لا يمكن لأي باحث في تاريخ منطقة الحجاز أن يتجاوز التاريخ العبق لعائلاتها التجارية، وأعلامها في ميادين الفكر والثقافة، وشخصياتها التي حملت على أكتافها عبء البناء والتطوير والتنمية في الزمن الصعب. وإذا أراد الباحث أن يسرد قائمة بهذه العائلات ورجالاتها الميامين فسيجد صعوبة بالغة لكثرتها من جهة، ومن جهة أخرى لتعدد المجالات التي عملت بها فأبدعت وأثرت وأغنت.
والحقيقة أن كثيرا من هذه العائلات المؤثرة قدمت إلى الحجاز من حضرموت في العهد الهاشمي واستوطنت مكة وجدة والمدينة وما جاورها من مدن وبلدات، حيث عُرف أبناء حضرموت منذ أقدم الأزمنة بالهجرة والتغرب والانتشار في أقطار شبه الجزيرة العربية وبلاد الهند وإندونيسيا والملايو وسنغافورة والفلبين وغيرها.
من هذه العائلات الحضرمية التي استوطنت الحجاز وصارت جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع الحجازي، نذكر على سبيل المثال اللاحصري عائلات: العطاس، السقاف، الصبان، البار، الكاف، الحبشي، بلخير، بن زقر، بن لادن، بن محفوظ، بقشان، الكعكي، عبدالجواد، العامودي، باهارون، باكثير، باغفار، باسمح، باجنيد، باجبير، باوزير، بامعوضة، باقيس، باعشن، بابصيل، باروم، بامصفر، باناعمة، باحمدين، باسلامة، باخشب، وغيرها كثير من تلك التي انخرط بعضها في النشاط التجاري، فيما فضل بعضها الآخر العمل في السلك الحكومي ومجالات التعليم والقضاء والإدارة.
غير أن عائلة باناجة، التي سنركز عليها في هذه المادة من خلال تناول سيرة أحد أعمدتها وهو شهبندر تجار الحجاز عبدالله باشا باناجة، لها ذكر خاص في تاريخ الحجاز بسبب ما مارسه من أنشطة وما تعرض له من أزمات ومتاعب في العهدين العثماني والهاشمي منذ أن استوطن مع عائلته الأراضي الحجازية قبل أكثر من قرن ونصف القرن، ناهيك عما بناه لنفسه من أمجاد تجارية وشهرة مدوية تجاوزت الحجاز إلى تركيا ومصر والهند.
دعونا قبل الغوص في سيرة الرجل بالتفصيل، نقرأ ما كتبه عنه القومندان دافيد جورج هوغارث «David George Hogarth» الأركيولوجي البريطاني الذي كان يعمل لحساب توماس إدوارد لورانس المعروف بـ«لورانس أوف إرابيا»؛ ففي تقرير سري أعده في العامين 1917 و1918 عن الشخصيات الرئيسية في الحجاز أتى هوغارث على ذكر أسرة باناجة فقال (بتصرف): «باناجة الحضارم عائلة من مكة وجدة تعمل في التجارة مع الهند والسواحل، وتمتلك السفن الشراعية، وتسيّر حملات الأسلحة (مثلا إلى القنفذة خلال الحرب التركية ــ الإيطالية). رجالها المهمون هم: عبدالرحمن باناجة من جدة وهو عميد العائلة وقد سجنه الأتراك ذات مرة، أخوه عبدالله باناجة من جدة وهو رجل كبير السن أبيض الشعر ترأس اللجنة العليا لمدينة جدة ومنحه الأتراك لقب باشا، أحمد بن عبدالرحمن باناجة من مكة وهو في الثلاثين من العمر، طويل القامة جاحظ العينين له لحية سوداء متناثرة وشارب معتدل، عهد إليه الشريف بمنصب وزير المالية في أول وزارة له، انفصل عن أبيه وشركته واستقل بعمله، كان يقوم بإدارة أعمال الشريف قبل الثورة (يقصد الثورة العربية الكبرى)».
ولد عبدالله يوسف باناجة (باناجة من مشايخ دوعن وآل رشيد بحضرموت) في جدة في سنة 1270 للهجرة المصادف لسنة 1852 للميلاد، لكنه اضطر أن ينتقل مع والديه وأخيه عبدالرحمن إلى جزيرة قبرص منفيا في أعقاب الأحداث التي اصطلح على تسميتها بـ«فتنة جدة» التي وقعت في السادس من ذي القعدة 1274 المصادف لسنة سنة 1858 للميلاد.
وملخص القصة (نعتمد هنا على ما رواه الباحث منصور العساف في الزميلة «الرياض» (16/ 12/ 2016)، وما سجله الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري في الصفحتين 75 و76 من كتابه «تاريخ مدينة جدة» الصادر في عام 1963) هو أن صالح جوهر أحد تجار جدة، كان له مركب مرفوع عليه علم بريطانيا، فأراد أن يغيره ويرفع عليه العلم العثماني. ولما سمع القنصل البريطاني في جدة بالموضوع منعه، فلم يمتنع، بل نفذ ما يريد بعد أن أخذ إذنا من الوالي العثماني نامق باشا، فما كان من القنصل البريطاني إلا وأن أبحر إلى المركب ونزع العلم العثماني منه وداس عليه بقدمه، الأمر الذي أغضب الحجازيين وعدوها إهانة للمسلمين فقاموا بمداهمة القنصلية البريطانية وقتلوا القنصل ومعه القنصل الفرنسي وبعض الرعايا الغربيين المقيمين في جدة، مما دفع لندن إلى إرسال بوارجها إلى الأخيرة، حيث دكت المدينة ودمرت بعض أجزائها، فيما قامت السلطات العثمانية الحاكمة آنذاك بالتحقيق وإلقاء القبض على المتورطين والمحرضين ومعاقبتهم بالقتل أو النفي. وكان ممن تم نفيهم إلى قبرص يوسف باناجة الذي اصطحب عائلته معه إلى المنفى. وفي المنفى القبرصي تلقى عبدالله باناجة قسطا من التعليم قبل أن يعود إلى جدة مع والدته وأخيه عبدالرحمن في أعقاب وفاة والده يوسف في المنفى.
غير أن إقامة عبدالله في جدة لم تطل، إذ سرعان ما دب الخلاف بينه وبين أخيه الأكبر محمد أفندي باناجة الذي كان يدير شؤون العائلة، فقرر الهجرة إلى عاصمة الدولة العثمانية (إسطنبول)، حيث انطلق الرجل يبني نفسه بعصامية من الصفر، إلى أن غدا اسما لامعا ليس في الأوساط التجارية التركية فقط وإنما أيضا لدى البلاط العثماني. فماذا فعل باناجة يا ترى ليحقق هذا المجد؟
لأن تجارة المجوهرات واللآلئ والأحجار النفيسة كانت رائجة في إسطنبول وقت وصوله إليها في زمن السلطان عبدالحميد، ولأن الرجل كان يتمتع بالذوق الرفيع في الاختيار والتنسيق والتصميم، فقد اشتغل بهذه التجارة، واستطاع أن ينتج من المجوهرات ما لفت أنظار المشترين ومن بينهم رجالات الدولة العثمانية. وهكذا سمع به السلطان عبدالحميد الذي قربه وجعله يعمل في بلاطه قبل أن يعينه في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني الذي أسسه السلطان عبدالحميد في عام 1877 وخصص فيه 71 مقعدا للمسلمين و44 مقعدا للمسيحيين و4 مقاعد لليهود) ويمنحه لقب الباشوية وما له من امتيازات وأوسمة ومكانة رفيعة في المجتمع. وبهذا سجل باناجة اسمه في تاريخ الحجاز كأول واحد من أبنائها، خارج دائرة أشراف مكة المكرمة، يحصل على الباشوية. هذا علما بأن عبدالله باناجة استقر في تركيا مدة ليست بالقصيرة، تزوج خلالها، وكان أثناء ذلك منقطعا عن أهله في الحجاز إلى أن جاءه نبأ وفاة أخيه محمد أفندي، عميد عائلة باناجة، فقرر العودة إلى جدة ليخلفه في العمادة.
ويخبرنا العساف في مقاله المشار إليه آنفا ما مفاده أن عودة الرجل إلى وطنه وأهله من بعد غياب طويل ارتبطت بحمى استملاكه للعقارات والأراضي، وتشييده للقصور والقاعات الكبيرة في جدة ومكة والطائف. حيث بدأ أولا في استملاك البيوت الصغيرة التي كانت تحيط بمنزل عائلته الصغير في «سوق الندى»، ثم اشترى أرضا واسعة أقام عليها بيتا كبيرا للعائلة ومخازن للبضائع ومكاتب لإدارة أنشطته التجارية، وأتبع هاتين الخطوتين بشراء بيت ملاصق للمسجد الحنفي الذي بني في عام 1240 للهجرة (1824 للميلاد) من أجل أن يضيف إليه ما عرف بـ«مقصورة باناجة» التي استخدمت لصلواتهم كما كانت ملتقى لأهل العلم والفكر والأعيان ومكانا تردد عليه الحكام مثل الشريف حسين بن علي وابنه الملك علي بن الحسين والملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود (طيب الله ثراه) والملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وسلطان الدولة القعيطية الحضرمية وغيرهم، علما بأن الملك عبدالعزيز بعد نجاحه في فتح جدة في عام 1924 اتخذ من مقصورة أو صالة باناجة، التي كانت من أبرز المعالم التراثية في المدينة خلال القرن العشرين، مكانا لاستقبال المواطنين والأهالي والأعيان والتشاور معهم وتلبية مطالبهم. وحول الجزئية الأخيرة كتب مؤرخ الحجاز وأديبها الجداوي المرحوم محمد علي مغربي في ترجمته للشيخ عبدالله باناجة في كتابه الموسوم بـ«أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة» الصادر في عام 1980 ما مفاده أنه رأى الملك عبدالعزيز يؤدي أول صلاة له في جدة في مقصورة آل باناجة، وأن آل باناجة كانوا قد استعدوا جيدا لاستقبال الملك الذي ذهب إليهم ماشيا من بيت نصيف وسط اكتظاظ الشوارع بالناس.
نشاطه العقاري تجاوز جدة إلى مكة فالطائف والقاهرة
لم يكتف عبدالله باناجة باستملاك العقارات وبناء القصور في جدة وحدها، بل مد نظره إلى مكة المكرمة أيضا التي اشترى فيها قصرا في منطقة الصفا بمواجهة الحرم المكي، مع ملحق يطل على شارع القشاشية، علما بأن هذا القصر نزل به الخديوي عباس وكذلك سلطان الدولة القعيطية الحضرمية حينما أديا مناسك الحج، ناهيك عن أنه كان قصرا مفتوحا طوال العام لاستقبال كبار الضيوف والشخصيات ولعقد الاجتماعات والندوات والأمسيات الأدبية والاحتفاء بالشعراء والمفكرين.
والمعروف أن هذا القصر الذي عرف باسم (دار باناجة) في مكة اشتراه عبدالله باشا باناجة من ورثة أحمد يكن باشا (ابن أخت محمد علي باشا ووزير ماليته وحربيته) في عام 1301 للهجرة (1884 للميلاد). وبسبب الطريق الضيق بين هذه الدار والدور الواقعة خلفها، قررت الحكومة السعودية شراءها من آل باناجة في عام 1368 للهجرة (1949 للميلاد) كي تهدمها توسعةً للشارع العام. ومن بعد جدة ومكة مد عبدالله باناجة بصره نحو الطائف التي شيد فيها -بما عُرف عنه من ذوق رفيع وحرص على اختيار أفضل المواقع وأكثرها جاذبية واهتماما بمعايير البناء الدقيقة- قصرا على الطراز التركي على شكل باخرة في (منطقة السلامة). والمعروف عند أهل الطائف القدامى أن الوالي التركي على الحجاز ما بين عامي 1893 إلى 1908 (الفريق أحمد راتب باشا) كان ينزل في هذا القصر (قصر الباخرة) كلما أراد الاصطياف في الطائف.
وبسبب جمال أملاك باناجة العقارية ووجود أغلبها في مواقع متميزة وجودة بنائها، راحت أسعارها ترتفع، والطلب على استئجارها من قبل العقاريين والقنصليات والبعثات الأجنبية المعتمدة في جدة يتزايد، وبالتالي ازداد باناجة ثراء وارتفعت مكانته الاجتماعية. لكن هذه الأملاك آلت، من بعد وفاته في مصر في عام 1344 للهجرة (1926 للميلاد) عن عمر ناهز الرابعة والسبعين، إلى شقيقه عبدالرحمن باناجة لعدم وجود وريث له من صلبه. وفيما يتعلق بمدى ثراء آل باناجة ومكانتهم التجارية بين تجار الحجاز في تلك الحقبة، يمكن الاعتماد على سجلات حملة التبرعات التي جرت في الحجاز في شهر مارس من عام 1919 لصالح منكوبي الديار العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي حملة أقرها مجلس وكلاء الحجاز برئاسة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن سراج. هذه السجلات نشرتها صحيفة (القبلة) المكية في عدديها رقم 267 و274 الصادرين في عام 1337 للهجرة (الموافق 1919 للميلاد)، ومنها يتبين زعامة بيت باناجة (عبدالله باشا وعبدالرحمن باشا وأحمد أفندي عبدالرحمن باناجة) وبيت زينل (الحاج زينل والحاج عبدالله والحاج حسين) على تجار الحجاز كافة بدليل أن كل بيت منهما تبرع للحملة بمبلغ 500 جنيه إفرنجي، فيما كان مجموع المبالغ التي دفعها 50 كيانا تجاريا غيرهما هو 1729 جنيها إفرنجيا. وعليه فإن من يتبرع بهذا المبلغ الضخم بأسعار تلك الحقبة لا بد أن يكون تاجرا فاحش الثراء وعظيم القدر.
قلنا إن عبدالله باناجة احتفظ بعلاقات متينة مع السلطان العثماني، لكن كيف كانت علاقته مع شريف مكة الحسين بن علي؟ الحقيقة أن علاقته بحكام الحجاز الهاشميين كانت جيدة ولا يعكر صفوها أي أمر إلى أن تم تنصيب الشريف الحسين بن علي أميرا على الحجاز في سرادق ضخم بحي الهجلة في ذي القعدة من عام 1326 للهجرة المصادف لشهر ديسمبر 1908. حينها فقط شعر باناجة أن صلاته القوية المعروفة مع الأتراك قد تتسب له بالمتاعب مع الشريف الكاره لهم، وقد يتم التضييق عليه في رزقه ونشاطه التجاري. وقد ازدادت شكوكه تلك في أعقاب إعلان الشريف حسين تمرده على العثمانيين في عام 1916 في ما عُرف بالثورة العربية الكبرى، فقرر تفاديا للصداع أن يغادر الحجاز ويهاجر إلى مصر، تاركا ابن أخيه أحمد أفندي بن عبدالرحمن باناجة (عينه الشريف حسين لاحقا وزيرا لماليته) ينوب عنه في إدارة أملاكه.
وعلى العكس من هجرته إلى إسطنبول، هاجر باناجة إلى القاهرة وهو صاحب ثروة ومال ويسر، فاستطاع أن يواصل هناك هواية الاستحواذ على العقارات والقصور المصرية الفاخرة. فاشترى مثلا منزلا كبيرا في منطقة العباسية التي كانت آنذاك مقرا لإقامة تجار مصر ووجهائها وأعيانها وباشواتها، وأضاف إليه دارا للضيافة مع تركها متاحة لإقامة القادمين إلى مصر من أصدقائه ومعارفه. ثم استحوذ بالشراء على العديد من الفلل والأراضي والمباني المطلة على النيل. وهكذا، فعندما انتقلت عائلة باناجة كلها من الحجاز إلى مصر خلال الفترة الانتقالية ما بين العهدين الهاشمي والسعودي، لم تجد العائلة أي صعوبات تذكر لجهة العثور على أماكن الإقامة المناسبة.
.. وامتدت تجارة عائلته لتصل الهند والسواحل
تحدثنا في ما سبق عن علاقة عبدالله باشا وعائلته بتركيا العثمانية ومصر الملكية ونشاطه في الحجاز في العهود العثمانية والهاشمية والسعودية، لكن لم نأت على ذكر علاقته بالهند التي لم يكن هناك بد منها؛ كونها أحد أهم مصادر الحصول على الأحجار النفيسة ومهارات صناعة المجوهرات والحلي (مهنة عبدالله باشا).
يربط الباحث السعودي محمود عبدالغني صباغ، في مقال كتبه بجريدة الحياة (11/ 12/ 2014)، ما بين ازدهار جدة وتحولها إلى ميناء للتجارة الهندية وبين بروز وصعود بعض البيوتات التجارية الحجازية (مثل بيت باناجة وبيت زينل)، فيقول إنه مع انتصاف القرن الثامن عشر لم تعد جدة مجرد ميناء للحجاز وأراضي الجزيرة العربية الداخلية، وإنما صارت مركزا رئيسيا لإعادة التصدير إلى الهند عبر ميناء سورات في ولاية كوجرات على المحيط الهندي، الأمر الذي أدى إلى نشوء محور جدة ــ سورات الحيوي للشحن البحري، حيث كانت سورات نقطة انطلاق منتجات الهند نحو جدة، فيما كانت الأخيرة نقطة إعادة تصديرها باتجاه مصر وأوروبا، بدليل أنه في عام 1768 كانت هناك تسع بواخر عملاقة تبحر من سورات إلى جدة بشكل دوري تحمل كل واحدة منها بضاعة يزيد سعرها على 200 ألف جنيه إسترليني.
ويخبرنا الباحث أيضا أن صفقات التجارة الهندية كانت تعقد على أرصفة ميناء جدة نقدا باستخدام الفضة وريال ماريا التريزا، بعيدا عن أشكال المقايضة التي كانت سائدة في موانئ أخرى، لأن جدة كانت بها مع نهايات القرن الثامن عشر بيوتات تجارية تملك من الأموال الطائلة ما تستطيع بها إتمام الصفقات المباشرة مع الهند، بل وإقراض التجار المحليين الأقل شأنا، ناهيك عن حقيقة امتلاء خزائن المدينة بالرساميل الأجنبية القادمة من مسقط وزنجبار ومصر والشام وبلاد المغرب.
ومما ذكره أيضا أن ازدهار ميناء جدة تجاريا رافقه شيء آخر تمثل في صناعة المراكب الشراعية الضخمة، حتى غدت جدة في منتصف القرن التاسع عشر مركزا لصناعة السفن ذات الساريتين. فكانت هذه السفن تُستخدم في نقل المعونات العينية السنوية المرسلة من السلطات العثمانية إلى الحجاز من جهة، وتستخدم في نقل الحجاج من وإلى الهند من جهة أخرى، مشيرا إلى أن بيوتات تجارية جداوية عديدة (أبرزها جوهر ونصيف والسقاف وعرب وباناجة وزينل) قد استثمرت وانخرطت بقوة منذعام 1883 في نقل الحجيج والمسافرين من جدة إلى الهند وزنجبار وجاوة وسنغافورة والملايو وبالعكس.
وأخيرا، فإن آل باناجة الذين بدأوا نشاطهم بالتجارة مع الهند والسواحل -كما قال البريطاني هوغارث- ثم تحولوا إلى تسيير المراكب الشراعية لنقل الحجيج، وقبل ذلك مارس عميدهم عبدالله باشا تجارة الذهب والمجوهرات والأحجار النفيسة، صاروا اليوم من خلال أحفادهم يملكون ويديرون واحدة من أكبر المجموعات التجارية السعودية المتخصصة في تصنيع وتوزيع المنتجات الدوائية العالمية ومعدات الرعاية الصحية وهي «مجموعة باناجه القابضة» التي صنفتها مجلة فوربس في عام 2015 ضمن أقوى 100 شركة في العالم العربي، علما بأن هذا الكيان التجاري كان يعرف قبل عام 2009 باسم «الشركة السعودية للتوريدات المحدودة».
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
والحقيقة أن كثيرا من هذه العائلات المؤثرة قدمت إلى الحجاز من حضرموت في العهد الهاشمي واستوطنت مكة وجدة والمدينة وما جاورها من مدن وبلدات، حيث عُرف أبناء حضرموت منذ أقدم الأزمنة بالهجرة والتغرب والانتشار في أقطار شبه الجزيرة العربية وبلاد الهند وإندونيسيا والملايو وسنغافورة والفلبين وغيرها.
من هذه العائلات الحضرمية التي استوطنت الحجاز وصارت جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع الحجازي، نذكر على سبيل المثال اللاحصري عائلات: العطاس، السقاف، الصبان، البار، الكاف، الحبشي، بلخير، بن زقر، بن لادن، بن محفوظ، بقشان، الكعكي، عبدالجواد، العامودي، باهارون، باكثير، باغفار، باسمح، باجنيد، باجبير، باوزير، بامعوضة، باقيس، باعشن، بابصيل، باروم، بامصفر، باناعمة، باحمدين، باسلامة، باخشب، وغيرها كثير من تلك التي انخرط بعضها في النشاط التجاري، فيما فضل بعضها الآخر العمل في السلك الحكومي ومجالات التعليم والقضاء والإدارة.
غير أن عائلة باناجة، التي سنركز عليها في هذه المادة من خلال تناول سيرة أحد أعمدتها وهو شهبندر تجار الحجاز عبدالله باشا باناجة، لها ذكر خاص في تاريخ الحجاز بسبب ما مارسه من أنشطة وما تعرض له من أزمات ومتاعب في العهدين العثماني والهاشمي منذ أن استوطن مع عائلته الأراضي الحجازية قبل أكثر من قرن ونصف القرن، ناهيك عما بناه لنفسه من أمجاد تجارية وشهرة مدوية تجاوزت الحجاز إلى تركيا ومصر والهند.
دعونا قبل الغوص في سيرة الرجل بالتفصيل، نقرأ ما كتبه عنه القومندان دافيد جورج هوغارث «David George Hogarth» الأركيولوجي البريطاني الذي كان يعمل لحساب توماس إدوارد لورانس المعروف بـ«لورانس أوف إرابيا»؛ ففي تقرير سري أعده في العامين 1917 و1918 عن الشخصيات الرئيسية في الحجاز أتى هوغارث على ذكر أسرة باناجة فقال (بتصرف): «باناجة الحضارم عائلة من مكة وجدة تعمل في التجارة مع الهند والسواحل، وتمتلك السفن الشراعية، وتسيّر حملات الأسلحة (مثلا إلى القنفذة خلال الحرب التركية ــ الإيطالية). رجالها المهمون هم: عبدالرحمن باناجة من جدة وهو عميد العائلة وقد سجنه الأتراك ذات مرة، أخوه عبدالله باناجة من جدة وهو رجل كبير السن أبيض الشعر ترأس اللجنة العليا لمدينة جدة ومنحه الأتراك لقب باشا، أحمد بن عبدالرحمن باناجة من مكة وهو في الثلاثين من العمر، طويل القامة جاحظ العينين له لحية سوداء متناثرة وشارب معتدل، عهد إليه الشريف بمنصب وزير المالية في أول وزارة له، انفصل عن أبيه وشركته واستقل بعمله، كان يقوم بإدارة أعمال الشريف قبل الثورة (يقصد الثورة العربية الكبرى)».
ولد عبدالله يوسف باناجة (باناجة من مشايخ دوعن وآل رشيد بحضرموت) في جدة في سنة 1270 للهجرة المصادف لسنة 1852 للميلاد، لكنه اضطر أن ينتقل مع والديه وأخيه عبدالرحمن إلى جزيرة قبرص منفيا في أعقاب الأحداث التي اصطلح على تسميتها بـ«فتنة جدة» التي وقعت في السادس من ذي القعدة 1274 المصادف لسنة سنة 1858 للميلاد.
وملخص القصة (نعتمد هنا على ما رواه الباحث منصور العساف في الزميلة «الرياض» (16/ 12/ 2016)، وما سجله الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري في الصفحتين 75 و76 من كتابه «تاريخ مدينة جدة» الصادر في عام 1963) هو أن صالح جوهر أحد تجار جدة، كان له مركب مرفوع عليه علم بريطانيا، فأراد أن يغيره ويرفع عليه العلم العثماني. ولما سمع القنصل البريطاني في جدة بالموضوع منعه، فلم يمتنع، بل نفذ ما يريد بعد أن أخذ إذنا من الوالي العثماني نامق باشا، فما كان من القنصل البريطاني إلا وأن أبحر إلى المركب ونزع العلم العثماني منه وداس عليه بقدمه، الأمر الذي أغضب الحجازيين وعدوها إهانة للمسلمين فقاموا بمداهمة القنصلية البريطانية وقتلوا القنصل ومعه القنصل الفرنسي وبعض الرعايا الغربيين المقيمين في جدة، مما دفع لندن إلى إرسال بوارجها إلى الأخيرة، حيث دكت المدينة ودمرت بعض أجزائها، فيما قامت السلطات العثمانية الحاكمة آنذاك بالتحقيق وإلقاء القبض على المتورطين والمحرضين ومعاقبتهم بالقتل أو النفي. وكان ممن تم نفيهم إلى قبرص يوسف باناجة الذي اصطحب عائلته معه إلى المنفى. وفي المنفى القبرصي تلقى عبدالله باناجة قسطا من التعليم قبل أن يعود إلى جدة مع والدته وأخيه عبدالرحمن في أعقاب وفاة والده يوسف في المنفى.
غير أن إقامة عبدالله في جدة لم تطل، إذ سرعان ما دب الخلاف بينه وبين أخيه الأكبر محمد أفندي باناجة الذي كان يدير شؤون العائلة، فقرر الهجرة إلى عاصمة الدولة العثمانية (إسطنبول)، حيث انطلق الرجل يبني نفسه بعصامية من الصفر، إلى أن غدا اسما لامعا ليس في الأوساط التجارية التركية فقط وإنما أيضا لدى البلاط العثماني. فماذا فعل باناجة يا ترى ليحقق هذا المجد؟
لأن تجارة المجوهرات واللآلئ والأحجار النفيسة كانت رائجة في إسطنبول وقت وصوله إليها في زمن السلطان عبدالحميد، ولأن الرجل كان يتمتع بالذوق الرفيع في الاختيار والتنسيق والتصميم، فقد اشتغل بهذه التجارة، واستطاع أن ينتج من المجوهرات ما لفت أنظار المشترين ومن بينهم رجالات الدولة العثمانية. وهكذا سمع به السلطان عبدالحميد الذي قربه وجعله يعمل في بلاطه قبل أن يعينه في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني الذي أسسه السلطان عبدالحميد في عام 1877 وخصص فيه 71 مقعدا للمسلمين و44 مقعدا للمسيحيين و4 مقاعد لليهود) ويمنحه لقب الباشوية وما له من امتيازات وأوسمة ومكانة رفيعة في المجتمع. وبهذا سجل باناجة اسمه في تاريخ الحجاز كأول واحد من أبنائها، خارج دائرة أشراف مكة المكرمة، يحصل على الباشوية. هذا علما بأن عبدالله باناجة استقر في تركيا مدة ليست بالقصيرة، تزوج خلالها، وكان أثناء ذلك منقطعا عن أهله في الحجاز إلى أن جاءه نبأ وفاة أخيه محمد أفندي، عميد عائلة باناجة، فقرر العودة إلى جدة ليخلفه في العمادة.
ويخبرنا العساف في مقاله المشار إليه آنفا ما مفاده أن عودة الرجل إلى وطنه وأهله من بعد غياب طويل ارتبطت بحمى استملاكه للعقارات والأراضي، وتشييده للقصور والقاعات الكبيرة في جدة ومكة والطائف. حيث بدأ أولا في استملاك البيوت الصغيرة التي كانت تحيط بمنزل عائلته الصغير في «سوق الندى»، ثم اشترى أرضا واسعة أقام عليها بيتا كبيرا للعائلة ومخازن للبضائع ومكاتب لإدارة أنشطته التجارية، وأتبع هاتين الخطوتين بشراء بيت ملاصق للمسجد الحنفي الذي بني في عام 1240 للهجرة (1824 للميلاد) من أجل أن يضيف إليه ما عرف بـ«مقصورة باناجة» التي استخدمت لصلواتهم كما كانت ملتقى لأهل العلم والفكر والأعيان ومكانا تردد عليه الحكام مثل الشريف حسين بن علي وابنه الملك علي بن الحسين والملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود (طيب الله ثراه) والملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وسلطان الدولة القعيطية الحضرمية وغيرهم، علما بأن الملك عبدالعزيز بعد نجاحه في فتح جدة في عام 1924 اتخذ من مقصورة أو صالة باناجة، التي كانت من أبرز المعالم التراثية في المدينة خلال القرن العشرين، مكانا لاستقبال المواطنين والأهالي والأعيان والتشاور معهم وتلبية مطالبهم. وحول الجزئية الأخيرة كتب مؤرخ الحجاز وأديبها الجداوي المرحوم محمد علي مغربي في ترجمته للشيخ عبدالله باناجة في كتابه الموسوم بـ«أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة» الصادر في عام 1980 ما مفاده أنه رأى الملك عبدالعزيز يؤدي أول صلاة له في جدة في مقصورة آل باناجة، وأن آل باناجة كانوا قد استعدوا جيدا لاستقبال الملك الذي ذهب إليهم ماشيا من بيت نصيف وسط اكتظاظ الشوارع بالناس.
نشاطه العقاري تجاوز جدة إلى مكة فالطائف والقاهرة
لم يكتف عبدالله باناجة باستملاك العقارات وبناء القصور في جدة وحدها، بل مد نظره إلى مكة المكرمة أيضا التي اشترى فيها قصرا في منطقة الصفا بمواجهة الحرم المكي، مع ملحق يطل على شارع القشاشية، علما بأن هذا القصر نزل به الخديوي عباس وكذلك سلطان الدولة القعيطية الحضرمية حينما أديا مناسك الحج، ناهيك عن أنه كان قصرا مفتوحا طوال العام لاستقبال كبار الضيوف والشخصيات ولعقد الاجتماعات والندوات والأمسيات الأدبية والاحتفاء بالشعراء والمفكرين.
والمعروف أن هذا القصر الذي عرف باسم (دار باناجة) في مكة اشتراه عبدالله باشا باناجة من ورثة أحمد يكن باشا (ابن أخت محمد علي باشا ووزير ماليته وحربيته) في عام 1301 للهجرة (1884 للميلاد). وبسبب الطريق الضيق بين هذه الدار والدور الواقعة خلفها، قررت الحكومة السعودية شراءها من آل باناجة في عام 1368 للهجرة (1949 للميلاد) كي تهدمها توسعةً للشارع العام. ومن بعد جدة ومكة مد عبدالله باناجة بصره نحو الطائف التي شيد فيها -بما عُرف عنه من ذوق رفيع وحرص على اختيار أفضل المواقع وأكثرها جاذبية واهتماما بمعايير البناء الدقيقة- قصرا على الطراز التركي على شكل باخرة في (منطقة السلامة). والمعروف عند أهل الطائف القدامى أن الوالي التركي على الحجاز ما بين عامي 1893 إلى 1908 (الفريق أحمد راتب باشا) كان ينزل في هذا القصر (قصر الباخرة) كلما أراد الاصطياف في الطائف.
وبسبب جمال أملاك باناجة العقارية ووجود أغلبها في مواقع متميزة وجودة بنائها، راحت أسعارها ترتفع، والطلب على استئجارها من قبل العقاريين والقنصليات والبعثات الأجنبية المعتمدة في جدة يتزايد، وبالتالي ازداد باناجة ثراء وارتفعت مكانته الاجتماعية. لكن هذه الأملاك آلت، من بعد وفاته في مصر في عام 1344 للهجرة (1926 للميلاد) عن عمر ناهز الرابعة والسبعين، إلى شقيقه عبدالرحمن باناجة لعدم وجود وريث له من صلبه. وفيما يتعلق بمدى ثراء آل باناجة ومكانتهم التجارية بين تجار الحجاز في تلك الحقبة، يمكن الاعتماد على سجلات حملة التبرعات التي جرت في الحجاز في شهر مارس من عام 1919 لصالح منكوبي الديار العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي حملة أقرها مجلس وكلاء الحجاز برئاسة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن سراج. هذه السجلات نشرتها صحيفة (القبلة) المكية في عدديها رقم 267 و274 الصادرين في عام 1337 للهجرة (الموافق 1919 للميلاد)، ومنها يتبين زعامة بيت باناجة (عبدالله باشا وعبدالرحمن باشا وأحمد أفندي عبدالرحمن باناجة) وبيت زينل (الحاج زينل والحاج عبدالله والحاج حسين) على تجار الحجاز كافة بدليل أن كل بيت منهما تبرع للحملة بمبلغ 500 جنيه إفرنجي، فيما كان مجموع المبالغ التي دفعها 50 كيانا تجاريا غيرهما هو 1729 جنيها إفرنجيا. وعليه فإن من يتبرع بهذا المبلغ الضخم بأسعار تلك الحقبة لا بد أن يكون تاجرا فاحش الثراء وعظيم القدر.
قلنا إن عبدالله باناجة احتفظ بعلاقات متينة مع السلطان العثماني، لكن كيف كانت علاقته مع شريف مكة الحسين بن علي؟ الحقيقة أن علاقته بحكام الحجاز الهاشميين كانت جيدة ولا يعكر صفوها أي أمر إلى أن تم تنصيب الشريف الحسين بن علي أميرا على الحجاز في سرادق ضخم بحي الهجلة في ذي القعدة من عام 1326 للهجرة المصادف لشهر ديسمبر 1908. حينها فقط شعر باناجة أن صلاته القوية المعروفة مع الأتراك قد تتسب له بالمتاعب مع الشريف الكاره لهم، وقد يتم التضييق عليه في رزقه ونشاطه التجاري. وقد ازدادت شكوكه تلك في أعقاب إعلان الشريف حسين تمرده على العثمانيين في عام 1916 في ما عُرف بالثورة العربية الكبرى، فقرر تفاديا للصداع أن يغادر الحجاز ويهاجر إلى مصر، تاركا ابن أخيه أحمد أفندي بن عبدالرحمن باناجة (عينه الشريف حسين لاحقا وزيرا لماليته) ينوب عنه في إدارة أملاكه.
وعلى العكس من هجرته إلى إسطنبول، هاجر باناجة إلى القاهرة وهو صاحب ثروة ومال ويسر، فاستطاع أن يواصل هناك هواية الاستحواذ على العقارات والقصور المصرية الفاخرة. فاشترى مثلا منزلا كبيرا في منطقة العباسية التي كانت آنذاك مقرا لإقامة تجار مصر ووجهائها وأعيانها وباشواتها، وأضاف إليه دارا للضيافة مع تركها متاحة لإقامة القادمين إلى مصر من أصدقائه ومعارفه. ثم استحوذ بالشراء على العديد من الفلل والأراضي والمباني المطلة على النيل. وهكذا، فعندما انتقلت عائلة باناجة كلها من الحجاز إلى مصر خلال الفترة الانتقالية ما بين العهدين الهاشمي والسعودي، لم تجد العائلة أي صعوبات تذكر لجهة العثور على أماكن الإقامة المناسبة.
.. وامتدت تجارة عائلته لتصل الهند والسواحل
تحدثنا في ما سبق عن علاقة عبدالله باشا وعائلته بتركيا العثمانية ومصر الملكية ونشاطه في الحجاز في العهود العثمانية والهاشمية والسعودية، لكن لم نأت على ذكر علاقته بالهند التي لم يكن هناك بد منها؛ كونها أحد أهم مصادر الحصول على الأحجار النفيسة ومهارات صناعة المجوهرات والحلي (مهنة عبدالله باشا).
يربط الباحث السعودي محمود عبدالغني صباغ، في مقال كتبه بجريدة الحياة (11/ 12/ 2014)، ما بين ازدهار جدة وتحولها إلى ميناء للتجارة الهندية وبين بروز وصعود بعض البيوتات التجارية الحجازية (مثل بيت باناجة وبيت زينل)، فيقول إنه مع انتصاف القرن الثامن عشر لم تعد جدة مجرد ميناء للحجاز وأراضي الجزيرة العربية الداخلية، وإنما صارت مركزا رئيسيا لإعادة التصدير إلى الهند عبر ميناء سورات في ولاية كوجرات على المحيط الهندي، الأمر الذي أدى إلى نشوء محور جدة ــ سورات الحيوي للشحن البحري، حيث كانت سورات نقطة انطلاق منتجات الهند نحو جدة، فيما كانت الأخيرة نقطة إعادة تصديرها باتجاه مصر وأوروبا، بدليل أنه في عام 1768 كانت هناك تسع بواخر عملاقة تبحر من سورات إلى جدة بشكل دوري تحمل كل واحدة منها بضاعة يزيد سعرها على 200 ألف جنيه إسترليني.
ويخبرنا الباحث أيضا أن صفقات التجارة الهندية كانت تعقد على أرصفة ميناء جدة نقدا باستخدام الفضة وريال ماريا التريزا، بعيدا عن أشكال المقايضة التي كانت سائدة في موانئ أخرى، لأن جدة كانت بها مع نهايات القرن الثامن عشر بيوتات تجارية تملك من الأموال الطائلة ما تستطيع بها إتمام الصفقات المباشرة مع الهند، بل وإقراض التجار المحليين الأقل شأنا، ناهيك عن حقيقة امتلاء خزائن المدينة بالرساميل الأجنبية القادمة من مسقط وزنجبار ومصر والشام وبلاد المغرب.
ومما ذكره أيضا أن ازدهار ميناء جدة تجاريا رافقه شيء آخر تمثل في صناعة المراكب الشراعية الضخمة، حتى غدت جدة في منتصف القرن التاسع عشر مركزا لصناعة السفن ذات الساريتين. فكانت هذه السفن تُستخدم في نقل المعونات العينية السنوية المرسلة من السلطات العثمانية إلى الحجاز من جهة، وتستخدم في نقل الحجاج من وإلى الهند من جهة أخرى، مشيرا إلى أن بيوتات تجارية جداوية عديدة (أبرزها جوهر ونصيف والسقاف وعرب وباناجة وزينل) قد استثمرت وانخرطت بقوة منذعام 1883 في نقل الحجيج والمسافرين من جدة إلى الهند وزنجبار وجاوة وسنغافورة والملايو وبالعكس.
وأخيرا، فإن آل باناجة الذين بدأوا نشاطهم بالتجارة مع الهند والسواحل -كما قال البريطاني هوغارث- ثم تحولوا إلى تسيير المراكب الشراعية لنقل الحجيج، وقبل ذلك مارس عميدهم عبدالله باشا تجارة الذهب والمجوهرات والأحجار النفيسة، صاروا اليوم من خلال أحفادهم يملكون ويديرون واحدة من أكبر المجموعات التجارية السعودية المتخصصة في تصنيع وتوزيع المنتجات الدوائية العالمية ومعدات الرعاية الصحية وهي «مجموعة باناجه القابضة» التي صنفتها مجلة فوربس في عام 2015 ضمن أقوى 100 شركة في العالم العربي، علما بأن هذا الكيان التجاري كان يعرف قبل عام 2009 باسم «الشركة السعودية للتوريدات المحدودة».
* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين