لم تمنع ظروف ضعف البصر وزواله السيدة تحية فرغلي -63 عامًا- إحدى مستفيدات جمعية المكفوفين الخيرية بالمدينة المنورة «رؤية»، من المضي قدمًا نحو هدف إكمال تعليمها بعد 36 عامًا من التوقف. فها هي تحتفل هذا العام مع أحفادها بإتمام شهادة البكالوريوس من جامعة طيبة كطالبة منتظمة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف في تخصص تربية خاصة، لتسطر مسيرة كفاح وصمود مليئة بالتحديات والإنجازات.
تحكي السيدة تحية فرغلي -أم نرجس- المولودة سنة 1377هـ بالمدينة المنورة قصتها، وتقول إنها أصيبت بالعمى ثلاث مرات، المرة الأولى كانت في الصف الرابع الابتدائي، عندما استيقظت من النوم لتجد أنها فقدت بصرها؛ لكنها لم تفقد بصيرتها ولم تسقط عزيمتها، فمنذ طفولتها وهي تلمح التفاؤل والتميُّز في أسوء الأحوال، فبعد فترة من العلاج رجع إليها بصرها باستخدام النظارة الطبية وما إن ارتدت النظارات الطبية حتى طار قلبها فرحًا؛ لأنها ترى أنه لا يرتديها سوى العباقرة والمميزين، وها هي قد حظيت برمز من رموزهم، فبرغم سخرية الأقران من النظارة إلا أنها كنت سعيدة بها.
وتذكر أم نرجس أنها تزوجت أثناء دراستها وأنجبت ابنتها الأولى، وبعدها بأشهر اصطدم رأسها بقوة في جدار، فنصحها الأطباء بالتوقف عن القراءة والتعلم للحفاظ على ما تبقى من نظرها بعدما تأثرت الشبكية بشكل كبير، وبالفعل توقفت عن التعليم وهي في الأول المتوسط. وفي عام 1402هـ أتاها نبأ وفاة زوجها -رحمه الله- وكان لذلك الحزن الذي ألمَّ بها الأثر الكبير فابيضَّت عيناها من الحزن، وتلقت العزاء فيه وهي فاقدة للبصر بنفس مؤمنة ملؤها السكينة والرضا بقضاء الله وقدره. بعد ذلك حصلت على مكرمة من القيادة الرشيدة بالعلاج في اسكتلندا بهدف إعادة الإبصار لمسافة متر واحد؛ ولكن العملية لم تنجح، واستمر هذا الحال إلى أن كتب الله لها عودة النظر بعد 6 أشهر.
وتواصل السيدة تحية فرغلي رواية قصتها وتقول: في عام 1418هـ أصبت بارتفاع في ضغط العين أثر على العصب البصري، وأدت محاولات إنقاذه إلى موته وفقد النظر نهائيًا في 1420هـ. وتضيف: خلال تلك الفترة ومنذ تركها لمقاعد الدراسة لم يكن للإحباط سبيل إلى كسر نفسها وكبح عزيمتها وطموحها؛ إذ كانت تعكف على تثقيف نفسها من خلال الاستماع إلى البرامج الإذاعية في الراديو، وبما يُقرأ عليها من صحف ومجلات، فلم ترضخ للمعوقات وأصرَّت على خلق الظروف التي تلبي شغفها المعرفي.
العودة للدراسة
وبعد 36 عامًا من الانقطاع عن الدراسة، عادت أم نرجس مجددًا في سن -52 عامًا- إلى مقاعد الدراسة بمعهد النور بالمدينة المنورة، حيث بدأت أولاً كمستمعة قبل أن تصدر توجيهات من ولاة الأمر بقبولها في المعهد كطالبة منتظمة، لتثبت أنَّ العجز وهم يعزي به المحبطون أنفسهم. فحصلت على الابتدائية بطريقة (برايل) عام 1430هـ وهي في الثالثة والخمسين من عمرها. وحصلت على الشهادة المتوسطة عام 1433هـ بنسبة 99% ثم على الشهادة الثانوية عام 1436هـ بنسبة 97%. وفي هذا العام 1440هـ أتمَّت المرحلة الجامعية كطالبة منتظمة بامتياز مع مرتبة الشرف في تخصص تربية خاصة مسار عقلي.
50 دورة ومشاركة مجتمعية لم تكتف أن ترجس بالتعليم النظامي إذ تخطت الدورات والبرامج التدريبة والمشاركات التي شاركت فيها الـ 50 مشاركة، من بينها مشاركات دولية ومحلية، بين برامج لتنمية الذات، واستخدام وسائل التقنية، ودورات في العلوم الشرعية، وفن الاتكيت وغيرها، وكأنها تبصر بألف عين؛ لتعي من العلوم ما عجز عنه الكثير ممن متعهم الله بنعمة البصر.
دعم جميعة «رؤية» وتشيد تحية فرغلي بالدور الكبير والدعم اللامحدود الذي قدمته لها جمعية المكفوفين الخيرية «رؤية بالمدينة المنورة»، والتي تعمل على مدار الساعة لرعاية وتمكين المكفوفين في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقالت: «رؤية» بيت الكفيف وأسرته الأخرى التي تساهم في تمكينه وتحتضن همومه، وتقدم لها الدورات التدريبية لتنمية قدراته وتحفيزه. وتلبي احتياجاته في كافة الأمور فشكراً لها ولجميع منسوبيها.
طموح لايتوقف.
أخيرا السيدة تحية تملك طموحًا لا حدود له؛ فهي اليوم تتطلع لإكمال مسيرتها التعليمية والسعي للحصول على الماجستير والدكتوراه بإذن الله، راجية أن تتاح لها الفرصة، وأن تفتح لها الأبواب في هذا الميدان، لتسهم في إفادة وطنها وإيصال ما تعلمته له، ومؤكدة أنَّه لا يمكن بالتواكل والتمني تحقيق النجاح، وليس هناك طريق لا صعوبات فيه، ولكن بالصبر والإرادة تلين الصعاب.