-A +A
«عكاظ» (مكة المكرمة)
استهل إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور خالد بن علي الغامدي خطبته بحمد الله والثناء عليه و الصلاة على نبينا محمد آله الطيبين والسلام على صحابته الأئمة المهديين، وموصياً المصلين بتقوى الله وأستشعار عظمته.

وقال إن تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة من خلال الاقتداء بالقدوات الصالحة والمؤثرة والاهتداء بها في الخطاب والمنهج والتطبيق من أعظم العوامل والأسس التي تسهم مساهمة عميقة في بناء الشخصية المسلمة المعتزة بدينها وثوابتها وانتمائها وتاريخها والتي نحن أحوج ما تكون إليه في زماننا هذا، ولأهمية عامل القدوة الصالحة وأثره الفاعل في التكوين والتربية والبناء أمر الله نبيه أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال له (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) وضرب الله لنا في القرآن بدائع النماذج لقدوات هم غرر في جبين الزمان وكالأنبياء عليهم السلام ومؤمن آل فرعون ولقمان العبد الصالح الحكيم ومريم بنت عمران وامرأة فرعون وغيرهم كثير.


وأضاف أن أعظم القدوات التي أشاد الله بهم هو نبينا محمد الذي قال الله فيه (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فالنبي هو قدوة مطلقه بلا حدود زمانية ولا مكانية في أقواله وأفعاله وأخلاقه وسيرته وتقريراته دقت أم حلت، وقد سرت هذه القدوة النبوية إلى ذريته وزوجاته، وقد صح في الخبر الأمر بالصلاة عليه وعلى ذريته وزوجاته وأصبحوا كذلك قدوة في العالمين.

وأوضح الشيخ الغامدي أن من أجل القدوات النبوية من أهل بيته ابنته السيدة الشريفة الفاضلة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وعن أمها المباركة خديجة وصلى الله على أبيها وسلم، إن الحديث عن القدوة النبوية فاطمة حديث مغدق الثمار وعظيم الشأن، ها هنا القدوة النبوية التي اختارها الله على علم لتكون غيثا للناس في زمان جدب الأخلاق والقيم والحياء وواحة غناء للأمة في صحراء الشهوات والشبهات وفقر النفوس وتهافتها وتفاهتها، اختار الله هذه السيدة المباركة على علم وأودع في شخصيتها من الفضائل والكمالات ما زكاها به ورقاها في درجات العز والشرف، تربت رضي الله عنها في بيت النبوة وتخرجت بمدرسة أبيها، وتعلمت من مشكاة الرسالة ونهلت من علم زوجها علي وفقهه، فحازت أعلى المقامات وتشرفت بأعظم الثناء، وسطر لها التاريخ أنبل المواقف، وأفخم الوقائع في تعاملها مع ربها وأبيها وزوجها ومجتمعها، ولدت رضي الله عنها قبل البعثة النبوية بخمس سنوات في مكة وقريش تبني الكعبة، وأمها خديجة بنت خويلد أحب أزواج النبي إلى قلبه وصاحبة المواقف المشهودة، كانت فاطمة رضي اله عنها أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إلى قلبه لأنها صحبته منذ نعومة أظفارها ولم تفارقه، وشهدت الأحداث الكبرى في حياته، ورأت من أحوال أبيها وأموره العجب، وشاركته معاناته وآلامه وأحزانه وهموم الدعوة، رمى المشركون سلا الجزور على رأس رسول الله وهو ساجد عند الكعبة فجاءت فاطمة مسرعة وأزالت القذر عن رسول الله وفي غزوة أحد أصيب النبي في خديه وسال الدم بغزارة فجاءت فاطمة وغسلت الدم عنه حتى كف، ومرة أخرى رمى المشركون التراب على رأس رسول الله فكانت فاطمة حاضرة فنظفت رأسه وهي تبكي والنبي يهدؤها ويقول: (لا تبكي يا بنية فإن الله ناصر أباك). تعلمت العلم من رسول لله حتى صارت من رواة الحديث، وحديثها في دواوين السنة، وتخلقت بأخلاق النبوة وتأدبت بآداب أبيها، وصار الناس إذا رأوها تذكروا النبي حتى في مشيتها ما تخطئ مشيتها مشية أبيها صلى الله عليه وسلم.

وأضاف أن من كرامتها ومكانتها أنه نزل ملك من السماء لم ينزل قط لكي يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة سيدة نساء الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب الجنة ولذلك شهد لها أبوها النبي صلى الله عليه وسلم أنها من خير النساء كما في سند أحمد (خير نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسيا امرأة فرعون).

وبين فضيلة الدكتور الغامدي أن الله وضع في شخصية فاطمة رضى الله عنها من الاسباب والعوامل ما رفعها الله فوق نساء العالمين وجعلها قدوة عظيمة للنساء في كل زمان ومكان وإضافة إلى ما سبق ذكره من جوانب عظمتها فقد كانت امرأة عابدة قانتة صوامة قوامة قانعة باليسير صابرة على حياتها وشظفها وشدتها حريصة على طاعة أبيها صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، قائمة لزوجها بحقه وطاعته ولم يحفظ عليها زلة أو خطأ، عظيمة الخوف والمراقبة لله متدثرة بثوب الحياء والعفة والتصون لم يؤثر عنها كذب في الحديث وإخلاف الموعد أو تصرف مشين، تقول عائشة ما رأيت أحداً أصدق لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها، وكانت طيبة المعشر كريمة المحتد محببة للناس كلهم تحتفظ بعلاقات طيبة مع الجميع حتى مع زوجات أبيها فقد كن يرسلنها أحياناً إلى أبيها صلى الله عليه وسلم لتشفع لهن عنده في بعض الأمور.

وأكد الشيخ خالد الغامدي أن من جوانب عظمتها رضي الله عنها ما سطره التاريخ في قصة زواجها بعلي رضي الله عنه، حيث إنه حدث لم يشهد التاريخ مثله، فهو زواج سيدة نساء الجنة ابنة سيد الأنبياء، وزوجها هو علي رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين ومن كبار سادات الصحابة لقد كان عرساً سهلاً ميسراً متواضعاً مع كل هذا المجد، بعد غزوة بدر لم يكن عنده مهر فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمهرها درعه الحطيمة التي غنمها في بدر وبلغت قيمتها 480 درهماً تقريبا ثم أولم وليمة مباركة على شاة واحدة وأما جهاز بيتها وأثاثه فتقول أسماء بنت عُميس جهزت فاطمة إلى علي فما كان حشو فراشها ووسادتها إلى ليف ولقد أولم علي فاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته.

وأشار فضيلته في خطبته الثانية إلى أن أمر وفاة أبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم كان له أعظم الأثر على قلب سيدة نساء أهل الجنة وروحها واهتز له كيانها هزة عنيفة وهي الصابرة المحتسبة لكن الأمر كان أشد عليها بل على المسلمين جميعا، فإن وفاة النبي هي أعظم المصائب، وتبدأ هذه القصة المؤلمة منذ أن ابتدأ المرض الأخير الذي مات فيه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ففقد الكون كله هذه الرحمة المهداة وانقطع خبر السماء ووحي الله، وقد ابتدأ مرض النبي صلى الله عليه وسلم في مطلع شهر ربيع الأول في سنة 11 من الهجرة النبوية وقد اشتدت عليه الحمى وألم الرأس متأثرا بالأكلة إلى أكلها في خيبر من الشاة المسمومة التي سممتها له المرأة اليهودية، وكانت مدة مرضه قرابة 10 أيام أو أكثر قليلاً ويشتد عليه الوجع جداً ويغمى عليه وتدخل عليه ابنته فاطمة وهو في هذا الكرب الشديد وتقول والحزن يعتصر قلبها: واكرب أباه، فيصحو بعد إغمائه ويقول (ليس على أبيك كرب بعد اليوم) ثم إنه دعاها وأسر لها أنه ميت في هذا المرض فبكت رضي الله عنها حزناً على فراقه ثم أسر لها بسر آخر أنها أول أهله لحاقاً به فضحكت استبشاراً فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه الصحابة بقيت فاطمة بعد وفاة أبيها ستة أشهر وهي محزونة مكمودة تذوب كما يذوب الملح في الماء من هول هذه الفاجعة وذبلت زهرة حياتها وانطفأت شمعة بهجتها وتفطر قلبها الرقيق ولم يعد فؤادها المكلوم يحتمل فراق أبيها صلى الله عليه وسلم فوافاها الأجل ليلة الثلاثاء الثالث من رمضان في السنة التي توفي فيها أبوها صلى الله عليه وسلم وكان عمرها يوم توفيت 29 سنة تقريباً وتولى غسلها وتكفينها وتجهيزها زوجها علي وأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق ودفنها علي ليلاً في البقيع.

واختتم الشيخ الدكتور خالد الغامدي: لقد كانت فاطمة رضي الله عنها رمزاً للحياء والستر والعفة في حياتها وحتى عند وفاتها فقد كانت جنائز النساء في عهدها يلقى على الواحدة منهن ثوباً ثم يصلى عليها وتحمل إلى المقابر وقد يصف الثوب أعضاء جسمها وقد تنكشف فكانت فاطمة من حياتها تكره ذلك ولا يعجبها وتتمنى شيئاً يستر المرأة في جنازتها وذكرت ذلك لمن حولها من النساء وقبل وفاتها فاقترحت عليها أسماء بنت عميس شيئاً رأته في الحبشة وهو أن يُجعل على النعش شيئاً مقوساً من جريد النخل ويطرح عليها الثوب وتوضع المرأة تحته فلا يصف أعضاءها ففرحت فاطمة بذلك وقالت لها سترتيني سترك الله، فكانت فاطمة رضي الله عنها هي أول أمرأة يصنع نعشها على هذه الصفة التي نشاهدها اليوم في نعش النساء فما أبرك هذه السيدة الجليلة وما أعظم خيرها على هذه الأمة في حياتها وبعد مماتها، حق لهذه السيدة الجليلة أن تكون أعظم قدوة لنساء الأمة ونبراساً ينير الطريق ومثالا فخما بديعاً يحتذى، وما أروع أن تكون سيرتها وشمائلها في مجالس السمر ومنتديات العلم ومناهج التربية وبناء القدوات.