اقترن اسم عبدالملك يوسف أحمد الحمر (أبومروان) في البحرين، كما في أبوظبي، بالتربية والتعليم اللذين كان أحد روادهما ومؤسسي هياكلهما التنظيمية. غير أن الرجل الذي ترك بلاده وذهب إلى إمارة أبوظبي في الستينات ليساهم في وضع لبنات التعليم فيها من الصفر تقريبا، عرفته الأقطار الخليجية والعربية في مجالات أخرى عدة سنتعرف عليها بالتدرج من خلال استعراض مسيرته الحافلة بالإنجازات والمساهمات الفكرية والأدبية والتاريخية والاقتصادية والإنسانية.
وأبومروان، الذي ولد في المنامة في عام 1934 وتلقى تعليمه الأولي في «المدرسة الشمالية» (بيت النافع) الملاصقة لمنزل العائلة ثم في مدرسة الحورة الإعدادية، هو عم كل من فيصل يعقوب الحمر (عميد كلية الطب ووزير الصحة الأسبق في البحرين)، ونبيل يعقوب الحمر (وزير الإعلام في البحرين سابقا والمستشار الإعلامي الحالي في الديوان الملكي)، وباسم يعقوب الحمر (مدير الجمارك الأسبق ووزير الإسكان الحالي في الحكومة البحرينية)، ونجيب يعقوب الحمر (رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأيام للطباعة والنشر التي تصدر عنها صحيفة الأيام اليومية)، والطبيبة الدكتورة عفاف يعقوب الحمر المتخصصة في أمراض النساء والولادة.
في 1957 أنهى أبومروان دراسته الجامعية في بيروت، وتخرج في جامعتها الأمريكية حاملا ليسانس التربية إضافة إلى دبلوم التعليم، فصار بذلك ثاني مواطن بحريني يتخصص أكاديميا في مجال التربية من بعد الدكتور جليل بن إبراهيم العريض الذي سبقه إلى ذلك وتخرج في نفس الجامعة في عام 1954. ولم تمض فترة قصيرة على تخرجه إلا والرجل يشد الرحال إلى الخارج مجددا لكن هذه المرة باتجاه بريطانيا لمواصلة دراسته العليا في جامعة بريستول على نفقة المجلس البريطاني British Council، وهو ما أثمر عن حصوله في عام 1959 على الدبلوم العالي في التربية.
في منتصف الستينات، حينما كانت القلاقل تطل برأسها في البحرين بسبب التظاهرات المناوئة للإنجليز والتي كان وقودها عمال شركة نفط البحرين (بابكو) وطلبة المدارس الثانوية، كان الحمر يدير واحدة من أكبر ثانويات البحرين للبنين (مدرسة المنامة الثانوية)، وكان عليه بهذه الصفة أن يضبط مدرسته ويحول دون تسرب طلبتها أو اشتغالهم بالسياسة. غير أن هدير الشارع من جهة وفظاظة الإنجليز في القمع من جهة أخرى أفشلت جهوده نسبيا على الرغم مما عـُرف عنه من حزم وربط إداريين وتشدد ضد التسيب والشغب إلى درجة أن طلابه كانوا يرتعدون خوفا بمجرد استدعائهم إلى مكتبه. ومما كـُتب في سياق الحدث الذي نحن بصدده أن الإنجليز أمطروا ثانوية المنامة وقتذاك بالقنابل المسيلة للدموع كوسيلة لمنع طلبتها من الخروج للحاق بالمظاهرات، ولما رأى أبومروان ما تسببت فيه تلك القنابل من اختناقات في صفوف طلبته سار بنفسه نحو الضباط الإنجليز طالبا منهم التوقف عن انتهاك حرمة دور العلم، غير أن طلبه هذا قوبل باستفزاز أكبر تمثل في رمي قنبلة بالقرب منه ما أدى إلى سقوطه على الأرض مغشيا.
وعليه لا يمكن القول إن سنوات عمله في ثانوية المنامة كانت مريحة أو سعيدة، غير أنها هي السنوات التي استطاع فيها تخريج جيل من أبناء وطنه ممن ظل يفاخر بهم ويعتبرهم غرسا زرعه ورواه بعلمه وخبرته. فعلى سبيل المثال، لم أره في الاجتماعات والمنتديات الفكرية التي جمعتنا، ولاسيما اجتماعات منتدى التنمية الخليجي، إلا وهو يهمس لزملائه قائلا: «هذا المتحدث درسّـته، أو ذاك المتحدث كان في مدرستي».
ومع اقتراب ستينات القرن العشرين من الانعطاف كان الحمر على موعد مع تجربة جديدة ومثيرة مختلفة تماما عن تجاربه في البحرين كمعلم ومدير للمرحلة الثانوية ومسؤول عن إدارة التعليم العالي، خصوصا أنه كان قد نال آنذاك (سنة 1968) درجة الماجستير في التربية عن إدارة التخطيط من جامعة بيروت الأمريكية. والمقصود بتجربته الجديدة والمثيرة هنا هو انتقاله إلى إمارة أبوظبي بترشيح من حكومة البحرين بناء على طلب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي كان قد تسلم مقاليد الأمور في إمارة أبوظبي في عام 1966 وشرع في تنفيذ خطة تنموية شاملة للارتقاء بإمارته في مختلف القطاعات وعلى رأسها قطاع التربية والتعليم الذي اعتبره الشيخ زايد أس أي ازدهار وتقدم.
حينما وطأت قدما الحمر أرض أبوظبي كان التعليم فيها متأخرا عن بقية مناطق الخليج بأشواط، سواء لجهة الكم أو النوع أو الشكل، بدليل ما جاء في كتاب «زايد رجل بنى أمة» من تأليف زميل جمعية الجغرافيين الملكية الكاتب البريطاني «غريم ويلسون Graeme H. Wilson»، وإصدار المركز الوطني للوثائق والبحوث في وزارة شؤون الرئاسة بأبوظبي في عام 2013.
في هذا الكتاب التوثيقي تطرق المؤلف إلى الوضع التعليمي في أبوظبي في عام 1965، أي قبل وصول الحمر بفترة قصيرة، فأشار إلى وجود ست مدارس فقط في أبوظبي يدرس فيها 390 طالبا و138 طالبة، ويتولى التعليم فيها 33 معلما، مضيفا أن الإمارات الأخرى مجتمعة لم تكن بها سوى 31 مدرسة منها 12 مدرسة للفتيات.
هذا الوضع راح يتغير بسرعة بفضل جهود الإمارات السبع وحكامها ورجالاتها المتنورين، خصوصا بعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة التي رصدت نسبة 4 % من الميزانية الاتحادية العامة لأغراض تطوير التعليم، الأمر الذي ارتفع معه عدد المتعلمين في الدولة من 20 % من عدد السكان في عام 1971 إلى 79 % في عام 2000 فإلى أكثر من 88 % في عام 2007، طبقا لإحصائيات منظمة اليونيسكو. وفي الوقت نفسه ارتفع عدد المدراس إلى أكثر من 1185 مدرسة في عام 2012، منها 438 مدرسة في إمارة أبوظبي وحدها التي لم يكن بها سوى ست مدارس في عام 1965 كما ذكرنا آنفا. في أبوظبي تولى الحمر إدارة التعليم في دائرة المعارف التابعة لحكومة أبوظبي، وراح يعمل بهمة في تخطيط وتنفيذ برامج للارتقاء بالتعليم في الإمارة الفتية. وكان من المشكلات الفنية التي تغلب عليها الحمر آنذاك نقص الكادر التعليمي وصعوبة إقناع بعض المعلمين العرب للمجيء للعمل في أبوظبي بسبب قسوة الحياة فيها في تلك الحقبة المبكرة، حيث استطاع الاستعاضة عنهم جزئيا بمدرسين من البحرين ممن لم تكن بيئة أبوظبي غريبة عليهم واستطاعوا التأقلم السريع مع ظروفها.
وتقديرا لجهوده المتميزة تم منحه جنسية إمارة أبوظبي في عام 1970، فقبلها من دون تردد انطلاقا من إيمانه العميق بالانتماء إلى الأرض الخليجية الواحدة بغض النظر عن التقسيمات الجغرافية واختلاف المسميات. كما تمت ترقيته في العام نفسه إلى منصب وكيل التربية والتعليم في حكومة أبوظبي، فظل ممسكا بهذا المنصب ويعمل في ظل وزيرها المرحوم محمد خليفة الكندي حتى عام 1976 حينما نُقلت خدماته إلى وزارة الخارجية الإماراتية ليعمل بها لمدة عام واحد سفيرا مفوضا.
من قطاع التعليم إلى تنظيم العمل المصرفي
مثل عقد الثمانينات من القرن العشرين منعطفا جديدا في حياة الحمر، إذ شهدت بدايته صدور قرار بتعيينه محافظا لمصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي الذي كان قد صدر قانون اتحادي برقم 10 في العاشر من ديسمبر 1980 بتأسيسه ليخلف مجلس النقد لدولة الإمارات. وهكذا انتقل الرجل من ميدان تنظيم وتطوير العمل التربوي والتعليمي إلى قطاع تنظيم آلية العمل المصرفي وتطويره ومراقبة أجهزته وتحقيق النمو المتوازن للاقتصاد الوطني وتقديم المشورة للحكومة في الشؤون النقدية والمالية.
ويمكن القول إن هذه الوظيفة المرموقة التي تولاها الحمر ما بين عامي 1981 و1991 أكسبته خبرة لا تقدر بثمن وعرفته على أوساط وأرباب المال والأعمال داخل الإمارات وخارجها، وهو ما نجد تجلياته في نشاطه الدوؤب خلال تلك الفترة كمحاضر في قضايا التخطيط الاقتصادي والتنمية والسياسات المالية والموارد البشرية من على منابر الفعاليات المحلية والعربية والأجنبية.
وبانتهاء فترة عمله محافظا لمصرف الإمارات المركزي في سنة 1991 عينه الشيخ زايد مستشارا له في ديوان الرئاسة. وهي الوظيفة التي ظلت لصيقة باسمه حتى تاريخ وفاته في القاهرة في 12 آذار/ مارس 2005.
لقد كان عبدالملك الحمر رحمه الله من نوعية الرجال المعادين للسكون والخمول، لذا فمن عاصره أو قرأ عنه سيكتشف أنه كان صاحب حركة مستمرة وحضور دائم في مختلف المحافل الفكرية، ناهيك عن قيامه في نفس الوقت بمسؤولياته الرسمية والتطوعية وعكوفه على إعداد المؤلفات في مجال تخصصه، بل واستمراره في طلب العلم (بدليل أنه أقدم في عام 1991 على التسجيل في جامعة ريدنغ البريطانية لنيل درجة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان «التنمية والتربية في دول مجلس التعاون الخليجي»).
فعلى صعيد التأليف قدم الحمر للمكتبة الخليجية والعربية كتابا مهما بالإنجليزية تحت عنوان «تطور التعليم في البحرين 1940 - 1965 Development of Education in Bahrain 1940 - 1965»، كما شارك المؤرخ والأديب والشاعر الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة في تأليف كتاب مهم آخر تحت عنوان «البحرين عبر التاريخ»، تطرقا فيه إلى تاريخ البحرين القديم منذ حضارة دلمون، مرورا بالعصر الإسلامي. وفضلا عن ذلك كتب الرجل العديد من الدراسات والمقالات المطولة ونشرها في مجلات رصينة مثل مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية الصادرة عن جامعة الكويت ومجلة الفيصل الفصلية الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. من أهم هذه الدراسات: دراسة بعنوان «التعليم العام والإنماء البشري في الخليج العربي من منظور الجانب الكيفي»، ودراسة أخرى بعنوان «تحديد الأولويات هو المدخل المناسب للتعامل مع المتغيرات الاقتصادية والنفطية»، ودراسة ثالثة بعنوان «تنمية الاتجاهات للنزوع إلى المستوى الجيد في التعليم»، ودراسة رابعة بعنوان «المصارف الإسلامية وما لها من دور مأمول وعملي في التنمية الشاملة».
ومن الأمور الأخرى التي انشغل بها الحمر في مشوار حياته الثري قضايا حقوق الإنسان ثم مسائل الإغاثة الإنسانية. ونجد تجليات ذلك في قيادته للجنة حقوق الإنسان الإسلامية التي تأسست في لندن في عام 1997 كمنظمة غير ربحية وظيفتها العمل مع منظمات مختلفة ذات خلفية إسلامية أو غير إسلامية لتحقيق العدالة لكافة شعوب كوكب الأرض. ونجد تجليات ذلك أيضا في عضويته في هيئة الرئاسة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، علما بأن هذا المجلس عبارة عن هيئة إسلامية عالمية تأسست في القاهرة في عام 1988 من أجل التنسيق بين جهود أكثر من مائة من الهيئات والمنظمات الإسلامية الرسمية والشعبية حول العالم لجهة مسائل الدعوة وتقديم الإغاثة والعون.
جينات «التجارة» لازمته.. فورّثها لابنه مروان
لم يقتصر نشاط الحمر على كل ما سبق ذكره، فبسبب كونه من الشخصيات المتخصصة في مجال التربية والتربية ومن المسؤولين الذين راكموا خبرات تربوية طويلة فقد تم اختياره عضوا في مجالس الأمناء لعدد من الجامعات العربية والإسلامية مثل جامعة الخليج العربي بالبحرين، وجامعة عمان الأهلية بالأردن، والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان، وجامعة ابن رشد الإسلامية في قرطبة وغيرها.
وفي خضم كل هذه المشاغل والمسؤوليات والأنشطة الموزعة هنا وهناك، وجد الحمر متسعا من الوقت للاشتغال والاستثمار في التجارة، مهنة والده وأجداده، فأضاف إلى ألقابه الكثيرة لقبا جديدا هو «رجل الأعمال الإماراتي»، الذي أورثه لابنه الأكبر مروان، وهو يعد اليوم من كبار المستثمرين في قطاع الوجبات السريعة في دولة الإمارات، كونه يمتلك سلسلة مطاعم «صاب وايSubway» التي لها 160 موقعا لتقديم خدماتها، متجاوزة بذلك عدد مواقع أي سلسلة مطاعم سريعة أخرى.
ومن خلال تتبع ورصد أحاديثه ومداخلاته في المحافل الفكرية التي كان يحرص على حضورها والمساهمة فيها والالتقاء بروادها يمكن القول إن الرجل كان صاحب نفس عروبي قومي، وإن أهم ما كان يشغل تفكيره يمكن إيجازه في العناوين التالية: غياب الحريات في الوطن العربي، حقوق المرأة العربية وضعف مشاركتها في التنمية والمعرفة، الفجوة المعرفية والتقنية والبحثية بين العرب والآخر، الارتقاء بالعمل العربي المشترك، تعزيز أطر التعاون بين دول الخليج العربية من خلال مجلس التعاون وصولا إلى صيغة اتحادية.
لقد لخص رجل الأعمال الإماراتي محمد عبدالجليل الفهيم جهود الحمر في الكلمة التي ألقاها في يوليو 2005 خلال حفلة لتكريمه وإحياء ذكراه العطرة، إذ قال إن إحياء ذكرى الحمر نابع مما: «كان له من دور في دعم التعليم واحتضان للعلم والعلماء في حياته وإحياء روح التنافس بين الأبناء من أجل إيجاد جيل من المتعلمين وتشجيع الطلاب على الجد والاجتهاد وخلق روح المسؤولية لديهم وإبراز أهمية ودور التعليم في المجتمع».
* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين
وأبومروان، الذي ولد في المنامة في عام 1934 وتلقى تعليمه الأولي في «المدرسة الشمالية» (بيت النافع) الملاصقة لمنزل العائلة ثم في مدرسة الحورة الإعدادية، هو عم كل من فيصل يعقوب الحمر (عميد كلية الطب ووزير الصحة الأسبق في البحرين)، ونبيل يعقوب الحمر (وزير الإعلام في البحرين سابقا والمستشار الإعلامي الحالي في الديوان الملكي)، وباسم يعقوب الحمر (مدير الجمارك الأسبق ووزير الإسكان الحالي في الحكومة البحرينية)، ونجيب يعقوب الحمر (رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأيام للطباعة والنشر التي تصدر عنها صحيفة الأيام اليومية)، والطبيبة الدكتورة عفاف يعقوب الحمر المتخصصة في أمراض النساء والولادة.
في 1957 أنهى أبومروان دراسته الجامعية في بيروت، وتخرج في جامعتها الأمريكية حاملا ليسانس التربية إضافة إلى دبلوم التعليم، فصار بذلك ثاني مواطن بحريني يتخصص أكاديميا في مجال التربية من بعد الدكتور جليل بن إبراهيم العريض الذي سبقه إلى ذلك وتخرج في نفس الجامعة في عام 1954. ولم تمض فترة قصيرة على تخرجه إلا والرجل يشد الرحال إلى الخارج مجددا لكن هذه المرة باتجاه بريطانيا لمواصلة دراسته العليا في جامعة بريستول على نفقة المجلس البريطاني British Council، وهو ما أثمر عن حصوله في عام 1959 على الدبلوم العالي في التربية.
في منتصف الستينات، حينما كانت القلاقل تطل برأسها في البحرين بسبب التظاهرات المناوئة للإنجليز والتي كان وقودها عمال شركة نفط البحرين (بابكو) وطلبة المدارس الثانوية، كان الحمر يدير واحدة من أكبر ثانويات البحرين للبنين (مدرسة المنامة الثانوية)، وكان عليه بهذه الصفة أن يضبط مدرسته ويحول دون تسرب طلبتها أو اشتغالهم بالسياسة. غير أن هدير الشارع من جهة وفظاظة الإنجليز في القمع من جهة أخرى أفشلت جهوده نسبيا على الرغم مما عـُرف عنه من حزم وربط إداريين وتشدد ضد التسيب والشغب إلى درجة أن طلابه كانوا يرتعدون خوفا بمجرد استدعائهم إلى مكتبه. ومما كـُتب في سياق الحدث الذي نحن بصدده أن الإنجليز أمطروا ثانوية المنامة وقتذاك بالقنابل المسيلة للدموع كوسيلة لمنع طلبتها من الخروج للحاق بالمظاهرات، ولما رأى أبومروان ما تسببت فيه تلك القنابل من اختناقات في صفوف طلبته سار بنفسه نحو الضباط الإنجليز طالبا منهم التوقف عن انتهاك حرمة دور العلم، غير أن طلبه هذا قوبل باستفزاز أكبر تمثل في رمي قنبلة بالقرب منه ما أدى إلى سقوطه على الأرض مغشيا.
وعليه لا يمكن القول إن سنوات عمله في ثانوية المنامة كانت مريحة أو سعيدة، غير أنها هي السنوات التي استطاع فيها تخريج جيل من أبناء وطنه ممن ظل يفاخر بهم ويعتبرهم غرسا زرعه ورواه بعلمه وخبرته. فعلى سبيل المثال، لم أره في الاجتماعات والمنتديات الفكرية التي جمعتنا، ولاسيما اجتماعات منتدى التنمية الخليجي، إلا وهو يهمس لزملائه قائلا: «هذا المتحدث درسّـته، أو ذاك المتحدث كان في مدرستي».
ومع اقتراب ستينات القرن العشرين من الانعطاف كان الحمر على موعد مع تجربة جديدة ومثيرة مختلفة تماما عن تجاربه في البحرين كمعلم ومدير للمرحلة الثانوية ومسؤول عن إدارة التعليم العالي، خصوصا أنه كان قد نال آنذاك (سنة 1968) درجة الماجستير في التربية عن إدارة التخطيط من جامعة بيروت الأمريكية. والمقصود بتجربته الجديدة والمثيرة هنا هو انتقاله إلى إمارة أبوظبي بترشيح من حكومة البحرين بناء على طلب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي كان قد تسلم مقاليد الأمور في إمارة أبوظبي في عام 1966 وشرع في تنفيذ خطة تنموية شاملة للارتقاء بإمارته في مختلف القطاعات وعلى رأسها قطاع التربية والتعليم الذي اعتبره الشيخ زايد أس أي ازدهار وتقدم.
حينما وطأت قدما الحمر أرض أبوظبي كان التعليم فيها متأخرا عن بقية مناطق الخليج بأشواط، سواء لجهة الكم أو النوع أو الشكل، بدليل ما جاء في كتاب «زايد رجل بنى أمة» من تأليف زميل جمعية الجغرافيين الملكية الكاتب البريطاني «غريم ويلسون Graeme H. Wilson»، وإصدار المركز الوطني للوثائق والبحوث في وزارة شؤون الرئاسة بأبوظبي في عام 2013.
في هذا الكتاب التوثيقي تطرق المؤلف إلى الوضع التعليمي في أبوظبي في عام 1965، أي قبل وصول الحمر بفترة قصيرة، فأشار إلى وجود ست مدارس فقط في أبوظبي يدرس فيها 390 طالبا و138 طالبة، ويتولى التعليم فيها 33 معلما، مضيفا أن الإمارات الأخرى مجتمعة لم تكن بها سوى 31 مدرسة منها 12 مدرسة للفتيات.
هذا الوضع راح يتغير بسرعة بفضل جهود الإمارات السبع وحكامها ورجالاتها المتنورين، خصوصا بعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة التي رصدت نسبة 4 % من الميزانية الاتحادية العامة لأغراض تطوير التعليم، الأمر الذي ارتفع معه عدد المتعلمين في الدولة من 20 % من عدد السكان في عام 1971 إلى 79 % في عام 2000 فإلى أكثر من 88 % في عام 2007، طبقا لإحصائيات منظمة اليونيسكو. وفي الوقت نفسه ارتفع عدد المدراس إلى أكثر من 1185 مدرسة في عام 2012، منها 438 مدرسة في إمارة أبوظبي وحدها التي لم يكن بها سوى ست مدارس في عام 1965 كما ذكرنا آنفا. في أبوظبي تولى الحمر إدارة التعليم في دائرة المعارف التابعة لحكومة أبوظبي، وراح يعمل بهمة في تخطيط وتنفيذ برامج للارتقاء بالتعليم في الإمارة الفتية. وكان من المشكلات الفنية التي تغلب عليها الحمر آنذاك نقص الكادر التعليمي وصعوبة إقناع بعض المعلمين العرب للمجيء للعمل في أبوظبي بسبب قسوة الحياة فيها في تلك الحقبة المبكرة، حيث استطاع الاستعاضة عنهم جزئيا بمدرسين من البحرين ممن لم تكن بيئة أبوظبي غريبة عليهم واستطاعوا التأقلم السريع مع ظروفها.
وتقديرا لجهوده المتميزة تم منحه جنسية إمارة أبوظبي في عام 1970، فقبلها من دون تردد انطلاقا من إيمانه العميق بالانتماء إلى الأرض الخليجية الواحدة بغض النظر عن التقسيمات الجغرافية واختلاف المسميات. كما تمت ترقيته في العام نفسه إلى منصب وكيل التربية والتعليم في حكومة أبوظبي، فظل ممسكا بهذا المنصب ويعمل في ظل وزيرها المرحوم محمد خليفة الكندي حتى عام 1976 حينما نُقلت خدماته إلى وزارة الخارجية الإماراتية ليعمل بها لمدة عام واحد سفيرا مفوضا.
من قطاع التعليم إلى تنظيم العمل المصرفي
مثل عقد الثمانينات من القرن العشرين منعطفا جديدا في حياة الحمر، إذ شهدت بدايته صدور قرار بتعيينه محافظا لمصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي الذي كان قد صدر قانون اتحادي برقم 10 في العاشر من ديسمبر 1980 بتأسيسه ليخلف مجلس النقد لدولة الإمارات. وهكذا انتقل الرجل من ميدان تنظيم وتطوير العمل التربوي والتعليمي إلى قطاع تنظيم آلية العمل المصرفي وتطويره ومراقبة أجهزته وتحقيق النمو المتوازن للاقتصاد الوطني وتقديم المشورة للحكومة في الشؤون النقدية والمالية.
ويمكن القول إن هذه الوظيفة المرموقة التي تولاها الحمر ما بين عامي 1981 و1991 أكسبته خبرة لا تقدر بثمن وعرفته على أوساط وأرباب المال والأعمال داخل الإمارات وخارجها، وهو ما نجد تجلياته في نشاطه الدوؤب خلال تلك الفترة كمحاضر في قضايا التخطيط الاقتصادي والتنمية والسياسات المالية والموارد البشرية من على منابر الفعاليات المحلية والعربية والأجنبية.
وبانتهاء فترة عمله محافظا لمصرف الإمارات المركزي في سنة 1991 عينه الشيخ زايد مستشارا له في ديوان الرئاسة. وهي الوظيفة التي ظلت لصيقة باسمه حتى تاريخ وفاته في القاهرة في 12 آذار/ مارس 2005.
لقد كان عبدالملك الحمر رحمه الله من نوعية الرجال المعادين للسكون والخمول، لذا فمن عاصره أو قرأ عنه سيكتشف أنه كان صاحب حركة مستمرة وحضور دائم في مختلف المحافل الفكرية، ناهيك عن قيامه في نفس الوقت بمسؤولياته الرسمية والتطوعية وعكوفه على إعداد المؤلفات في مجال تخصصه، بل واستمراره في طلب العلم (بدليل أنه أقدم في عام 1991 على التسجيل في جامعة ريدنغ البريطانية لنيل درجة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان «التنمية والتربية في دول مجلس التعاون الخليجي»).
فعلى صعيد التأليف قدم الحمر للمكتبة الخليجية والعربية كتابا مهما بالإنجليزية تحت عنوان «تطور التعليم في البحرين 1940 - 1965 Development of Education in Bahrain 1940 - 1965»، كما شارك المؤرخ والأديب والشاعر الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة في تأليف كتاب مهم آخر تحت عنوان «البحرين عبر التاريخ»، تطرقا فيه إلى تاريخ البحرين القديم منذ حضارة دلمون، مرورا بالعصر الإسلامي. وفضلا عن ذلك كتب الرجل العديد من الدراسات والمقالات المطولة ونشرها في مجلات رصينة مثل مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية الصادرة عن جامعة الكويت ومجلة الفيصل الفصلية الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. من أهم هذه الدراسات: دراسة بعنوان «التعليم العام والإنماء البشري في الخليج العربي من منظور الجانب الكيفي»، ودراسة أخرى بعنوان «تحديد الأولويات هو المدخل المناسب للتعامل مع المتغيرات الاقتصادية والنفطية»، ودراسة ثالثة بعنوان «تنمية الاتجاهات للنزوع إلى المستوى الجيد في التعليم»، ودراسة رابعة بعنوان «المصارف الإسلامية وما لها من دور مأمول وعملي في التنمية الشاملة».
ومن الأمور الأخرى التي انشغل بها الحمر في مشوار حياته الثري قضايا حقوق الإنسان ثم مسائل الإغاثة الإنسانية. ونجد تجليات ذلك في قيادته للجنة حقوق الإنسان الإسلامية التي تأسست في لندن في عام 1997 كمنظمة غير ربحية وظيفتها العمل مع منظمات مختلفة ذات خلفية إسلامية أو غير إسلامية لتحقيق العدالة لكافة شعوب كوكب الأرض. ونجد تجليات ذلك أيضا في عضويته في هيئة الرئاسة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، علما بأن هذا المجلس عبارة عن هيئة إسلامية عالمية تأسست في القاهرة في عام 1988 من أجل التنسيق بين جهود أكثر من مائة من الهيئات والمنظمات الإسلامية الرسمية والشعبية حول العالم لجهة مسائل الدعوة وتقديم الإغاثة والعون.
جينات «التجارة» لازمته.. فورّثها لابنه مروان
لم يقتصر نشاط الحمر على كل ما سبق ذكره، فبسبب كونه من الشخصيات المتخصصة في مجال التربية والتربية ومن المسؤولين الذين راكموا خبرات تربوية طويلة فقد تم اختياره عضوا في مجالس الأمناء لعدد من الجامعات العربية والإسلامية مثل جامعة الخليج العربي بالبحرين، وجامعة عمان الأهلية بالأردن، والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان، وجامعة ابن رشد الإسلامية في قرطبة وغيرها.
وفي خضم كل هذه المشاغل والمسؤوليات والأنشطة الموزعة هنا وهناك، وجد الحمر متسعا من الوقت للاشتغال والاستثمار في التجارة، مهنة والده وأجداده، فأضاف إلى ألقابه الكثيرة لقبا جديدا هو «رجل الأعمال الإماراتي»، الذي أورثه لابنه الأكبر مروان، وهو يعد اليوم من كبار المستثمرين في قطاع الوجبات السريعة في دولة الإمارات، كونه يمتلك سلسلة مطاعم «صاب وايSubway» التي لها 160 موقعا لتقديم خدماتها، متجاوزة بذلك عدد مواقع أي سلسلة مطاعم سريعة أخرى.
ومن خلال تتبع ورصد أحاديثه ومداخلاته في المحافل الفكرية التي كان يحرص على حضورها والمساهمة فيها والالتقاء بروادها يمكن القول إن الرجل كان صاحب نفس عروبي قومي، وإن أهم ما كان يشغل تفكيره يمكن إيجازه في العناوين التالية: غياب الحريات في الوطن العربي، حقوق المرأة العربية وضعف مشاركتها في التنمية والمعرفة، الفجوة المعرفية والتقنية والبحثية بين العرب والآخر، الارتقاء بالعمل العربي المشترك، تعزيز أطر التعاون بين دول الخليج العربية من خلال مجلس التعاون وصولا إلى صيغة اتحادية.
لقد لخص رجل الأعمال الإماراتي محمد عبدالجليل الفهيم جهود الحمر في الكلمة التي ألقاها في يوليو 2005 خلال حفلة لتكريمه وإحياء ذكراه العطرة، إذ قال إن إحياء ذكرى الحمر نابع مما: «كان له من دور في دعم التعليم واحتضان للعلم والعلماء في حياته وإحياء روح التنافس بين الأبناء من أجل إيجاد جيل من المتعلمين وتشجيع الطلاب على الجد والاجتهاد وخلق روح المسؤولية لديهم وإبراز أهمية ودور التعليم في المجتمع».
* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين