتبر الكاتب المسرحي إبراهيم الحارثي، فنون الشارع برمتها علامة مميزة، سجلت حضورها ومن اليسير تقبلها. وذهب إلى أن دعم الفنون الأدائية توجه وزارة الثقافة التي تولت تطوير القطاعات الإبداعية، وحفزت الحوار والتفكير الإبداعي.
وعزا خفوت فن الشارع محليا إلى متلازمة «خجل الظهور»، إلا أنه يؤكد توفر محاولات جادة لإظهار الفنون بقوة ليعود الفن للواجهة، معبّراً بصدق عن الصورة الحقيقية لإنسان هذه الأرض، كون الجزيرة العربية من أقدم المناطق التي مرت عليها حضارات متعددة بفنون لا حصر لها بشعبويتها ونخبويتها وتطورها وفلكلورها الحسي ومعاصرتها الإبداعية وانسجامها مع الشكل الذي يمكن طرحه.
ويرى في الشارع فضاء بصريا يعبّر الفنان من خلاله عن رؤيته للواقع عبر المنتجات الثقافية الشعبية من ألعاب وفنون شعبية ورقص وأكلات وعادات وتقاليد، لتحقيق تواصل فني مختلف وقادر على الحياة، كون ما تتوارثه الشعوب وتعتبره علامة مميزة لها لا يمكن التخلي عنه وإن طرأ عليه بعض التغيرات أو التعديلات أو خضع للتطوير قليلا لمواكبة التقدم المستمر.
ويرى الحارثي، أن شوارعنا تحتاج لأنسنة لتكون أكثر حميمية واقترابا من زوارها ومرتاديها لما لها من أهمية في تعزيز القيمة الاجتماعية والثقافية للفنون وزيادة وعي الممارسين من الهواة، مؤكداً أن أسماء فنية عالمية انطلقت من الرصيف وتجاوزت النخبة اعترافاً وحضوراً وتكريماً.