هذه قصة أغرب من الخيال، أبطالها بدوي من نجد وسيدتان أمريكيتان وطفل. أما أحداثها فتبدأ من بغداد وتنتهي في السعودية مرورا بالولايات المتحدة في الفترة ما بين ثلاثينات القرن العشرين وخمسيناته. فما هي تفاصيل هذه القصة التي تصلح مادة لفيلم سياسي أو دراما تلفزيونية يا ترى؟ ومن هم أبطالها؟.
الاعتقاد السائد عند الكثيرين هو أن الممثل المصري عمر الشريف كان أول من اقتحم استوديوهات هوليوود من العرب وعمل بها منذ العام 1962 مؤديا أدوارا خالدة في تاريخ السينما العالمية أمام كبار نجومها ونجماتها، غير أن هناك من يقول إن اللبناني «محمد لاقطين» الذي أطلق على نفسه اسم «فرانك لاكتين» قد سبق عمر الشريف في ذلك مستشهدين بالفيلم الذي ظهر فيه تحت عنوان «الخط الأصفر» من إنتاج عام 1961. وهناك فريق ثالث يذكر في السياق نفسه اسم الممثل الأمريكي من أصل لبناني «جورج نادر»، خصوصا أن هذا صاحب مشاركات سينمائية وتلفزيونية عديدة منذ خمسينات القرن العشرين.
أما الحقيقة (من حيث أقدمية الوصول إلى هوليوود فحسب وليس من زاوية حجم الأعمال وتنوع الأدوار) فهي أن أول عربي تمكن من طرق أبواب هوليوود، ووقف أمام كاميراتها، بل ومثّـل إلى جانب النجم الأمريكي الكبير «جون واين» كان نجديا من مدينة بريدة السعودية في منطقة القصيم!
قد يندهش البعض من هذا الكلام، وقد يعتبره آخرون مجرد محاولة لتلميع أبناء الخليج والجزيرة العربية ممن ظلوا على الدوام مصنفين في أدبيات عرب الشمال كأرقام هامشية لا قدرة لها على الإبداع والبروز، لكن المطلعين على تاريخ منطقة القصيم، وسير عائلاتها العريقة وهجراتهم شرقا صوب الخليج والهند وشمالا نحو العراق وبلاد الشام ومصر، هم وحدهم من لا يجدون غرابة في ما ذكرناه. فأهل القصيم -طبقا لما كتبه ذات مرة طارق الحميد في صحيفة «الشرق الأوسط»- يمثلون حالة غريبة تستعصي على الفهم وتغري بالتأمل، بمعنى أنك حين تتأمل في الأسماء التي أنتجتها هذه المنطقة ستجد بينها رموزا لكل التيارات المتناقضة من حداثية وتقليدية وسلفية متشددة وإسلامية معتدلة وليبرالية وتكفيرية ومتصوفة وشيوعية وبعثية وناصرية إلى جانب رموز المال والأعمال الناجحين والفاشلين.
صاحبنا القصيمي، الذي دخل التاريخ كأول عربي يقتحم هوليوود، اسمه «خليل بن إبراهيم الرواف»، من مواليد مدينة بريدة في عام 1895 (هناك رواية أخرى تقول إنه ولد في دمشق لعائلة نجدية كانت مقيمة هناك بسبب عملها في حراسة قوافل حجاج بيت الله الحرام من الشام إلى الديار المقدسة).
أما حكاية سفره إلى الولايات المتحدة ووصوله إلى استوديوهات هوليوود فإنها مشوقة ومليئة بالإثارة والأحداث الدرامية كونه لم يكن يقصد الوصول إلى الأخيرة، بل لم يكن في نيته السفر إلى أمريكا إطلاقا، فما الذي حدث يا ترى؟.
كان الرواف قد اعتاد التنقل ما بين نجد وكل من العراق وسورية والأردن ومصر لبيع الإبل، شأنه في ذلك شأن نجديين كثر ممن امتهنوا هذه التجارة في العقود الأولى من القرن العشرين وسموا بـ«العقيلات». وفي إحدى زياراته التجارية للعراق في عام 1932 نزل في فندق دجلة ببغداد، حيث كانت تقيم سائحة أمريكية شقراء ثرية تدعى «فرانسيس أليسون».
ويبدو أن نوعا من الود والاستلطاف حدث ما بين الرواف والشقراء الأمريكية خصوصا أن الأول أراد معرفة المزيد من المعلومات عن أمريكا، والثانية أرادت التوسع في فهم ثقافة وعادات العرب. ولما كانت لغة الاتصال بينهما مفقودة بسبب عدم تحدث أي منهما للغة الآخر، أوكل الطرفان مهمة الترجمة إلى شخص يجيد العربية والإنجليزية تصادف وجوده في فندق دجلة آنذاك. ولم يكن هذا الشخص سوى «الدكتور خير الله»، أحد أوائل المهاجرين العرب إلى أمريكا.
وهكذا توطدت العلاقة بين النجدي الأسمر والأمريكية الشقراء، وقرر الأول أن يترك أعماله لمرافقة الثانية في رحلتها من بغداد إلى دمشق فبيروت. وحينما وصلا إلى بيروت استقلت فرانسيس الباخرة عائدة إلى نيويورك بعدما عاهدت الرواف على الحب ووعدته بالعودة إلى بلاد الشام كي تعتنق الإسلام وتتزوجه. وبالفعل أوفت الأمريكية بوعدها، وتزوجت بائع الجمال النجدي، ودبرت له من سفارة بلادها في بيروت البطاقة الخضراء التي تتيح لحاملها دخول الولايات المتحدة والإقامة والعمل بها. ثم غادرا بلاد الشام معا إلى أمريكا بحرا فوصلاها في عام 1935.
كان هم فرانسيس الأول منذ لحظة عودتها إلى بلادها مع عريسها العربي أن تدمجه في مجتمعها وثقافتها الغربية، فقامت بالطواف به على مختلف الولايات الأمريكية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا في رحلات امتدت إلى أسابيع طويلة، كما أنفقت بسخاء على تعليمه اللغة الإنجليزية وقواعد الإتيكيت وتقديمه إلى رموز مجتمعها المخملي من خلال مآدب وحفلات صاخبة يتصدرها رجال المال والأعمال والفن والإعلام. وعلى حين كانت الزوجة تفاخر أمام أصدقائها وصديقاتها بزوجها القادم من وراء المحيطات، كان الزوج يشعر في داخله بشيء من الغربة وعدم الارتياح لما يحدث حوله من مباهج وتصرفات غريبة على العادات والتقاليد البدوية التي نشأ عليها.
وهكذا لم يمض وقت طويل وإلا علاقة العشق والغرام والإعجاب المتبادل التي بدأت على ضفاف دجلة تذبل على شواطئ الأطلسي وتحل محلها الخلافات المتكررة بين الزوجين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى وقوع الطلاق بينهما. ولما كانا قد تزوجا وفق الشريعة الإسلامية خارج الولايات المتحدة فإنهما اضطرا للعودة إلى الشام كي يتطلقا وفقا للشريعة الإسلامية نفسها. ومما يُـذكر أن الشقراء الأمريكية عينت المحامي السوري «فارس الخوري»، الذي صار في ما بعد أول رئيس لوزراء سورية المستقلة، وكيلا لها في عملية الحصول على الطلاق، كما أنها استعانت في سبيل ذلك بجهود الشيخ فوزان السابق الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية في مصر آنذاك، والذي كان وقت زواجها من الرواف ممثلا لعظمة سلطان نجد وملحقاتها في بلاد الشام. بعد طلاقه من فرانسيس عاد الرواف إلى الولايات المتحدة مستفيدا من البطاقة الخضراء التي كان يحملها، بل تمكن من الوصول إلى هوليوود دون عناء بسبب عاملين أولهما ثانوي وهو إجادة اللغة الإنجليزية، وثانيهما الشهرة التي كان قد اكتسبها من تغطية وسائل الإعلام الأمريكية لخبر زواجه من الثرية فرانسيس وتجوالهما في ربوع الولايات المتحدة وحضورهما لحفلات علية القوم من الأثرياء ونجوم السينما والإعلام.
في استوديوهات هوليوود عمل الرواف مستشارا فنيا للتراث العربي والعادات البدوية والتقاليد الشرقية. وعلاوة على ذلك تم منحه فرصة الوقوف أمام نجم أفلام الويسترن المعروف «جون واين» لتجسيد دور حارس بدوي لشيخ قبيلة في بادية العراق في فيـلم اسمه I Cover the War وترجمته «كنت مراسلا حربيا»، وهو فيلم أنتج في عام 1937 وأخرجه «أرثر لوبين».
لاحقا قام الرواف بتأليف كتاب حول كيفية تعلم العربية، وأردفه بافتتاح مدرستين لتعليم اللغة العربية والتعاليم الإسلامية للأمريكيين الراغبين في التعرف على ثقافة الشرق. وما بين هذا وذاك عمل لفترة مترجما لدى البعثة السعودية في الأمم المتحدة.
في مدرسته تشاء الصدف أن يلتقي بمن تصبح زوجته الثانية وهي الشابة الأمريكية «كونستانس ويلمان» التي كانت قد زارت أوروبا لاستكشافها والاقتراب من ثقافتها بتشجيع من والدها المحامي، فسمعت هناك أن الحضارة العربية هي أساس الحضارة الغربية، فقررت بعد عودتها إلى وطنها أن تتعرف على المزيد من ثقافة الشرق وسحره، فكان أن قادها ذلك الشغف إلى مدرسة الرواف، حيث أعجب صاحبها بالفتاة الأمريكية الصغيرة واعتقد أن حبها للثقافة والحضارة العربيتين سوف يقرب المسافات بينهما ويحول دون تكرار ما حدث بينه وبين زوجته الأولى، فتزوجا في عام 1946، وفي العام التالي رزقا بولد سمياه «نواف». لكن الرواف لم يستطع التكيف مع زوجته الجديدة، وكان السبب مرة أخرى اختلاف الطباع وفارق السن، علاوة على أمور أخرى تحدثت عنها كونستانس بقولها: «كان والدي محاميا مشهورا في نيويورك ويشجعنا على البحث والدارسة وبعد عودتي من أوروبا قابلت الدكتور خير الله الذي نصحني بتعلم اللغة العربية في مدارس الرواف، وهو ما تم فعلا وكان يقوم بتعليمي فأحب كل منا الآخر وتزوجنا ورزقنا بطفل. ثم بدأت الخلافات تظهر بيننا بسبب غيرته الشديدة، وتبدل آرائه عن المرأة وعملها وملابسها في المناسبات الاجتماعية، ناهيك عن أنه أخفى عني خبر زواجه الأول من سيدة أمريكية».
ويبدو أن كونستانس أرادت الانتقام من الرواف لما فعله بها فأخفت ابنه نواف عن أنظاره خوفا من أن يختطفه ويهرب به إلى خارج الحدود الأمريكية. أما الرواف فقد دب اليأس إليه في أعقاب زيجتيه الفاشلتين فقرر تصفية مدرستيه وكل أعماله التجارية في الولايات المتحدة بعد عام من انفصاله عن أم نواف، وسافر من أمريكا إلى مصر حيث تزوج مجددا، لكن هذه المرة من سيدة مصرية من الإسكندرية. وقد أنجبت له الأخيرة ابنتين هما: أميمة التي تعمل بالتدريس، وآسيا الطبيبة الاستشارية في المستشفى العسكري بالرياض.
رحلات البحث عن ابنه
عاد الرواف إلى وطنه مثقلا بتجارب خمسين عاما من التنقل والمغامرة والأمل واليأس والفرح والحزن، ليقضي السنوات التالية من عمره والتي تجاوزت 100 عام منشغلا بأمر واحد هو كيفية العثور على ابنه «نواف» واستعادته من طليقته. ولتحقيق هذا الهدف قام بعدة محاولات لم يحالف أيا منها النجاح المأمول. ففي عام 1958 مثلا سافر إلى الولايات المتحدة برفقة الأمير طلال بن عبدالعزيز الذي تواصل مع كونستانس وحاول إقناعها -دون نجاح- أن تتنازل عن حضانة نواف لأبيه مع تعهد شخصي من سموه بالإشراف على تربيته ورعايته. وفي عام 1962 زار الولايات المتحدة مرة أخرى برفقة زوجته المصرية وابنتيه عله يعثر على نواف، لكنه لم يجد أثرا لا لنواف ولا لأمه كونستانس. كما أن زيارته الثالثة للولايات المتحدة في عام 1987 للغرض ذاته كانت كسابقتيها من حيث الفشل والإحباط. فأين يا ترى اختفى نواف الذي لم يقابل والده إلا في سن الخامسة والأربعين، أي حينما كان أبوه خليل قد بلغ من العمر 95 عاما؟ تقول المصادر المتنوعة التي اطلعتُ عليها أن «كونستانس ويلمان» بعدما تطلقتْ من الرواف بعام واحد تزوجتْ من عربي آخر هو الشاعر المصري «أحمد زكي أبو شادي»، أحد مؤسسي جماعة أبللو الشعرية. كانت كونستانس قد تعرفتْ على «أبوشادي» يوم أن أتى إلى مكتب الرواف باحثا عن وظيفة، وبعد زواجهما تبنى أبوشادي الطفل نواف الذي كانت أمه قد غيرت اسمه إلى «كلايف» في سن الثالثة، فصار اسمه بعد التبني «كلايف أبوشادي»، علما أن «أبوشادي» حرص على معاملة الطفل نواف معاملته لابنه رمزي وابنتيه هدى وصفية من زوجته المصرية، لاسيما أنه كان يعرف الرواف، وكان من ضمن من عملوا معه في الوفد السعودي في هيئة الأمم المتحدة.
ويمكن القول إن ما جعل وصول الرواف إلى ابنه أمرا صعبا ومعقدا، ليس فقط تغيير اسم الطفل من «نواف خليل الرواف» إلى «كلايف أبوشادي»، وإنما أيضا رحيل «أبوشادي» إلى جوار ربه دون أن يُخبر أبناءه من زوجته الأولى بالاسم الحقيقي لـ«كلايف»، هذا ناهيك عن أن نواف فضّــل في فترة لاحقة (حينما عرف أن «أبوشادي» ليس والده الحقيقي) أنْ يتسمى باسم عائلة والدته فصار اسمه «كلايف ويلمان»، بدلا من «كلايف أبوشادي».
وفي هذا السياق، قال نواف في مقابلة صحفية أجرته معه مجلة «المجلة» (العدد 611 عام 1991) لاستجلاء قصته الغريبة ما خلاصته أنه بعد وفاة «أبوشادي» الذي رباه وتولى رعايته «كنت أقلب أوراق أبي ووجدت شهادة ميلادي وقد تغير اسمي من نواف إلى كلايف، فسألت والدتي فقالت نعم! أبوشادي ليس والدك.. والدك طلقني وذهب إلى السعودية. وكانت والدتي قد تزوجت من البريطاني «كيث غارني» وانتقلنا لبريطانيا حيث بقيت هناك حتى بلغت سن الثامنة عشرة. ثم عدنا لأمريكا واشتركت في حرب فيتنام خلال 1969-1974. سألتُ والدتي بعفوية عن والدي فقالت: اطلب من السفارة السعودية معلومات عنه.. فكتبت للسفارة أربعة خطابات ولم أحظ بأي رد».
بحث الـ 42 عاماً يثمر.. نـواف برفقـة والـده
في عام 1974 كان «عثمان ياسين الرواف» ابن أخ خليل الرواف على وشك السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبتعثا من قبل جامعة الملك سعود لنيل درجة الدكتوراه من جامعة ديوك في ولاية كارولينا، فما كان من عمه خليل إلا أن أوصاه بتحقيق ما عجز عنه وهو العثور على «نواف»، مشددا عليه أن يطلب العون والمساعدة من السفارة السعودية في واشنطن.
لنترك هنا عثمان يروي لنا ما فعله طبقا لما هو منشور في عدد مجلة «المجلة» الذي أتينا على ذكره آنفا: «جئت إلى السفارة حيث قال لي موظف فلسطيني كبير السن كان يعمل فيها أنه يعرف القصة. وقادني إلى صفية أبو شادي، التي كانت تعمل في إذاعة صوت أمريكا». ويضيف عثمان: «قالت لي صفية إنها تعرف نواف وإن والدها شادي كان متزوجا من والدته بعد طلاقها من خليل الرواف وإنه تبناه وأطلق عليه اسم كلايف أبوشادي، وإنهما -أي نواف وصفية- عاشا في منزل واحد لسنوات عدة إلى أن توفي والدها وتزوجت أم نواف رجلا آخر لا تعرف شيئا عنه. ثم قالت صفية أبو شادي مستطردة إنها سمعت من أحدهم أن نواف أو كلايف حارب معه في فيتنام في عام 1975 ضمن القوات الأمريكية التي أرسلت إلى هناك لصد الزحف الشيوعي». هنا فقط تجدد الأمل لدى عثمان الرواف في العثور على ابن عمه. فطالما أنه خدم في حرب فيتنام، فلا بد أن لدى الجيش الأمريكي معلومات عنه.
يقول عثمان الرواف: «كتبت إلى وزارة الدفاع الأمريكية طالبا منها تزويدي باسم المستشفى الذي ولد فيه، ورقم بطاقة التأمين الاجتماعي الخاصة به ومكان عمله الحالي». ويستطرد قائلا إن كل ذلك لم يساعد في العثور عليه، إلى أن اقترح عليه أحد معارفه الأمريكيين نشر إعلان في مجلة عسكرية أمريكية خاصة بالمحاربين القدامى في صيغة «أنا عثمان الرواف، عنواني كذا، وأبحث عن ابن عمي الذي حارب في فيتنام... إلخ الخ». لكن حتى هذه العملية لم تؤت ثمارها لسبب بسيط هو أن ياسين كان يبحث عن كلايف أبوشادي فيما كان الأخير قد بدل اسمه إلى كلايف ويلمان كما سبق أن بينا. لم ييأس عثمان الرواف، على الرغم من كل العقبات والفشل المتكرر الذي واجهه على مدى زمني طويل من البحث المستمر. كان الأمر بمثابة تحد له لابد من الفوز به؛ لذا نجده لا يكل ولا يمل، وكلما فرغ من طرق باب راح يطرق أبوابا أخرى. فقد سأل عنه مثلا عند القوات الأمريكية التي جاءت إلى السعودية لتحرير الكويت في عام 1990، وكاتب قيادة فرقة الفرسان الأولى في ولاية تكساس حينما نما إلى سمعه أن ابن عمه كان يخدم في تلك الفرقة، واستمر على هذا المنوال إلى أن جاء الفرج في عام 1991.
ففي تلك السنة ذهب عثمان إلى الولايات المتحدة، وكان وقتها قد أكمل رسالة الدكتوراه، والتقى هناك صدفة بأحد زملاء دراسته في جامعة ديوك، وكان هذا الأخير قد أصبح موظفا في وزارة الخارجية الأمريكية. وحينما سمع الأمريكي من عثمان قصة ابن عمه الغريبة وعده بأن يولي الموضوع عناية خاصة، وأعطاه اسم وعنوان محقق خاص ذي كفاءة ليتولى البحث. ولم تمض ثلاثة أيام إلا والمحقق يفضي ببيانات مهمة لعثمان عن ابن عمه المفقود، إذ تبين أنه تسمى باسم «كلايف ويلمان» وأنه تزوج مرتين آخرهما من فتاة من أصل عربي سوري، وأنه يعمل مثمن عقارات، ويقيم في مدينة ميرامار بولاية فلوريدا، ولديه ابنتان.
وبطبيعة الحال تم اللقاء بين عثمان وابن عمه في فلوريدا سريعا، لكن الأهم كان لقاء نواف بوالده خليل الرواف الذي ظل نحو نصف قرن ينتظر أن تكتحل عيناه برؤية ولده إلى أن تم له ذلك في عام 2000 أي قبل وفاته بخمسة أعوام.
الاعتقاد السائد عند الكثيرين هو أن الممثل المصري عمر الشريف كان أول من اقتحم استوديوهات هوليوود من العرب وعمل بها منذ العام 1962 مؤديا أدوارا خالدة في تاريخ السينما العالمية أمام كبار نجومها ونجماتها، غير أن هناك من يقول إن اللبناني «محمد لاقطين» الذي أطلق على نفسه اسم «فرانك لاكتين» قد سبق عمر الشريف في ذلك مستشهدين بالفيلم الذي ظهر فيه تحت عنوان «الخط الأصفر» من إنتاج عام 1961. وهناك فريق ثالث يذكر في السياق نفسه اسم الممثل الأمريكي من أصل لبناني «جورج نادر»، خصوصا أن هذا صاحب مشاركات سينمائية وتلفزيونية عديدة منذ خمسينات القرن العشرين.
أما الحقيقة (من حيث أقدمية الوصول إلى هوليوود فحسب وليس من زاوية حجم الأعمال وتنوع الأدوار) فهي أن أول عربي تمكن من طرق أبواب هوليوود، ووقف أمام كاميراتها، بل ومثّـل إلى جانب النجم الأمريكي الكبير «جون واين» كان نجديا من مدينة بريدة السعودية في منطقة القصيم!
قد يندهش البعض من هذا الكلام، وقد يعتبره آخرون مجرد محاولة لتلميع أبناء الخليج والجزيرة العربية ممن ظلوا على الدوام مصنفين في أدبيات عرب الشمال كأرقام هامشية لا قدرة لها على الإبداع والبروز، لكن المطلعين على تاريخ منطقة القصيم، وسير عائلاتها العريقة وهجراتهم شرقا صوب الخليج والهند وشمالا نحو العراق وبلاد الشام ومصر، هم وحدهم من لا يجدون غرابة في ما ذكرناه. فأهل القصيم -طبقا لما كتبه ذات مرة طارق الحميد في صحيفة «الشرق الأوسط»- يمثلون حالة غريبة تستعصي على الفهم وتغري بالتأمل، بمعنى أنك حين تتأمل في الأسماء التي أنتجتها هذه المنطقة ستجد بينها رموزا لكل التيارات المتناقضة من حداثية وتقليدية وسلفية متشددة وإسلامية معتدلة وليبرالية وتكفيرية ومتصوفة وشيوعية وبعثية وناصرية إلى جانب رموز المال والأعمال الناجحين والفاشلين.
صاحبنا القصيمي، الذي دخل التاريخ كأول عربي يقتحم هوليوود، اسمه «خليل بن إبراهيم الرواف»، من مواليد مدينة بريدة في عام 1895 (هناك رواية أخرى تقول إنه ولد في دمشق لعائلة نجدية كانت مقيمة هناك بسبب عملها في حراسة قوافل حجاج بيت الله الحرام من الشام إلى الديار المقدسة).
أما حكاية سفره إلى الولايات المتحدة ووصوله إلى استوديوهات هوليوود فإنها مشوقة ومليئة بالإثارة والأحداث الدرامية كونه لم يكن يقصد الوصول إلى الأخيرة، بل لم يكن في نيته السفر إلى أمريكا إطلاقا، فما الذي حدث يا ترى؟.
كان الرواف قد اعتاد التنقل ما بين نجد وكل من العراق وسورية والأردن ومصر لبيع الإبل، شأنه في ذلك شأن نجديين كثر ممن امتهنوا هذه التجارة في العقود الأولى من القرن العشرين وسموا بـ«العقيلات». وفي إحدى زياراته التجارية للعراق في عام 1932 نزل في فندق دجلة ببغداد، حيث كانت تقيم سائحة أمريكية شقراء ثرية تدعى «فرانسيس أليسون».
ويبدو أن نوعا من الود والاستلطاف حدث ما بين الرواف والشقراء الأمريكية خصوصا أن الأول أراد معرفة المزيد من المعلومات عن أمريكا، والثانية أرادت التوسع في فهم ثقافة وعادات العرب. ولما كانت لغة الاتصال بينهما مفقودة بسبب عدم تحدث أي منهما للغة الآخر، أوكل الطرفان مهمة الترجمة إلى شخص يجيد العربية والإنجليزية تصادف وجوده في فندق دجلة آنذاك. ولم يكن هذا الشخص سوى «الدكتور خير الله»، أحد أوائل المهاجرين العرب إلى أمريكا.
وهكذا توطدت العلاقة بين النجدي الأسمر والأمريكية الشقراء، وقرر الأول أن يترك أعماله لمرافقة الثانية في رحلتها من بغداد إلى دمشق فبيروت. وحينما وصلا إلى بيروت استقلت فرانسيس الباخرة عائدة إلى نيويورك بعدما عاهدت الرواف على الحب ووعدته بالعودة إلى بلاد الشام كي تعتنق الإسلام وتتزوجه. وبالفعل أوفت الأمريكية بوعدها، وتزوجت بائع الجمال النجدي، ودبرت له من سفارة بلادها في بيروت البطاقة الخضراء التي تتيح لحاملها دخول الولايات المتحدة والإقامة والعمل بها. ثم غادرا بلاد الشام معا إلى أمريكا بحرا فوصلاها في عام 1935.
كان هم فرانسيس الأول منذ لحظة عودتها إلى بلادها مع عريسها العربي أن تدمجه في مجتمعها وثقافتها الغربية، فقامت بالطواف به على مختلف الولايات الأمريكية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا في رحلات امتدت إلى أسابيع طويلة، كما أنفقت بسخاء على تعليمه اللغة الإنجليزية وقواعد الإتيكيت وتقديمه إلى رموز مجتمعها المخملي من خلال مآدب وحفلات صاخبة يتصدرها رجال المال والأعمال والفن والإعلام. وعلى حين كانت الزوجة تفاخر أمام أصدقائها وصديقاتها بزوجها القادم من وراء المحيطات، كان الزوج يشعر في داخله بشيء من الغربة وعدم الارتياح لما يحدث حوله من مباهج وتصرفات غريبة على العادات والتقاليد البدوية التي نشأ عليها.
وهكذا لم يمض وقت طويل وإلا علاقة العشق والغرام والإعجاب المتبادل التي بدأت على ضفاف دجلة تذبل على شواطئ الأطلسي وتحل محلها الخلافات المتكررة بين الزوجين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى وقوع الطلاق بينهما. ولما كانا قد تزوجا وفق الشريعة الإسلامية خارج الولايات المتحدة فإنهما اضطرا للعودة إلى الشام كي يتطلقا وفقا للشريعة الإسلامية نفسها. ومما يُـذكر أن الشقراء الأمريكية عينت المحامي السوري «فارس الخوري»، الذي صار في ما بعد أول رئيس لوزراء سورية المستقلة، وكيلا لها في عملية الحصول على الطلاق، كما أنها استعانت في سبيل ذلك بجهود الشيخ فوزان السابق الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية في مصر آنذاك، والذي كان وقت زواجها من الرواف ممثلا لعظمة سلطان نجد وملحقاتها في بلاد الشام. بعد طلاقه من فرانسيس عاد الرواف إلى الولايات المتحدة مستفيدا من البطاقة الخضراء التي كان يحملها، بل تمكن من الوصول إلى هوليوود دون عناء بسبب عاملين أولهما ثانوي وهو إجادة اللغة الإنجليزية، وثانيهما الشهرة التي كان قد اكتسبها من تغطية وسائل الإعلام الأمريكية لخبر زواجه من الثرية فرانسيس وتجوالهما في ربوع الولايات المتحدة وحضورهما لحفلات علية القوم من الأثرياء ونجوم السينما والإعلام.
في استوديوهات هوليوود عمل الرواف مستشارا فنيا للتراث العربي والعادات البدوية والتقاليد الشرقية. وعلاوة على ذلك تم منحه فرصة الوقوف أمام نجم أفلام الويسترن المعروف «جون واين» لتجسيد دور حارس بدوي لشيخ قبيلة في بادية العراق في فيـلم اسمه I Cover the War وترجمته «كنت مراسلا حربيا»، وهو فيلم أنتج في عام 1937 وأخرجه «أرثر لوبين».
لاحقا قام الرواف بتأليف كتاب حول كيفية تعلم العربية، وأردفه بافتتاح مدرستين لتعليم اللغة العربية والتعاليم الإسلامية للأمريكيين الراغبين في التعرف على ثقافة الشرق. وما بين هذا وذاك عمل لفترة مترجما لدى البعثة السعودية في الأمم المتحدة.
في مدرسته تشاء الصدف أن يلتقي بمن تصبح زوجته الثانية وهي الشابة الأمريكية «كونستانس ويلمان» التي كانت قد زارت أوروبا لاستكشافها والاقتراب من ثقافتها بتشجيع من والدها المحامي، فسمعت هناك أن الحضارة العربية هي أساس الحضارة الغربية، فقررت بعد عودتها إلى وطنها أن تتعرف على المزيد من ثقافة الشرق وسحره، فكان أن قادها ذلك الشغف إلى مدرسة الرواف، حيث أعجب صاحبها بالفتاة الأمريكية الصغيرة واعتقد أن حبها للثقافة والحضارة العربيتين سوف يقرب المسافات بينهما ويحول دون تكرار ما حدث بينه وبين زوجته الأولى، فتزوجا في عام 1946، وفي العام التالي رزقا بولد سمياه «نواف». لكن الرواف لم يستطع التكيف مع زوجته الجديدة، وكان السبب مرة أخرى اختلاف الطباع وفارق السن، علاوة على أمور أخرى تحدثت عنها كونستانس بقولها: «كان والدي محاميا مشهورا في نيويورك ويشجعنا على البحث والدارسة وبعد عودتي من أوروبا قابلت الدكتور خير الله الذي نصحني بتعلم اللغة العربية في مدارس الرواف، وهو ما تم فعلا وكان يقوم بتعليمي فأحب كل منا الآخر وتزوجنا ورزقنا بطفل. ثم بدأت الخلافات تظهر بيننا بسبب غيرته الشديدة، وتبدل آرائه عن المرأة وعملها وملابسها في المناسبات الاجتماعية، ناهيك عن أنه أخفى عني خبر زواجه الأول من سيدة أمريكية».
ويبدو أن كونستانس أرادت الانتقام من الرواف لما فعله بها فأخفت ابنه نواف عن أنظاره خوفا من أن يختطفه ويهرب به إلى خارج الحدود الأمريكية. أما الرواف فقد دب اليأس إليه في أعقاب زيجتيه الفاشلتين فقرر تصفية مدرستيه وكل أعماله التجارية في الولايات المتحدة بعد عام من انفصاله عن أم نواف، وسافر من أمريكا إلى مصر حيث تزوج مجددا، لكن هذه المرة من سيدة مصرية من الإسكندرية. وقد أنجبت له الأخيرة ابنتين هما: أميمة التي تعمل بالتدريس، وآسيا الطبيبة الاستشارية في المستشفى العسكري بالرياض.
رحلات البحث عن ابنه
عاد الرواف إلى وطنه مثقلا بتجارب خمسين عاما من التنقل والمغامرة والأمل واليأس والفرح والحزن، ليقضي السنوات التالية من عمره والتي تجاوزت 100 عام منشغلا بأمر واحد هو كيفية العثور على ابنه «نواف» واستعادته من طليقته. ولتحقيق هذا الهدف قام بعدة محاولات لم يحالف أيا منها النجاح المأمول. ففي عام 1958 مثلا سافر إلى الولايات المتحدة برفقة الأمير طلال بن عبدالعزيز الذي تواصل مع كونستانس وحاول إقناعها -دون نجاح- أن تتنازل عن حضانة نواف لأبيه مع تعهد شخصي من سموه بالإشراف على تربيته ورعايته. وفي عام 1962 زار الولايات المتحدة مرة أخرى برفقة زوجته المصرية وابنتيه عله يعثر على نواف، لكنه لم يجد أثرا لا لنواف ولا لأمه كونستانس. كما أن زيارته الثالثة للولايات المتحدة في عام 1987 للغرض ذاته كانت كسابقتيها من حيث الفشل والإحباط. فأين يا ترى اختفى نواف الذي لم يقابل والده إلا في سن الخامسة والأربعين، أي حينما كان أبوه خليل قد بلغ من العمر 95 عاما؟ تقول المصادر المتنوعة التي اطلعتُ عليها أن «كونستانس ويلمان» بعدما تطلقتْ من الرواف بعام واحد تزوجتْ من عربي آخر هو الشاعر المصري «أحمد زكي أبو شادي»، أحد مؤسسي جماعة أبللو الشعرية. كانت كونستانس قد تعرفتْ على «أبوشادي» يوم أن أتى إلى مكتب الرواف باحثا عن وظيفة، وبعد زواجهما تبنى أبوشادي الطفل نواف الذي كانت أمه قد غيرت اسمه إلى «كلايف» في سن الثالثة، فصار اسمه بعد التبني «كلايف أبوشادي»، علما أن «أبوشادي» حرص على معاملة الطفل نواف معاملته لابنه رمزي وابنتيه هدى وصفية من زوجته المصرية، لاسيما أنه كان يعرف الرواف، وكان من ضمن من عملوا معه في الوفد السعودي في هيئة الأمم المتحدة.
ويمكن القول إن ما جعل وصول الرواف إلى ابنه أمرا صعبا ومعقدا، ليس فقط تغيير اسم الطفل من «نواف خليل الرواف» إلى «كلايف أبوشادي»، وإنما أيضا رحيل «أبوشادي» إلى جوار ربه دون أن يُخبر أبناءه من زوجته الأولى بالاسم الحقيقي لـ«كلايف»، هذا ناهيك عن أن نواف فضّــل في فترة لاحقة (حينما عرف أن «أبوشادي» ليس والده الحقيقي) أنْ يتسمى باسم عائلة والدته فصار اسمه «كلايف ويلمان»، بدلا من «كلايف أبوشادي».
وفي هذا السياق، قال نواف في مقابلة صحفية أجرته معه مجلة «المجلة» (العدد 611 عام 1991) لاستجلاء قصته الغريبة ما خلاصته أنه بعد وفاة «أبوشادي» الذي رباه وتولى رعايته «كنت أقلب أوراق أبي ووجدت شهادة ميلادي وقد تغير اسمي من نواف إلى كلايف، فسألت والدتي فقالت نعم! أبوشادي ليس والدك.. والدك طلقني وذهب إلى السعودية. وكانت والدتي قد تزوجت من البريطاني «كيث غارني» وانتقلنا لبريطانيا حيث بقيت هناك حتى بلغت سن الثامنة عشرة. ثم عدنا لأمريكا واشتركت في حرب فيتنام خلال 1969-1974. سألتُ والدتي بعفوية عن والدي فقالت: اطلب من السفارة السعودية معلومات عنه.. فكتبت للسفارة أربعة خطابات ولم أحظ بأي رد».
بحث الـ 42 عاماً يثمر.. نـواف برفقـة والـده
في عام 1974 كان «عثمان ياسين الرواف» ابن أخ خليل الرواف على وشك السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبتعثا من قبل جامعة الملك سعود لنيل درجة الدكتوراه من جامعة ديوك في ولاية كارولينا، فما كان من عمه خليل إلا أن أوصاه بتحقيق ما عجز عنه وهو العثور على «نواف»، مشددا عليه أن يطلب العون والمساعدة من السفارة السعودية في واشنطن.
لنترك هنا عثمان يروي لنا ما فعله طبقا لما هو منشور في عدد مجلة «المجلة» الذي أتينا على ذكره آنفا: «جئت إلى السفارة حيث قال لي موظف فلسطيني كبير السن كان يعمل فيها أنه يعرف القصة. وقادني إلى صفية أبو شادي، التي كانت تعمل في إذاعة صوت أمريكا». ويضيف عثمان: «قالت لي صفية إنها تعرف نواف وإن والدها شادي كان متزوجا من والدته بعد طلاقها من خليل الرواف وإنه تبناه وأطلق عليه اسم كلايف أبوشادي، وإنهما -أي نواف وصفية- عاشا في منزل واحد لسنوات عدة إلى أن توفي والدها وتزوجت أم نواف رجلا آخر لا تعرف شيئا عنه. ثم قالت صفية أبو شادي مستطردة إنها سمعت من أحدهم أن نواف أو كلايف حارب معه في فيتنام في عام 1975 ضمن القوات الأمريكية التي أرسلت إلى هناك لصد الزحف الشيوعي». هنا فقط تجدد الأمل لدى عثمان الرواف في العثور على ابن عمه. فطالما أنه خدم في حرب فيتنام، فلا بد أن لدى الجيش الأمريكي معلومات عنه.
يقول عثمان الرواف: «كتبت إلى وزارة الدفاع الأمريكية طالبا منها تزويدي باسم المستشفى الذي ولد فيه، ورقم بطاقة التأمين الاجتماعي الخاصة به ومكان عمله الحالي». ويستطرد قائلا إن كل ذلك لم يساعد في العثور عليه، إلى أن اقترح عليه أحد معارفه الأمريكيين نشر إعلان في مجلة عسكرية أمريكية خاصة بالمحاربين القدامى في صيغة «أنا عثمان الرواف، عنواني كذا، وأبحث عن ابن عمي الذي حارب في فيتنام... إلخ الخ». لكن حتى هذه العملية لم تؤت ثمارها لسبب بسيط هو أن ياسين كان يبحث عن كلايف أبوشادي فيما كان الأخير قد بدل اسمه إلى كلايف ويلمان كما سبق أن بينا. لم ييأس عثمان الرواف، على الرغم من كل العقبات والفشل المتكرر الذي واجهه على مدى زمني طويل من البحث المستمر. كان الأمر بمثابة تحد له لابد من الفوز به؛ لذا نجده لا يكل ولا يمل، وكلما فرغ من طرق باب راح يطرق أبوابا أخرى. فقد سأل عنه مثلا عند القوات الأمريكية التي جاءت إلى السعودية لتحرير الكويت في عام 1990، وكاتب قيادة فرقة الفرسان الأولى في ولاية تكساس حينما نما إلى سمعه أن ابن عمه كان يخدم في تلك الفرقة، واستمر على هذا المنوال إلى أن جاء الفرج في عام 1991.
ففي تلك السنة ذهب عثمان إلى الولايات المتحدة، وكان وقتها قد أكمل رسالة الدكتوراه، والتقى هناك صدفة بأحد زملاء دراسته في جامعة ديوك، وكان هذا الأخير قد أصبح موظفا في وزارة الخارجية الأمريكية. وحينما سمع الأمريكي من عثمان قصة ابن عمه الغريبة وعده بأن يولي الموضوع عناية خاصة، وأعطاه اسم وعنوان محقق خاص ذي كفاءة ليتولى البحث. ولم تمض ثلاثة أيام إلا والمحقق يفضي ببيانات مهمة لعثمان عن ابن عمه المفقود، إذ تبين أنه تسمى باسم «كلايف ويلمان» وأنه تزوج مرتين آخرهما من فتاة من أصل عربي سوري، وأنه يعمل مثمن عقارات، ويقيم في مدينة ميرامار بولاية فلوريدا، ولديه ابنتان.
وبطبيعة الحال تم اللقاء بين عثمان وابن عمه في فلوريدا سريعا، لكن الأهم كان لقاء نواف بوالده خليل الرواف الذي ظل نحو نصف قرن ينتظر أن تكتحل عيناه برؤية ولده إلى أن تم له ذلك في عام 2000 أي قبل وفاته بخمسة أعوام.