في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة، ونظرا لعدم توافر الكوادر الوطنية الخبيرة، اقتضت الضرورة أن يستعين مؤسسها المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، ببعض الشخصيات النخبوية المتخصصة من مختلف الدول العربية الشقيقة، ليساهموا معه، ومع أنجاله في بناء الدولة العصرية، وتوطيد دعائمها، وتقديم المشورة اللازمة في الشؤون السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية وخلافها. فقام من تمت الاستعانة بهم بأداء المطلوب منهم خير قيام، وأخلصوا أيما إخلاص للملك المؤسس الذي أبقى عليهم، وشرّفهم بحمل الجنسية السعودية.
أحد هؤلاء، بل الذي بزّ الآخرين لجهة الشهرة وحمل الأمانة والتفاني في خدمة أمته العربية والإسلامية، والاضطلاع بمسؤوليات عدة، ومصاحبة الملك المؤسس وأنجاله الكرام في تنقلاتهم الخارجية، شخصية مصرية شاءت الأقدار له أن يُبعد عن بلده الأم، ويتغرب في بلدان عديدة، ويزاول مهنا مختلفة، قبل أن يستقطبه الملك عبدالعزيز ويعهد إليه ببعض الأعباء المحددة، لما لمسه فيه من خبرة واطلاع واستقامة وغيرة وطنية، معطوفا على ما سمعه عن سيرته وصولاته وجولاته في ميادين العلم والثقافة.
المعني بهذه المقدمة هو الشيخ حافظ وهبة، الذي يمكن تعريفه باختصار شديد أنه أحد المستشارين السياسيين في ديوان الملك عبدالعزيز، وأول ممثل لجلالته لدى بلاط السانت جيمس، وأول من حصل على جواز سعودي دبلوماسي، وأحد الذين ساهموا في تأسيس وتطوير النظام التعليمي في الدولة السعودية، ومؤلف كتابين من أفضل الكتب لجهة توثيق أحوال شبه الجزيرة العربية، وتاريخه، وتقسيماته القبلية والمناطقية، وعادات سكانه وتقاليدهم، وسيرة المشاهير من رجالاته وقادته، وتوثيق رحلات الملك عبدالعزيز وإنجازاته، وهما كتاب «جزيرة العرب في القرن 20» وكتاب «50 عاماً في جزيرة العرب».
ولد حافظ وهبة بن رفاعي وهبة في حي بولاق الشعبي الفقير بالقاهرة عام 1889 (البعض يورد تاريخا آخر لميلاده هو 1891) لأسرة محافظة متوسطة الحال. وتقول سيرته الدراسية إن والده ألحقه بأحد الكتاتيب في سن السادسة، فتعلم القراءة والكتابة والحساب ودرس القرآن الكريم وأكمل حفظه، ثم التحق لبعض الوقت بجامعة الأزهر، فمدرسة القضاء الشرعي حيث درس على يد مشايخ معروفين مثل الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ الخضري وغيرهم، لكنه هجر المدرستين ولم يكمل دراسته في أي منهما لأسباب غير معروفة.
أما سيرته العملية فقد جاء فيها أنه عمل بالقاهرة في صحيفة «اللواء» لسان حال الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907، الذي يبدو أن وهبة أعجب بأهدافه، وعلى رأسها هدف جلاء الإنجليز عن مصر، خصوصا أن الإنجليز كانوا يطاردونه بسبب مواقفه منهم، إلى أن أجبروه على ترك بلده إلى إسطنبول، حيث اتصل هناك بالمصلح المصري من أصل مغربي «عبدالعزيز خليل جاويش» الذي كان من رموز الحزب الوطني المبعدين إلى تركيا، بل كان مثل وهبة لجهة كراهيته للإنجليز، وكان يدير صحيفة أسسها في العام 1912 تحت اسم «الهلال العثماني». في إسطنبول سخر وهبة قلمه للكتابة ضد الإنجليز من خلال هذه الصحيفة.
وبينما هو في تركيا سمع عن تطورات المشوار النضالي للمهاتما غاندي الذي كان قد بدأه عام 1904 لتحرير بلاده من المستعمر البريطاني، فترك تركيا وسافر إلى الهند لأهداف عدة منها العمل بالتجارة، ومنها أيضا التعرف على حركة غاندي عن كثب، بدليل أنه مارس السياسة وهو في بومباي، بل إنه حاول أن يصدر صحيفة باللغة الإنجليزية بالتعاون مع «شوكت علي» شقيق الزعيم الهندي المسلم «محمد علي»، الذي يحمل أحد شوارع بومباي التجارية القديمة اسمه، لكي يهاجم من خلاله الإنجليز طبقا لما كتبه في جريدة القبس (16/6/2007) الباحث الأستاذ يعقوب يوسف الإبراهيم، وهو سليل أسرة تجارية كويتية عملت وأقامت طويلا في بومباي. غير أن الإنجليز كانوا له بالمرصاد، فاعتقلوه ورحلوه إلى الكويت عام 1915 أو 1914 (في قول آخر للمؤرخ الكويتي يوسف الشاهين، إن أسرة الإبراهيم استطاعت تهريب وهبة من الهند إلى مدينة «الدورة» في جنوب العراق، حيث كان آل الإبراهيم يملكون نفوذا وبساتين نخيل شاسعة، فعمل هناك في التدريس تحت اسم الملا حافظ).
كان وهبة أثناء وجوده في بومباي قد تعرف على العديد من تجار الخليج والجزيرة العربية المترددين على الهند أو المقيمين بها، ولا سيما تجار الكويت؛ لذا فإنه حينما حل بالكويت لم يشعر بالغربة، وطاب له المقام فيها بين أبنائها بسبب وجود بعض من سبق له أن تعرف عليه، ممن أخذوه بدورهم إلى مجالسهم وعرّفوه على كبار وجهائهم آنذاك (مثل رائد الإصلاح والنهضة الأدبية يوسف بن عيسى الجناعي، والأديب والمؤرخ وملاح الكويت الأول عيسى بن عبدالوهاب القطامي). ورويدا رويدا ذاع صيت وهبة في الكويت، وتوطدت علاقته مع شيوخها، فصار يحضر مجالسهم واستقبالاتهم لضيوفهم الرسميين، ومنهم الملك عبدالعزيز الذي التقاه لأول مرة في إحدى زياراته المبكرة لشيوخ الكويت في عام 1916. وبالمثل صار وهبة كثير التردد على المساجد الكويتية، ولا سيما مسجدها الأكبر المعروف بالمسجد الجامع لإلقاء دروس دينية، تتخللها دعوات توعوية حول خطر الاحتلال الأجنبي وضرورة مقاومته، وفي الوقت نفسه كان قد تمكن من الحصول على وظيفة معلم للغة العربية في المدرسة المباركية التي يعترف الكثيرون بفضله عليها، من حيث مساعدته لمديرها يوسف بن عيسى الجناعي في الإدارة والتطوير.
أما عن مغادرة وهبة للكويت، فثمة روايات من مصادر تاريخية مختلفة، إلا أن الرجل توجه إلى البحرين بعد مغادرة الكويت التي أحبها؛ إذ تزامن قدومه إليها مع افتتاح أول مدرسة نظامية للبنين فيها، وهي مدرسة الهداية الخليفية بالمحرق التي تأسست عام 1919 بتبرعات أعيان البلاد ومباركة حكامها، فعين أول مدير لهذه المدرسة. يقول الوجيه البحريني عبدالرحمن الزياني (طالع الصفحتين 160 و161 من كتاب «من ذاكرة البحرين» لعبدالحميد المحادين-طبعة 2007 الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) إن والده الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني الذي كان ضمن لجنة الإدارة الخيرية للتعليم بالبحرين أجـّر أحد منازله لوهبة وعين شخصا يدعى «إبراهيم البوي» لخدمته، ثم يضيف أنه «كان يتصل بالأندية وكانت له أهداف أوسع من التدريس، وربما كانت سياسية بشكل ما، خاتما حديثه بوصفه بـ(رجل دين وسياسة وتنوير، لذا لم يكن الإنجليز راضين عنه)» فأبعدوه من البحرين بعد عام واحد فقط من قدومه. وكان إبعاده إلى الهند برفقة البحريني قاسم الشيراوي عضو النادي الأدبي بالمحرق.
ويبدو أن وهبة تعرف هذه المرة في بومباي على الشيخ عبدالرحمن القصيبي، التاجر النجدي المعروف في الهند ووكيل الملك عبدالعزيز آل سعود في البحرين، الذي نصحه بمكاتبة سلطان نجد آنذاك. فعمل وهبة بالنصيحة وخط رسالة بليغة إلى عبدالعزيز آل سعود يطلب منه فيها الالتحاق بخدمته.
ويقال إن الملك عبدالعزيز أعجب كثيرا بأسلوب وهبة فدعاه إلى الرياض التي وصلها عام 1923 للعمل مستشارا سياسيا في ديوانه، قبل أن يوكل إليه مهمات أخرى على إثر قيام «المملكة العربية السعودية»، وبالتالي حاجتها لتوثيق صلاتها مع المجتمع الدولي والأقطار الشقيقة والصديقة. فعلى سبيل المثال أوكل إلى وهبة مهمة توثيق العلاقات السعودية/المصرية فرافق الأمير سعود في زيارته الأولى لمصر عام 1926. وقبل ذلك بعام كان قد عين مساعدا للأمير فيصل نائب الملك في الحجاز، فرافقه بهذه الصفة إلى الولايات المتحدة عام 1946 لحضور اجتماعات تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
كان وهبة أيضا ضمن أوائل من أوفدوا إلى خارج المملكة لتمثيلها في مؤتمرات أو لافتتاح ممثليات سعودية، خصوصا في أعقاب تأسيس وزارة الخارجية عام 1930 وتعيين الأمير فيصل بن عبدالعزيز على رأسها. يشهد على هذا تكليفه بترؤس الوفد السعودي إلى مؤتمر البريد العالمي في لندن سنة 1929، وتكليفه بترؤس الوفد السعودي للبحث مع وزير الخارجية العراقي ناجي شوكت حول الإعداد للقاء الملك عبدالعزيز وملك العراق فيصل الأول على ظهر البارجة البريطانية «لوبن» عام 1930، وإيفاده إلى لندن عام 1930 كأول وزير سعودي مفوض لدى الدولة التي كانت تطارده، وهي بريطانيا التي صار سفيرا معتمدا فيها ابتداء من عام 1938 (طالع عبدالرحمن الشبيلي في الشرق الأوسط 2/10/2013) وتعيينه في الوقت نفسه أول وزير سعودي مفوض لدى هولندا ابتداء من عام 1931، وإيفاده إلى اليابان في عام 1938 لتأسيس أول اتصال رسمي بين الرياض وطوكيو، وأيضا لافتتاح أول مسجد في العاصمة اليابانية بضاحية «يويوجي»، وإرساله في عام 1943 إلى الولايات المتحدة بمعية الأميرين فيصل وخالد ضمن أول وفد سعودي رسمي إلى هناك.
مما يجدر بنا ذكره أيضا، أنه تم تعيين وهبة عام 1926 مديرا للمعارف السعودية، مكلفا بتطوير التعليم النظامي، بسبب خبرته التربوية السابقة. وقد تحدث في كتابه «خمسون عاما في جزيرة العرب» عن الصعوبات والتطورات التي شهدتها السعودية في مجال التعليم فقال: «لم تكن توجد في البلاد مدارس تذكر في زمن الأتراك، وما وجد منها كان ابتدائياً قليل النفع، ففي إقليم الأحساء لم يؤسس بعد إعلان الدستور العثماني إلاّ مدرسة صغيرة واحدة، ولم يكن الوضع في الحجاز أحسن بكثير، فلما أتى الملك عبدالعزيز عمل على نشر العلوم والمعارف، وفتح المدارس، وأنشأ المعاهد العلمية غير عابئ بما لقيه في هذا المضمار من معارضة شديدة وصعوبات جمة».
إلى ما سبق، كان الرجل ضمن من دخلوا الحجاز مع الملك عبدالعزيز، فكلفه ببعض الإجراءات التنظيمية. كما كان في عام 1944 من بين الذين أسسوا المركز الثقافي الإسلامي بوسط لندن. وفي سنة 1959 كان أحد اثنين عينتهما الحكومة السعودية من مواطنيها في مجلس إدارة شركة أرامكو النفطية (الآخر هو الشيخ عبدالله الحمود الطريقي).
ويخبرنا منصور عساف في مقال له بصحيفة الرياض (20/2/2015) عن الجهود التي بذلها وهبة لترسيخ العلاقات السعودية/الأمريكية، وعن الملفات التي أثارها مع الجانب الأمريكي يوم أن سافر بمعية الأميرين فيصل وخالد إلى الولايات المتحدة في عام 1943، مبعوثين من لدن الملك المؤسس، فقال على سبيل المثال إن وهبة -بالاتفاق مع الأمير فيصل- طالب بأن يكون التعامل مع المملكة العربية السعودية تعاملا مباشرا دون وسيط، وأثار موضوع تأخر الولايات المتحدة في تزويد المملكة بحافلات نقل الحجيج من مركز تموين الشرق الأوسط بالقاهرة، وطالب بسرعة شحن احتياجات المملكة من الأدوية والمواد الطبية الضرورية، كما شرح للجانب الأمريكي حاجة المملكة لمنظومة اتصالات لاسلكية من أجل مواجهة أي تهديدات أمنية بالسرعة اللازمة.
وفي هذا المقال أيضا، وضع كاتبه حدا لما يتردد من علاقة وهبة بتصميم العلم السعودي، فأوضح أن هذه الصلة نفاها المؤرخان ابن بشر وعبدالرحمن الرويشد، كما نفاها الدكتور عبدالله ناصر السبيعي (المشرف على كرسي الملك سلمان بن عبدالعزيز للدراسات التاريخية والحضارية لشبه الجزيرة العربية)، لأن راية التوحيد استخدمت زمن الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، كما أن بدايات الدولة السعودية الثالثة شهدت استخدام الراية نفسها بعد إضافة سيفين متقاطعين إليها. وعليه فإن كانت لوهبة صلة بالعلم السعودي فإنها تقتصر على تحديد شكله (مستطيل عرضه يساوي ثلثي طوله)، واختيار نوع الخط المستخدم في عبارة التوحيد (خط الثلث)، ووضعها في منتصف العلم، وتحتها سيف تتجه قبضته نحو سارية العلم.
يخبرنا حمزة عليان في «القبس» الكويتية (4/1/2009) عن قصة زواج وهبة في الكويت فيقول ما مفاده إن الرجل حينما زار الكويت عام 1923 بصفته الرسمية مستشاراً في ديوان الملك عبدالعزيز، أقام في دار صديقه القديم الشيخ يوسف بن عيسى الجناعي، وأن الأخير اختار له زوجة من الدواسر هي «شيخة حسين المسعود» التي أنجبت له من الأولاد مصطفى، ومن البنات زينب التي تزوجها الكويتي يوسف راشد بورسلي، وصفية التي تزوجها السعودي عبدالمحسن موسى السيف. كما يخبرنا أن زوجته شيخة المسعود رفضت الانتقال معه إلى الحجاز، وفضلت البقاء في الكويت مع أولادها، تحت ضمانة ورعاية الشيخ يوسف الجناعي، ووكيل الملك عبدالعزيز بالكويت الشيخ سعود النفيسي.
والمعروف أن وهبة تزوج عدة مرات بعد ذلك، كانت إحداها من السيدة خديجة عبدالله عبدالقادر الجيلاني التي أنجبت له ابنه علي، وهذا توفي -بحسب نعي في صحيفة الأهرام المصرية- في فبراير 2015.
أما ابنه الأشهر مصطفى، الذي درس في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وأكمل تعليمه في الاقتصاد بجامعة كمبردج البريطانية، وعمل مع والده بممثلية المملكة العربية السعودية في لندن، ثم انتقل للعمل بوزارة الخارجية بجدة، فالمديرية العامة للبترول والمعادن، فوزارة المالية، قبل أن يتقاعد ويذهب للعيش في الأردن (موطن زوجته «غادة عزالدين الدجاني»)، فقد ترعرع في الكويت، وعاش سنوات طفولته فيها مع عبدالله الطريقي (أول وزير نفط سعودي)، ثم «افترقا ليلتقيا في نيويورك عام 1948 في اجتماع هيئة الأمم المتحدة، وليفترقا ويلتقيا للمرة الثالثة في شؤون النفط والمعادن، حين عمل مصطفى وهبة مع الطريقي مؤسسا ومديرا لمكتب شؤون النفط بالظهران عام 1954» (طالع الحوار الذي أجراه معه «محمد السيف» ونشره موقع إيلاف الإلكتروني بتاريخ 24/7/2003).
أحيل حافظ وهبة للتقاعد عام 1966، وبعد عام واحد انتقل إلى جوار ربه في روما عن 80 عاما قضاها -كما اسمه- حافظا للعهد والمسؤولية والأمانة في خدمة الملك المؤسس، الذي لم يبخل عليه بدوره بالعطف والرعاية والتكريم.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
أحد هؤلاء، بل الذي بزّ الآخرين لجهة الشهرة وحمل الأمانة والتفاني في خدمة أمته العربية والإسلامية، والاضطلاع بمسؤوليات عدة، ومصاحبة الملك المؤسس وأنجاله الكرام في تنقلاتهم الخارجية، شخصية مصرية شاءت الأقدار له أن يُبعد عن بلده الأم، ويتغرب في بلدان عديدة، ويزاول مهنا مختلفة، قبل أن يستقطبه الملك عبدالعزيز ويعهد إليه ببعض الأعباء المحددة، لما لمسه فيه من خبرة واطلاع واستقامة وغيرة وطنية، معطوفا على ما سمعه عن سيرته وصولاته وجولاته في ميادين العلم والثقافة.
المعني بهذه المقدمة هو الشيخ حافظ وهبة، الذي يمكن تعريفه باختصار شديد أنه أحد المستشارين السياسيين في ديوان الملك عبدالعزيز، وأول ممثل لجلالته لدى بلاط السانت جيمس، وأول من حصل على جواز سعودي دبلوماسي، وأحد الذين ساهموا في تأسيس وتطوير النظام التعليمي في الدولة السعودية، ومؤلف كتابين من أفضل الكتب لجهة توثيق أحوال شبه الجزيرة العربية، وتاريخه، وتقسيماته القبلية والمناطقية، وعادات سكانه وتقاليدهم، وسيرة المشاهير من رجالاته وقادته، وتوثيق رحلات الملك عبدالعزيز وإنجازاته، وهما كتاب «جزيرة العرب في القرن 20» وكتاب «50 عاماً في جزيرة العرب».
ولد حافظ وهبة بن رفاعي وهبة في حي بولاق الشعبي الفقير بالقاهرة عام 1889 (البعض يورد تاريخا آخر لميلاده هو 1891) لأسرة محافظة متوسطة الحال. وتقول سيرته الدراسية إن والده ألحقه بأحد الكتاتيب في سن السادسة، فتعلم القراءة والكتابة والحساب ودرس القرآن الكريم وأكمل حفظه، ثم التحق لبعض الوقت بجامعة الأزهر، فمدرسة القضاء الشرعي حيث درس على يد مشايخ معروفين مثل الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ الخضري وغيرهم، لكنه هجر المدرستين ولم يكمل دراسته في أي منهما لأسباب غير معروفة.
أما سيرته العملية فقد جاء فيها أنه عمل بالقاهرة في صحيفة «اللواء» لسان حال الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907، الذي يبدو أن وهبة أعجب بأهدافه، وعلى رأسها هدف جلاء الإنجليز عن مصر، خصوصا أن الإنجليز كانوا يطاردونه بسبب مواقفه منهم، إلى أن أجبروه على ترك بلده إلى إسطنبول، حيث اتصل هناك بالمصلح المصري من أصل مغربي «عبدالعزيز خليل جاويش» الذي كان من رموز الحزب الوطني المبعدين إلى تركيا، بل كان مثل وهبة لجهة كراهيته للإنجليز، وكان يدير صحيفة أسسها في العام 1912 تحت اسم «الهلال العثماني». في إسطنبول سخر وهبة قلمه للكتابة ضد الإنجليز من خلال هذه الصحيفة.
وبينما هو في تركيا سمع عن تطورات المشوار النضالي للمهاتما غاندي الذي كان قد بدأه عام 1904 لتحرير بلاده من المستعمر البريطاني، فترك تركيا وسافر إلى الهند لأهداف عدة منها العمل بالتجارة، ومنها أيضا التعرف على حركة غاندي عن كثب، بدليل أنه مارس السياسة وهو في بومباي، بل إنه حاول أن يصدر صحيفة باللغة الإنجليزية بالتعاون مع «شوكت علي» شقيق الزعيم الهندي المسلم «محمد علي»، الذي يحمل أحد شوارع بومباي التجارية القديمة اسمه، لكي يهاجم من خلاله الإنجليز طبقا لما كتبه في جريدة القبس (16/6/2007) الباحث الأستاذ يعقوب يوسف الإبراهيم، وهو سليل أسرة تجارية كويتية عملت وأقامت طويلا في بومباي. غير أن الإنجليز كانوا له بالمرصاد، فاعتقلوه ورحلوه إلى الكويت عام 1915 أو 1914 (في قول آخر للمؤرخ الكويتي يوسف الشاهين، إن أسرة الإبراهيم استطاعت تهريب وهبة من الهند إلى مدينة «الدورة» في جنوب العراق، حيث كان آل الإبراهيم يملكون نفوذا وبساتين نخيل شاسعة، فعمل هناك في التدريس تحت اسم الملا حافظ).
كان وهبة أثناء وجوده في بومباي قد تعرف على العديد من تجار الخليج والجزيرة العربية المترددين على الهند أو المقيمين بها، ولا سيما تجار الكويت؛ لذا فإنه حينما حل بالكويت لم يشعر بالغربة، وطاب له المقام فيها بين أبنائها بسبب وجود بعض من سبق له أن تعرف عليه، ممن أخذوه بدورهم إلى مجالسهم وعرّفوه على كبار وجهائهم آنذاك (مثل رائد الإصلاح والنهضة الأدبية يوسف بن عيسى الجناعي، والأديب والمؤرخ وملاح الكويت الأول عيسى بن عبدالوهاب القطامي). ورويدا رويدا ذاع صيت وهبة في الكويت، وتوطدت علاقته مع شيوخها، فصار يحضر مجالسهم واستقبالاتهم لضيوفهم الرسميين، ومنهم الملك عبدالعزيز الذي التقاه لأول مرة في إحدى زياراته المبكرة لشيوخ الكويت في عام 1916. وبالمثل صار وهبة كثير التردد على المساجد الكويتية، ولا سيما مسجدها الأكبر المعروف بالمسجد الجامع لإلقاء دروس دينية، تتخللها دعوات توعوية حول خطر الاحتلال الأجنبي وضرورة مقاومته، وفي الوقت نفسه كان قد تمكن من الحصول على وظيفة معلم للغة العربية في المدرسة المباركية التي يعترف الكثيرون بفضله عليها، من حيث مساعدته لمديرها يوسف بن عيسى الجناعي في الإدارة والتطوير.
أما عن مغادرة وهبة للكويت، فثمة روايات من مصادر تاريخية مختلفة، إلا أن الرجل توجه إلى البحرين بعد مغادرة الكويت التي أحبها؛ إذ تزامن قدومه إليها مع افتتاح أول مدرسة نظامية للبنين فيها، وهي مدرسة الهداية الخليفية بالمحرق التي تأسست عام 1919 بتبرعات أعيان البلاد ومباركة حكامها، فعين أول مدير لهذه المدرسة. يقول الوجيه البحريني عبدالرحمن الزياني (طالع الصفحتين 160 و161 من كتاب «من ذاكرة البحرين» لعبدالحميد المحادين-طبعة 2007 الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) إن والده الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني الذي كان ضمن لجنة الإدارة الخيرية للتعليم بالبحرين أجـّر أحد منازله لوهبة وعين شخصا يدعى «إبراهيم البوي» لخدمته، ثم يضيف أنه «كان يتصل بالأندية وكانت له أهداف أوسع من التدريس، وربما كانت سياسية بشكل ما، خاتما حديثه بوصفه بـ(رجل دين وسياسة وتنوير، لذا لم يكن الإنجليز راضين عنه)» فأبعدوه من البحرين بعد عام واحد فقط من قدومه. وكان إبعاده إلى الهند برفقة البحريني قاسم الشيراوي عضو النادي الأدبي بالمحرق.
ويبدو أن وهبة تعرف هذه المرة في بومباي على الشيخ عبدالرحمن القصيبي، التاجر النجدي المعروف في الهند ووكيل الملك عبدالعزيز آل سعود في البحرين، الذي نصحه بمكاتبة سلطان نجد آنذاك. فعمل وهبة بالنصيحة وخط رسالة بليغة إلى عبدالعزيز آل سعود يطلب منه فيها الالتحاق بخدمته.
ويقال إن الملك عبدالعزيز أعجب كثيرا بأسلوب وهبة فدعاه إلى الرياض التي وصلها عام 1923 للعمل مستشارا سياسيا في ديوانه، قبل أن يوكل إليه مهمات أخرى على إثر قيام «المملكة العربية السعودية»، وبالتالي حاجتها لتوثيق صلاتها مع المجتمع الدولي والأقطار الشقيقة والصديقة. فعلى سبيل المثال أوكل إلى وهبة مهمة توثيق العلاقات السعودية/المصرية فرافق الأمير سعود في زيارته الأولى لمصر عام 1926. وقبل ذلك بعام كان قد عين مساعدا للأمير فيصل نائب الملك في الحجاز، فرافقه بهذه الصفة إلى الولايات المتحدة عام 1946 لحضور اجتماعات تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
كان وهبة أيضا ضمن أوائل من أوفدوا إلى خارج المملكة لتمثيلها في مؤتمرات أو لافتتاح ممثليات سعودية، خصوصا في أعقاب تأسيس وزارة الخارجية عام 1930 وتعيين الأمير فيصل بن عبدالعزيز على رأسها. يشهد على هذا تكليفه بترؤس الوفد السعودي إلى مؤتمر البريد العالمي في لندن سنة 1929، وتكليفه بترؤس الوفد السعودي للبحث مع وزير الخارجية العراقي ناجي شوكت حول الإعداد للقاء الملك عبدالعزيز وملك العراق فيصل الأول على ظهر البارجة البريطانية «لوبن» عام 1930، وإيفاده إلى لندن عام 1930 كأول وزير سعودي مفوض لدى الدولة التي كانت تطارده، وهي بريطانيا التي صار سفيرا معتمدا فيها ابتداء من عام 1938 (طالع عبدالرحمن الشبيلي في الشرق الأوسط 2/10/2013) وتعيينه في الوقت نفسه أول وزير سعودي مفوض لدى هولندا ابتداء من عام 1931، وإيفاده إلى اليابان في عام 1938 لتأسيس أول اتصال رسمي بين الرياض وطوكيو، وأيضا لافتتاح أول مسجد في العاصمة اليابانية بضاحية «يويوجي»، وإرساله في عام 1943 إلى الولايات المتحدة بمعية الأميرين فيصل وخالد ضمن أول وفد سعودي رسمي إلى هناك.
حقيبة «المعارف».. الإدارة في الزمن الصعب
مما يجدر بنا ذكره أيضا، أنه تم تعيين وهبة عام 1926 مديرا للمعارف السعودية، مكلفا بتطوير التعليم النظامي، بسبب خبرته التربوية السابقة. وقد تحدث في كتابه «خمسون عاما في جزيرة العرب» عن الصعوبات والتطورات التي شهدتها السعودية في مجال التعليم فقال: «لم تكن توجد في البلاد مدارس تذكر في زمن الأتراك، وما وجد منها كان ابتدائياً قليل النفع، ففي إقليم الأحساء لم يؤسس بعد إعلان الدستور العثماني إلاّ مدرسة صغيرة واحدة، ولم يكن الوضع في الحجاز أحسن بكثير، فلما أتى الملك عبدالعزيز عمل على نشر العلوم والمعارف، وفتح المدارس، وأنشأ المعاهد العلمية غير عابئ بما لقيه في هذا المضمار من معارضة شديدة وصعوبات جمة».
إلى ما سبق، كان الرجل ضمن من دخلوا الحجاز مع الملك عبدالعزيز، فكلفه ببعض الإجراءات التنظيمية. كما كان في عام 1944 من بين الذين أسسوا المركز الثقافي الإسلامي بوسط لندن. وفي سنة 1959 كان أحد اثنين عينتهما الحكومة السعودية من مواطنيها في مجلس إدارة شركة أرامكو النفطية (الآخر هو الشيخ عبدالله الحمود الطريقي).
ويخبرنا منصور عساف في مقال له بصحيفة الرياض (20/2/2015) عن الجهود التي بذلها وهبة لترسيخ العلاقات السعودية/الأمريكية، وعن الملفات التي أثارها مع الجانب الأمريكي يوم أن سافر بمعية الأميرين فيصل وخالد إلى الولايات المتحدة في عام 1943، مبعوثين من لدن الملك المؤسس، فقال على سبيل المثال إن وهبة -بالاتفاق مع الأمير فيصل- طالب بأن يكون التعامل مع المملكة العربية السعودية تعاملا مباشرا دون وسيط، وأثار موضوع تأخر الولايات المتحدة في تزويد المملكة بحافلات نقل الحجيج من مركز تموين الشرق الأوسط بالقاهرة، وطالب بسرعة شحن احتياجات المملكة من الأدوية والمواد الطبية الضرورية، كما شرح للجانب الأمريكي حاجة المملكة لمنظومة اتصالات لاسلكية من أجل مواجهة أي تهديدات أمنية بالسرعة اللازمة.
وفي هذا المقال أيضا، وضع كاتبه حدا لما يتردد من علاقة وهبة بتصميم العلم السعودي، فأوضح أن هذه الصلة نفاها المؤرخان ابن بشر وعبدالرحمن الرويشد، كما نفاها الدكتور عبدالله ناصر السبيعي (المشرف على كرسي الملك سلمان بن عبدالعزيز للدراسات التاريخية والحضارية لشبه الجزيرة العربية)، لأن راية التوحيد استخدمت زمن الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، كما أن بدايات الدولة السعودية الثالثة شهدت استخدام الراية نفسها بعد إضافة سيفين متقاطعين إليها. وعليه فإن كانت لوهبة صلة بالعلم السعودي فإنها تقتصر على تحديد شكله (مستطيل عرضه يساوي ثلثي طوله)، واختيار نوع الخط المستخدم في عبارة التوحيد (خط الثلث)، ووضعها في منتصف العلم، وتحتها سيف تتجه قبضته نحو سارية العلم.
رحل بعد عام من ترجله عن «صهوة الإنجاز»
يخبرنا حمزة عليان في «القبس» الكويتية (4/1/2009) عن قصة زواج وهبة في الكويت فيقول ما مفاده إن الرجل حينما زار الكويت عام 1923 بصفته الرسمية مستشاراً في ديوان الملك عبدالعزيز، أقام في دار صديقه القديم الشيخ يوسف بن عيسى الجناعي، وأن الأخير اختار له زوجة من الدواسر هي «شيخة حسين المسعود» التي أنجبت له من الأولاد مصطفى، ومن البنات زينب التي تزوجها الكويتي يوسف راشد بورسلي، وصفية التي تزوجها السعودي عبدالمحسن موسى السيف. كما يخبرنا أن زوجته شيخة المسعود رفضت الانتقال معه إلى الحجاز، وفضلت البقاء في الكويت مع أولادها، تحت ضمانة ورعاية الشيخ يوسف الجناعي، ووكيل الملك عبدالعزيز بالكويت الشيخ سعود النفيسي.
والمعروف أن وهبة تزوج عدة مرات بعد ذلك، كانت إحداها من السيدة خديجة عبدالله عبدالقادر الجيلاني التي أنجبت له ابنه علي، وهذا توفي -بحسب نعي في صحيفة الأهرام المصرية- في فبراير 2015.
أما ابنه الأشهر مصطفى، الذي درس في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وأكمل تعليمه في الاقتصاد بجامعة كمبردج البريطانية، وعمل مع والده بممثلية المملكة العربية السعودية في لندن، ثم انتقل للعمل بوزارة الخارجية بجدة، فالمديرية العامة للبترول والمعادن، فوزارة المالية، قبل أن يتقاعد ويذهب للعيش في الأردن (موطن زوجته «غادة عزالدين الدجاني»)، فقد ترعرع في الكويت، وعاش سنوات طفولته فيها مع عبدالله الطريقي (أول وزير نفط سعودي)، ثم «افترقا ليلتقيا في نيويورك عام 1948 في اجتماع هيئة الأمم المتحدة، وليفترقا ويلتقيا للمرة الثالثة في شؤون النفط والمعادن، حين عمل مصطفى وهبة مع الطريقي مؤسسا ومديرا لمكتب شؤون النفط بالظهران عام 1954» (طالع الحوار الذي أجراه معه «محمد السيف» ونشره موقع إيلاف الإلكتروني بتاريخ 24/7/2003).
أحيل حافظ وهبة للتقاعد عام 1966، وبعد عام واحد انتقل إلى جوار ربه في روما عن 80 عاما قضاها -كما اسمه- حافظا للعهد والمسؤولية والأمانة في خدمة الملك المؤسس، الذي لم يبخل عليه بدوره بالعطف والرعاية والتكريم.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين