أكد أستاذ الدراسات العليا في جامعة أم القرى عضو مجلس الشورى سابقا الدكتور حاتم العوني، أن بيئة العالم مؤثرة في أحكامه الفقهية، مشيرا إلى أن تقشف الصحراء أثر في تشكيل العديد من التصورات الدينية الخاطئة، الأمر الذي كان أحد أسباب صدور فتاوى التحريم المتشددة لكل ما هو جديد.
وأرجع مشكلة عموم الخوارج إلى كونهم صحراويين جهلة ظنوا فهمهم الظاهري السطحي التجزيئي لنصوص الوحي هو الوضوح، وظنوه هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة، الأمر الذي جعل أوائلهم يعترضون على فقهاء الصحابة، كما أنه كشف عن تصنيفه بالمتناقضات بسبب آرائه ورؤاه النقدية للمدارس الفقهية، وإليكم نص الحوار:
●ذكرتم مرة أن الإسلام مدني بطبعه، هل بيئة العالم مؤثرة في فقهه؟
●● لا شك أن البيئة هي أحد المؤثرات في الفهم؛ لأنها تشكل الطباع والميول، وجزء من فهم النص الشرعي يتأثر بذلك. ولما كان الإسلامُ دينَ حضارةٍ ودينا مدنيا يدعو لإعمار الأرض وللتنافس في اكتشاف سنن الكون لتسخيرها لبني آدم كان الطبع المتأثر بعزلة البداوة وبكراهية البدوي للحضارة ورغبته في حياة التقشف البدوية أبعدَ بطبعه عن إحدى أهم خصائص الإسلام، مما سيؤثر سلبا في فهمه للدين.
طبعا ليس المقصود بـ(البدوي) في كلامي هذا: العرق أو النسب أو القبيلة، وإنما المقصود به التبدّي وحياة البدو من أي عرق وفي أي بلد: وهي الحياة التي تبتعد عن الاستقرار وتميل إلى التقشف طلبا لسهولة التنقل.
فمن مال إلى عزلة البدوي لا تستغرب منه ميلا إلى الانغلاق في فهمه لنصوص الشرع المتعلقة بعلاقة مع الجديد ومع الآخر؛ ولذلك سمعنا ممن تأثر بهذا الطبع فتاوى تحريم الجديد التي طواها الواقع، من تحريم التلفزيون إلى التحذير من الفضائيات إلى الإنترنت إلى الجوال الذي فيه كاميرا. في قائمة طويلة لا تنتهي! فالبدوي الطبع يخاف من الجديد، ويرتاب في كل ما يخالف عاداته.
وفي العلاقة مع الآخر المختلِف؛ سمعنا فتاوى الغلو في معتقد الولاء والبراء التي وصلت حد التكفير الباطل مرات، وتحريم السفر للخارج وجعله بين الكفر والكبيرة من كبائر الذنوب. وسمعنا فتاوى الغلو في التحريم بحجة مشابهة المشركين أو بادعاء تعميم الأمر الواجب بمخالفتهم، حتى في جوانب المشترك الإنساني بل حتى في جوانب هي من وجوه تتبّع الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.
وكان لتقشف الصحراء أثر في تشكيل العديد من التصورات الدينية الخاطئة، لم يكن هذا التقشف هو سبب خطئها الوحيد، لكنه كان رافدًا معزِّزًا لبقية أسبابها الأخرى.
حتى السطحية في فهم النص الشرعي والظاهرية في تناوله ومدح هذه الظاهرية على أنها هي تعظيم النص، هي مناهج للتعامل مع النص الشرعي تنسجم مع طبيعة تفكير البدوي الذي يميل إلى الفهم التجزيئي للنص وهو الفهم غير المركب، مع أن هذا الفهم هو الذي عابه الله تعالى في قوله سبحانه {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، أي جعلوه أجزاء مفرقة في الفهم، فهي صورة من صور جعله عضين. وهذا الفهم السطحي الظاهري هو الذي أخرج الخوارج قديما، وعلى رأسهم ذو الخويصرة الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم العدل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن منهجه هو أصل الفكر الخارجي. فمشكلة الخوارج والذين كان عامتهم صحراويين جهلة أنهم ظنوا فهمهم الظاهري السطحي التجزيئي لنصوص الوحي هو الوضوح، وظنوه هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة، وبذلك اعترضوا على فقهاء الصحابة وسادتهم رضوان الله عليهم.
وبهذا تبين أن بعض فقهنا المحلي (لا كله) واقع في ذلك الفهم، وقد سبقت أمثلة منه.
الجمود الفقهي
●هل نحن فعلا نعاني من الجمود الفقهي، ولمَ كان ذلك؟
●● الجمود الفقهي هو نتاج الجمود الفكري. ومن يشك أن أمتنا تعاني من هذه الأدواء؛ من جمود فكري جعلنا في آخر قائمة الأمم، إلى ضعف وعيٍ قد أطمع فينا كل طامع وجعلنا محتاجين لغيرنا من غير أهل ديننا وحضارتنا حتى في إصلاح واقعنا.
إذن فالأمة تعاني من الجمود الفقهي ولا شك، وإن كان ذلك لا يعني وصم جميع المتفقهين بذلك، لكنه الغالب عليهم، حتى لا تكاد تجد إلا أفرادا قلائل ناجين من هذا الجمود، ولذلك كان أثر الفقهاء الحقيقيين (من أهل العمق والتجديد الفقهي) أثرا ضعيفا، لأن أهل الجمود أكثر عددا منهم بكثير، مالئين الفضاء والإعلام والمنابر والمناصب، وهم يحاربون الفقهاء الحقيقيين أشد المحاربة.
التشدد والإيمان
● قلتم إن البعض يرى التشدد علامة للإيمان فحرموا كثيرا من اللهو المباح، ما سبب ذلك؟
●● سبب ذلك أمور عدة، سأذكرها بكل وضوح ومباشرة، وبلا تطويل ولا لف ولا دوران:
الجهل بحقيقة الشريعة السمحة، كالفهم الخاطئ للورع، والتصور الخاطئ عن متع الحياة، والتخوف من التمتع بالجمال بحجة الزهد أو الخوف من الفتنة بالدنيا.. في قائمة طويلة من جهل الإفراط.
لقد حرموا عامة أنواع اللهو القديمة والحديثة (كالشطرنج والورق وكرة القدم وعامة فنون الرياضة المعاصرة وعامة الفنون)، وبعض تحريمهم قد سُبقوا إليه في بعض تراثنا الاجتهادي، وما أشد فرحهم بالتشديد إذا سُبقوا إليه، ولذلك سرعان ما تجدهم يميلون إليه، دون اعتبار للاختلاف المعتبر الموجود في تراثنا أيضًا، لكن أعينهم لا تقع من تراثنا إلا على التشديد فيه؛ لشدة هواهم فيه.
من أسباب ذلك أيضا، سوء الظن بالمجتمع، ولذلك يمارسون الوصاية عليه بالتحريم المطلق لما أباح الله بحجة سد الذريعة أو بحجة خوف الفتنة أو بحجة فساد الزمان، وكأن المجتمع ليس لديه وازع من نفسه. فإنه إن كان المجتمع ليس عنده وازع ذاتي فقد فشلوا في تربيته على الإسلام، رغم الفرص المتاحة لهم، وإن كانوا فشلوا بسبب انعدام الفرص (كما قد يزعمون) فهل يتوقعون فرصة المنع وتحريم ما أحل الله للناس ستكون فرصةً متاحةً لهم؟!
لقد سمعنا من يحرم قيادة المرأة للسيارة بحجة أن المرأة إذا مسكت مفتاح السيارة ذهبت إلى عشيقها! فمن هذا الاتهام القبيح للمرأة المسلمة عموما والمرأة السعودية خصوصًا تصدر الفتوى!
الغلو في التحريم
●قلتم إن اتقاء شبهة تحريم ما أحل الله غائبة عند كثير من المفتين، كيف يكون ذلك؟
●● نعم.. نحن نعاني من الغلو في التحريم، وسبقت أمثلة يسيرة عليه، والقائمة تطول جدا.
التدين الخاطئ
● ما مفهوم التدين الخاطئ لديكم وهل هو موجود بكثرة لدينا؟
•• مفهوم التديّن الخاطئ: هو كل تديّن يخالف قطعيات الدين وأصوله الكبرى ومنطلقاته الإيمانية وحقائقه اليقينية: المتعلقة بعلاقة العبد بربه، وبعلاقة العبد بالمخلوقات عموما وبالإنسانية خصوصا، وبعلاقة الدنيا بالآخرة، وبعلاقة اتخاذ الأسباب بالتوكل على الله تعالى، وبعلاقة إخلاص النية وصلاح المقصد بوجوب اتباع السنن الكونية لأسباب النصر والتمكين.
إن مجرد تخلف الأمة وضعفها، رغم انتشار التديّن الذي يباهي بسعة جماهيريته الإسلاميون في كل اقتراع وانتخاب، يؤكد أن من أهم أسباب تَخلُّفِنا هو تخلُّف تصورنا الديني وفهمنا الديني الغالط؛ لأنه لو كان تديننا صحيحا، والدين هو المحرك الأكبر للشعوب الإسلامية، لوجدنا الذين يملؤون المساجد هم أنفسهم الذين يملؤون المختبرات والمصانع، والذين يملؤون الشوارع في مظاهرة صاخبة تدافع عن المقدسات هم أنفسهم الذين يحرصون على المشهد الحضاري والرقي في الدفاع عنها، والذين يتدافعون لما يسمونه بالجهاد هم أنفسهم الذين يجاهدون في طلب العلم والمعارف التي أُمروا بالإعداد لها قبل الجهاد.. وهلم جرًّا.
●هل اتهامكم بالانتساب لجماعات كالصوفية وغيرها وسيلة لإسقاطكم أم أن ذلك حقيقة؟
•• لقد وُصفتُ بالمتناقضات: بأني صوفي وبأني وهابي، وبأني شيعي وبأني ناصبي، وبأني أشعري وبأني سلفي، وبأني جامد وبأني مميع، وبأني ثوري وبأني من وعاظ السلاطين...
كل من غضب من نقدي لمدرسته، وجد أسهل طريق لمحاولة إسقاط نقدي هو أن يتهمني بما يبغضه هو ويعاديه من المذاهب والمناهج.
وهذه حيلة قديمة، فقد اتهم الإمام أبو حنيفة ببدعة الخوارج (السيف) وبالإرجاء أيضا، واتهم الإمام مالك بإثارة العامة على السلطان وجُلد وأوذي بسبب ذلك واتهمه بعض أهل التدين بممالأة الطواغيت والسكوت عن نصيحتهم، والإمام الشافعي اتهم بالرفض أو بمطلق التشيع (كما فعل العجلي وبعض المالكية) حتى قال بيته الشهير:
إِن كَانَ رفضًا حبُّ آل مُحَمَّد /// فليشهد الثَّقَلَان أَنِّي رَافِضِي
ومع أني سلفي، ولا علاقة لي بالخرافة وبالبدع المنسوبة إلى التصوف، ولا علاقة لي بغلو التكفير والتبديع والتحريم وسطحية الاستدلال المنسوبة للمنهج السلفي؛ إلا أني أقول على نمط بيت الشافعي:
إن كان حبُّ الصالحين تَصَوُّفًا
فليشهدوا أني إذن مُتصوِّفُ
وإذا رَأَوْا عملَ القلوب تَصوُّفًا
فالفخر إنْ لي صحَّ فيه تَصَرُّفُ
وإذا رأوا بُغْضَ الخرافة بدعةً
سلفيةً، إني إذن متسلِّفُ
أو قد رأوني مُنكِرًا بِدَعَ القبور
فذالكم حقٌّ به أتشرَّفُ
نقد التراث
● يبدو أن أكثر آرائكم حول نقد التراث يشترك معك فيها عدد من الدعاة، لماذا أنت دائماً في فوهة المدفع لوحدك؟
●● إن صح أني في فوهة المدفع وحدي، فيبدو أن ذلك لا يقع إلا إذا كان المنتقِد بحق قد سار في نقده على أحد المناهج التالية: أنه يُصرّح ولا يُمَغْمِغُ الكلام، أنه كان يستدل لنقده بقوة تحرج أصحاب الرأي المنتقَد، أنه أتى إلى أصل الخطأ وأُسسه المنهجية ومنطلقاته الكبرى بالهدم لها، فإن كان هذا أو بعضه هو ما وقع مني، فقد يكون هو سبب ما تذكره من كوني أمام فوهة المدفع وحدي.
وأرجع مشكلة عموم الخوارج إلى كونهم صحراويين جهلة ظنوا فهمهم الظاهري السطحي التجزيئي لنصوص الوحي هو الوضوح، وظنوه هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة، الأمر الذي جعل أوائلهم يعترضون على فقهاء الصحابة، كما أنه كشف عن تصنيفه بالمتناقضات بسبب آرائه ورؤاه النقدية للمدارس الفقهية، وإليكم نص الحوار:
●ذكرتم مرة أن الإسلام مدني بطبعه، هل بيئة العالم مؤثرة في فقهه؟
●● لا شك أن البيئة هي أحد المؤثرات في الفهم؛ لأنها تشكل الطباع والميول، وجزء من فهم النص الشرعي يتأثر بذلك. ولما كان الإسلامُ دينَ حضارةٍ ودينا مدنيا يدعو لإعمار الأرض وللتنافس في اكتشاف سنن الكون لتسخيرها لبني آدم كان الطبع المتأثر بعزلة البداوة وبكراهية البدوي للحضارة ورغبته في حياة التقشف البدوية أبعدَ بطبعه عن إحدى أهم خصائص الإسلام، مما سيؤثر سلبا في فهمه للدين.
طبعا ليس المقصود بـ(البدوي) في كلامي هذا: العرق أو النسب أو القبيلة، وإنما المقصود به التبدّي وحياة البدو من أي عرق وفي أي بلد: وهي الحياة التي تبتعد عن الاستقرار وتميل إلى التقشف طلبا لسهولة التنقل.
فمن مال إلى عزلة البدوي لا تستغرب منه ميلا إلى الانغلاق في فهمه لنصوص الشرع المتعلقة بعلاقة مع الجديد ومع الآخر؛ ولذلك سمعنا ممن تأثر بهذا الطبع فتاوى تحريم الجديد التي طواها الواقع، من تحريم التلفزيون إلى التحذير من الفضائيات إلى الإنترنت إلى الجوال الذي فيه كاميرا. في قائمة طويلة لا تنتهي! فالبدوي الطبع يخاف من الجديد، ويرتاب في كل ما يخالف عاداته.
وفي العلاقة مع الآخر المختلِف؛ سمعنا فتاوى الغلو في معتقد الولاء والبراء التي وصلت حد التكفير الباطل مرات، وتحريم السفر للخارج وجعله بين الكفر والكبيرة من كبائر الذنوب. وسمعنا فتاوى الغلو في التحريم بحجة مشابهة المشركين أو بادعاء تعميم الأمر الواجب بمخالفتهم، حتى في جوانب المشترك الإنساني بل حتى في جوانب هي من وجوه تتبّع الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.
وكان لتقشف الصحراء أثر في تشكيل العديد من التصورات الدينية الخاطئة، لم يكن هذا التقشف هو سبب خطئها الوحيد، لكنه كان رافدًا معزِّزًا لبقية أسبابها الأخرى.
حتى السطحية في فهم النص الشرعي والظاهرية في تناوله ومدح هذه الظاهرية على أنها هي تعظيم النص، هي مناهج للتعامل مع النص الشرعي تنسجم مع طبيعة تفكير البدوي الذي يميل إلى الفهم التجزيئي للنص وهو الفهم غير المركب، مع أن هذا الفهم هو الذي عابه الله تعالى في قوله سبحانه {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، أي جعلوه أجزاء مفرقة في الفهم، فهي صورة من صور جعله عضين. وهذا الفهم السطحي الظاهري هو الذي أخرج الخوارج قديما، وعلى رأسهم ذو الخويصرة الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم العدل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن منهجه هو أصل الفكر الخارجي. فمشكلة الخوارج والذين كان عامتهم صحراويين جهلة أنهم ظنوا فهمهم الظاهري السطحي التجزيئي لنصوص الوحي هو الوضوح، وظنوه هو الفهم الصحيح للكتاب والسنة، وبذلك اعترضوا على فقهاء الصحابة وسادتهم رضوان الله عليهم.
وبهذا تبين أن بعض فقهنا المحلي (لا كله) واقع في ذلك الفهم، وقد سبقت أمثلة منه.
الجمود الفقهي
●هل نحن فعلا نعاني من الجمود الفقهي، ولمَ كان ذلك؟
●● الجمود الفقهي هو نتاج الجمود الفكري. ومن يشك أن أمتنا تعاني من هذه الأدواء؛ من جمود فكري جعلنا في آخر قائمة الأمم، إلى ضعف وعيٍ قد أطمع فينا كل طامع وجعلنا محتاجين لغيرنا من غير أهل ديننا وحضارتنا حتى في إصلاح واقعنا.
إذن فالأمة تعاني من الجمود الفقهي ولا شك، وإن كان ذلك لا يعني وصم جميع المتفقهين بذلك، لكنه الغالب عليهم، حتى لا تكاد تجد إلا أفرادا قلائل ناجين من هذا الجمود، ولذلك كان أثر الفقهاء الحقيقيين (من أهل العمق والتجديد الفقهي) أثرا ضعيفا، لأن أهل الجمود أكثر عددا منهم بكثير، مالئين الفضاء والإعلام والمنابر والمناصب، وهم يحاربون الفقهاء الحقيقيين أشد المحاربة.
التشدد والإيمان
● قلتم إن البعض يرى التشدد علامة للإيمان فحرموا كثيرا من اللهو المباح، ما سبب ذلك؟
●● سبب ذلك أمور عدة، سأذكرها بكل وضوح ومباشرة، وبلا تطويل ولا لف ولا دوران:
الجهل بحقيقة الشريعة السمحة، كالفهم الخاطئ للورع، والتصور الخاطئ عن متع الحياة، والتخوف من التمتع بالجمال بحجة الزهد أو الخوف من الفتنة بالدنيا.. في قائمة طويلة من جهل الإفراط.
لقد حرموا عامة أنواع اللهو القديمة والحديثة (كالشطرنج والورق وكرة القدم وعامة فنون الرياضة المعاصرة وعامة الفنون)، وبعض تحريمهم قد سُبقوا إليه في بعض تراثنا الاجتهادي، وما أشد فرحهم بالتشديد إذا سُبقوا إليه، ولذلك سرعان ما تجدهم يميلون إليه، دون اعتبار للاختلاف المعتبر الموجود في تراثنا أيضًا، لكن أعينهم لا تقع من تراثنا إلا على التشديد فيه؛ لشدة هواهم فيه.
من أسباب ذلك أيضا، سوء الظن بالمجتمع، ولذلك يمارسون الوصاية عليه بالتحريم المطلق لما أباح الله بحجة سد الذريعة أو بحجة خوف الفتنة أو بحجة فساد الزمان، وكأن المجتمع ليس لديه وازع من نفسه. فإنه إن كان المجتمع ليس عنده وازع ذاتي فقد فشلوا في تربيته على الإسلام، رغم الفرص المتاحة لهم، وإن كانوا فشلوا بسبب انعدام الفرص (كما قد يزعمون) فهل يتوقعون فرصة المنع وتحريم ما أحل الله للناس ستكون فرصةً متاحةً لهم؟!
لقد سمعنا من يحرم قيادة المرأة للسيارة بحجة أن المرأة إذا مسكت مفتاح السيارة ذهبت إلى عشيقها! فمن هذا الاتهام القبيح للمرأة المسلمة عموما والمرأة السعودية خصوصًا تصدر الفتوى!
الغلو في التحريم
●قلتم إن اتقاء شبهة تحريم ما أحل الله غائبة عند كثير من المفتين، كيف يكون ذلك؟
●● نعم.. نحن نعاني من الغلو في التحريم، وسبقت أمثلة يسيرة عليه، والقائمة تطول جدا.
التدين الخاطئ
● ما مفهوم التدين الخاطئ لديكم وهل هو موجود بكثرة لدينا؟
•• مفهوم التديّن الخاطئ: هو كل تديّن يخالف قطعيات الدين وأصوله الكبرى ومنطلقاته الإيمانية وحقائقه اليقينية: المتعلقة بعلاقة العبد بربه، وبعلاقة العبد بالمخلوقات عموما وبالإنسانية خصوصا، وبعلاقة الدنيا بالآخرة، وبعلاقة اتخاذ الأسباب بالتوكل على الله تعالى، وبعلاقة إخلاص النية وصلاح المقصد بوجوب اتباع السنن الكونية لأسباب النصر والتمكين.
إن مجرد تخلف الأمة وضعفها، رغم انتشار التديّن الذي يباهي بسعة جماهيريته الإسلاميون في كل اقتراع وانتخاب، يؤكد أن من أهم أسباب تَخلُّفِنا هو تخلُّف تصورنا الديني وفهمنا الديني الغالط؛ لأنه لو كان تديننا صحيحا، والدين هو المحرك الأكبر للشعوب الإسلامية، لوجدنا الذين يملؤون المساجد هم أنفسهم الذين يملؤون المختبرات والمصانع، والذين يملؤون الشوارع في مظاهرة صاخبة تدافع عن المقدسات هم أنفسهم الذين يحرصون على المشهد الحضاري والرقي في الدفاع عنها، والذين يتدافعون لما يسمونه بالجهاد هم أنفسهم الذين يجاهدون في طلب العلم والمعارف التي أُمروا بالإعداد لها قبل الجهاد.. وهلم جرًّا.
●هل اتهامكم بالانتساب لجماعات كالصوفية وغيرها وسيلة لإسقاطكم أم أن ذلك حقيقة؟
•• لقد وُصفتُ بالمتناقضات: بأني صوفي وبأني وهابي، وبأني شيعي وبأني ناصبي، وبأني أشعري وبأني سلفي، وبأني جامد وبأني مميع، وبأني ثوري وبأني من وعاظ السلاطين...
كل من غضب من نقدي لمدرسته، وجد أسهل طريق لمحاولة إسقاط نقدي هو أن يتهمني بما يبغضه هو ويعاديه من المذاهب والمناهج.
وهذه حيلة قديمة، فقد اتهم الإمام أبو حنيفة ببدعة الخوارج (السيف) وبالإرجاء أيضا، واتهم الإمام مالك بإثارة العامة على السلطان وجُلد وأوذي بسبب ذلك واتهمه بعض أهل التدين بممالأة الطواغيت والسكوت عن نصيحتهم، والإمام الشافعي اتهم بالرفض أو بمطلق التشيع (كما فعل العجلي وبعض المالكية) حتى قال بيته الشهير:
إِن كَانَ رفضًا حبُّ آل مُحَمَّد /// فليشهد الثَّقَلَان أَنِّي رَافِضِي
ومع أني سلفي، ولا علاقة لي بالخرافة وبالبدع المنسوبة إلى التصوف، ولا علاقة لي بغلو التكفير والتبديع والتحريم وسطحية الاستدلال المنسوبة للمنهج السلفي؛ إلا أني أقول على نمط بيت الشافعي:
إن كان حبُّ الصالحين تَصَوُّفًا
فليشهدوا أني إذن مُتصوِّفُ
وإذا رَأَوْا عملَ القلوب تَصوُّفًا
فالفخر إنْ لي صحَّ فيه تَصَرُّفُ
وإذا رأوا بُغْضَ الخرافة بدعةً
سلفيةً، إني إذن متسلِّفُ
أو قد رأوني مُنكِرًا بِدَعَ القبور
فذالكم حقٌّ به أتشرَّفُ
نقد التراث
● يبدو أن أكثر آرائكم حول نقد التراث يشترك معك فيها عدد من الدعاة، لماذا أنت دائماً في فوهة المدفع لوحدك؟
●● إن صح أني في فوهة المدفع وحدي، فيبدو أن ذلك لا يقع إلا إذا كان المنتقِد بحق قد سار في نقده على أحد المناهج التالية: أنه يُصرّح ولا يُمَغْمِغُ الكلام، أنه كان يستدل لنقده بقوة تحرج أصحاب الرأي المنتقَد، أنه أتى إلى أصل الخطأ وأُسسه المنهجية ومنطلقاته الكبرى بالهدم لها، فإن كان هذا أو بعضه هو ما وقع مني، فقد يكون هو سبب ما تذكره من كوني أمام فوهة المدفع وحدي.