لا يمكن رواية قصة النفط في الخليج والجزيرة العربية دون التوقف طويلا عند اسم من بلاد بعيدة عن المنطقة، جاء مبكرا في مغامرة للبحث عن النفط، على الرغم من أنه لم يكن جيولوجيا. ولولا تعجله في اكتساب المغانم وقلة صبره على أعمال التنقيب لكان بزّ كل الآخرين الذين جاؤوا من بعده ولم يتمكنوا من نسج ربع حجم العلاقات التي نسجها مع الملوك والشيوخ والأمراء وصناع القرار في الخليج، ولاستحق بالفعل اللقب الذي أطلق عليه وهو «أبو النفط».
إنها الأقدار التي تمنح وتمنع. ثم إنها خطط ومشاريع وصراعات القوى الكبرى التي تتداخل وتتصادم فتعجل بحدوث أمور وتؤجل أخرى.
البلاد التي ولد فيها رجل التعدين «فرانك هولمز Frank Holmes» وهي نيوزيلندا لم تكن يوما ضمن البلاد الساعية لإيجاد نفوذ لها في منطقة الشرق الأوسط، لكن البلد الذي حمل جنسيته بريطانيا العظمى التي كانت صاحبة نفوذ طاغ في المنطقة، بل وجدتْ أن نفوذها ومصالحها السياسية والاقتصادية مهددة ببروز الولايات المتحدة على الساحة الدولية وسعيها إلى مد نفوذها خارج الأمريكتين، ولاسيما إلى الشرقين الأوسط والأدنى. ونجد تجليات السعي الأمريكي والمخاوف البريطانية في موقف لندن من اللجنة التي شكلها الرئيس الأمريكي «ودرو ويلسون» بعد الحرب العالمية الأولى لدراسة أوضاع منطقة الشرق الأوسط وفهم ما يدور فيها وتقديم تقرير حولها والتي عهد برئاستها إلى رجل الأعمال «تشارلز كرين Charles Crane».
يخبرنا إبراهيم الجبين في مقال له بصحيفة العرب اللندنية (1/2/2015) أن كرين، وهو سليل أسرة أمريكية ثرية تخصصت في شؤون المياه، وعُرف عنه اهتمامه بالاستشراق والثقافة العربية وقضايا الشرق الأوسط السياسية وترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية، سافر في 1931 إلى السعودية لمقابلة مؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود، وأنه في ختام لقائه بالملك سأل عما يمكن أن يقدمه للمملكة الفتية وشعبها، فأخبره الملك أن بلاده تعاني من التصحر والجفاف والحاجة للمياه، فوعده كراين بالنظر في الطلب.
أما ما حدث بعد ذلك فمعروف على نطاق واسع، حيث أوفى كرين بوعده سريعا وأرسل مهندسا جيولوجيا من قبله، وهو «كارل تويتشل Karl Twichell» الذي وصل إلى جدة وتجول في البلاد السعودية، وبدلا من أن يكتشف الماء اكتشف أن تربة المنطقة الشرقية مشابهه لتربة البحرين التي كان النفط قد اكتشف فيها للتو (سنة 1932)، فكان ذلك الاكتشاف هو المقدمة الطبيعية للتنقيب عن النفط في شرق السعودية من خلال مستثمرين وشركات أمريكية.
لكن ما علاقة كل هذا بفرانك هولمز؟
المعروف أن هولمز تردد كثيرا على بلدان الشرق الأوسط أثناء الحرب العالمية الأولى كونه كان عسكريا برتبة «ميجور» في الجيش البريطاني ومسؤولا عن توريد الغذاء للعسكر البريطاني المرابط آنذاك في العراق. فكان من نتائج جولاته هذه أنه سمع عن وجود النفط على الساحل الشرقي للجزيرة العربية واطلع على بعض الخرائط الاستعمارية ذات الصلة، خصوصا أن النفط كان قد اكتشف سنة 1908 في مدينة «مسجد سليمان» الواقعة على الضفة الفارسية للخليج العربي وتأسست شركة لإدارته تحت اسم «شركة النفط الإنجلو-فارسية». كل هذا دفعه إلى إرسال رسالة إلى زوجته في 1918 يخبرها فيها أنه يعتقد بوجود «حقل نفطي هائل يمتد من الكويت إلى سواحل البر الرئيسي لشرق الجزيرة العربية»، وأنه سيكتشفه وسيستفيد منه. ويمكن القول إن قناعته هذه حول وجود النفط بكميات تجارية في المنطقة كانت بسبب البيئة التي نشأ فيها والخبرات التي راكمها في مجال التعدين. إذ تشير سيرته الذاتية المنشورة إلى أنه ولد داخل معسكر عمل في مدينة دنيدن النيوزيلندية سنة 1874 لأب كان يعمل في بناء الجسور، وأنه درس في مدرسة أوتاغو للبنين في مسقط رأسه، وأن عمه الذي كان مديرا عاما لأحد مناجم الذهب في جنوب أفريقيا دربه منذ أن كان في سن 17 على أعمال التعدين، وهو ما جعله يعمل لمدة عقدين من الزمن مهندس تعدين في أستراليا وروسيا وماليزيا والمكسيك وأوروغواي ونيجيريا.
في 1920 ساهم هولمز مع عدد من رجال الأعمال البريطانيين في تأسيس شركة صغيرة في لندن تحت اسم «الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودةThe Eastern and General Syndicate Limited»، وذلك بغرض التفاوض نيابة عن الشركات التي تريد الحصول على الامتيازات النفطية لكن تنقصها الاتصالات والعلاقات العامة اللازمة، أو بغرض الحصول على حقوق التنقيب عن النفط ثم بيعها إلى الشركات المتخصصة الراغبة. غير أن هولمز شجعها على توسيع أعمالها لتشمل أنشطة نفطية في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من علمه بأن شركة نفطية كبرى وذات نفوذ هائل (شركة النفط الإنجلو-فارسية) تراقب تحركاته وطموحات شركته. في هذه الأثناء كان الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود يستعيد أراضي آبائه وأجداده ويوحدها، بما في ذلك أجزاء واسعة من شرق شبه الجزيرة العربية (المنطقة الشرقية حاليا).
قرأ هولمز هذه التطورات بعين الراصد والمحلل، واستنتج أن القرار بات قرار السلطان عبدالعزيز آل سعود دون منازع. يقول البريطاني هارولد ديكسون في كتابه «الكويت وجاراتها Kuwait and Her Neighbours» الصادر في 1956 ما معناه أنه لهذا السبب قرر هولمز السعي للتقرب إلى الملك عبدالعزيز، فسافر عام 1922 إلى الأحساء لمقابلته بهدف الحصول منه على امتياز للتنقيب عن النفط، فمنحه الملك المؤسس إذنا لمسح صحراء شرق السعودية لمدة شهر. وبالفعل قام الرجل ببعض المسوحات تحت ستار البحث عن نوع من الفراشات السوداء النادرة في القطيف (كيلا يلفت انتباه شركة النفط الإنجلو-فارسية)، وعاد إلى الهفوف، عارضا على الملك عينات من التربة زعم أن بها آثارا للنفط. في مؤتمر العقير الذي انعقد في ديسمبر من العام نفسه بين سلطان نجد وتوابعها والمقيم البريطاني في الخليج والعراق سير بيرسي كوكس والوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور جون مور ممثلا عن حاكم الكويت وعدد من الساسة والوزراء العراقيين نيابة عن عاهل العراق الملك فيصل الأول، بهدف ترسيم الحدود بين سلطنة نجد وكل من العراق والكويت (وهو الترسيم الذي خلق المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية)، تمكن هولمز من الوصول إلى المؤتمر بغرض إقناع الملك عبدالعزيز بالتوقيع على اتفاقية كتبها حول منحه امتياز النفط في شرق السعودية، غير أن ذلك لم يتم.
وفي عام 1923، منح الملك عبدالعزيز هولمز الامتياز الذي ظل يبحث عنه، وهو ما أطلق عليه «الامتياز الأول». لقد قيل في وصف هولمز إنه كان صاحب شخصية تتمتع باللياقة واللباقة والصراحة والكرم والسحر، الأمر الذي جعله يحظى بإعجاب قادة عرب الجزيرة، واقتناعهم بما كان يقوله حول الثروة الكامنة في بطون صحاريهم خلافا للتقارير المتشائمة التي كانت تنفي ذلك. لذا لم يكن غريبا أن يفوز بثقتهم وأن يوقعوا معه اتفاقيات التنقيب عن النفط في السعودية والكويت والبحرين وقطر في العقد الثاني من القرن العشرين (اقرأ النعي الذي كتبه A.T.Chisholm في الخامس من فبراير 1947 بصحيفة التايمز البريطانية بمناسبة وفاة هولمز بنوبة قلبية في يناير من ذلك العام).
قطر رضخت لضغوط «التاج» وأبعدت هولمز
تخبرنا الوثائق والتقارير البريطانية أن هولمز نشط أيضا في قطر التي سافر إليها في مطلع العشرينات، مبديا اهتمامه بالحصول من حاكمها على امتياز للتنقيب عن النفط في إمارته، الأمر الذي قرع أجراس الإنذار في مكاتب شركة النفط الإنجلو-فارسية بلندن، خصوصا بعدما بلغتها أنباء عن لقاء مثمر في الصحراء بين هولمز وحاكم قطر آنذاك الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني. هذا ناهيك عن أنباء أخرى حول إعجاب الحاكم بقدرات هولمز في تحديد نسب جميع كلاب الصيد التي دخلت عليهما في خيمة الاجتماع، فطالما أن بامكانه تحديد نسب كلب واحد من بين الكثير فمن المؤكد أن بامكانه تحديد مكامن النفط (طالع كتاب انجيلا كلارك - مصدر سابق). ولقد عجل هذا التطور في إرسال شركة النفط الإنجلو-فارسية فريقا من قبلها بقيادة «جورج مارتن ليز» إلى قطر بهدف إجراء مسوحات جيولوجية، فعاد الفريق وقدم تقريرا يقول إنه لا توجد أدلة ثابتة حول وجود النفط في شبه جزيرة قطر. غير أن اكتشاف النفط في البحرين المجاورة جعلت الشركة تسارع إلى توقيع اتفاقية امتياز عام 1935 مع الشيخ عبدالله آل ثاني الذي رضخ لمطالب الإدارة البريطانية بإبعاد هولمز، مذكرة إياه بنصوص معاهدة الحماية، وهو ما جعل هولمز يخرج خالي الوفاض، ويوجه بالتالي جهوده نحو الكويت.
ولأن الكويت كانت تقع خارج نطاق اتفاقية الخط الأحمر (اتفاقية وقعت في 1928 بين شركات نفطية أمريكية وبريطانية وفرنسية وهولندية حول مصادر النفط ضمن أراضي الدولة العثمانية في منطقة الشرق الأوسط) فقد سهل هذا الأمر على هولمز التفاوض باسم «شركة نفط الخليج» للحصول على امتياز التنقيب في الكويت، علما بأن شركة نفط الخليج هذه كانت واحدة من الشركات الأمريكية الساعية للتنقيب عن النفوط الأجنبية، التي سعى هولمز للاتفاق معها كي تؤول إليها كافة حقوق وامتيازات شركته (الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة). وكما جرت العادة، أرسلت «شركة النفط الإنجلو-فارسية» ممثليها إلى الكويت للحصول على حق التنقيب بدلا من هولمز، لكنهم فوجئوا بأن الأخير معروف وذو حظوة عند الحاكم الشيخ أحمد الجابر، الأمر الذي جعلهم يستعينون بالمستشرق البريطاني العاشق لبادية الكويت والخبير في عادات أهلها «وليام ريتشارد وليامسون»، ويعينونه ممثلا لهم في مواجهة هولمز. وهكذ لم يكن أمام شركة النفط الشرقية سوى الموافقة على التنقيب عن النفط في الكويت شراكة مع شركة نفط الخليج وممثلها هولمز، حيث تم تأسيس شركة بالمناصفة لهذا الغرض تحت اسم «شركة نفط الكويت»، وهي الشركة التي منحها الحاكم في ديسمبر 1934 امتياز التنقيب لمدة 75 عاما، فاكتشفت النفط في فبراير 1938، علما بأن الحاكم عمد إلى تعيين هولمز ممثلا لشركة نفط الكويت في لندن (طالع الصفحتين 214 و215 من كتاب «القوة، السياسة والتاريخ الخفي للنفط العربي Power, Politics and the Hidden History of Arabian Oil» من تأليف إيلين كيتينغ Aileen Keating).
في عام 1937 طلبت منه «شركة الامتيازات البترولية المحدودة»، إحدى زميلات شركة نفط العراق، أن يسعى لإتمام اتفاقيات نفطية مع شيوخ إمارات الساحل المتصالح وحاكم عمان. غير أن الرجل تلكأ في الأمر، متذرعا بسوء حالته الصحية فتم إعفاؤه من هذه المهمة (طبقا لما أورده ديفيد هيرد David Heard في الصفحة 624 من كتابه «من اللؤلؤ إلى النفط From Pearls to Oil» الصادر عن دار موتيفيد بدبي عام 2011. ولعل ما يوضح مدى انزعاج مسؤولي الإدارة البريطانية في الخليج من تحركات هولمز، الذي ربما كان أحد أسباب تلكؤه في القدوم مجددا إلى المنطقة، رسالة كتبها المقيم السياسي البريطاني في البحرين إلى مرجعه قال فيها إنه «واثق من أن قدوم هولمز إلى الخليج يعني الأجواء المعتادة من الحيرة والدسيسة التي يخلقها أينما ذهب والتي ستؤدي عاجلا أو آجلا إلى مشاكل لا داعي لها» (طالع مراسلات وتقارير حكومة الهند البريطانية المحفوظة في المكتبة البريطانية British Library رقم IOR/L/PS/12/233).
من سوء حظ هولمز أنه أتى إلى المنطقة مبكرا جدا دون أن يكون مسلحا بالأموال والخبرات الكافية، فعمل في ظروف استثنائية وفي مواجهة شركات نفطية قوية مدعمة من حكوماتها، فدق كل الأبواب قبل غيره، ووجد في كل الأماكن أبكر من منافسيه إلى أن توفي فجأة في عام 1947 تاركا خلفه سيرة مليئة بالطموحات لم يحقق منها سوى لقب «أبو النفط».
انسحب من «امتياز الأحساء».. وندم
في ما يخص السعودية، قلنا إن هولمز حصل على منحة الامتياز للتنقيب عن النفط في إقليم الأحساء من الملك عبدالعزيز في عام 1923، وكان الذي تفاوض معه حول ذلك باسم الملك هو أمين الريحاني الذي توصل إلى اتفاقية تقضي بأن يدفع هولمز للسعوديين مقابلا سنويا مقداره 2500 جنيه إسترليني. وبالفعل بدأت «الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة» التابعة لهولمز أعمالها بنشاط وهمة في المناطق الصحراوية النائية، كما أنها استعانت بخبرات الجيولوجي السويسري «أرنولد ألبرت هايم» الذي قدم إلى المنطقة عام 1924 وقدم بعد عامين من البحث تقريرا متشائما يقول فيه إن «الحفر في المنطقة مقامرة كبرى»، طبقا لما كتبته «جين غروتز» في مجلة عالم أرامكو (عدد يناير/فبراير 1999). وبحلول عام 1927 كان واضحا مدى الإحباط والخسارة الذي شعر به هولمز، فأوصى شركته بإيقاف أعمال الحفر والتنقيب تفاديا للمزيد من الخسائر، كما توقف عن دفع الإيجار السنوي المتفق للحكومة السعودية، لكن دون أن يبلغها رسميا بإلغاء الاتفاقية. ثم ترك كل شيء خلفه ورحل إلى البحرين علّ الحظ يبتسم له هناك، خصوصا أنه كان على علم بمساعي بعض شيوخ البحرين لجلب شركات بترول إنجليزية أو أمريكية للتنقيب عن النفط في بلادهم بمساعدة أمين الريحاني.
غير أن هولمز ظهر فجأة في جدة عام 1932 في الوقت الذي كان عبدالعزيز آل سعود ورجاله يجرون المفاوضات مع شركتي شيفرون ونفط العراق حول حصول إحداهما على امتيازات التنقيب عن النفط في الأحساء كبديل لهولمز وشركته المنسحبة. ويقال إن مستشار الملك عبدالعزيز جون فيلبي، الشهير بعبدالله فيلبي، غضب كثيرا لقدوم هولمز وأبلغه أنه شخص غير مرغوب فيه وعليه المغادرة، بل وطالبه بمبلغ 6 آلاف جنيه إسترليني متبقية في ذمته للملك عبدالعزيز (طالع كتاب «مشاريع النفط العربي Arab Oil Ventures» لجون فيلبي - الصفحتان 98 و99). وبالفعل غادر هولمز جدة بعد ثلاثة أيام دون أن يشارك في مفاوضات النفط الجديدة كما تمنى، لكنه تمكن من مقابلة وزير مالية ابن سعود الشيخ عبدالله السليمان. وفي هذا السياق كتب ممثل شركة نفط العراق «ستيفن همسلي لونكريك» ما معناه أن هولمز لم يذهب إلى جدة للانضمام إلى مفاوضات النفط، وإنما ليحاول فقط استثناء المنطقة المحايدة من أي صفقة امتيازات جديدة.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث ذهب الامتياز الجديد (الامتياز الثاني) للتنقيب عن النفط في الأحساء باستثناء المنطقة المحايدة إلى شركة شيفرون الأمريكية التي أسست شركة فرعية باسم «ستاندرد أويل كاليفورنيا العربي (كاسوك)» ثم انضمت إلى شركة نفط تكساس وكونتا شركة أرامكو التي اكتشفت النفط بكميات تجارية في حقل الدمام رقم 7 في مارس 1938 بعد جهود مضنية تخللها اليأس والإحباط.
في البحرين -طبقا لما ورد في المجلد الثاني الخاص بالبحرين ضمن 12 مجلدا من وثائق الهند البريطانية وتقارير المقيميات البريطانية في الخليج حول مفاوضات النفط السرية وغير السرية بين حكام المنطقة والشركات البترولية- تمكن هولمز من إقناع حاكمها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في عام 1923 بمنحه رخصة لحفر الآبار الارتوازية لاستخراج المياه العذبة في جزيرة البحرين، وبسبب نجاحه في هذه المهمة الأخيرة، فقد منح الشيخ في عام 1925 لأول مرة امتيازا للتنقيب عن البترول للشركة التي كان يمثلها هولمز وهي «الشرقية والنقابة العامة المحدودة». لكن هولمز كان ينقصه آنذاك المال لمواصلة العمل فحاول في عام 1927 أن يبيع الامتياز إلى شركة النفط الإنجلو-فارسية وغيرها من شركات النفط البريطانية لكن محاولته قوبلت بشكوك حول احتمالات العثور على النفط في البحرين، وهو ما ندمت عليه الشركة الأخيرة لاحقا، تماما مثلما ندم هولمز على انسحابه السريع من امتياز الأحساء.
ولهذا السبب قام هولمز في العام نفسه ببيع الامتياز لشركة نفط الخليج صاحبة الحصص في شركة نفط العراق. وفي العام التالي باعت شركة نفط الخليج الامتياز بمبلغ 50 ألف دولار لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)» التي أسست «شركة نفط البحرين (بابكو)» كشركة فرعية لها وسجلتها في كندا (طالع كتاب نفط البحرين والتنمية Bahrain Oil and Development الصادر في 1990 عن دار بولدر لمؤلفته أنجيلا كلارك Angela Clarke). وعليه بدأت عمليات الحفر في البحرين في مارس 1931 وفي يونيو من العام التالي تدفق النفط بكميات تجارية في البحرين من الحقل رقم1 بجبل دخان، وفي أكتوبر منه بدأ الإنتاج.
* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين
إنها الأقدار التي تمنح وتمنع. ثم إنها خطط ومشاريع وصراعات القوى الكبرى التي تتداخل وتتصادم فتعجل بحدوث أمور وتؤجل أخرى.
البلاد التي ولد فيها رجل التعدين «فرانك هولمز Frank Holmes» وهي نيوزيلندا لم تكن يوما ضمن البلاد الساعية لإيجاد نفوذ لها في منطقة الشرق الأوسط، لكن البلد الذي حمل جنسيته بريطانيا العظمى التي كانت صاحبة نفوذ طاغ في المنطقة، بل وجدتْ أن نفوذها ومصالحها السياسية والاقتصادية مهددة ببروز الولايات المتحدة على الساحة الدولية وسعيها إلى مد نفوذها خارج الأمريكتين، ولاسيما إلى الشرقين الأوسط والأدنى. ونجد تجليات السعي الأمريكي والمخاوف البريطانية في موقف لندن من اللجنة التي شكلها الرئيس الأمريكي «ودرو ويلسون» بعد الحرب العالمية الأولى لدراسة أوضاع منطقة الشرق الأوسط وفهم ما يدور فيها وتقديم تقرير حولها والتي عهد برئاستها إلى رجل الأعمال «تشارلز كرين Charles Crane».
يخبرنا إبراهيم الجبين في مقال له بصحيفة العرب اللندنية (1/2/2015) أن كرين، وهو سليل أسرة أمريكية ثرية تخصصت في شؤون المياه، وعُرف عنه اهتمامه بالاستشراق والثقافة العربية وقضايا الشرق الأوسط السياسية وترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية، سافر في 1931 إلى السعودية لمقابلة مؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود، وأنه في ختام لقائه بالملك سأل عما يمكن أن يقدمه للمملكة الفتية وشعبها، فأخبره الملك أن بلاده تعاني من التصحر والجفاف والحاجة للمياه، فوعده كراين بالنظر في الطلب.
أما ما حدث بعد ذلك فمعروف على نطاق واسع، حيث أوفى كرين بوعده سريعا وأرسل مهندسا جيولوجيا من قبله، وهو «كارل تويتشل Karl Twichell» الذي وصل إلى جدة وتجول في البلاد السعودية، وبدلا من أن يكتشف الماء اكتشف أن تربة المنطقة الشرقية مشابهه لتربة البحرين التي كان النفط قد اكتشف فيها للتو (سنة 1932)، فكان ذلك الاكتشاف هو المقدمة الطبيعية للتنقيب عن النفط في شرق السعودية من خلال مستثمرين وشركات أمريكية.
لكن ما علاقة كل هذا بفرانك هولمز؟
المعروف أن هولمز تردد كثيرا على بلدان الشرق الأوسط أثناء الحرب العالمية الأولى كونه كان عسكريا برتبة «ميجور» في الجيش البريطاني ومسؤولا عن توريد الغذاء للعسكر البريطاني المرابط آنذاك في العراق. فكان من نتائج جولاته هذه أنه سمع عن وجود النفط على الساحل الشرقي للجزيرة العربية واطلع على بعض الخرائط الاستعمارية ذات الصلة، خصوصا أن النفط كان قد اكتشف سنة 1908 في مدينة «مسجد سليمان» الواقعة على الضفة الفارسية للخليج العربي وتأسست شركة لإدارته تحت اسم «شركة النفط الإنجلو-فارسية». كل هذا دفعه إلى إرسال رسالة إلى زوجته في 1918 يخبرها فيها أنه يعتقد بوجود «حقل نفطي هائل يمتد من الكويت إلى سواحل البر الرئيسي لشرق الجزيرة العربية»، وأنه سيكتشفه وسيستفيد منه. ويمكن القول إن قناعته هذه حول وجود النفط بكميات تجارية في المنطقة كانت بسبب البيئة التي نشأ فيها والخبرات التي راكمها في مجال التعدين. إذ تشير سيرته الذاتية المنشورة إلى أنه ولد داخل معسكر عمل في مدينة دنيدن النيوزيلندية سنة 1874 لأب كان يعمل في بناء الجسور، وأنه درس في مدرسة أوتاغو للبنين في مسقط رأسه، وأن عمه الذي كان مديرا عاما لأحد مناجم الذهب في جنوب أفريقيا دربه منذ أن كان في سن 17 على أعمال التعدين، وهو ما جعله يعمل لمدة عقدين من الزمن مهندس تعدين في أستراليا وروسيا وماليزيا والمكسيك وأوروغواي ونيجيريا.
في 1920 ساهم هولمز مع عدد من رجال الأعمال البريطانيين في تأسيس شركة صغيرة في لندن تحت اسم «الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودةThe Eastern and General Syndicate Limited»، وذلك بغرض التفاوض نيابة عن الشركات التي تريد الحصول على الامتيازات النفطية لكن تنقصها الاتصالات والعلاقات العامة اللازمة، أو بغرض الحصول على حقوق التنقيب عن النفط ثم بيعها إلى الشركات المتخصصة الراغبة. غير أن هولمز شجعها على توسيع أعمالها لتشمل أنشطة نفطية في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من علمه بأن شركة نفطية كبرى وذات نفوذ هائل (شركة النفط الإنجلو-فارسية) تراقب تحركاته وطموحات شركته. في هذه الأثناء كان الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود يستعيد أراضي آبائه وأجداده ويوحدها، بما في ذلك أجزاء واسعة من شرق شبه الجزيرة العربية (المنطقة الشرقية حاليا).
قرأ هولمز هذه التطورات بعين الراصد والمحلل، واستنتج أن القرار بات قرار السلطان عبدالعزيز آل سعود دون منازع. يقول البريطاني هارولد ديكسون في كتابه «الكويت وجاراتها Kuwait and Her Neighbours» الصادر في 1956 ما معناه أنه لهذا السبب قرر هولمز السعي للتقرب إلى الملك عبدالعزيز، فسافر عام 1922 إلى الأحساء لمقابلته بهدف الحصول منه على امتياز للتنقيب عن النفط، فمنحه الملك المؤسس إذنا لمسح صحراء شرق السعودية لمدة شهر. وبالفعل قام الرجل ببعض المسوحات تحت ستار البحث عن نوع من الفراشات السوداء النادرة في القطيف (كيلا يلفت انتباه شركة النفط الإنجلو-فارسية)، وعاد إلى الهفوف، عارضا على الملك عينات من التربة زعم أن بها آثارا للنفط. في مؤتمر العقير الذي انعقد في ديسمبر من العام نفسه بين سلطان نجد وتوابعها والمقيم البريطاني في الخليج والعراق سير بيرسي كوكس والوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور جون مور ممثلا عن حاكم الكويت وعدد من الساسة والوزراء العراقيين نيابة عن عاهل العراق الملك فيصل الأول، بهدف ترسيم الحدود بين سلطنة نجد وكل من العراق والكويت (وهو الترسيم الذي خلق المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية)، تمكن هولمز من الوصول إلى المؤتمر بغرض إقناع الملك عبدالعزيز بالتوقيع على اتفاقية كتبها حول منحه امتياز النفط في شرق السعودية، غير أن ذلك لم يتم.
وفي عام 1923، منح الملك عبدالعزيز هولمز الامتياز الذي ظل يبحث عنه، وهو ما أطلق عليه «الامتياز الأول». لقد قيل في وصف هولمز إنه كان صاحب شخصية تتمتع باللياقة واللباقة والصراحة والكرم والسحر، الأمر الذي جعله يحظى بإعجاب قادة عرب الجزيرة، واقتناعهم بما كان يقوله حول الثروة الكامنة في بطون صحاريهم خلافا للتقارير المتشائمة التي كانت تنفي ذلك. لذا لم يكن غريبا أن يفوز بثقتهم وأن يوقعوا معه اتفاقيات التنقيب عن النفط في السعودية والكويت والبحرين وقطر في العقد الثاني من القرن العشرين (اقرأ النعي الذي كتبه A.T.Chisholm في الخامس من فبراير 1947 بصحيفة التايمز البريطانية بمناسبة وفاة هولمز بنوبة قلبية في يناير من ذلك العام).
قطر رضخت لضغوط «التاج» وأبعدت هولمز
تخبرنا الوثائق والتقارير البريطانية أن هولمز نشط أيضا في قطر التي سافر إليها في مطلع العشرينات، مبديا اهتمامه بالحصول من حاكمها على امتياز للتنقيب عن النفط في إمارته، الأمر الذي قرع أجراس الإنذار في مكاتب شركة النفط الإنجلو-فارسية بلندن، خصوصا بعدما بلغتها أنباء عن لقاء مثمر في الصحراء بين هولمز وحاكم قطر آنذاك الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني. هذا ناهيك عن أنباء أخرى حول إعجاب الحاكم بقدرات هولمز في تحديد نسب جميع كلاب الصيد التي دخلت عليهما في خيمة الاجتماع، فطالما أن بامكانه تحديد نسب كلب واحد من بين الكثير فمن المؤكد أن بامكانه تحديد مكامن النفط (طالع كتاب انجيلا كلارك - مصدر سابق). ولقد عجل هذا التطور في إرسال شركة النفط الإنجلو-فارسية فريقا من قبلها بقيادة «جورج مارتن ليز» إلى قطر بهدف إجراء مسوحات جيولوجية، فعاد الفريق وقدم تقريرا يقول إنه لا توجد أدلة ثابتة حول وجود النفط في شبه جزيرة قطر. غير أن اكتشاف النفط في البحرين المجاورة جعلت الشركة تسارع إلى توقيع اتفاقية امتياز عام 1935 مع الشيخ عبدالله آل ثاني الذي رضخ لمطالب الإدارة البريطانية بإبعاد هولمز، مذكرة إياه بنصوص معاهدة الحماية، وهو ما جعل هولمز يخرج خالي الوفاض، ويوجه بالتالي جهوده نحو الكويت.
ولأن الكويت كانت تقع خارج نطاق اتفاقية الخط الأحمر (اتفاقية وقعت في 1928 بين شركات نفطية أمريكية وبريطانية وفرنسية وهولندية حول مصادر النفط ضمن أراضي الدولة العثمانية في منطقة الشرق الأوسط) فقد سهل هذا الأمر على هولمز التفاوض باسم «شركة نفط الخليج» للحصول على امتياز التنقيب في الكويت، علما بأن شركة نفط الخليج هذه كانت واحدة من الشركات الأمريكية الساعية للتنقيب عن النفوط الأجنبية، التي سعى هولمز للاتفاق معها كي تؤول إليها كافة حقوق وامتيازات شركته (الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة). وكما جرت العادة، أرسلت «شركة النفط الإنجلو-فارسية» ممثليها إلى الكويت للحصول على حق التنقيب بدلا من هولمز، لكنهم فوجئوا بأن الأخير معروف وذو حظوة عند الحاكم الشيخ أحمد الجابر، الأمر الذي جعلهم يستعينون بالمستشرق البريطاني العاشق لبادية الكويت والخبير في عادات أهلها «وليام ريتشارد وليامسون»، ويعينونه ممثلا لهم في مواجهة هولمز. وهكذ لم يكن أمام شركة النفط الشرقية سوى الموافقة على التنقيب عن النفط في الكويت شراكة مع شركة نفط الخليج وممثلها هولمز، حيث تم تأسيس شركة بالمناصفة لهذا الغرض تحت اسم «شركة نفط الكويت»، وهي الشركة التي منحها الحاكم في ديسمبر 1934 امتياز التنقيب لمدة 75 عاما، فاكتشفت النفط في فبراير 1938، علما بأن الحاكم عمد إلى تعيين هولمز ممثلا لشركة نفط الكويت في لندن (طالع الصفحتين 214 و215 من كتاب «القوة، السياسة والتاريخ الخفي للنفط العربي Power, Politics and the Hidden History of Arabian Oil» من تأليف إيلين كيتينغ Aileen Keating).
في عام 1937 طلبت منه «شركة الامتيازات البترولية المحدودة»، إحدى زميلات شركة نفط العراق، أن يسعى لإتمام اتفاقيات نفطية مع شيوخ إمارات الساحل المتصالح وحاكم عمان. غير أن الرجل تلكأ في الأمر، متذرعا بسوء حالته الصحية فتم إعفاؤه من هذه المهمة (طبقا لما أورده ديفيد هيرد David Heard في الصفحة 624 من كتابه «من اللؤلؤ إلى النفط From Pearls to Oil» الصادر عن دار موتيفيد بدبي عام 2011. ولعل ما يوضح مدى انزعاج مسؤولي الإدارة البريطانية في الخليج من تحركات هولمز، الذي ربما كان أحد أسباب تلكؤه في القدوم مجددا إلى المنطقة، رسالة كتبها المقيم السياسي البريطاني في البحرين إلى مرجعه قال فيها إنه «واثق من أن قدوم هولمز إلى الخليج يعني الأجواء المعتادة من الحيرة والدسيسة التي يخلقها أينما ذهب والتي ستؤدي عاجلا أو آجلا إلى مشاكل لا داعي لها» (طالع مراسلات وتقارير حكومة الهند البريطانية المحفوظة في المكتبة البريطانية British Library رقم IOR/L/PS/12/233).
من سوء حظ هولمز أنه أتى إلى المنطقة مبكرا جدا دون أن يكون مسلحا بالأموال والخبرات الكافية، فعمل في ظروف استثنائية وفي مواجهة شركات نفطية قوية مدعمة من حكوماتها، فدق كل الأبواب قبل غيره، ووجد في كل الأماكن أبكر من منافسيه إلى أن توفي فجأة في عام 1947 تاركا خلفه سيرة مليئة بالطموحات لم يحقق منها سوى لقب «أبو النفط».
انسحب من «امتياز الأحساء».. وندم
في ما يخص السعودية، قلنا إن هولمز حصل على منحة الامتياز للتنقيب عن النفط في إقليم الأحساء من الملك عبدالعزيز في عام 1923، وكان الذي تفاوض معه حول ذلك باسم الملك هو أمين الريحاني الذي توصل إلى اتفاقية تقضي بأن يدفع هولمز للسعوديين مقابلا سنويا مقداره 2500 جنيه إسترليني. وبالفعل بدأت «الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة» التابعة لهولمز أعمالها بنشاط وهمة في المناطق الصحراوية النائية، كما أنها استعانت بخبرات الجيولوجي السويسري «أرنولد ألبرت هايم» الذي قدم إلى المنطقة عام 1924 وقدم بعد عامين من البحث تقريرا متشائما يقول فيه إن «الحفر في المنطقة مقامرة كبرى»، طبقا لما كتبته «جين غروتز» في مجلة عالم أرامكو (عدد يناير/فبراير 1999). وبحلول عام 1927 كان واضحا مدى الإحباط والخسارة الذي شعر به هولمز، فأوصى شركته بإيقاف أعمال الحفر والتنقيب تفاديا للمزيد من الخسائر، كما توقف عن دفع الإيجار السنوي المتفق للحكومة السعودية، لكن دون أن يبلغها رسميا بإلغاء الاتفاقية. ثم ترك كل شيء خلفه ورحل إلى البحرين علّ الحظ يبتسم له هناك، خصوصا أنه كان على علم بمساعي بعض شيوخ البحرين لجلب شركات بترول إنجليزية أو أمريكية للتنقيب عن النفط في بلادهم بمساعدة أمين الريحاني.
غير أن هولمز ظهر فجأة في جدة عام 1932 في الوقت الذي كان عبدالعزيز آل سعود ورجاله يجرون المفاوضات مع شركتي شيفرون ونفط العراق حول حصول إحداهما على امتيازات التنقيب عن النفط في الأحساء كبديل لهولمز وشركته المنسحبة. ويقال إن مستشار الملك عبدالعزيز جون فيلبي، الشهير بعبدالله فيلبي، غضب كثيرا لقدوم هولمز وأبلغه أنه شخص غير مرغوب فيه وعليه المغادرة، بل وطالبه بمبلغ 6 آلاف جنيه إسترليني متبقية في ذمته للملك عبدالعزيز (طالع كتاب «مشاريع النفط العربي Arab Oil Ventures» لجون فيلبي - الصفحتان 98 و99). وبالفعل غادر هولمز جدة بعد ثلاثة أيام دون أن يشارك في مفاوضات النفط الجديدة كما تمنى، لكنه تمكن من مقابلة وزير مالية ابن سعود الشيخ عبدالله السليمان. وفي هذا السياق كتب ممثل شركة نفط العراق «ستيفن همسلي لونكريك» ما معناه أن هولمز لم يذهب إلى جدة للانضمام إلى مفاوضات النفط، وإنما ليحاول فقط استثناء المنطقة المحايدة من أي صفقة امتيازات جديدة.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث ذهب الامتياز الجديد (الامتياز الثاني) للتنقيب عن النفط في الأحساء باستثناء المنطقة المحايدة إلى شركة شيفرون الأمريكية التي أسست شركة فرعية باسم «ستاندرد أويل كاليفورنيا العربي (كاسوك)» ثم انضمت إلى شركة نفط تكساس وكونتا شركة أرامكو التي اكتشفت النفط بكميات تجارية في حقل الدمام رقم 7 في مارس 1938 بعد جهود مضنية تخللها اليأس والإحباط.
في البحرين -طبقا لما ورد في المجلد الثاني الخاص بالبحرين ضمن 12 مجلدا من وثائق الهند البريطانية وتقارير المقيميات البريطانية في الخليج حول مفاوضات النفط السرية وغير السرية بين حكام المنطقة والشركات البترولية- تمكن هولمز من إقناع حاكمها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في عام 1923 بمنحه رخصة لحفر الآبار الارتوازية لاستخراج المياه العذبة في جزيرة البحرين، وبسبب نجاحه في هذه المهمة الأخيرة، فقد منح الشيخ في عام 1925 لأول مرة امتيازا للتنقيب عن البترول للشركة التي كان يمثلها هولمز وهي «الشرقية والنقابة العامة المحدودة». لكن هولمز كان ينقصه آنذاك المال لمواصلة العمل فحاول في عام 1927 أن يبيع الامتياز إلى شركة النفط الإنجلو-فارسية وغيرها من شركات النفط البريطانية لكن محاولته قوبلت بشكوك حول احتمالات العثور على النفط في البحرين، وهو ما ندمت عليه الشركة الأخيرة لاحقا، تماما مثلما ندم هولمز على انسحابه السريع من امتياز الأحساء.
ولهذا السبب قام هولمز في العام نفسه ببيع الامتياز لشركة نفط الخليج صاحبة الحصص في شركة نفط العراق. وفي العام التالي باعت شركة نفط الخليج الامتياز بمبلغ 50 ألف دولار لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)» التي أسست «شركة نفط البحرين (بابكو)» كشركة فرعية لها وسجلتها في كندا (طالع كتاب نفط البحرين والتنمية Bahrain Oil and Development الصادر في 1990 عن دار بولدر لمؤلفته أنجيلا كلارك Angela Clarke). وعليه بدأت عمليات الحفر في البحرين في مارس 1931 وفي يونيو من العام التالي تدفق النفط بكميات تجارية في البحرين من الحقل رقم1 بجبل دخان، وفي أكتوبر منه بدأ الإنتاج.
* أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين