حينما يذكر موضوع الآثار في منطقة الخليج، وتحديدا في دولة قطر الشقيقة، فإن أول اسم يطرق المسامع هو اسم محمد جاسم الخليفي، ابن قطر البار الذي وهب حياته ونذر نفسه وكامل جهده للارتقاء بعلم الآثار في بلده، وتأسيس المتاحف، وترميم البيوت الأثرية القديمة، ناهيك عن قيامه بوضع مؤلفات قيمة عديدة في هذا المجال الذي لم يسبقه إليه أحد من مواطنيه. فالرجل كان من أوائل القطريين، بل ضمن القلة من مواطنيه الذين فضلوا دراسة علم الآثار، على ما عداها من علوم، دراسة أكاديمية.
بدأت رحلة صاحبنا مع الآثار وهمومها في عام 1975 حينما أنهى دراسته في القسم الأدبي بثانوية الدوحة. إذ توجه بعدها في بعثة حكومية إلى جمهورية مصر العربية التي التحق فيها بجامعة القاهرة، ليتخرج منها في عام 1979 حاملا درجة الليسانس في الآثار والفنون الإسلامية، وليصبح أول خريج قطري متخصص في علم الآثار. ويقال إنه أثناء دراسته في مصر كان ينتهز فرصة إجازاته الأسبوعية للقيام بزيارات ميدانية لمواقع الآثار المصرية والمتاحف. «فمصر في حد ذاتها تعد متحفا مفتوحا»، طبقا لما قاله في مقابلة منشورة له بمجلة الريان (عدد يونيو 2013). كما قيل إنه كان ينتهز فرصة إجازته الصيفية للعمل بالمتحف الوطني في الدوحة كي يعزز دراسته النظرية بتجربة عملية، فاستفاد وأفاد، علما بأن متحف الدوحة الوطني كان قد تأسس أصلا في عام 1901 ليكون مقرا للحكم، ثم تم تحويله إلى متحف في عام 1975 في عهد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حاكم قطر السابق (1972 – 1995).
ولد الخليفي بالدوحة في عام 1957 لعائلة خرج من رحمها في قطر الكثير من الشخصيات البارزة، فمنهم كبار ملاك سفن الغوص على اللؤلؤ قديما مثل خالد بن علي الخليفي وعبدالله بن خميس الخليفي، ومنهم كبار النواخذة مثل علي بن علي الخليفي ومحمد بن صالح الخليفي، ومنهم أيضا الشاعر الشيخ عبدالله بن صالح بن ماجد الخليفي. وفي العصر الحديث برز منهم سعادة محمد بن مبارك الخليفي رئيس مجلس الشورى منذ عام 1995، والدكتور عبدالله صالح مبارك الخليفي مدير جامعة قطر السابق ووزير العمل والشؤون الاجتماعية الحالي، واللواء الركن سعد بن جاسم الخليفي مدير الأمن العام بوزارة الداخلية، واللواء الركن خليفة مبارك الخليفي نائب رئيس الاتحاد الرياضي العسكري، والمحامي والمستشار القانوني عبدالعزيز بن صالح الخليفي، وعميد كلية القانون بجامعة قطر الدكتور محمد بن عبدالعزيز الخليفي، وغيرهم كثير.
بدأ الخليفي مشواره المهني بعد تخرجه مباشرة، إذ عين في عام 1979 على وظيفة مساعد رئيس قسم الآثار بإدارة المتاحف والآثار التابعة لوزارة الإعلام آنذاك، وهي الإدارة التي تم تغيير اسمها لاحقا إلى إدارة السياحة والآثار. ثم تم تعيينه في عام 1980 مراقبا لشؤون المتاحف والآثار. وفي عام 1994 صار مديرا لإدارة المتاحف والآثار خلفا للمبدع المرحوم جاسم زيني (1942 - 2012). وقد ظل يشغل هذا المنصب الأخير حتى عام 2001، وهو العام الذي شهد اختياره ليشغل منصب خبير في التراث بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث إلى جانب عضويته في هيئة إدارة المجلس. وما بين هذا وذلك كرس الخليفي جزءا من وقته لنيل دبلوم في اللغة الإنجليزية كي ينمي حصيلته العلمية من خلال الاطلاع على المراجع الأجنبية المتعلقة بالآثار والعمارة والمتاحف.
خلال مسيرته المهنية، عرف عنه شغفه العظيم بالعمل المتواصل باحثا ومؤلفا ومنقبا ومرمما. إذ كان ديدنه في الحياة هو تقديم أقصى ما يمكن لبلده ومنطقة الخليج في مجال ترميم الآثار، وبناء المتاحف، والمحافظة على العمارة الخليجية التقليدية، وإعداد المؤلفات الرصينة ذات العلاقة.
قال صديقه أستاذ الإعلام المساعد في كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر د. ربيعة بن صباح الكواري في صحيفة الشرق القطرية (24/9/2016) ما مفاده إن الخليفي كان يمتلك الكثير من الأفكار والتطلعات للارتقاء بالمتاحف، إلا أن المرض لم يمهله طويلا، حيث عانى كثيرا من أحد الأمراض المزمنة الذي داهمه وهو في سن الشباب، فصبر على ما كتبه الله عليه حتى فارق الدنيا في شهر سبتمبر من عام 2016 وهو لم يكمل الستين من عمره، تاركا خلفه ابنيه جاسم وعبدالله، ومكتبة خاصة عامرة بأكثر من 10 آلاف عنوان، وتاريخا حافلا بالإنجازات والمشاركات في المحافل والمؤتمرات والندوات المحلية والعربية والإسلامية، وفي اللجان الفنية المتخصصة في الآثار والمتاحف على مستوى العالم العربي.
طالب الخليجيين ببناء متحف في كل مدرسة
سئل محمد جاسم الخليفي ذات مرة عن «سوق واقف» بالدوحة، وهي سوق سميت بهذه التسمية لأن الباعة كانوا يقفون قديما إلى جنبات الطرق المؤدية إلى السوق الكبيرة لبيع أشياء مثل البقل والفجل والسمك، وأصبحت الآن من أبرز المعالم الحضارية والسياحية في قطر، بعد خضوعها لعملية تجديد في التصميم مع الحفاظ على الأصالة، فاقترح أن توسع وأن تضاف إليها بعض الخدمات مثل مكتب للبريد، ومكتب لبيع العملات القطرية منذ بدايتها، ومركز صحي دائم، ومتحف يحكي الحياة الاجتماعية القديمة في السوق من خلال الصور والآثار والتحف والأدوات المستخدمة قديما وسجل بأسماء وصور من تاجروا فيها في الماضي.
وعند التمعن والتدقيق في مؤلفاته القيمة نجد أن الخليفي حرص على وصف العمارة القطرية والخليجية وصفا دقيقا من ناحية الشكل والمرافق والزخارف والمساحة ونوعية المواد المستخدمة في البناء، كما ميز بين بيوت الطبقات الفقيرة والطبقات الميسورة، متوقفا عند كل ما ميز بيوت الرعيل الأول مثل «الحوش» (الفناء الداخلي للمنزل)، وفتحات «البادغير» في الجدران للتهوية، و«المرازيم» في الأسطح لتصريف مياه الأمطار، و«الرواشن» (الأرفف) داخل الغرف لوضع سراج الإضاءة وأدوات الزينة والأباريق أو لحفظ المصاحف، و«الدرايش» (النوافذ) الخشبية المنحوتة التي تزين أجزاءها العلوية قطع من الزجاج الملون، و«الأبواب» الخشبية المزينة بقطع نحاسية دائرية، و«الميالس» (غرف استقبال الضيوف)، و«البنكلات» (غرف علوية تطل على الحوش ويصعد إليها من خلال سلم مبني من الحجر والطين داخل الحوش)، والآبار داخل الحوش لاستخراج الماء اللازم لغسل الأواني والملابس وري الأشجار إن وجدت، وأسطح الغرف التي كانت تستخدم للنوم صيفا، و«الليوان» (مجلس داخل الحوش يجلس فيه أهل البيت للسمر أو لمزاولة أعمالهم وتناول طعامهم، كما تقام فيه حفلات الزواج وختان الصبية)، و«بيت الخلا» (دورات المياه) الذي كان عادة ما يحتل إحدى زوايا الحوش، ومداخل البيت التي كانت تصمم بطريقة تمنع رؤية من في الطريق لنساء المنزل عبر بناء انعطافات جدارية، وغير ذلك.
وأخيرا فإنه عرف عن الخليفي دعواته المتكررة لمواطني وحكومات الخليج للاقتباس من العمارة التقليدية الخليجية والعربية والإسلامية وقت شروعهم في بناء مساكنهم ومبانيهم. كما عرف عنه اقتراحاته المتكررة لوزارات التربية والتعليم في قطر ودول الخليج العربية بضرورة إنشاء متحف في كل مدرسة من أجل تثقيف وتوعية الأجيال الجديدة بماضي الرعيل الأول ومعاناة الإنسان الخليجي في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، وأيضا من أجل تحفيزهم على التخصص في علم الآثار وإدارة المتاحف وترميم المعالم القديمة.
مقاتل من أجل التراث أمام زحف «الحداثة»
ساهم محمد جاسم الخليفي مع زملائه من أقطار الخليج العربي في صياغة قانون الآثار لدول مجلس التعاون الخليجي في تسعينات القرن العشرين، وحصل على عضوية جمعية التاريخ والآثار لدول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 1999، كما كانت له مساهمة فعالة في «لجنة مهرجان قطر البحري» مع ثلة من الباحثين والمهتمين بالتراث البحري في بلاده. ومن بين المؤتمرات التي شارك فيها ممثلا لبلاده: المؤتمر التاسع والعاشر للآثار والمتاحف في الوطن العربي في صنعاء/1980 والجزائر/1982 على التوالي، اجتماعات اللجنة الدائمة للمسؤولين عن الآثار والمتاحف في البلاد العربية التي انعقدت في نواكشوط/1981 والمنامة/1983، الاجتماع الأول والثاني والثالث للمسؤولين عن الآثار والمتاحف بدول مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض في الأعوام 1984 و1985 و1994 على التوالي، المؤتمر الثاني لوزراء الثقافة العرب في بغداد/1981، المؤتمر الأول للمنظمة العربية للمتاحف في القاهرة/1996، المؤتمر الخامس عشر للمجلس الدولي للمتاحف بهولندا/1989.
ويصف الدكتور خالد عزب عالم الآثار المصري ورئيس قطاع المشاريع والخدمات المركزية في مكتبة الإسكندرية، الخليفي بالمقاتل من أجل التراث، وذلك في مقالة كتبها بجريدة الحياة (19/11/2016)، إذ كتب: «لقد عرفته عن قرب وقامت بيننا صداقة، ووجدته مدافعا عن التراث في وجه الحداثة الجارفة التي دمرت العديد من معالم مدينة الدوحة القديمة، ولولا إيمانه لكان تراث قطر اختفى في وقت اجتاحت البلاد موجة من الهدم لهذا التراث، فكان الخليفي يحاول كمقاتل إنقاذ هذا التراث، وحينما ترك منصبه لم يعط حقه كعالم، وكان هذا مؤثرا فيه بشدة، فرأيته في سنواته الأخيرة حزينا.
كتابه العمدة (العمارة التقليدية في قطر) اختفى من قطر ولم يعد متوافرا، لذا فإن أقل ما يمكن أن يقدم له أن تعيد وزارة الثقافة القطرية طباعة كتابه، وأن يخصص يوما لتكريمه في معرض الدوحة للكتاب».
وطالما تطرق الدكتور عزب إلى كتاب الخليفي «العمارة التقليدية»، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المؤلف المذكور عبارة عن كتاب موسوعي، وصدر منذ عام 2000 في عدة طبعات باللغتين العربية والإنجليزية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، ويعتبر من المراجع التي لا غنى عنها لكل من يريد التعرف على العمارة التقليدية في قطر. كما أنه الكتاب الذي نال صاحبه عنه جائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية المشار إليها آنفا. على أن هذا المؤلف هو مجرد واحد من بين عدة مؤلفات أصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر للخليفي.
فإذا ما تجاوزنا الكثير من المطويات التي أعدها الرجل للتعريف بمتاحف بلاده مثل: متحف قطر الوطني، متحف الخور الإقليمي، متحف الزبارة الإقليمي، متحف قلعة الدوحة، متحف الوكرة الإقليمي، متحف التقاليد الشعبية، متحف قلعة الكوت، ومتحف السلاح، إضافة إلى متحف الفن الإسلامي الذي يعد أحد معالم الثقافة المادية في الشرق الأوسط وأحد أفضل عشرة متاحف في العالم، وإذا ما تجاوزنا أيضا مئات المقالات التي كتبها في الصحف والمجلات الخليجية والعربية في مجال تخصصه، فإن للخليفي العديد من الكتب ومنها: كتاب «المواقع الأثرية» (2000)، وكتاب «آثار الزبارة ومروب» (1987)، وكتاب «هندسة بناء القصر القديم» (2000)، وكتاب «التراث المعماري: المتاحف في قطر» (2003)، إضافة إلى كتب: «أصالة العمارة التقليدية في منطقة الخليج»، «الحرف والصناعات التقليدية في قطر ومنطقة الخليج العربي»، «الترميم في دولة قطر».
بدأت رحلة صاحبنا مع الآثار وهمومها في عام 1975 حينما أنهى دراسته في القسم الأدبي بثانوية الدوحة. إذ توجه بعدها في بعثة حكومية إلى جمهورية مصر العربية التي التحق فيها بجامعة القاهرة، ليتخرج منها في عام 1979 حاملا درجة الليسانس في الآثار والفنون الإسلامية، وليصبح أول خريج قطري متخصص في علم الآثار. ويقال إنه أثناء دراسته في مصر كان ينتهز فرصة إجازاته الأسبوعية للقيام بزيارات ميدانية لمواقع الآثار المصرية والمتاحف. «فمصر في حد ذاتها تعد متحفا مفتوحا»، طبقا لما قاله في مقابلة منشورة له بمجلة الريان (عدد يونيو 2013). كما قيل إنه كان ينتهز فرصة إجازته الصيفية للعمل بالمتحف الوطني في الدوحة كي يعزز دراسته النظرية بتجربة عملية، فاستفاد وأفاد، علما بأن متحف الدوحة الوطني كان قد تأسس أصلا في عام 1901 ليكون مقرا للحكم، ثم تم تحويله إلى متحف في عام 1975 في عهد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حاكم قطر السابق (1972 – 1995).
ولد الخليفي بالدوحة في عام 1957 لعائلة خرج من رحمها في قطر الكثير من الشخصيات البارزة، فمنهم كبار ملاك سفن الغوص على اللؤلؤ قديما مثل خالد بن علي الخليفي وعبدالله بن خميس الخليفي، ومنهم كبار النواخذة مثل علي بن علي الخليفي ومحمد بن صالح الخليفي، ومنهم أيضا الشاعر الشيخ عبدالله بن صالح بن ماجد الخليفي. وفي العصر الحديث برز منهم سعادة محمد بن مبارك الخليفي رئيس مجلس الشورى منذ عام 1995، والدكتور عبدالله صالح مبارك الخليفي مدير جامعة قطر السابق ووزير العمل والشؤون الاجتماعية الحالي، واللواء الركن سعد بن جاسم الخليفي مدير الأمن العام بوزارة الداخلية، واللواء الركن خليفة مبارك الخليفي نائب رئيس الاتحاد الرياضي العسكري، والمحامي والمستشار القانوني عبدالعزيز بن صالح الخليفي، وعميد كلية القانون بجامعة قطر الدكتور محمد بن عبدالعزيز الخليفي، وغيرهم كثير.
بدأ الخليفي مشواره المهني بعد تخرجه مباشرة، إذ عين في عام 1979 على وظيفة مساعد رئيس قسم الآثار بإدارة المتاحف والآثار التابعة لوزارة الإعلام آنذاك، وهي الإدارة التي تم تغيير اسمها لاحقا إلى إدارة السياحة والآثار. ثم تم تعيينه في عام 1980 مراقبا لشؤون المتاحف والآثار. وفي عام 1994 صار مديرا لإدارة المتاحف والآثار خلفا للمبدع المرحوم جاسم زيني (1942 - 2012). وقد ظل يشغل هذا المنصب الأخير حتى عام 2001، وهو العام الذي شهد اختياره ليشغل منصب خبير في التراث بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث إلى جانب عضويته في هيئة إدارة المجلس. وما بين هذا وذلك كرس الخليفي جزءا من وقته لنيل دبلوم في اللغة الإنجليزية كي ينمي حصيلته العلمية من خلال الاطلاع على المراجع الأجنبية المتعلقة بالآثار والعمارة والمتاحف.
خلال مسيرته المهنية، عرف عنه شغفه العظيم بالعمل المتواصل باحثا ومؤلفا ومنقبا ومرمما. إذ كان ديدنه في الحياة هو تقديم أقصى ما يمكن لبلده ومنطقة الخليج في مجال ترميم الآثار، وبناء المتاحف، والمحافظة على العمارة الخليجية التقليدية، وإعداد المؤلفات الرصينة ذات العلاقة.
قال صديقه أستاذ الإعلام المساعد في كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر د. ربيعة بن صباح الكواري في صحيفة الشرق القطرية (24/9/2016) ما مفاده إن الخليفي كان يمتلك الكثير من الأفكار والتطلعات للارتقاء بالمتاحف، إلا أن المرض لم يمهله طويلا، حيث عانى كثيرا من أحد الأمراض المزمنة الذي داهمه وهو في سن الشباب، فصبر على ما كتبه الله عليه حتى فارق الدنيا في شهر سبتمبر من عام 2016 وهو لم يكمل الستين من عمره، تاركا خلفه ابنيه جاسم وعبدالله، ومكتبة خاصة عامرة بأكثر من 10 آلاف عنوان، وتاريخا حافلا بالإنجازات والمشاركات في المحافل والمؤتمرات والندوات المحلية والعربية والإسلامية، وفي اللجان الفنية المتخصصة في الآثار والمتاحف على مستوى العالم العربي.
طالب الخليجيين ببناء متحف في كل مدرسة
سئل محمد جاسم الخليفي ذات مرة عن «سوق واقف» بالدوحة، وهي سوق سميت بهذه التسمية لأن الباعة كانوا يقفون قديما إلى جنبات الطرق المؤدية إلى السوق الكبيرة لبيع أشياء مثل البقل والفجل والسمك، وأصبحت الآن من أبرز المعالم الحضارية والسياحية في قطر، بعد خضوعها لعملية تجديد في التصميم مع الحفاظ على الأصالة، فاقترح أن توسع وأن تضاف إليها بعض الخدمات مثل مكتب للبريد، ومكتب لبيع العملات القطرية منذ بدايتها، ومركز صحي دائم، ومتحف يحكي الحياة الاجتماعية القديمة في السوق من خلال الصور والآثار والتحف والأدوات المستخدمة قديما وسجل بأسماء وصور من تاجروا فيها في الماضي.
وعند التمعن والتدقيق في مؤلفاته القيمة نجد أن الخليفي حرص على وصف العمارة القطرية والخليجية وصفا دقيقا من ناحية الشكل والمرافق والزخارف والمساحة ونوعية المواد المستخدمة في البناء، كما ميز بين بيوت الطبقات الفقيرة والطبقات الميسورة، متوقفا عند كل ما ميز بيوت الرعيل الأول مثل «الحوش» (الفناء الداخلي للمنزل)، وفتحات «البادغير» في الجدران للتهوية، و«المرازيم» في الأسطح لتصريف مياه الأمطار، و«الرواشن» (الأرفف) داخل الغرف لوضع سراج الإضاءة وأدوات الزينة والأباريق أو لحفظ المصاحف، و«الدرايش» (النوافذ) الخشبية المنحوتة التي تزين أجزاءها العلوية قطع من الزجاج الملون، و«الأبواب» الخشبية المزينة بقطع نحاسية دائرية، و«الميالس» (غرف استقبال الضيوف)، و«البنكلات» (غرف علوية تطل على الحوش ويصعد إليها من خلال سلم مبني من الحجر والطين داخل الحوش)، والآبار داخل الحوش لاستخراج الماء اللازم لغسل الأواني والملابس وري الأشجار إن وجدت، وأسطح الغرف التي كانت تستخدم للنوم صيفا، و«الليوان» (مجلس داخل الحوش يجلس فيه أهل البيت للسمر أو لمزاولة أعمالهم وتناول طعامهم، كما تقام فيه حفلات الزواج وختان الصبية)، و«بيت الخلا» (دورات المياه) الذي كان عادة ما يحتل إحدى زوايا الحوش، ومداخل البيت التي كانت تصمم بطريقة تمنع رؤية من في الطريق لنساء المنزل عبر بناء انعطافات جدارية، وغير ذلك.
وأخيرا فإنه عرف عن الخليفي دعواته المتكررة لمواطني وحكومات الخليج للاقتباس من العمارة التقليدية الخليجية والعربية والإسلامية وقت شروعهم في بناء مساكنهم ومبانيهم. كما عرف عنه اقتراحاته المتكررة لوزارات التربية والتعليم في قطر ودول الخليج العربية بضرورة إنشاء متحف في كل مدرسة من أجل تثقيف وتوعية الأجيال الجديدة بماضي الرعيل الأول ومعاناة الإنسان الخليجي في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، وأيضا من أجل تحفيزهم على التخصص في علم الآثار وإدارة المتاحف وترميم المعالم القديمة.
مقاتل من أجل التراث أمام زحف «الحداثة»
ساهم محمد جاسم الخليفي مع زملائه من أقطار الخليج العربي في صياغة قانون الآثار لدول مجلس التعاون الخليجي في تسعينات القرن العشرين، وحصل على عضوية جمعية التاريخ والآثار لدول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 1999، كما كانت له مساهمة فعالة في «لجنة مهرجان قطر البحري» مع ثلة من الباحثين والمهتمين بالتراث البحري في بلاده. ومن بين المؤتمرات التي شارك فيها ممثلا لبلاده: المؤتمر التاسع والعاشر للآثار والمتاحف في الوطن العربي في صنعاء/1980 والجزائر/1982 على التوالي، اجتماعات اللجنة الدائمة للمسؤولين عن الآثار والمتاحف في البلاد العربية التي انعقدت في نواكشوط/1981 والمنامة/1983، الاجتماع الأول والثاني والثالث للمسؤولين عن الآثار والمتاحف بدول مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض في الأعوام 1984 و1985 و1994 على التوالي، المؤتمر الثاني لوزراء الثقافة العرب في بغداد/1981، المؤتمر الأول للمنظمة العربية للمتاحف في القاهرة/1996، المؤتمر الخامس عشر للمجلس الدولي للمتاحف بهولندا/1989.
ويصف الدكتور خالد عزب عالم الآثار المصري ورئيس قطاع المشاريع والخدمات المركزية في مكتبة الإسكندرية، الخليفي بالمقاتل من أجل التراث، وذلك في مقالة كتبها بجريدة الحياة (19/11/2016)، إذ كتب: «لقد عرفته عن قرب وقامت بيننا صداقة، ووجدته مدافعا عن التراث في وجه الحداثة الجارفة التي دمرت العديد من معالم مدينة الدوحة القديمة، ولولا إيمانه لكان تراث قطر اختفى في وقت اجتاحت البلاد موجة من الهدم لهذا التراث، فكان الخليفي يحاول كمقاتل إنقاذ هذا التراث، وحينما ترك منصبه لم يعط حقه كعالم، وكان هذا مؤثرا فيه بشدة، فرأيته في سنواته الأخيرة حزينا.
كتابه العمدة (العمارة التقليدية في قطر) اختفى من قطر ولم يعد متوافرا، لذا فإن أقل ما يمكن أن يقدم له أن تعيد وزارة الثقافة القطرية طباعة كتابه، وأن يخصص يوما لتكريمه في معرض الدوحة للكتاب».
وطالما تطرق الدكتور عزب إلى كتاب الخليفي «العمارة التقليدية»، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المؤلف المذكور عبارة عن كتاب موسوعي، وصدر منذ عام 2000 في عدة طبعات باللغتين العربية والإنجليزية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، ويعتبر من المراجع التي لا غنى عنها لكل من يريد التعرف على العمارة التقليدية في قطر. كما أنه الكتاب الذي نال صاحبه عنه جائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية المشار إليها آنفا. على أن هذا المؤلف هو مجرد واحد من بين عدة مؤلفات أصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر للخليفي.
فإذا ما تجاوزنا الكثير من المطويات التي أعدها الرجل للتعريف بمتاحف بلاده مثل: متحف قطر الوطني، متحف الخور الإقليمي، متحف الزبارة الإقليمي، متحف قلعة الدوحة، متحف الوكرة الإقليمي، متحف التقاليد الشعبية، متحف قلعة الكوت، ومتحف السلاح، إضافة إلى متحف الفن الإسلامي الذي يعد أحد معالم الثقافة المادية في الشرق الأوسط وأحد أفضل عشرة متاحف في العالم، وإذا ما تجاوزنا أيضا مئات المقالات التي كتبها في الصحف والمجلات الخليجية والعربية في مجال تخصصه، فإن للخليفي العديد من الكتب ومنها: كتاب «المواقع الأثرية» (2000)، وكتاب «آثار الزبارة ومروب» (1987)، وكتاب «هندسة بناء القصر القديم» (2000)، وكتاب «التراث المعماري: المتاحف في قطر» (2003)، إضافة إلى كتب: «أصالة العمارة التقليدية في منطقة الخليج»، «الحرف والصناعات التقليدية في قطر ومنطقة الخليج العربي»، «الترميم في دولة قطر».